آفاق السلام والتنمية والأمن والدقرطة والاستقرار في السودان

محاضرة الإمام الصادق المهدي عرض في  روسي

26/7/2018

آفاق السلام والتنمية والأمن والدقرطة والاستقرار في السودان

حضرات السيدات والسادة،

إنني أقدر فرصة التحدث إليكم من على منصة “روسي” حول هذا الموضوع الهام. إن مكونات عنوان حديثي الخمسة مترابطة: فبدون السلام لن يكون هناك أمن، وبدون أمن لن تكون هناك تنمية، وبدون تنمية لن يكون هناك استقرار، بينما تضمن الديمقراطية التشاركية شرعية الحكم.

وأطروحتي هي:

أن النظام الحالي، وفي ثلاثة عقود ، أثّر سلبياً على الآفاق الخمسة كلها بشكل سلبي، وبالمؤشرات الحالية، فإن تلك الآفاق تتردى في هاوية باتجاه “سيناريو يوم القيامة”.

وأن البلاد تحظى بإمكانيات معينة تمكنها من بلوغ تلك الآفاق في نظام مستقبلي.

وسوف أوضح حجتي في النقاط الثماني التالية:

أولاً: النظام الحالي قائم على انقلاب عسكري. وأي نظام قام على القوة يتطلب القوة لحمايته. ولذلك فسوف ينفق أعلى نسب الفائض الاجتماعي على المناصرة السياسية، والتغطية الإعلامية، والقوة العسكرية والأمنية لسحق المقاومة.

حينما وقع الانقلاب، كانت هناك عملية سلام ناجحة من المقرر أن تؤدي لمؤتمر دستوري قومي في 18 سبتمبر 1989، أبطلوه وسعوا للقضاء على الحركة الشعبية/ الجيش الشعبي لتحرير السودان بالقوة العسكرية. واتبعوا سياسة فكر عروبوي إسلاموي فائقة التركيز، فساعدوا على توحيد الرأي الجنوبي على مطلب تقرير المصير وعززوا الدعم الخارجي لحركة المقاومة. أخبرني الراحل الدكتور جون قرنق قائلاً: إن تلك السياسة عززت الدعم الداخلي والخارجي لقضيتنا لأقصى درجة.

فشلت الحملة  العسكرية الحكومية. وعبر تدخل الإيقاد والتدخل الخارجي، تم توقيع ما يسمى باتفاقية السلام الشامل في عام 2005. وكان تقييمنا في ذلك الوقت أنها كانت بمثابة خارطة طريق لنزاع مسلح مستقبلي، ونحو انفصال جنوب السودان. وقد نشرنا وثيقة  تشرح تلك القراءة تفصيلاً في مايو 2005. لقد أدت حقيقة أن بروتوكولات الاتفاقية الهامة لم تنفذ إلى تجدد الصراعات المسلحة في منطقتي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق في عام 2011م.

إن سكان شمال السودان متنوعون عرقياً. كان هناك توتر بين هويتين إثنيتين خاصة في دارفور فيما يتعلق بالموارد الطبيعية. وبسبب الأيديولوجية حابى النظام القبائل العربية، مما أدى برد الفعل، لتكوين حركات مقاومة مسلحة شنت منذ العام 2002م وما بعده جبهات حرب أهلية. والنتيجة وجود نزاعات حرب أهلية عديدة في البلاد.

إن احتكار الحزب الحاكم للسلطة أدى لاستثارة الرأي السياسي المحروم ضده. وبرز مشهد جبهة واسعة من المعارضة المدنية والمسلحة للنظام. في عام 2014م انخرط النظام في حوار لتزيين واجهته انتهى في أكتوبر 2016. وقد نشرنا تقييمنا لتلك التجربة في آخر ذلك العام. لقد فشلت في مخاطبة أسباب المعارضة. صحيح أن النزاعات المسلحة الفعلية الآن في مستوى منخفض، ولكن إمكانية تجديد المواجهات المسلحة لا تزال قائمة. في عام 2008 ، نشرت مؤسسة راند الأمريكية دراسة لـ 684 نزاعا سياسيا مسلحا في العالم، وأثبتت أنها لم يمكن تسويتها بالقوة العسكرية بل عبر اتفاقيات سياسية. حينما وقع الجيش الجمهوري الآيرلندي اتفاقية السلام  كان عدد جنوده 250.

لا تزال في السودان معارضة سياسية، وإمكانية للصراع المسلح تجبر الحكومة على الاستمرار في إنفاق سياسي وعسكري وأمني متضخم.

ثانياً: اقتصاد البلاد في حالة سقوط حر بمؤشرات سلبية. وتظهر أحدث الأرقام لميزانية عام 2018 عجزاً في الميزانية قدره 55 مليار جنيه. وبلغ رقم الخلل في الميزان الخارجي 6 مليارات دولار. لجأ النظام إلى الاقتراض من النظام المصرفي، وبالتالي إفقاره ومن ثم تسبب في التضخم.

