الإسلام والعروبة والدولة المتعددة القومية

الإمام الصادق المهدي
الحبيب الإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله

 

 

الجمعة، ٢٠ يونيو/ حزيران ٢٠١٤

نشرت «الحياة» حلقتين من ملاحظات الصادق المهدي الفكرية والتاريخية حول السودان في عنوان «الهوية السودانية بين التسبيك والتفكيك»، هنا حلقة ثالثة أخيرة.

< يستقر السودان ويتمكن أهله من بناء الوطن إذا استطاعوا:

– الاتفاق على أساس حاسم ومقبول لعلاقة الدين بالدولة وبالسياسة.

– تحقيق معادلة مستقرة للتنوع الثقافي.

– تحقيق معادلة مستقرة للتنمية، وتوزيعاً عادلاً للثروة.

– حل أزمة السلطة بصورة توفق بين المركزية واللامركزية والديموقراطية والتوازن.

– بناء علاقات دولية إقليمية ودولية متوازنة.

في الماضي كانت الدول تخضع في تحديد هويتها لرافع غالب يسميه الألمان ستاسفولك Stasvolk (أي الشعب الغالب) ولكن، هنالك تطورات الآن تفرض نفسها:

– استقرار الدولة الوطنية يوجب المساواة في المواطنة.

– النظام الدولي الحالي يلزم الدول بمراعاة منظومة عالمية لحقوق الإنسان ومن بينها الحقوق الثقافية، هذه المنظومة تتطابق ولا تتعارض مع مقاصد الإسلام.

– النظام الدولي يتجاوز السيادة الوطنية في ما يتعلق بحماية المدنيين من أي بطش، بل أقام محكمة جنائية للمساءلة في جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة العرقية وشن الحرب العدوانية.

– صار الاعتراف بالتعددية الدينية، والثقافية، والإثنية على الأصعدة كافة استحقاقاً للشرعية الوطنية وللشرعية الدولية.

ويواجه السودان اليوم تأزماً أمنياً حاداً ترفده جبهات اقتتال متعددة، وتأزماً اقتصادياً حاداً، وعزلة دولية، ومسألة الهوية كامنة في ثنايا هذه الأزمات ومؤججة لها.

كل محاولات التصدي لإبرام اتفاقيات سلام اتبعت نهجاً ثنائياً بمباركة دولية.

وأهم عيوب اتفاقيات السلام المبرمة حتى الآن أنها تقف عند حد ترتيبات وقف إطلاق النار، واعتماد مشروعات تنموية، ومحاصصة لإشراك كوادر قيادية في السلطة. هكذا، تبرم اتفاقيات سلام ثنائية ولا تتطرق إلى جذور الأزمات ولا تمس النظام الدستوري القائم ما يجعلها معلّقة في الهواء.

أزمات بلادنا المتعددة الجبهة تحيط بها أزمات جيراننا، ففي مصر مواجهات حول الإسلام والعلمانية، وفي دولة الجنوب، وليبيا، وأفريقيا الوسطى أزمات مشتعلة تؤججها قضايا الهوية. هذه الحال نذير تفكيك للأوطان، وإذا عولجت بهندسة واعية تتيح فرصة للتسبيك، ففي كل أزمة فرصة:

فما صفا البحر إلّا وهو منتِقصٌ

ولا تعكّر إلّا في الزِّياداتِ

التمسك بهوية غالبة نافية حقوق الآخرين هي نهج نظام الحكم الحالي – «الإنقاذ» – وكان العامل الأكبر في دفع القوى السياسية الجنوبية للإجماع على المطالبة بتقرير المصير، ثم التصويت الكاسح للانفصال. وهو سبب في الاستقطاب السياسي، وكامن في أسباب الحروب الجارية وفي الجفوة مع الأسرة الدولية. إن أجندة التمكين وتحويل مؤسسات الدولة إلى دولة حزب لا وطن، يعرّض البلاد للتشظي ويحقق لأعداء الوطن أغلى أمانيهم.

