مستقبل المياه العربية وتحقيق الأمن المائي العربي

الإمام الصادق المهدي في برنامج مصر في يوم

بقلم الحبيب الإمام الصادق المهدي

بسم الله الرحمن الرحيم

بمناسبة تجاوز المجلس العربي للمياه للعشرية الأولى (2004- 2014م)، والاستعداد للمؤتمر العالمي السابع للمياه في أبريل 2015م المقبل ينبغي أن نتخذ وقفة مع الذات نتأمل حالة الأمن المائي العربي اليوم ومستقبلاً.

1. منذ بداية القرن الميلادي الحالي اتجه التصنيف العالمي لتناول مواقف البلدان العربية ضمن مواقعها الجغرافية في شمال أفريقيا، وفي غرب آسيا.

ولكن المجلس العربي للمياه أفلح في اعتبار المجموعة العربية حسب انتمائها القومي لا الجغرافي. ومنذئذٍ استطاع المجلس العربي للمياه القيام بدور قومي مهم هو:

• القيام بدور مرصد للحالة المائية العربية.

• صار مركز إنذار مبكر للبلدان العربية.

• استطاع عبر منتدياته، ومحاضراته، ونشراته، ومجلاته أن يصنع رأياً عاماً حول مسألة المياه.

• وأن يكون مرافعاً قوياً في القضايا المائية العربية في المنابر العالمية.

• وأن يمارس دوراً كضمير مائي للأمة.

• وأن يصير جراب رأي لأمته.

2. دلائل الشح المائي في البلدان العربية واضحة، فمنذ بداية القرن الميلادي الحالي أكدت الإحصاءات أن نصيب الفرد في العالم العربي هو (1098م³) في المتوسط بينما نصيب الفرد في العالم هو (7420م³) في المتوسط، ونتيجة للزيادة السكانية بمعدل 3% في السنة ينتظر أن ينكمش نصيب الفرد في العالم العربي، إذا لم تحدث تغيرات في توافر المياه، إلى (700م³) في العام في 2030م.

إن لشح المياه في البلاد العربية أسباباً موضوعية فنصيب العالم العربي من مياه العالم 0,72% بينما مساحته حوالي 10% ونسبة سكانه 5% من سكان العالم.

مصادر المياه العذبة التقليدية هي: الأمطار، والمياه الجوفية، والأنهار.

يهطل على البلدان العربية (1500 مليار م³) سنوياً وهي في حد ذاتها قليلة وتوزيعها مختل: حوالي 60% منها تهطل على السودان-قبل انفصال الجنوب في عام 2011م- والباقي حوالي 10% في الجزيرة العربية، ودون 10% في الشرق الأوسط، وزيادة عن 20% في بلاد المغرب.

المصدر الثاني للمياه العذبة هي المياه الجوفية التي توجد في كل المنطقة ولكن لا يرجى أن تغطي أكثر من 10% من الاحتياجات.

الأنهار توجد في ثلاث محاور:

المحور العراقي/ السوري/ التركي: وهنا وادي الرافدين دجلة والفرات وهما ينبعان من أراضي تركيا التي تصر على أن لها سيادة مطلقة على المياه التي تنبع في أراضيها ما يجعل انسيابها تحت رحمة قرار سيادي أحادي.

المحور الثاني الإسرائيلي: في وادي الأردن وأنهار جنوب لبنان تخضع للتهديد والاغتصاب الإسرائيلي.

محور النيل: الموقف في حوض النيل أفضل لأن فيه اتفاقيات قديمة حتى عام 1929م تجعل أمر مياه النيل خاضعاً لقرار دولة المصب – أي مصر- وبعد ذلك بموجب اتفاقية 1959م صار أمر مياه النيل خاضعاً لقرار دولتي المجرى والمصب أي السودان ومصر. ولكن هذه الاتفاقيات غير مقبولة لدى دول المنابع التسع الأخرى ما أدى لمبادرة حوض النيل التي انطلقت منذ عام 1999م وهدفها إبرام اتفاقية جامعة لدول الحوض أسوة بما هو الحال في وادي السنغال ووادي النيجر.