بلغ حجم الكتلة النقدية التي كانت 13 مليار جنيهاً في عام 1990، 220 تريليون جنيهاً الآن. وتستخدم الحكومة هذه العملة عديمة القيمة لشراء الدولار من السوق الحر ما يؤدي لزيادة خفض قيمة العملة. لقد قفز سعر الدولار بحيث أصبح الآن 50000 جنيه للدولار مقارنة بـ 12 جنيها للدولار في عام 1989.

المؤشرات المصاحبة سيئة: التضخم في مستوى قياسي، والفقر في الحضر يبلغ 80٪ ، والفقر في المناطق الريفية بنسبة 90 ٪ ، ومعدل البطالة 45٪،  وبين الخريجين هو ضعف ذلك الرقم. لذلك لا غرو أن يعد السودان من بين العشر دول الفاشلة. وكما يتوقع  في أي حكم بدون مساءلة، فإن الفساد مستشر. ويأتي السودان في المرتبة 175 من بين 180 دولة في مؤشر الشفافية لعام 2018. بينما تبلغ نسبة دين السودان 176.5٪ من ناتجه المحلي الإجمالي، كثاني أسوأ دولة بعد اليونان (191.3 ٪).

حتى المثقفين الذين دعموا النظام في البداية أعلنوا الآن من رجل لامرأة معارضتهم للتجربة الفاشلة. لقد اختزل الحزب السياسي الرسمي، وما يسمى بالحركة الإسلامية فيما لا يتجاوز أعمال علاقات عامة. غدا النظام بلا أيديولوجية ذات مصداقية، ولا برنامج، ولا قدرة على التغيير، ويصر على الاستمرار كالمعتاد، داعماً ذات القائد لمدة تجديد سادسة لسببين: الأول لأن كل البدائل أزيحت، والثاني لأن القائد الأوحد  يسعى عبر موقعه الرسمي للحماية من إدانة المحكمة الجنائية الدولية. هذا المأزق الذي تظهر فيه ضرورات ملحة للتغيير، بينما مصلحة القيادة الشخصية تقتضي عدم التغيير، يخلق فراغاً قد يؤدي إلى عدد من الإنفجارات غير المتوقعة. لقد أدى فقدان أي هدف ذي معنى، بل مجرد الرضا الذاتي، إلى نمو متشعب لـ”مراكز قوة” قد تنحو للاستيلاء على السلطة. وسوف تشجع الشعارات الإسلامية الجوفاء المتفشية المتطرفين الإسلاميين على التدخل.

إن استمرار الحالة الحالية دون أية إمكانية للإصلاح، واحتمال المغامرة بالاستيلاء على السلطة يشكلان ما أسميه “سيناريو يوم القيامة” في السودان. وفي نهاية المطاف، لجأت القيادة المحاصرة إلى أدوات داخلية وخارجية خطيرة لتهدئة مخاوفها الناضحة.

ثالثًا: من جهة أخرى ، يحظى الجسم السياسي السوداني بسمات معينة تتسق مع الحوكمة التشاركية:

(أ) العديد من بلدان المنطقة كانت جزءً من خلافة غاية في مركزيتها. في السودان، نتجت الأسلمة عن حركة مجتمعية سلمية. عملية الأسفل للأعلى هذه تمكن المجتمع.

(ب) العديد من دول المنطقة لم تشهد حكماً تعددياً حقيقياً. لقد شهد السودان مثل هذا الحكم بكفالة كاملة للحريات الأساسية. لقد شجع ذلك المناخ السياسي على تطوير انتماءات سياسية حرة لم تفلح أية سياسات استبدادية في محوها.

(ج) بالرغم من أن المرحوم علي مزروعي وصف السودان بأنه مجتمع “هامشية متعددة”، إلا أن هذه الحالة ذاتها قد ساعدت عبر خبرات البلاد السياسية على زيادة الوعي بأهمية موقف أكثر نضجاً تجاه مشاكل الدين والدولة، وإدراك أكبر للأولويات والتوازنات المطلوبة للتعامل مع ظروف التنوع. أصبحت الهامشية المتعددة مصدراً لقدرات متعددة.

(د) صارت القوات المسلحة في العديد من البلدان تشكل حزباً سياسياً منتظراً. لقد خلق اختراق النظام للقوات المسلحة ظروفاً لإعادة بناء القوات المسلحة بما يتناغم مع سيادة الشعب.

(هـ) أدت النزاعات الأهلية المتعددة للزيادة في إدراك أسباب الصراع والمطالبة بالسلام الشامل والعادل.

رابعاً: تتغذى التنمية الاقتصادية وتحددها أربعة عوامل رئيسية هي: الموارد الطبيعية، العمل، رأس المال، والتكنولوجيا. يحظى السودان بموارد طبيعية وافرة. ولدينا مجتمع سكاني صغير السن نسبياً مهيأ للتدريب من أجل بناء القدرات. أما رأس المال والتكنولوجيا فسوف يتوفران عبر إرادة سياسية حازمة حينما تتاح الظروف الملائمة.

