شهادة ذكرى وفاة جمال الدين النفيدي

الإمام الصادق المهدي
الحبيب الإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 شهادة في ذكرى

وفاة جمال الدين النفيدي

 

14 يناير 2012م

الحمد لله الذي لا راد لقضائه، والسلام على نبي الرحمة الذي قال: “إذا أحبَّ الله عبداً حبَّبَ إليه خَلْقَه”.

الإيمان هو أساس طمأنينة النفوس، والمحبة هي لحمة العلاقات الدافئة بين الناس. إن نفسا خلت منهما هي نفس جفاف روحي وتصحر عاطفي.

 كان الحبيب الراحل تجسيداً للإيمان وللمحبة، صدق في رثائه الشاعر:

 ما اتكفن براك رقدت معاني معاكا *** يا تاج الفضل في الجنة تلقى جزاكا

 قال إبرهيم عليه السلام مناجيا ربه: (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) أي طيِّب سيرتي بعد وفاتي، إن فقيدنا بهذا المعنى على سنة إبرهيم.

سوف أعدد له محامد محفورة في قلوب من عرفوه وأنصبها شاهدا في مرقده:

 أولا: الفقيد ليس من جيلي بل من جيل أبنائي، ولكننا تزاملنا في الفروسية. الإنسان الحي نفسيا واجتماعيا لا يحبس نفسه في جيله بل تمتد علاقته لكل الأجيال. من لا يستطيع أن يداعب طفلا، ويناجي صبيا، ويصادق نداُ، ويجالس شيخا مصاب بجفاف عاطفي. البشر لا تقاس قيمتهم بعدد السنوات، كما قال الحكيم:

 قُل للّذي أحصَى السّنين مُفاخرًا *** يا صَاح ليسَ السّر في السّنوات.

 لَكنّه في المَرء كيف يعيشُھا؛ *** في يقظَة! أم في عَميق سُبات؟

 أنا أصادق أبنائي، وأصادق أجيالهم، وقديما قال نبي الرحمة: “الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ” وفي هذا جواز لعلاقات صداقة تقوم عبر الحدود العمرية صداقة هي أحيانا أنقى من القرابة:

وقُلت أخي؟ قالوا أخٌ من قرابة؟ … فقلت لهم إنّ الشُكول أقاربُ

إن للصداقة على ظهور الخيل رونقا خاصا، الخيل ليست كسائر الدواب إنها الحيوان الوحيد الذي أقسم به خالقه: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) ). وهي كائنات مباركة بنص حديث النبي (ص): وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ” . وفي كل أسماء الخيل توأمة مع محمدة: الحصان والحصن، والجواد والجود، والفرس والفروسية، والخيل والخيلاء. إنها صفات مغروسة فيها وتفيض على محبيها فمن عدها مجرد سوائم لتركب وتسخر فقد صرفه المبنى عن المعنى كما قال أبو الطيب:

 وَما الخَيلُ إلاّ كالصّديقِ قَليلَةٌ *** وَإنْ كَثُرَتْ في عَينِ مَن لا يجرّبُ

إذا لم تُشاهِدْ غَيرَ حُسنِ شِياتِهَا *** وَأعْضَائِهَا فالحُسْنُ عَنكَ مُغَيَّبُ

لذلك قيل إن ظهورها عز وقيل أعز مكان في الدنا سرج سابح.

 ثانيا: لم أسمع فقيدنا يتحدث في السياسة، ولكن عمله في القطاع الاستثماري هو انشغال بسياسة التعمير وهي وظيفة ضرورية للحياة مثلما هي من أغراض الكون. قال تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) أي جعلكم عمارها.

ما كل الناس يستطيعون أن يثمروا المال. إن للاستثمار اخلاقا هي:

  •  إن تدخر على حساب الاستهلاك.
  •  إن تختار العمل الأربح وليس الأسهل.
  •  أن تلتزم بالمواعيد.
  •  أن تحترم كلمتك.

 هذه هي صفات المستثمر الناجح، وهي التي جعلت من فقيدنا وأمثاله طاقة في تعمير البلاد، أقصد الاستثمار الحقيقي لا الطفيلي، الذي تصنعه الفهلوة أو تغذيه المحاباة.

المدهش أن النشاط الاقتصادي وهو مادي لا يحقق نجاحا إلا بالالتزام بمسائل معنوية: مثل الصدق في القول، واحترام الكلمة. لذلك صارت السمعة الطيبة أفضل من ضخامة الرصيد المالي.

