إصلاح نظام الأراضي كمدخل للعدالة الاجتماعية بقلم الحبيب الإمام الصادق المهدي

الإمام الصادق المهدي
الإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله

 

بسم الله الرحمن الرحيم

حزب الأمة القومي – الأمانة العامة

ورشة عمل: مشاكل الأراضي وآثرها في الأمن والاستقرار في السودان

الثلاثاء 30 مايو 2017 – أم درمان – دار الأمة

ورقة بعنوان: (إصلاح نظام الأراضي كمدخل للعدالة الاجتماعية)

الإمام الصادق المهدي رئيس الحزب

 

الحبيبة الرئيسة،

أخواني وأخواتي، وأبنائي وبناتي من الحاضرين والمحاضرين والمحضرين.

اقدر اهتمامكم بموضوع الأراضي وما قدمتم في سبيله.

أقول:

1. الأرض من أهم عوامل الإنتاج، وتوزيع العائد علي عوامل الإنتاج هو مقياس العدالة الاجتماعية. والأرض من أهم محركات العمل السياسي، فلا تستقر السياسة إلا إذا استقرت سياسة الأرض في البلاد. والأرض هي مكون أساسي للدولة. وحمايتها مقياس للسيادة الوطنية. بل الأرض أيقونة عاطفية ناجاها المناجي:

سالت الأرض لم جعلت مصلىً    وصارت لنا طهراً وطيباً
أجابت غير ناطقة لأنـــــــــي     ضممت لكل إنسان حبيبا

لذلك صارت إدارة الأرض عنواناً لنهج النظم، ومقياساً لحسن أو سوء أدائها.

فالدعوة المهدية في السودان طبقت سياسة نحو الأرض اشتراكية قبل الاشتراكية الأوربية. وعندما لاحظ كارل ماركس مواجهة الدعوة المهدية للامبريالية وقولها بالعدل الاجتماعي قبل لاهوت التحرير اللاتيني. كتب لزميله فردريك انجلز: ينبغي أن نراجع موقفنا من وصف الدين دائماً بأنه أداة لاستغلال الشعوب.

2. كان عنوان سياسة الأرض لدي الدعوة المهدية هي: “الأرض لمن يفلحها”.

الإمبريالية البريطانية اتبعت سياسة في العراق ومصر سجلت بموجبها الأراضي لزعماء عشائر ما صنع إقطاعاً فيها. ولكن السياسة البريطانية في السودان نحو الأرض تأثرت بالتراث المهدوي فقررت أن تكون ملكية الأرض في السودان عامة باستثناء الأرض المملوكة لأشخاص.

وكان مشروع الجزيرة الذي أقاموه دليلاً علي وعي بالعدل الاجتماعي ألزموا أصحاب الملكية في الأرض أن يستأجروها للمشروع، وحددوا للشركة المستثمرة نفسها فترة زمانية، وألزموا الإدارة بنهج فيه رعاية اجتماعية. لذلك كانت تجربة مشروع الجزيرة التاريخية ذات عائد اقتصادي واجتماعي حميد.

وعندما تجاوبوا مع ريادة الإمام عبد الرحمن للترخيص للمشاريع الخصوصية في النيل الأزرق والنيل الأبيض ألزموا أصحاب الرخص بالوصول لاتفاقيات عادلة مع ملاك الأراضي إن كانت مملوكة، وألزموا المستثمرين بإبرام شراكة مع المزارعين، وحددوا للرخص نفسها مدة معينة.

وحتى دائرة المهدي رائدة العمل في المشاريع الخصوصية لم تكن لديها رخصة إلا في مشروع واحد هو الجزيرة أبا. أما منح رخصة لمشروع الملاحة فكان سببه أن أراضي الجزيرة أبا مرشحة للغرق بقيام خزان جبل الأولياء. المشاريع الأخرى التي دخلت فيها دائرة المهدي الزراعية كانت رخصتها تابعة لأشخاص دخلوا في شراكة مع دائرة المهدي.

هذا النهج الذي اتخذته الإدارة الامبريالية كان ككثير من سياساتها في المجالات المختلفة مستنيراً بالقياس للسياسات التي اتبعوها في بلدان أخرى.

كتاباتهم تدل علي أن ما شهدوه من مقاومة وبسالة وفدائية أكسبهم احترام السودانيين حتى أن أحدهم تحسر ـ ستيفن جيمز ـ “يا للحسرة أن نعادي مثل هؤلاء القوم” ووصفهم آخر بأنهم “أشجع من مشي علي الأرض”.

