شاهد على قبر أسامة عبد الرحمن النور

بسم الله الرحمن الرحيم

1/ 10/ 2010م

 

شاهد على قبر أسامة عبد الرحمن النور

 

عرفت أسامة ابنا للعم عبد الرحمن النور الذي كان صديقا حميما لوالدي وصديقا وعما لي.

في حياته القصيرة استطاع أسامة أن يؤهل نفسه في علوم التاريخ والانثروبوجليا والأريكولوجيا بصورة شدت إليه الأنظار. ومع تأهيله الأكاديمي المرموق وخبراته البحثية والتدريسية والحقلية صار من رواد الحركية الآثارية مبشرا برؤاه داخل السودان وخارجه عبر المؤلفات والمقالات وعبر موقعه الإلكتروني الواسع الانتشار: أركمان.

كان هذا الجهد التبشيري بقيمه ومدلولات آثار السودان القديمة أمرا هاما لأن آثار السودان مع عراقتها ومدلولاتها في تاريخ حضارة السودان لم تحظ بالاهتمام الذي حظيت به الآثار في مصر وفي العراق. وكثير من أمر آثارنا ما زال مغمورا فاللغة المروية مع أنها أبجدية وأكثر تطورا من الهيروغليفية ما زالت مجهولة وإن كان نظامها الصوتي قد اكتشف، والحضارة المروية نفسها مع أنها امتدت ألف سنة أي أطول من كل حضارات العالم القديم ما زالت نسبيا مجهولة. ومع أن لقمان الحكيم الذي امتدحه القرآن كان أسمر اللون لا يوجد توثيق لنوبيته مع وجود أكثر من سبب لتأكيد ذلك، فأركمان اشتهر بالحكمة وآثاره تدل على ذلك مثلا يرمز إليه بعين واسعة لحكمته والحكمة هي ما وصف به لقمان ما يشير إلى أن لقمان هو أركمان.

قال ديودورس المؤرخ الصقلي عن قدامى أهل السودان: “يجمع المؤرخون أن السودان هم أول الخليقة من البشر. وأول من عبد الله وقرب القرابين وأول من خط بالقلم”.وسعى كثيرون أمثال عالم الآثار شارلس بونيه لتأكيد تلك الأسبقية بحفرياتهم، وفي حالة شارس نفسه فإنه قام بهذا العمل متطوعا ومن حر ماله فقدم للسودان خدمة لا تقدر بثمن وكان فقيدنا الراحل أسامة من الذين ساهموا في هذه الصحوة الآثارية السودانية الحميدة.

إن أهل السودان بقدر وعيهم بقيمة تلك المجهودات التي توثق لدور أسلافنا في بناء الحضارة الإنسانية سوف يقدرون أعمال أولئك الرواد.

هنالك عوامل جعلت وعي السودان بذاته محصورا في هوية ثقافية معينة. مع أن القرآن لا ينفك يذكر قصص الأولين. ويأمر بالتفكر فيها. قال تعالى: “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ[i]. وقال: “وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [ii]. القرآن يأمر بالإلمام بتراث الإنسانية كله رأسيا أي في الماضي، وأفقيا أي في الحاضر المعاصر إذ قال تعالى: ” سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ [iii]. وجاء في الأثر “الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ ، حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا[iv]. لذلك قال العالم منتجمري واط: “إن في استصحاب الحضارة الإسلامية لتراث الشرق الأوسط القديم إنجازا معجزا”. لقد جعل الجهلة الدين قيدا مانعا لمعرفة للإلمام بالحضارات المعاصرة. وقيدا مانعا من كثير من علوم الإنسان الجديدة كالانثروبولوجيا، والأريكولوجيا، وغيرها ومانعا من كثير من أنشطة الإنسان الإبداعية الفنية والرياضية حتى كأن الدين عدو التجدد والإبداع وعدو للحياة في فهم خاطئ للبدعة التي تتعلق بأمور العقيدة دون سواها. بهذا الفهم المنكفئ صرفوا كثيرا من الناس  عن أمور حثت عليها نصوص الوحي وأبدعت فيها الحضارة الإسلامية. لقد فصّلوا الدين بمقاساتهم القزمية فاستحقوا غضبة الإمام ابن القيم على طائفة من جعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة لغيرها وسدوا لأنفسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها.

أنا إذ أشيد بطروق الراحل أسامة مجال الآثار مع قلة من السودانيين وأشيد بعطائه فيه وأشيد بالتزامه أمرين هما من صميم صفات العلماء وهما: التواضع مع الناس. وعدم مداهنة السلطان. أرجو أن نتمكن جميعا من تكوين مركز آثاري باسمه يواصل عطاءه في مجال اختصاصه انتصارا للثقافة الآثارية السودانية وتأكيدا لأن الموت لا يقتل العطاء فالعلم النافع خلود في الحياة.

ألا رحمه الله رحمة واسعة وأحسن عزاء أسرته الخاصة والعامة السودان الوطن الجريح.إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ[v].

 

[i] سورة يوسف الآية 111.

[ii] سورة  القصص الآية 58

[iii] سورة فصلت الآية 53

[iv] سنن ابن ماجة – حديث رقم 4203

[v] سورة البقرة الآية 52