هكذا الشأن الانساني كله، فأغلب أمراض الإنسان مصادرها نفسية لا حسية، وبالإيمان تتضاعف قدرات الإنسان المادية، وبالحب يزيد الإقدام على التضحية.

وسعادة الإنسان نفسها ليست بما يملك من ماديات وإن كثرت، بل السعادة حالة نفسية يستنير بها قلب مطمئن بالإيمان والمحبة المتبادلة مع الناس. لذلك قال الحيكم:

يَا خَادِمَ الْجِـــسْمِ كَمْ تَسْعَى لِخِدْمَتِهِ *** أتِطْلب الربح مما فِيهِ خُسْرَانُ

أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ فَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا *** فَأَنْتَ بِالـنفسْ لَا بِالْجِـــسْمِ إِنْسَانُ

كان الفقيد انموذجا طيبا لرجل الأعمال السوداني.

 ثالثا: لم أسمعه يتحدث في الدين على نحو ما نسمع من الذين يتطفلون بمواعظ مخالفة لسلوكهم، ولكن تدين فقيدنا كان مجسدا في أخلاقه والأخلاق هي كما قالت السيدة عائشة رواية عن النبي (ص): “ما من شَيءٍ أَثْقَلُ في ميزَانِ المُؤمِنِ يَومَ القِيامة من حُسْنِ الخُلُقِ” كما كان تدينه مجسدا في معاملاته. والدين كما قال حبيبنا المصطفى: “الدين المعاملة”.

 رابعا: لكل أمرئ نصيب من اسمه. لذلك قلت ناصحا: لا تسموا أبناءكم باسماء الحيوانات والطيور المتوحشة، ولا تسموا بناتكم باسماء المشتهى من الطعام ولا المسائل الشهوانية ففي أسماء الفضائل متسع.

الجمال له معنيان حسي، ومعنوي. وكلاهما محمود فالجمال الحسي من أغراض الكون: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) . وهذا التنوع في ألوان الزهور، والطيور، لا ليخدم وظيفة بل لمحض الجمال.

والجمال المعنوي قيمة منشودة وهو المعنى الحقيقي لقوله النبي (ص): ” فَإِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ” . لقد كان للفقيد نصيبٌ من اسمه. وقديما قال الحكيم:

أُصَـادِقُ نَفْـسَ المَـرْءِ قَبْلَ جِسْمِـهِ *** وأَعْرِفُـهَا فِـي فِعْلِـهِ وَالتَّكَلُّــمِ

 خامسا: لقد عرفته وصهره أسامة، وعن طريقهما تعرفت عن كثير من أفراد الأسرة، وأدركت حجم الفاجعة التي أصابتهم بوفاته المفاجئة. ولكن عزاءهم في أنه أورثهم سيرة حميدة وذرية يرجى أن تستلهم سيرة والدها الطيبة. ولأهل السودان حكم غالية مثل قولهم: الجنا نية أي نية الإنسان وهي خفية تظهر في ذريته. إنه توطين سوداني لقول رباني: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) .

 سادسا: إني أضرع لله أن ينزله مع الذين هم: (آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ) .

إن بعض الناس إذ يترحمون يركزون على مباهج مادية وهي مسائل تقريبية لأن السعادة الأخروية مفرداتها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. كما قال النبي (ص): “قال ربكم: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ” ثم تلى قوله تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . كذلك أوصاف الله المادية لنفسه تقريبية لأن الحقيقة هي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) .

 إنا نشهد بإحسان الفقيد. (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ؟) . (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي) .

 اللهم قد كان محسنا فزد في إحسانه وإن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته فرحمتك وسعت كل شيء.

 يا عظيم الذنب عفو الله عن ذنبك أكبر

أكبر الأشياء في أصغر عفو الله تصغر

 سابعا: أحسن الله عزاء والدته السيدة سعاد وزوجه السيدة أميمة وأخوانه الأخوة: أمين، وصلاح، ومأمون، وأحمد، وطارق، وأختيه: إخلاص، ووصال. وأبناءه: أحمد، وعاصم، ومالك، وبنته سارة. أحسن الله عزاءهم وعزاء أصهارهم وأصدقائهم. (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) وسلام على جمال في رحاب رب العالمين.