3. ما هي الصفة التي يمكن أن نطلقها علي سياسة نظام الإنقاذ نحو الأرض؟
أقول:

(‌أ) المشاريع الخصوصية في النيل الأزرق والنيل الأبيض التي كان بالإمكان بعد تطبيق سياسة الإصلاح الزراعي التي قررناها أن تطور وتمول كجمعيات تعاونية أهملت وسمح لبعضها أن يعمل كأنشطة رأسمالية.

(‌ب) حتى عندما وجدوا نواة مشروع للعمل الجماعي التعاوني كما في الجزيرة أبا أجهضوا الفكرة وأمموا الجزيرة أبا لتتبع للبيروقراطية الحاكمة لتبيع الأرض لرأسماليين وتمول عجزها المالي.

هذه القصة تستحق أن تروى لأنها تكشف عن ذهنية بعيدة من العدالة الاجتماعية. القصة هي:

عندما واجه الأنصار بقيادة الإمام الشهيد الهادي المهدي الاحتلال المايوي. قمع النظام – مستعيناً بحلف طرابلس الثلاثي- حركة الأنصار وقرر فرض الحراسة على أملاك دائرة المهدي. استمرت هذه المصادرة لمدة عشرة أعوام.

النظام المايوي كسائر النظم الانقلابية تقلب من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وهو في تقلباته هذه قرر رفع الحراسة عن أملاك دائرة المهدي .

خاطبني المرحوم جعفر نميري بقراره هذا، وهمّ أن يسلمني أوراق دائرة المهدي لدى لقائي به للمصالحة الوطنية.

قلت له لا يجوز لي أن استلمها، واستلامها تنزع من لقائي بك الطبيعة العامة. والمستحسن أن يوكل الأمر للجنة فنية برئاسة

المراجع العام لتحصي الأملاك وتوزعها علي المستحقين. وافق مشكوراً علي ذلك. وقلت له أرجو توجيه اللجنة أن تستثني الجزيرة أبا وهي، مسجلة باسم الإمام عبد الرحمن، وتستثني مجمع بيت الإمام المهدي من التوزيع للورثة، وأن تؤول ملكية الجزيرة أبا لسكانها مكافأة لهم علي الوفاء، وتقديراً للتعمير الذي قاموا به مع الإمام عبد الرحمن؟ وأن يسجل مجمع بيت الإمام المهدي وقفاً لكيان الأنصار. وافق المرحوم رئيس الجمهورية حينها علي ذلك المطلب وأصدر به التعليمات.

كانت الفكرة أن تملك الجزيرة أبا جماعياً لسكانها، وأن توضع خطة تنموية تراعي هذه الملكية وتطور الأصول لمصلحة سكان الجزيرة أبا. وشرعنا في تكوين الهيئة الجماعية لسكان الجزيرة أبا، وأثناء العهد الديمقراطي اتفقنا مع العون الإيطالي أن يجعل من الجزيرة أبا أنموذجاً للتنمية الريفية، ومع العون اليوغسلافي أن يمد المنطقة بالكهرباء من الروصيرص؛ ومع العون الكندي أن يؤسسوا معهداً فنياً لتأهيل وتدريب الكوادر للتنمية الريفية.

ولكن النظام الذي أعقب انقلاب 1989م أجهض كل هذا البرنامج إذ قرر تأميم الجزيرة أبا لتصير ملكاً للبيروقراطية المتحكمة تتصرف في أرضها لصالح ميزانيتها التي تقررها بلا مشاركة ولا مساءلة. أي خطوة عكس النهج التعاوني الجماعي، لصالح إدارة غير مساءلة، وصرفوا النظر عن المعهد الفني لصالح جامعة أكاديمية ضمن ما سموه ثورة التعليم العالي التي همشت التعليم الفني لصالح تعليم أكاديمي بإمكانات ناقصة، وهي تجربة عائبة وأهم نقائصها أنها قدمت المهم على الأهم.

4. سياسات النظام الحالي نحو الأرض خالية من المحتوى العدالي، وحافلة بالمآخذ: سوف أتناول هذا الأمر في محاور هي: الأراضي الحضرية، أراضي المشاريع المروية، أراضي المشاريع المطرية الآلية، أراضي المشاريع المطرية الأخرى، الأراضي الرعوية والأراضي الغابية، أراضي الاستثمار الصناعي، أراضي الاستثمار الأجنبي، أراضي السدود.