آفي ديختر وزير الأمن الإسرائيلي قال في محاضرة في تموز (يوليو) 2008: «إن الخريطة الحالية للشرق الأوسط غير واقعية لأنها تتجاوز هويات الشعوب». هذه المقولة كررتها مجلة القوات المسلحة الأميركية ونشرت بموجبها خريطة على موقعها الإلكتروني مصحوبة بتقرير كتبه رالف بيترز (كولونيل سابق بالجيش الأميركي) جاء في الخريطة تصور لخريطة جديدة تراعي هويات شعوب المنطقة، مثلاً: العراق تكون فيه 3 دول: كردية في الشمال، وسنّية في الوسط، وشيعية في الجنوب. والسودان خمس دول: دولة جنوبية، دولة شمالية، جبال النوبة، الشرق، دارفور. وهكذا…

التيارات الفكرية السائدة في السودان اليوم تنقسم في ما يتعلق بقضية الهوية إلى قسمين: قسم يقفز فوقها كأنها غير موجودة، والقسم الثاني يتصدى لها بفرض هوية غالبة.

كلما كان المجتمع أقل حداثة كانت أسس الانتماء الجماعي فيه وراثية (Ascriptive) وكلما كان أكثر حداثة صار الانتماء للوطن، أو للأيدولوجية أو للطبقة الاجتماعية.

وفي الساحة السودانية اليوم ثلاث فكرويات تغلب هوية محددة على غيرها هي: إسلامية، قومية عربية، أفريقانية. وثلاث فكرويات تقفز فوق مسألة الهوية.

مفاهيم العلمانية والليبرالية، نشأت في المجتمعات الحديثة بعد أن افترضت أنها تجاوزت الانتماءات الموروثة ليكون انتماؤها للمواطنة، أو للأيديولوجيا أو للطبقة. هذه المفاهيم وفدت إلى مجتمعنا وصار لها وجود في القطاعات الحديثة. هذه المفاهيم هي: ليبرالية، وعلمانية.

ماذا تحمل هذه الرؤى مساهمة في الخلاص الوطني؟

(‌أ) شعار الذين ينادون بمرجعية إسلامية في أمر الدولة والسياسة، هو أن الإسلام دين دولة. هذا الشعار يتطلب مراجعة على أساس أن الدين من الثوابت والدولة من المتغيرات، وإخضاع أمر الدولة للثوابت كالدين يمنع حركة المجتمع. هذا الوهم وقع فيه الخوارج عندما قالوا إن الحكم إلا لله، أي أن الإمرة لله، وهذا فهم ثيوقراطي بينما الإمرة في الإسلام شأن بشري: (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ):

أولاً: ينبغي أن يقرر الفكر الحركي الإسلامي حقيقة أن الإمرة شأن مدني وأن آلياتها متغيرة، وأن الدولة في الإسلام نفسها مدنية.

ثانياً: ينبغي الاعتراف بأن التنوع جزء من نظام الكون، قال تعالى: (وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة). وقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ للْعَالِمِينَ). والإسلام يعترف بالتعددية الدينية، قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة)، ويعترف الإسلام بتعددية الأحكام: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ)، (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَهُ فِيهِ).

ثالثاً: النهج الإسلامي يتطلب تطبيق التشريع الإسلامي، ولكن هذا لا ينطلق من فراغ بل يوجب اجتهاداً ينزل النصوص على الواقع، مثلاً، تطبيق الحدود ملزم إذا أزيلت الضرورات، واستمرار الضرورات من الشبهات التي تدرأ الحدود. هذا لا يعني أن وجود الضرورات يمنع إنزال العقوبات، ولكنه يجعل العقوبات تعازير يطبقها القضاة بصورة تراعي نوع الجريمة وظروف ارتكابها، أي أنها عقوبات مدنية. وهذا يبطل مفهوم الذين يقصرون تطبيق الشريعة في الحدود في مجتمعات مثقلة بضرورات غائبة.