أفلحت مبادرة حوض النيل في التوصل لاتفاق إطاري، ولكن بقيت نقطتان لم يتفق عليهما، أهم اختلاف هو حول: هل تبقى الحقوق المكتسبة في مياه النيل كما هي أم يمكن تعديلها؟ ما دامت كل دول الحوض تعترف بأن السيادة على النيل مشتركة وأنه لا ينبغي أن يحدث من دوله ما يسبب ضرراً للدول الأخرى فإن تحقيق التراضي ممكن، ولكن هنالك عوامل تحتاج لمعالجة لأنها تحول دون الثقة المتبادلة المطلوبة هي:

• إشفاق دول المنافع من أن دولتي المجرى والمصب لا تعترفان بحقوقهم في مياه النيل بدليل ما أبرمتاه من اتفاقية ثنائية في عام 1959م.

• اعتماد مصر على مياه النيل بنسبة عالية (95%) والاستمتاع بحق النقض في أمر النيل في الماضي، والعلاقة الأيقونية الخاصة بين مصر والنيل كما عبر عنها أمير الشعراء أحمد شوقي:

ألم نكُ من قبل المسيحِ ابن مريمٍ *** و موسى وطه نعبُدُ النيلَ جاريا

فَهلاَّ تساقيْنا على حبِّه الهَوَى *** وهلاَّ فديْناه ضِفافاً ووادِيا!

ما يفسر الحساسية العالية والمخاوف المصرية في أمر النيل.

• نشأة تكتل حول النيل كرسته اتفاقية 1959م بين دولتيها والدول الأخرى التي أنشأت تكتلاً مضاداً مع أنها في مواقع جغرافية مختلفة فأثيوبيا في الهضبة الأثيوبية أي منبع النيل الأزرق، والدول الأخرى في الهضبة الاستوائية أي منابع النيل الأبيض ولا يلتقي النيلان إلا في الخرطوم.

• وهنالك عامل يؤثر سلباً في ودية العلاقة بين دولتي شمال حوض النيل ودول جنوبه. هنالك تباين ديني، وثقافي، وإثني بين شقي أفريقيا شمال وجنوب الصحراء الكبرى، تباين حرصت على ترسيخه الإمبريالية الأوربية لتمارس هيمنتها بذريعة رسالة الإنسان الأبيض وذريعة فرق تسد وكلا طرفي أفريقيا وقعا في ممارسات كرست الفرقة.

ولكن هنالك عوامل كثيرة توجب التحرر من ذلك الماضي أهمها:

o عبور اللغات السامية (الامهرنجا، والتقرنجا) البحر الأحمر للقرن الأفريقي.

o المسيحية الوطنية أي الأرثوذوكسية مشتركة بين مصر، والسودان وأثيوبيا، وإريتريا.

o علاقة اليمن الممتدة تاريخياً بالساحل الشرقي لأفريقيا.

o علاقة أفريقيا جنوب الصحراء بالحضارة الفرعونية وبالحضارة الكوشية.

o توغل الإسلام في أفريقيا جنوب الصحراء بحيث صارت غالبية شعوبها مسلمة.

o انتشار الطرق الصوفية والمهدية في أفريقيا جنوب الصحراء.

o تأثير اللغة العربية ثقافياً على عدد من لغات التخاطب الأفريقية كالسواحيلية والصومالية.

o الحقيقة المهمة اليوم أن أغلب العرب أفارقة وأغلب الأفارقة مسلمون.

o الحقيقة الجيوسياسية أن النيل وحدة مائية ومع أن إنتاج أكثر مياهه من الهضبة الأثيوبية واستهلاك أكثر مياهه في مصر فإن الاستغلال الأمثل لمياه النيل يستوجب انتفاع كل الحوض بفرص إنتاج الكهرباء الأفضل في أعالي النيل وانتفاع كافة دول الحوض بالزراعة والمرعى في سهول السودان الواسعة والخبرة والكثافة المصرية في الإنتاج وسوق المنتجات.

المهم أن تنطلق صحوة ثقافية تزيل أسباب الفرقة وتصنع واقعاً ثقافياً، واقتصادياً، جديداً يكرس مفاهيم المصلحة المشتركة بين شعوب حوض النيل.

التعاون بين دول الحوض مهم جداً، لأمرين هما: الحفاظ على سلامة بيئة النيل، وزيادة دفق مياه النيل التي يمكن أن تزيد بنسبة 60% بمشروعات معلومة، وربما أمكن زيادتها بالحقن من نهر الكنغو.

سد النهضة الأثيوبي ينبغي أن ينظر له من زاوية جدوى الإنتاج الكهرومائي في مناطق أعالي النيل كالهضبة الأثيوبية على أن يتفق بالحوار الموضوعي على منافع السد وعلى المضار المحتملة وعلى كيفية احتواء المضار.