(‌أ) الأراضي الحضرية في المدن حفلت بفساد كبير عنوانه الأشهر أراضي ولاية الخرطوم، وقد جرى في هذا المجال تلاعب بإدارة الأراضي الحضرية أضاع كثيراً من المصالح للمواطنين، وأدى لثراء المحاسيب علي نطاق واسع.

(‌ب) المشاريع المروية في السودان الآن تبلغ مساحتها 6 مليون فدان. وجزء كبير من هذه الأراضي مملوكة لأشخاص. ولكن إذا أخذنا مشروع الجزيرة مثلاً فإن ملاك الأراضي يعانون من مظالم، والمزارعون في المشروع يخشون أن النظام بعد أن شلع المشروع يزمع خصصته للراغبين. ههنا خطوة إلى الوراء في إدارة الأرض.

صار عدد المقيمين في الكنابي كبيراً، ويستوجب أخذ مصالحهم في الحسبان في عملية تأهيل مشروع الجزيرة. نعم جاءوا كعمال زراعيين ولكن صار لهم وجود كمواطنين يتطلب دخولهم في علاقات الإنتاج.

(‌ج) أراضي المشاريع المطرية الآلية هي الأكبر حجماً، ولكن في هذا المجال حدث إهمال في تطبيق الضوابط المطلوبة، وأهملت الدورات، ومصدات الرياح، والأخطر أن التمويل ارتبط بالبنك الزراعي الذي جعلته صيغة السلم، وهي أصلاً صيغة للتعامل التجاري، بنكاً تجارياً. وفي كثير من الأحيان ظهر نوعان من المآخذ هما: إحساس سكان المناطق المعنية بالحرمان ما يوجب مراعاة ذلك بنوع من المشاركة وبالتزام برعاية اجتماعية. والمأخذ الثاني هو أن السكان المقيمين في هذه المناطق يشعرون بالحرمان ما يوجب إيجاد صيغة منفعة لهم ورعاية اجتماعية.

(‌د) أراضي الزراعة المطرية التقليدية تعاني من إهمال تام وتتطلب برنامجاً يساعد على التمويل لأنهم الآن ضحايا “الشيل” وهو أسوأ أنواع الربا. ويتطلب دعماً لمدخلات الإنتاج، مثل البذور المحسنة، وسائر مدخلات الإنتاج، لأنهم إذا فقروا صاروا لغماً اجتماعياً.

(‌ه) ومن أكثر القطاعات المظلومة القطاع الرعوي، الذي يتطلب اهتماماً عاجلاً بالمسارات، والعلاج البيطري، والتسويق الذي يختصر المسافة بين المنتج والمستهلك.

(‌و) الأراضي الغابية مصدر رزق لكثيرين، لا سيما الهشاب، والطلح، والتبلدي، والأعشاب، وهذه تعاني من الزحف الصحراوي، والاحتطاب الجائر، وتتطلب تعويضاً عاجلاً للغطاء الغابي الذي يعيش فيه ملايين المواطنين. المؤتمرات العالمية أقرت مبدأ العدالة المناخية ومن شأنها أن تلزم الدول الملوثة بمبالغ تعويض للضحايا، أفضل توظيف لهذه المبالغ أن تصرف في تخضير السودان ودعم الغطاء الغابي وفي استغلال الطاقة الشمسية.

(‌ز) أراضي الاستثمار الصناعي تعاني من عدم تنفيذ ما خصص للصناعات، ومن أن القطاع الصناعي الآن عاطل في نسبة كبيرة منه، وبالتالي عطالة عماله، وتبديد رأس المال المستثمر فيه.

(‌ح) السودان حتى بعد انفصال الجنوب يملك أراضٍ واسعة صالحة للاستثمار الزراعي والحيواني. وهذه لأراضي جذبت وسوف تجذب استثماراً من دول الجوار ودول الخليج. لقد خصصت مساحات واسعة في هذا المجال، الجزء الأكبر منها محجوز وغير مستثمر. هذا عيب ينبغي أن يعالجه قانون يحدد واجبات المستثمرين، ويراعي مصالح السكان المقيمين، ويراعي سلامة البيئة.

