رجحان الديمقراطية على الطغيان غلبة الثلاثة (1986- 1989م) للثلاثين (1989- 2019م)

بسم  الله الرحمن الرحيم

رجحان الديمقراطية على الطغيان

غلبة الثلاثة (1986- 1989م) للثلاثين (1989- 2019م)

22/4/2019م

  1. ما عدا قتلى حرب الجنوب التي أشعلها النظام الدكتاتوري السابق (1969- 1985م) فإن النظام الديمقراطي لم يقتل مواطناً. النظام الانقلابي الذي أعقبه أسرف في سفك دماء السودانيين بدأ بقتل 28 ضابطاً دون محاكمة عادلة وقتل ثلاثة مواطنين فيما ملكوا من عملة صعبة. وتواصل سفك الدماء في بورتسودان والعيلفون والخرطوم لا سيما سبتمبر 2013م، ولكن كانت المجزرة الكبرى في دارفور التي جلبت للنظام 62 قرار مجلس أمن تحت الفصل السابع، كذلك مجازر جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق إنه العهد الدموي بامتياز في تاريخ السودان الحديث.

إن عدد القتلى في دارفور وحدها في سبع سنوات من 2003 وحتى 2010 بلغ 500 ألف كما قدر  بعض الباحثين، وفي الجنوب بلغ عدد القتلى نحو المليون نفس جلهم كان أثناء هذا النظام بسبب غارات القصف العشوائي المستمرة، وانضم للقتلى كذلك ضحايا جبال النوبة والنيل الأزرق منذ 2011م بقصف الأنتينوف العشوائي والغارات الهمجية من المليشيات المختلفة ويقدرون بعشرات الآلاف. إضافة لضحايا العنف الطلابي والعسف السلطوي منذ إعدام الضباط الـ28 عشية عيد الفطر 1990م، ومجدي وزميليه، وقتلى معسكر العيلفون من الطلاب، وسد كجبار، وطلاب جامعة الجزيرة وقتلى التعذيب داخل السجون الذين يبلغون المئات، وشهداء ثورة سبتمبر الذين بلغوا نحو 260 شهيداً في بضع أيام، وشهداء  ثورتنا الظافرة المنطلقة في ديسمبر والذين فاقوا المائة حتى الآن. أما المعتقلات فلم تخل أبداً من مئات سجناء الرأي والضمير طيلة عمر النظام الذي امتد 30 سنة. وكذلك الاغتصاب كسلاح في الحرب الذي وقع آلاف النساء والفتيات والصبيان ضحية له منذ تفجر حرب دارفور في 2003م وحتى الآن. ومن ضحايا العنف المفرط أثناء قمع التظاهرات وقوع مئات من حالات الدهس بالتاتشرات والإصابات البليغة بعلب البمبان مما أدى أحياناً لتهشيم الجمجمة، وإتلاف العيون، والكسور الخطيرة.

  1. لم يعهد النظام الديمقراطي فساداً فالصحافة حرة والقضاء مستقل والشفافية كاملة، بينما النظام الانقلابي أضاف أصناف من القيود على حريات التنقل والتجمع والتنظيم والتعبير، لذلك كان سجل النظام طيلة عمره في ذيل مؤشرات الحريات سواء كانت الحريات الدينية، أو حرية التعبير. فقد احتكر الإعلام ونكل بالإعلاميين المعارضين واستخدم وسائل الترغيب والترهيب لكسر مقاومة الصحفيين والإعلاميين والمؤسسات الإعلامية خاصة الصحف، مثلا سلاح الإعلانات حيث تمنع عن غير الصحف الموالية للنظام، واستدعاءات الصحفيين، وتعذيبهم، واعتقالهم، وتهديدهم، وسحب رخصهم الصحفية أو منعهم عن الكتابة وغير ذلك من وسائل التدجين.
  2. حافظ النظام الديمقراطي على الحريات العامة، وعلى استقلال القضاء، وعلى حياد الخدمة المدنية، وعلى قومية القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى، وهي المبادئ التي خرقها النظام الانقلابي بصورة فادحة. وحافظ النظام الديمقراطي على استقلال وديمقراطية النقابات ومنظمات المجتمع المدني وعدم اختراق الإدارة الأهلية. وهذه كلها تحكم فيها النظام الانقلابي.