لذلك أرى أن يعقد لقاء قمة لإبرام اتفاق حوض النيل الإطاري وأن تضم المفوضية كل الأعضاء، ويخضع القرار فيها للأغلبية ما عدا ما يغير ما يتفق عليه من أنصبة في المياه أن يكون القرار فيه بالإجماع.

إن إبرام اتفاق بالتراضي في حوض النيل ممكن، وتأمين نصيب مصر الحالي في المياه أي 55,5 مليار متر مكعب ممكن، ولكن الحقيقة أن مصر مع الكثافة السكانية وكذلك الدول الأخرى تحتاج لمزيد من مياه النيل وهذا ممكن في نطاق زيادة دفق مياه النيل.

على المدى البعيد لا يوجد في الوجود أكثر من المياه المكونة 71% من الكرة الأرضية ولا يوجد أكثر من الطاقة المتجددة الشمسية والنووية المطلوبة للتحلية.

نحن الآن مستهلكون للتكنولوجيا فالمطلوب التركيز على إنتاج التكنولوجيا بالصورة التي تستخدم الطاقة الوافرة في التحلية وخفض تكلفتها، المهم في هذا الصدد التركيز على البحث العلمي والتكنولوجي لإخراج المنطقة كلها من عنق الزجاجة.

الحاجة أم الاختراع، الحاجة ماثلة، أين الاختراع؟

3. هنالك نقص كبير في الأمن الغذائي فالبلاد العربية عامة عالة على غيرها في استيراد حوالي 70% من احتياجاتها الغذائية وهذا عيب كبير.

الأراضي الصالحة للزراعة في الوطن العربي تبلغ حوالي 197 مليون هكتار، المساحة المستغلة منها الآن حوالي الثلث.

ومع أن الماء سيظل عنصراً محدداً فإن التحول من الري الزراعي بالغمر للري بالتنقيط، واستخدام البذور المحسنة، والتكامل بين البلدان العربية، بل وبالمشاركة والمزارعة في بلدان أفريقية يمكن تحقيق درجة عالية من الأمن الغذائي. المهم الانتقال بإرادة سياسية من ذهنية الاعتماد على الريعية واستخدامها في استيراد المواد الغذائية.

4. مصير منطقة الشرق الأوسط الكبير تحدده إقليمياً أربعة كيانات: تركيا، إيران، إسرائيل، الأمة العربية. الحلقة العربية هي أضعف هذه الكيانات فهي مجزأة قطرياً على دول وطنية كانت تتطلع عبر الجامعة العربية لتنسيق مواقفها، ولكنها الآن تعاني من تفكك الدولة الوطنية في كثير من الحالات.

شعوب المنطقة تعاني من ثلاث علل هي: الطغيان، التخلف التنموي، والاستلاب الثقافي.

كانت انتفاضات الربيع العربي تطلعات للانعتاق من هذا الثلاثي اللعين، ولكن الانتفاضات في أكثر الحالات لم تحقق مقاصدها وكانت النتيجة في حالات كثيرة إضعاف الدولة الوطنية، وإتاحة الفرص لحركات الانكفاء الجهادوي كالقاعدة وأخواتها، وداعش وإماراتها، وزيادة حجم التدخلات الأجنبية في المنطقة بصورة غير مسبوقة، هذا كله تمدد على حساب الدولة الوطنية في كثير من الحالات وأفسح المجال للولاءات الموروثة الدينية، والطائفية، والاثنية، والمذهبية، للانطلاق وتعريض الدول المجزأة إلى مزيد من التقسيم.

النتيجة الكلية لكل هذه الظواهر هي الأفول الاستراتيجي العربي، تراجع وتدنٍ مستمرين جعلا الكيان العربي يترنح نحو الأفول الاستراتيجي رغم ما يستمتع به من فضائل إستراتيجية ولكنها الآن عاطلة.

هذا الأفول الاستراتيجي يجعل الأمة العربية عاجزة عن الدفاع عن أمنها القومي وغير قادرة على مواجهة تحديات الأمن المائي والأمن الغذائي.

ما لم تتمكن الشعوب العربية من الالتفاف حول مشروع نهضوي وحدوي فإن أمنها القومي سوف تتخطفه حركات التمزق الداخلية، والإطماع الإقليمية، والدولية.