رابعاً: حكم الجزية مرتبط بعهد الذمة، ولكن العهد الذي يقوم الآن بين المواطنين هو عهد المواطنة، فهم مواطنون أحرار في الانتماء إلى الوطن ولم يخضعهم المسلمون للمواطنة.

خامساً: كثير من الأحكام المتعلقة بالمرأة في الحياة وفي الأحوال الشخصية تنطلق من مفاهيم دونية للمرأة، استنبطها فقهاء، وإن اختلفوا في تلك الأحكام تشدداً ومرونة. والمطلوب مراجعة هذه الأحكام للاعتراف بحقوق المرأة الإنسانية، والإيمانية، واعتبار اختلافات النوع للتكامل لا للتفاضل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). وقال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ). بعض دعاة الإسلام وبعض الفقهاء يصدرون فتاوى كأن صحة عقيدة المسلم تتوقف على درجة تهوين شأن المرأة، ما جعل كثيرات من نسائنا يخرجن من الإسلام باحثات عن الكرامة في مواثيق دولية، فتاوى دونية المرأة تسبب الآن، لا سيما في أوساط النساء المتعلمات، فتنة في الدين.

سادساً: هنالك خطأ كبير في أمر الجهاد. فالجهاد أوسع من القتال وكثير من أساليبه تقوم على محاسبة النفس وعلى القوة الناعمة، وعلة القتال الجهادي ليست اختلافات الملة، بل علته العدوان على النفس أو على العقيدة. علة القتال في الإسلام هي: (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).

سابعاً: هذه مراجعات للفكر التقليدي مطلوبة للإحياء الإسلامي في ظروف العصر الحديث على نحو ما قال ابن القيم بمعرفة الواجب اجتهاداً، والإحاطة بالواقع ثم التزاوج بينهما. وفي هذا العصر يكفل الحق للذين يكوّنون تنظيمات سياسية بمرجعية إسلامية على أن تكون مفتوحة لكل المواطنين لأن حجرها على أصحاب ملة واحدة يهدم ركن المواطنة.

أما الذين يريدون تكوين تنظيمات دعوية إرشادية لدينهم فيكفل لهم هذا الحق، وحق التواصل مع رصفائهم عبر الحدود القطرية على أن يلتزموا بها تنظيمات دعوية إرشادية لا تدخلاً في التنافس من أجل السلطة مثلاً كيان الأنصار.

ثامناً: كان كثير من الفقهاء يــحصـرون عـــلاقــات المســلـــمــين الخارجية بين دار سلام ودار حرب، ويعتبرون أن أصل العلاقات بين الطرفين هو الاســتعداد للحرب أو خوض الحرب.

الإسلام يقبل ترتيب العلاقات الخارجية على أساس المعاهدة من أجل مصالح مشتركة قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ).

هذه المراجعات الثماني ضرورية لمستقبل الإحياء الإسلامي، لا سيما في ضوء تجربة نظامي الديكتاتورية في العهد المايوي في السودان (1969 – 1985) والعهد «الإنقاذي» (1989 – حتى الآن) وتجربة النظام «الإخواني» الديموقراطي في مصر (2012 – 2013) فقد أفشل هذه التجارب نهج الانكفاء على الذات وإقصاء الآخر والتمكين للحزب الحاكم. هذا النهج قد تجنبته التجربة التونسية المعاصرة وهي تجربة ممكن أن تنسب إلى المراجعات المطلوبة.

أسئلة إلى ميشال عفلق

(‌ب) النهج القومي العربي: في عام 1988، وفي بغداد التقيت مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي الأستاذ ميشال عفلق، عبرت له عن سعادتي بلقائه لأطرح عليه ثلاثة أسئلة أرجو أن يجيب عنها ليس لي وحدي، ولكن لكل الذين اهتموا برؤية البعث العربي الاشتراكي:

السؤال الأول: البعث يقول: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، هل هناك رسالة غير الإسلام؟ فالبعثية خلقت لنفسها عداءً مع الإسلام وكان يمكن أن توجد معادلة توفيقية.