 

  1. النظام الديمقراطي مارس التنافس الحزبي بعيداً عن مؤسسات الدولة، ولكن النظام الانقلابي حول مؤسسات الدولة لدولة الحزب الحاكم. وإلى جانب هذا الاختراق الجائر كون النظام الانقلابي مؤسسات دولة موازية للدولة الوطنية.
  2. الدين الخارجي للسودان تراكم في عهد الانقلاب الثاني (المايوي) وبلغ 10 مليار دولار كافأت به بعض الدول النظام المايوي لانحيازه للغرب. في العهد الديمقراطي لم يزد الدين العام إلا وفقاً لتراكم فوائد الديون سنوياً حيث بلغ في نهاية العهد الديمقراطي 14 مليار دولار، ولكن الإنقاذ توسعت في أخذ القروض الأجنبية والتي مولت في غالبيتها الفساد وصبت في جيوب المسؤولين وآخذي العمولات بالباطل فوصل الدين الخارجي إلى  حوالي 60 مليار دولار الآن، وذلك بالرغم من تدفق أموال النفط طيلة العقد الثاني من عمر الإنقاذ.  وبالإضافة لذلك الدين الخارجي هناك دين داخلي ضخم. تجاوز سقف الاستدانة من النظام المصرفي بلا سداد، وتم التصرف حتى في الاحتياطي النقدي المصرفي مما حرم مودعي المصارف من أموالهم، فاهتزت الثقة في النظام المصرفي وسحبت تقريباً كل الأموال خارجه. تم الاقتراض عن طريق شهادات شهامة وبددت المبالغ، وليس هناك رصيد لسداد مبلغ الشهادات ولا أرباحها. وقامت الإنقاذ بمحاولة سد عجزها عن طريق طباعة النقود بدون أي إنتاج مقابل، مما جعل التضخم يبلغ نسباً خيالية وعلى مدى سنوات منذ انفصال الجنوب في 2011م.

 