هذا المجال فيه كمية كبيرة من الفساد ويتطلب إصلاحاً جذريا لصالح الاقتصاد الوطني ولصالح العدالة الاجتماعية. إن تشجيع المستثمرين للإقبال على الاستثمار في أراضي السودان اتجاه صائب، لا سيما كثير منهم يجدون في السودان فرصاً لكفالة أمنهم الغذائي. ولكن ينبغي ألا تعامل الأراضي باعتبارها خلاء. فإن وجد سكان فلا بد أن يراعي الاستثمار مصالحهم، وحتى إذا انعدم السكان فهنالك مساهمة مطلوبة للرعاية الاجتماعية، ولسلامة البيئة الطبيعية.

(‌ط) ومن المسائل الملتهبة المتعلقة بالأراضي مسالة الحواكير القبلية، وهي عامة ولكنها حادة في دارفور.

ففي طريقه للحوار مع حركات دارفور المسلحة في مايو 2006م زارني المرحوم مجذوب الخليفة وقال “لي أحببت أن أستشيرك قبل سفري”. وكان الموقف بيننا والنظام حاداً جداً. قلت له “لو أننا ننطلق من المصلحة السياسية إذا وجدناكم في النار زدناها حطباً لفرط ما ظلمتمونا. ولكننا نتعامل بالمقياس الوطني ونريد وقف الحرب، لذلك أقول لك ثلاث نقاط إذا عرضتها عليهم ستجد موافقة بالإجماع وتبرم معهم اتفاقية سلام”.

قال ما هي؟ قلت:

النقطة الأولي: بالنسبة لتمثيل دارفور في رئاسة الدولة. وللإقليم واحد أم ثلاثة. وللحواكير التزموا بالعودة لما كان عليه الحال قبل استيلائكم على السلطة.

الثانية: أن تلتزموا بتعويض فردي وجماعي للنازحين واللاجئين وبعودتهم إلى قراهم آمنين.

الثالثة: إقرار أن لأهل دارفور نصيباً في السلطة والثروة بحجم السكان. وأن تثبت هذه الالتزامات في الدستور.

قال لي: “هذا الرأي لا يمكن قبوله لأنه يتعارض مع اتفاقية السلام الشامل المبرمة في 2005م. ويتعارض مع ثوابت نظام الإنقاذ”. قلت له: “هذه أبقار مقدسة يمكن التخلص منها ولكن إذا رأيتم غير ذلك أعدك لن تحصل علي اتفاق”. وقد كان، واستمرت الحرب حتى يومنا هذا.

موضوع الحواكير القبلية متعلق بأعراف موروثة. وعودة النازحين واللاجئين لقراهم الأصلية موضوعان مهمان.

مسألة الحواكير القبلية أساس للتوازنات القبلية، والتدخل الفوقي فيها يجافي العدالة. ويجافي العدالة أيضاً حرمان النازحين واللاجئين من العودة لقراهم الأصلية.

(‌ي) تجارب إقامة السدود لاسيما السد العالي وسد مروى، والتهجير والتصرف في الأراضي كانت منفرة للغاية، لذلك تقف معارضة قوية ومبررة للمضي في مشروعات سدود سبعة أعلن عنها بصورة فوقية. لا مشروعية لأية مشروعات تنموية لا تقوم على مشاركة عادلة للسكان المعنيين. نعم هنالك حاجة تنموية للطاقة الكهربائية، ولكن ينبغي أن تقوم أية مشروعات على أساس تجاوب السكان وعلى أساس دراسة البدائل المتاحة.

(‌ك) البصمة التي سوف يتركها هذا النظام في موضوع الأراضي من حيث سوء إدارتها ومن حيث اتخاذها مدخلاً للتمكين المنافي للعدالة الاجتماعية محملة بالعيوب.

التوصية المهمة التي ينبغي أن تصدر من هذه الورشة هي أن الأراضي قضية قومية عليا تتطلب في كافة مجالاتها تشخيص المأساة في أبعادها المختلفة عن طريق مجلس قومي مؤهل يكتب ورقة بيضاء حول الأراضي، ويقترح قانوناً جامعاً للأراضي يحدد الإصلاح الإداري المطلوب، ويضع المقاييس المطلوبة للعدالة الاجتماعية، ويوزع الصلاحيات بين المركز والولايات، وأهم من ذلك كله يوجب أن تخضع سياسة الأراضي للمشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون.

هذا النهج هو المطلوب للأمن، والاستقرار، والعدالة الاجتماعية، ونلتزم سياسياً بأمرين هما: إدخال موضوع الأراضي كبند مهم من بنود حوار خريطة الطريق إذا انتظم هذا الحوار، ونلتزم أن تشمل السياسات البديلة لبناء الوطن فصلاً مهماً لسياسة الأراضي المطلوبة لبناء الوطن.