السؤال الثاني: شعار البعث: وحدة، حرية، اشتراكية. ولكن الأسلوب الذي اتبع لتحقيقه من طريق الانقلابات العسكرية أودى بالحرية وكانت النتيجة إطاحة سائر الشعارات المرفوعة. أليس كذلك؟

السؤال الثالث: في بلاد مثل الشام الشعار العربي يجمع بين المسلم العربي والمسيحي العربي. في بلاد مثل السودان هنالك خمس إثنيات: عربية، وزنجية، وبجاوية، ونوبية، ونوباوية. الشعار العربي هنا يفرق الكلمة ويدفع الآخرين نحو استقطاب إثني حاد. ألا توافق أن في الوضع السوداني خصوصية ينبغي أن تراعى؟ رد قائلاً: نعم، الرسالة هي الإسلام، وينبغي ألا يكون الطرح القومي معادياً للإسلام فهذه النقطة توجب معالجتها بصورة لا تخلق تناقضاً بين رافدي نهضة الأمة. أما بخصوص الحرية فأقول نعم، التفريط في الحرية أودى بالشعارات الأخرى ويجب أن نرد للحرية اعتبارها فهي الشرط لتحقيق الأهداف الأخرى، ما يعني خطأ الأسلوب الانقلابي للسلطة. وقال أوافق على الخصوصية السودانية حيث ينبغي أن يدرك الطرح القومي العربي الحاجة إلى التوافق مع التكوينات القومية الأخرى. بعد ذلك طلبت منه أن يكتب في هذه الموضوعات، ووعد بذلك لكنه مات بعد فترة قصيرة من ذلك اللقاء وبعد موته أصدرتُ نعياً وذكرتُ فيه هذه المحادثة ذات المحتوى المهم.

الطرح المستنير للانتماء العربي هو الذي جاء على لسان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، إذ قال: «لَيْسَتِ الْعَرَبِيَّةُ بِأَحَدِكُمْ مِنْ أَبٍ وَلا أُمٍّ وَإِنَّمَا هِيَ لِسَانٌ، فَمَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ عَرَبِيٌّ»، لذلك تمددت حدود العروبة على طول التاريخ، ولكننا اليوم أمام يقظة الشعوب الأخرى التي تساكن العرب كما في السودان وفي غير السودان من أكراد، وأمازيغ، وتركمان، وغيرهم. ينبغي أن نتفق على معادلة تمكن من اعتماد اللغة العربية كلغة خطاب عام، وتكفل حق لغات الثقافات الأخرى وحقهم في معرفة تاريخهم وممارسة ثقافاتهم وكفالة حق الثقافات كافة في التلاقح الثقافي البناء، هذا الأمر يتطلب إبرام ميثاق ثقافي يعطي كل ذي حق حقه ويتعامل مع التنوع الثقافي بإيجابية، فقد صار واضحاً أن المواطنين يعتبرون احترامهم من احترام تميزهم الثقافي، لذلك في السودان وفي غيره كثرت المؤلفات التي تدل على هذه اليقظة مثلاً: «الأماويون» (النيمانغ) بقلم عبدالباقي حسن فيرين، «المساليت» بقلم إبراهيم يحيى عبدالرحمن، «الزيادية» بقلم محمد بعقوب زريبة، «قبائل الزغاوة» بقلم الهادي المبروك الدالي… وهلم جرّا، يقظة تجد أصداء عالمية كما أوضح الكتاب الذي نشرته الـ «يونيسكو» عن تنوعنا البشري الخلاق.