أحد دروس تجربتنا هو: أن الديمقراطية السياسية يجب دعمها بالديمقراطية الاجتماعية لمعالجة الاختلالات الاجتماعية والإقليمية. لقد أحاط رأي اقتصاديينا  بمأزق البلاد الاقتصادي، وقد أجمعوا بشأن ضرورات ربط التنمية بالعدالة الاجتماعية. وتشكل مدخلاتهم البرامج السياسية البديلة للتنمية.

خامساً: سياسياً شكلنا جبهة واسعة القاعدة اعتمدت السياسات اللازمة لبلوغ الآفاق المطلوبة. هذه الجبهة تشكل ائتلافاً بين المركز والهوامش، وبين الإثنيات المختلفة، وتشكل الذاكرة الفكرية والاجتماعية للتجربة السياسية للبلاد. هذه الجبهة شاملة ومتوسعة باستمرار. وهي تدعو لميثاق لبناء الأمة في ظل ظروف السلام الشامل العادل والديمقراطية بتوازناتها الضرورية. وهي تشمل: الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وضحايا المظالم والحركات السياسية المسلحة. نحن جميعاً نوافق على ميثاق بناء الأمة هذا ونسعى لتنفيذه بوسائل غير عنيفة.

هذا البرنامج الهادف والسلمي سيحمي البلاد من سيناريو يوم القيامة، ويحقق التطلعات المشروعة الخمسة لشعب السودان. وربما عمل كمثال لمنطقتنا المضطربة.

سادساً: ما من مفكر أو مثقف أو شاعر أو فنان، رجل كان أو امرأة إلا ويرفض نمط الحكم الاستبدادي الحالي في المنطقة.

إن فجوة الشرعية، والظلم الاجتماعي، والخضوع للهيمنة الخارجية، كل هذه العوامل تغذي التطرف والاتجاه للبحث عن مستقبل أفضل بالهجرة.

هناك العديد من النصوص الدينية التقليدية المنزوعة من سياقها لإضفاء الشرعية على التطرف والعنف. لقد نشرت كتابًا في عام 1989 بعد انهيار جدار برلين. في ذلك الكتاب ، جادلت بأن الاستقطاب بين الشرق والغرب ستتم الاستعاضة عنه بقطبية شمال/ جنوب، وأن فاعلين غير حكوميين من نصف الكرة الجنوبي سوف يستخدمون ما أسميته “أسلحة الضرار الشامل”. وهي تشمل من بين أمور أخرى: الإرهاب والهجرة غير النظامية. هذه الاتجاهات سوف تغذيها الصراعات الأهلية، والدول الفاشلة، والفقر، والمظالم الاجتماعية، والجوانب السلبية للعولمة. ومن  مصلحة المجتمع الدولي الأساسية أن يقوم بدعم الآفاق المطلوبة بكل الوسائل.

سابعاً: فيما يتعلق بالسودان، اقترحنا على المجتمع الدولي الذي أبدى بالفعل اهتماماً بالشأن السوداني أن يتخذ خطوة أخرى بعقد مؤتمر دولي لدعم بناء السلام  وإرساء الديمقراطية في السودان. هذا لا يعني الانخراط في تغيير النظام. فذلك واجب الحركة السياسية في البلاد، ولكن يمكنهم تنسيق جهودهم لمخاطبة المطلوبات الثلاثة التالية:

  • دعم عملية السلام والديمقراطية.
  • رفض الإفلات من العقاب، واتخاذ موقف مبدئي إزاء قرار مجلس الأمن 1593 (مارس 2005)، واتهامات المحكمة الجنائية الدولية.
  • ربط الفوائد مثل برنامج الدول الفقيرة المثقلة بالديون HIPCS باتخاذ خطوات إيجابية نحو السلام والديمقراطية.

ثامناً: ومع ذلك، من الضروري أن يدرك المجتمع الدولي أن العلاقات بين العالم المتقدم والآخرين تتطلب أكثر من بناء الجدران، وغيرها من التدابير الأمنية. فتلك سياسات تعالج الأعراض وليس أسباب وجذور العوامل المختلفة. من الضروري عقد مؤتمر دولي يعالج الأمن على نطاق أوسع من الأعمال البوليسية. على أي حال فإن هذا الموضوع أوسع من نطاق محاضرتي. وله أهمية خاصة في عالم تتقحمه نزعات فوضوية.

هذه الفوضى بمثابة موسيقى لآذان الفاعلين غير الحكوميين اللا مسؤولين. وسوف تصير نمطاً من تضامن الظلاميات. وبالتالي فإن سيناريو يوم القيامة لا يقتصر على السودان فحسب للأسف.

شكراً على حسن الاستماع.

 

ملحوظة: أصل المحاضرة كتب باللغة الانجليزية وقام المكتب الخاص للإمام الصادق المهدي بترجمتها للعربية.