ما بين المسجد والكنيسة

بسم الله الرحمن الرحيم

ما بين المسجد والكنيسة

9 أبريل  2005م

 

القرآن هو الكتاب المنزل الوحيد بل والكتاب المقدس الوحيد الذي يعترف بالتعددية الدينية. وضمن ذلك يخص المسيحية بمركز خاص. ففي سورة الروم: “فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ”[1]. “فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ”[2]

. وقوله: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ»[3].

والسيرة النبوية تذكر دور ورقة بن نوفل الإيجابي في بشرى النبوة، والتاريخ يذكر استثناء نصارى تغلب والجراجمة من الجزية.

ويذكر المعاملة اللطيفة التي لقيها نصارى بيت المقدس والأقباط في مصر. نعم في عهد الاستبداد والركود الفقهي أوجبت بعض الأحكام معاملة دونية للنصارى ولكن الاضطهاد في عهد الاستبداد كان عاماً حتى أن أعظم المجتهدين لقي عنتاً، كذلك أعلام الصوفية.

أما من ناحية المسيحية فالعيب الأكبر هو أنها لا تعترف بالإسلام ديناً، وأن كتابها وعلماءها حبروا صحائفَ سوداءَ ضد الإسلام ونبي الإسلام. وألحقوا بذلك فترات بطش بأهل الإسلام في الأندلس وفي الحروب الصليبية ولدى العدوان الاستعماري.

دعك عن الماضي. لقد كثرت منابر الحوار الديني ولكن مع كثرتها لم تشهد اعترافاً مسيحياً صريحاً بالقيمة الروحية للرسالة المحمدية.

بابا روما الراحل وكبير أساقفة كانتربري اتخذا مواقف سياسية جريئة ضد حماقات السياسة الغربية، ولكن هذه الجرأة لم تصحبها جرأة مماثلة على الصعيد الديني اللهم إلا في شأن اليهود الذين برأ البابا أحفادهم من دم المسيح عليه السلام.

هنالك عدد من أتقياء المسيحية كتبوا باحترام روحي للإسلام، مثل ما قاله الأستاذ آربري الذي ذكر في مقدمة ترجمته للقرآن: إني لأحمد «الروح» التي أوحت بهذا الكتاب المدهش. أو ما قاله الأستاذ منتجمرى واط الذي كتب في مقدمة كتابه عن السيرة النبوية: إن افتراض أن محمداً كاذب افتراض غير معقول.

المسيحيون مطالبون بمواجهة هذا الموقف لأنهم اليوم يعايشون كثافة إسلامية في عقر دارهم، وصار الإسلام الديانة الثانية فيها وفي ديارهم ينتشر الإسلام أسرع من غيره كما جاء في افتتاحية صحيفة الهرالد تربيون في نعي البابا: «مع كل نشاط البابا التبشيري الكبير فقد ترك الكنيسة بعده وهي تعاني من تناقص في عدد الرهبان والراهبات وتعاني من انخفاض نسبة أتباعها في العالم كما أن الإسلام تجاوزها في سرعة انتشاره في العالم». (4/4/2005).

ومع كل ما قد يقال عن مشاكل الكنيسة فلا جدال في أنها هزمت الأطروحة العلمانية حتى في أكثر أشكالها اعتدالا في مقولة فصل الدين عن الدولة وفصل الدين عن السياسة. ففي كل دول الغرب مهما كتبت عن علمانيتها فإن رجال الدين يقومون بأدوار معتبرة لدى المشرعين، ولدى البرلمانات، ولدى الأحزاب السياسية، ولدى توجيه الناخبين.

ودولة الفاتيكان هي الثيوقراطية الوحيدة في العالم. ونفوذها الديني عالمي ونفوذها السياسي أوسع منه لا سيما في عهد البابا يوحنا بولس الثاني الذي تساقط بنفوذه عدد من النظم الأوتقراطية في أميركا الجنوبية، وسقط بنفوذه نظام بولندا فاتحاً الباب لتحرير المعسكر الشرقي كله. بحساب النفوذ المعنوي على السياسة كان البابا السياسي الغربي الأهم.

مثلما هو حال البابا شنودة في مصر «السياسي» القبطي الأهم. وكذلك كبير الأساقفة سفير بين الموارنة في لبنان. حياة هؤلاء الزعماء الدينيين تؤكد هذه الحقائق وجنازة البابا شاهد على ذلك في مماته.

روي أن السيد المسيح قال: «أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله». هذه المقولة تخلص بها السيد المسيح ممن أرادوا به كيداً، ولكن في واقع الحال لم تهجر الكنيسة السياسة أبداً وإن اختلف دورها من الأكثر بروزاً إلى الأكثر خفاء.

هنالك تنافس حاد بين المسيحية والإسلام، أيهما يصلح لاعتباره دين الإنسانية، فكلاهما عالمي وتبشيري وكلاهما ارتبط بحضارة عالمية. إنه تنافس مشروع وإذا تجنبا العنف مطلوب:« لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ»[4].

كثير من الأديان ومنها الإسلام والمسيحية متفقة في كثير من القضايا الغيبية، ولكن هنالك قضايا إنسانية وطبيعية موقف الإسلام فيها لا يجارى واستحقاقه قاطع، أهم تلك القضايا:

  • اعترافه بالتعددية الدينية بصورة غير متوافرة لغيره. قال تعالى: « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ »[5].

ولكن بعض المسلمين يقولون لا اعتراف بهم، بل تكفير، لأنه تعالى قال:« لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَة»[6].

في القرآن نصوص تبدو متعارضة، مثل آيات الجبر وآيات الإختيار. والمطلوب في أمرها التدبر:(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[7]. إن آيات الإختيار هي المحكمة، بينما آيات الجبر متشابهة لأن الجبر يتعارض مع مقاصد الشريعة. آيات التسامح هي المحكمة والأخرى هي المتشابهة لأن التسامح هو الذي يوافق مقاصد الشريعة وهو ما توجبه الحكمة في الظروف الراهنة.

وفي تدبر القرآن: المسلم مطالب بمراعاة معايير كثيرة كالحكمة والعقل والمصلحة ومقاصد الشرع الكلية.

  • هنالك اختلاف في نظرية المعرفة، الإسلام يقر كل وسائل المعرفة ويرسم معالم مجالاتها بحيث تتكامل وهي: الوحي، والإلهام، والتجربة، والعقل.
  • وهنالك اختلافات حول مقاييس الأخلاق. الإسلام يقر ثلاثتها: أن تفعل للآخرين ما تريد لنفسك، أي المماثلة. أن تفعل ما تعارف الناس على إتيانه وأن تتجنب ما أنكروه، أي المعروف والمنكر. وأن تضحي في سبيل الواجب أي الإيثار.
  • والإسلام يعتبر الطبيعة كتاباً إلهياً مشاهداً وما فيه من نواميس الطبيعة هي سنن الخلق الواجب اكتشافها وتسخيرها « وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ»[8].

حوار الأديان ضرورة في عصرنا هذا لتحديد النقاط المشتركة وتعزيزها في خدمة الإنسانية، وبذلك نخدم الإنسانية التي تعاني في عصر التفوق العلمي والتقني من مجاعة روحية وخلقية وعاطفية.

[1]   سورة الروم الآية (3)

[2]   سورة الروم الآية (4)

[3]  سورة المائدة الآية (82)

[4]  سورة لامائدة الآية (48)

[5]  سورة البقرة الآية (26)

[6]  سورة  البينة الآية (1)

[7]  سورة محمد الآية(24)

[8]  سورة الحجر الآية (85)