(‌ج) الاتجاه الأفريقاني: الممالك التي حكمت بلاد السودان في الفترة المسيحية (543 – 1400م) والممالك السودانية الإسلامية (1400 – 1821م/ 1874م لمملكة الفور) كانت ممالك غير عربية. أثناء حكم الممالك المسيحية أو الممالك الإسلامية، كثرت الهجرات العربية إلى السودان وتمددت الثقافة العربية فيه. هذا الاتجاه عززه الحكم العثماني للبلاد (1821 – 1885)، والمهدية (1885 – 1898) ثم الحكم الثنائي (1898 – 1956). ومع تمدد العروبة إثنياً وثقافياً تحركت يقظة بالهوية الأفريقانية. وفي البداية صارت تعبر عن نفسها بالكتلة السوداء، وصار كثير من السودانيين يقولون نحن أفارقة ولسنا عرباً في مقابلة ضدية بين الأفريقانية والعروبة. كما هو معلوم، فإن التماس العربي الأفريقي أفرز ضدية في كثير من المناطق، لا سيما في موريتانيا وفي زنجبار حيث تحول الموضوع إلى مأساة واحتراب إثني حاد. هذه الضدية غذتها البعثات التبشيرية في أفريقيا جنوب الصحراء كوسيلة من وسائل مواجهة التمدد الإسلامي والثقافة العربية. وفي تنزانيا تطور فهم عنصري للأفريقية. هذه المدرسة ارتبطت باسم الزعيم التنزاني الراحل يوليوس نيريري واستمد منها كثيرون أمثال يوري موسيفيني وجون قرنق. ولكن الشخص الذي حولها إلى نظرية كاملة عن الأفريقانية هو موسيفيني. المدهش أن موسيفيني وهو من أصل توتسي وهم يعتبرون إثيوبيين أي من أصول سامية، وربما لهذا السبب صار أكثر حماسة لتعريف عنصري للأفريقانية فصنف الأفارقة أربعة أصناف. وفي السودان قدم د. جون قرنق أطروحة بأن العرب أقلية في السودان لا تزيد عن الربع وأن الواجب دحر هذه السيطرة لتحكم السودان غالبية سكانه من الأفارقة.

النزعة الأفريقانية في السودان وجدت تجاوباً بالمقدار الذي فيه تغلبت الصفة العربية على الثقافة السودانية وعلى علاقات السودان الخارجية. قدر السودان أن ينحت هوية عربية أفريقانية تجنباً للمشادة بينهما، فإن لكليهما أساساً موضوعياً في التكوين السكاني. حتى القبائل المصنفة عربية ممتزجة بالأخرى من زنجية، ونوبية، ونوباوية، وبجاوية. والقبائل غير العربية مختلطة بأنساب عربية، وكثير منها يتحدث اللغة العربية لغة تخاطب عامة.

(‌د) التيار العلماني: في بداية عهدها كانت العلمانية، وهي مشتقة على غير قياس من العالم، بمعنى أن حقائق الأمور هي التي تتعلق بهذا الزمان وهذا المكان، فلا مجال للغيبيات أو ما فوق الطبيعة من أيديولوجيات، كانت العلمانية أصولية؛ وهي تعني أن الأمور كلها نسبية والأحكام كلها عقلية وهي شرط للديموقراطية. ولكن، اتضح أن أسوأ أنواع الطغيان مورست باسم العلمانية كالفاشستية، لذا صار كثير من رواد العلمانية يراجعون الموقف. قال أحدهم، يبتر بيرقر: لقد أخطأنا والصحيح أن شرط الديموقراطية ليس العلمانية، بل التعددية.

وفي السودان اليوم أدى تبني الدولة نهجاً إسلامياً إلى رد فعل في اتجاهين متناقضين: اتجاه يرفض النهج الإسلامي كله وينادي بعلمانية تتبناها الآن الجبهة السودانية الثورية وبعض قوى المعارضة المدنية، واتجاه مضاد تماماً يأخذ على النظام المهادنة في أمر الإسلام ويطالب بدرجات متفاوتة من التشدد في الأسلمة وتطبيق الشريعة. إزاء هذين التيارين المشهد السوداني متجه نحو مواجهات حادة مواجهات تماثل المشهد المصري الحالي.

(‌هـ) التيار الليبرالي: الليبرالية تعني حرية الفرد فوق سلطة المجتمع، و2هي ضرورية في النطاق الشخصي، ولكن في النطاق العام يمكن أن تتعارض مع المصلحة العامة. وفي الاقتصاد الليبرالية تعني السوق الحرة.