  1. الانتاج الزراعي والصناعي بالمقارنة أفضل في العهد الديمقراطي. كان العهد الديمقراطي يوازن بين دعم الانتاج ودعم الاستهلاك (الخدمات والسلع) للحفاظ على توازن الاقتصاد والعدالة بين مواطني البلاد. البنك الزراعي كان يقدم مدخلات الانتاج عالية الجودة في الوقت المطلوب تقريباً بالتكلفة (بلا إضافة أرباح على المنتج دعماً للانتاج). وفي مواسم نثرت بذور الفول المحسنة مجاناً بالطائرة في الأراضي الزراعية في كردفان ودارفور، كان الإنتاج أيضاً يشجع بدعم الأسعار، فعندما انهارت أسعار الذرة لضخامة الانتاج في موسم 1988م، اشترت الحكومة الذرة نقداً من المنتج مباشرة بضعف التكلفة وخزنته بطريقة جيدة، وبلغ حجم دعم المحاصيل في عام 1987م وحده 1.4 مليون جنيهاً سودانياً.. لهذا كان الانتاج الزراعي والصناعي أفضل في العهد الديمقراطي (اثبتت ذلك دراسة الأستاذ محمد عثمان عبده كبج). في عهد الانقاذ، كانت السياسات لصالح السماسرة والوسطاء، وتم بالكامل إهمال الانتاج ودمرت المشاريع الانتاجية (مثل مشروع الجزيرة وغيره من المشاريع المروية)، وتم تهميش مناطق الانتاج ما أدى لحمل السلاح والحروب في كردفان والنيل الأزرق ودارفور. (د. بامكار خلص في بحثه لأن الصرف التنموي في الفترة 96 -2001م تم توزيعه على: الخرطوم 75%، الأوسط والشمالي والشرقي 7% لكل، كردفان ودارفور 2% لكل). ونتيجة لذلك تدهور الإنتاج وتم الاعتماد على الاستيراد فارتفع استيراد الغذاء من 72 مليون دولار $ عام 1990 إلى 205 مليار دولار $ أواخر العهد المشئوم. هاجر المنتجون من الأرياف للمدن ولولاية الخرطوم فتضخمت وتريفت وأصبحت تأوي أكثر من ثلث السكان (عام 1989م كان بها 7% من السكان).
  2. الديمقراطية كفلت دولة رعاية اجتماعية في دعم السلع الضرورية ومجانية التعليم والصحة. واتفقت حكومة الديمقراطية مع اليابان على شراكة إنتاجية، تدرس بموجبها اليابان مقومات السودان الإنتاجية وتقدم التمويل والمعارف والخبرات الفنية، ويكون الإنتاج شراكة بين الدولتين. هذا الاتفاق المثمر كان سيؤدي لتقدم البلاد ويحسن الأحوال المعيشية لكل مواطنيها ولكن الانقلاب قطع الطريق على تلك الخطة. وقوض النظام الانقلابي دولة الرعاية الاجتماعية وبالتالي رفع نسبة الفقر في البلاد إلى أكثر من 80%. ذكرت وزارة الصحة أن الانفاق على العلاج يدخل سنوياً 7-8% من السكان في دائرة الفقر.  وما زاد الأمر فداحة ارتفاع تكاليف المعيشة في العهد الانقلابي إلى أرقام فلكية فبالقياس لسعر الدولار الذي كان 12 جنيهاً صار في العهد الانقلابي يساوي 70 ألف جنيه.  أثبتت الاستراتيجية القومية لمكافحة الفقر الحكومية) التي نشرت في يناير 2012م التدهور المريع في التعليم وانهيار بنياته، ومعاناة الأسر في الصرف على التعليم؛ كما أثبتت تدهور الخدمات الصحية ومعاناة الأسر في الصرف على الصحة (السودان الأسوأ بالمقارنة مع الدول الأفريقية جنوب الصحراء).
  3. وفي مقارنة بين العهدين الثلاثة أعوام ديمقراطية وأول 16 عام في العهد الانقلابي: رصف في العهد الديمقراطي طريق كوستي الأبيض الدبيبات، والطريق الدائري للجبال الشرقية، وطريق سنجة الدمازين، وطريق خشم القربة، وطريق الدلنج كادقلي. وأعاد تأهيل طريق بورتسودان، والنيل الابيض، والدبيبات الدلنج. وشيدت كباري سنجة، السنجكاية، الجنينة. وشيدت مطارات بورتسودان، الفاشر، نيالا، الجنينة، دنقلاب، الدمازين، كادقلي. وشيدت الصوامع: الخرطوم بحري، الجزيرة، الدبيبات، الصوامع المتحركة (التي حولها الانقلابيون لمكاتب لبسط الأمن). وفي دارفور: تعمير مشروع غرب السافانا، وغزالة جاوزت، وتوصيل مياه الفاشر، وصوامع الغلال. وتوسع في الآبار والدوانكي (78)، جبل مرة للتنمية الريفية، ومشروع مياه نيالا، وحوض البقارة.
  4. الفساد: في الديمقراطية كان المراجع العام يحصى كل الحركة المالية في الدولة، ومؤسسات الضبط والرقابة (المشتروات الحكومية، المخازن والمهمات، التشييد والاشغال، النقل المكنيكي) تضبط وتراقب. أما الانقاذ فجعلت المال العام قرصنة لها ولمحاسبيها، وجعلت السودان مصنفاً ضمن أفسد البلدان في العالم. حصل السودان نتيجة بترول الجنوب وعوامل أخرى على ما لا يقل عن 150 مليار دولار بددها الفساد وسوء الإدارة. وقد فتحت الإنقاذ أبواب الفساد بالتمكين وتهميش دور المراجع العام، وحل مؤسسات الضبط والرقابة وتجاوز أجهزة الدولة ومؤسساتها. وأثناء عقد البترول حصلت البلاد على موارد كبيرة (البترول، الاستثمار الأجنبي المباشر، القروض) إلا أنه أسيء استخدامها.