ومن رعى غنمًا في أرض مَسْبَعة *** ونامَ عنها تولّى رعيها الأسد!

5. رغم هذه المخاطر، وفي الظروف الحالية، فإن المجلس العربي للمياه يمكن أن يركز على الدعوة لبرامج ترشيد استغلال المياه كالآتي:

• إحلال الري بالوسائل الحديثة محل الري بالغمر فالزراعة تستهلك أكثر من 80% من المياه ويمكن توفير 50% منها بإتباع أساليب الري الحديثة .

• تدوير المياه المستعملة يمكن أن يتم حوالي خمس مرات عن طريق المعالجات اللازمة.

• استخدام آليات ذاتية الفتح والغلق في مجال الاستخدامات الشخصية والاجتماعية للمياه.

• ينبغي القضاء على ذهنية أن الماء كالهواء فالماء محدود والحد من الإسراف في استخدامه يوجب مقابلاً مادياً للتعامل معه كسلعة مكلفة.

• الحث على الاهتمام بالبحث العلمي في كافة مسائل المياه، وعلى معاهد التدريب المتعلقة بإدارة الشأن المائي.

• الاهتمام بمشروعات الاستثمار في كافة ما يتعلق بالمياه استثمار القطاع العام والقطاع الخاص – مثلاً- في مشروعات حصاد المياه.

• هنالك خلافات نشأت حول مسائل المياه لا سيما في أحواض الأنهار الجارية وأحواض المياه الجوفية بين بلدان عربية أو بينها وبين بلدان أخرى. يستحسن أن يكون المجلس مجلس حكماء مؤهلين لتقديم النصح الموضوعي المخلص في كل تلك الحالات.

6. المؤتمر العالمي السابع للمياه سوف يعقد في أبريل 2015م، ومن أهم القضايا التي سوف يتطرق لها آثار الاحتباس الحراري على المياه. المجلس العربي سوف يستعد للمشاركة في هذا المؤتمر وسوف تتطرق الجامعة العربية للمسائل السياسية.

البلدان العربية، ضمن بلدان أخرى. ضحايا للتلويث المناخي ما يوجب أن يلزم الملوثون بالانضباط في أمر الغازات الملوثة وأن يلزموا بمبدأ العدالة المناخية لتعويض ضحايا الأضرار المناخية، على المجلس أن يقوم بأقوى مرافعة في هذا الصدد وأن يحدد حجم التعويضات المطلوبة ومجالات الانتفاع بها – مثلاً- لمواجهة ما سوف تغطيه مياه البحار إذا أدى ارتفاع الحرارة لذوبان الكتل الجليدية في القطبين. وأن يمول التوسع في تخضير المناطق القابلة لغرس الغابات ونشر الأعشاب المناسبة للرعي، وتمويل مشروعات استخدام الطاقة الشمسية في كافة الاستخدامات المنزلية. كما يمكن أن يقدم المجلس استشارات للجامعة العربية في المسائل السياسية التي سوف تعبر عنها في المؤتمر العالمي.

7. يشكر الأمير خالد بن سلطان رئيس مجلس جائزة الأمير سلطان بن عبد العزيز رحمه الله على الوقفية التي يساهم بها مجلس الجائزة العالمية للمياه. ويرجى أن يسعى المجلس العربي لمشاركة أشخاص آخرين من ذوي الوعي بالشأن المائي، وذوي البسطة في الرزق كأصدقاء للمجلس العربي ما يمكنه من تعزيز دوره كمنظمة مستقلة.

هنالك حاجة ماسة لقيام المجلس العربي بأقوى توعية فكرية، وثقافية، وإعلامية، في الشأن المائي ما يستحسن معه إنشاء فضائية تساهم مع أدوات الإعلام الحالية التي يستخدمها المجلس في إعلامه، ويرجى أن يستقطب المجلس إعلاميين مؤهلين ومهتمين بالشأن المائي كأصدقاء إعلاميين للمجلس يحرص على مدهم بالمعلومات والاستفادة من مساهماتهم.

في الختام: الإمكانات البشرية، والطبيعية موجودة بكثرة لتحقيق الأمن المائي والأمن الغذائي للأمة العربية ولكن هذا يتطلب عزماً وحزماً وإرادة سياسية:

سيوف حداد يا لؤي بن غالب مواض ولكن أين بالسيف ضارب؟

والقاعدة الربانية: (لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ)[1]

________________________________

سورة الرعد الآية (11)