ولكن، إذا ترك الأمر من دون ضوابط يمكن أن يؤدي إلى الاحتكار وإلى ظلم الطبقات العاملة. ومع أن المجتمع الغربي يصف نفسه بالليبرالية، فإنها هناك تمارس مع درجة عالية من الانضباط الأخلاقي وســـيادة حكم القانون، بل من إخضاع الأفراد للمصلحة العامة في كثير من الجوانب. الليبرالية المطلقة لا توجد إلا في خيال بعض مفكري الصفوة.

بطاقة الهوية المطلوبة

ما هي بطاقة الهوية السودانية التي تمكن السودان من تجنب التفكيك وتساهم مساهمة قوية في عملية التسبيك؟

أقول: الحل هو الاحتكام إلى الوصفة الآتية:

– السودان شعب غالبية أهله من المسلمين تساكنهم مجموعات وطنية متعددة الدين، ولغة الخطاب العام فيه عربية تعايشها ثقافات زنجية ونوبية ونوباوية وتبداوية.

– لكل المجموعات الدينية والثقافية الحق في حرية العقيدة وحرية التعبير عن ثقافاتهم ولغاتهم وتواريخهم.

– ينعم أهل السودان كافة بحقوق مواطنة متساوية بصرف النظر عن الدين أو الثقافة أو النوع.

– كانت التنمية في السودان وتوزيع الخدمات الاجتماعية غير متوازنة، ما يوجب تطبيق برنامج حازم لتحقيق التوازن والعدالة في هذا المجال.

– النظام الديموقراطي هو الذي يكفل حقوق الإنسان للجميع، والحرية، والعدالة، ولكن الممارســة الديموقـــراطية ينبغي أن يصـــحبها التزام بمشاركة عادلة لكل مكونات الشـــعب السوداني في السلطة المـــركزية، وأن يـــكفل لمــــكونات السودان الجهوية حقوقاً فيديرالية حقيقية لممارسة حكم ذاتي ديموقراطي.

– يكفل للمسلمين حق تحقيق مقاصد الإسلام كما يكفل للمجموعات الدينية الأخرى كافة، الحق في تطبيق مقاصد أديانها، على أن يراعي الجميع حقوق المساواة في المواطنة، وأن يلتزموا العمل بالوسائل السلمية.

– يعتمد السودانيون اللغة الإنكليزية لغة مخاطبة دولية، من دون حجر لاستخدام لغات عالمية أخرى.

– يلتزم السودان تصحيح خلل التوازنات في علاقاته الإقليمية العربية، والأفريقية والإسلامية، وأن يتبع سياسة دولية تخدم مصالحه الوطنية بلا عداء وبلا تبعية.

– يتفق على بروتوكول ثقافي وآخر ديني لضمان حسن إدارة التنوع الثقافي والتعايش الديني، ولتحقيق المساواة الثقافية وإحسان التلاقح والوصال. (البروتوكولان المقترحان مرفقان في الملاحق).

– تعاني المرأة من اضطهاد نوعي لدى المجموعات السودانية المختلفة، وينبغي أن يكون تحرير المرأة من قيود الظلم والاضطهاد إحدى لبنات الهوية السودانية المنشودة. الميثاق النسوي جزء لا يتجزأ من خطتنا المستقبلية للعدالة والإنصاف.

– استغلال القوات المسلحة في ترجيح الرؤى السياسية، لا سيما تلك التي تقفز فوق توازن الهوية الذي جر للبلاد أخطاراً مدمرة، كما أن للقوات المسلحة دوراً مشروعاً في الدفاع عن الوطن، الميثاق العسكري لبنة ضرورية لبناء الوطن.

– ينبغي أن تلتزم التنمية بمقاصد عدالية جهوية واجتماعية يحددها عقد اجتماعي يوفق بين شروط السوق الحر والمطالب العدالية.

– بطاقة الهوية السودانية هذه تعتمد أساساً لبناء الوطن يوجّه دستور البلاد.

 

الحياة