  5. في العلاقات الخارجية احتفظت الديمقراطية بالحياد الإيجابي وكسبت احتراماً دولياً عاماً فتح المجال لدعم تنموي غربي باستثناء الولايات المتحدة، لأنها كانت تريد استمرار المنافع التي حصلت عليها من النظام المايوي المباد. وانفتح الطريق لتكامل تنموي مع اليابان ولنقل تكنولوجيا دفاعية من الصين ومن الاتحاد السوفيتي، ويوغسلافيا كما تلقت البلاد دعماً من أشقائها: ليبيا والسعودية، ومصر، والعراق والأردن. أما في ظل النظام البائد فإن السودان لعب في البداية دور حاضنة للتطرف في الإقليم وفي العالم فكان موئلاً لكل الجماعات الإرهابية ومقراً لمعسكراتها التدريبية، وأعطى قادتها جوازات السفر الدبلوماسية حتى صار الجواز السوداني سبة في العالم، وتتالت القرارات الدولية المضادة للحكومة السودانية منذ محاولة اغتيار الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا في 1995م، وتزايدت بعد تفجر الحرب في دارفور في 2003م بسبب الوسائل الوحشية التي استخدمها النظام لحسم المقاومة المسلحة، فاتهم قادته بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية من قبل المحكمة الجنائية الدولية وهي تهم طالت حتى الرئيس المخلوع ومعظم زبانيته المقربين، وصيرته منبوذاً دولياً يتحاشى قادة الدول ملاقاته أو مصافحته وحتى الذين يزورون السودان يمتنعون عن مقابلته، وتكررت حوادث فراره من الملاحقة الجنائية والقبض كمجرم في جنوب أفريقيا ونيجريا وغيرها من البلدان التي زارها لحضور محفل عام وغادرها هارباً على عجل. وصار النظام مصنفاً ضمن الدول الراعية للإرهاب لدى الولايات المتحدة، ومنبوذاً دولياً بسبب اتهامه بالإبادة في دارفور ففقد احترامه، وتحول من لغة العداء للمجتمع الدولي إلى تابع ذليل، فسلم كل ملفات حلفائه في الحركات الإرهابية لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وقدم نفسه كشرطي للاتحاد الأوربي في المنطقة لمنع الهجرة غير الشرعية مع أنه والأنظمة الشبيهة به هم الأسباب في تلك الهجرة بتضييقهم على شعوبهم وأكلهم لمقدراتها. وصار النظام يتبضع بين المحاور الإقليمية ويسكت على الاعتداء على سيادة أراضيه في حلايب التي احتلتها مصر والفشقة التي احتلتها اثيوبيا مستغلة ضعف النظام واستجدائه للمناصرة، كما استمرأ النظام التفريط في السيادة على أراضيه، وقد كشفت دراسة لخبير دولى أن (23%) من الأراضى الزراعية فى السودان تم بيعها لمستثمرين أجانب، من بينها (1.4) مليون فدان بيعت لشركة أمريكية بـ(25) ألف دولار. وكشفت الدراسة عن بيع (23%) من الأراضى الزراعية فى السودان، وأن الأراضى السودانية المنتزعة أو مستولى عليها من قبل دول مجاورة تشكل (9.99%) من جملة الأراضى المستولى عليها على نطاق العالم .وأوضحت الدراسة أن السودان رابع أكثر الدول فى العالم التى تم الاستيلاء على أراضيها الزراعية بعد جمهورية الكونغو الديمقراطية وأضافت أن الأراضى المستولى عليها فى السودان غالباً ما تكون على ضفتى النيل الأزرق. وأدى انتزاع الأراضى إلى تجريد صغار المزارعين من أراضيهم وإلى اعتمادهم المتزايد على الإغاثات والمساعدات الغذائية الدولية. وبعض هذه الأراضى المستولى عليها سافنا أو غابات مما فاقم من التصحر.
  6. جرت انتخابات عامة ومحلية في العهد الديمقراطي كانت كلها نزيهة بالمقاييس الدولية بينما كل الانتخابات في العهد الانقلابي كانت مزورة ومخططة لاستمرار حكم الفرد. وقد أصدرحزب الأمة في 2010م كتابا ضخماً بعنوان (انتخابات أبريل 2010 في الميزان) عبارة عن دراسة وافية للانتخابات التي جرت ذلك العام وثقت للتزوير المفضوح فيها، كما احتوت على مسح للانتخابات في السودان في العهود الديمقراطية والديكتاتورية تبين الفرق بين الانتخابات كوسيلة لتولية منتخبي الشعب السلطة أثناء العهود الديمقراطية، و”الانطباخات” التي تقوم بها العهود الديكتاتورية لتزوير إرادة الشعب.
  7. اسوأ ما ضاع على البلاد اتفاق السلام المزمع في مؤتمر قومي دستوري متفق عليه في 18/9/1989م ليس فيه مطلب تقرير المصير وليست فيه وصاية أجنبية. هذا المشروع قوضه الانقلاب الذي اختار حسم الأمر عسكرياً فخاب مسعاه وأخيراً أبرم اتفاقية هزيمة بشرط تقرير المصير وبتدخل أجنبي واضح في يناير 2005م. ونتيجة لسياسات النظام الإسلاموية الحزبية دفع الجنوبيون دفعاً نحو الانفصال. يجب مقارنة اتفاقية السلام المزمعة في 18/9/1989م واتفاقية سلام نيفاشا المعيبة في يناير 2005م.
  8. ما عدا حرب الجنوب التي كان إنهاؤها وارداً في مؤتمر 18/9/1989م المزمع، لم تكن في البلاد حروب أهلية أخرى. ولكن العهد الانقلابي بسياساته الأحادية الرعناء أشعل حروباً كثيرة في دارفور وفي شرق السودان وفي جنوب كردفان وفي جنوب النيل الأزرق.

أخيراً إن كتاب الديمقراطية في السودان راجحة وعائدة يقدم بيانات واضحة لرجحان الديمقراطية على الدكتاتورية في التجارب السودانية، كما يمثل قراءة للمستقبل أنها حتماً عائدة.