إعادة قراءة مستنيرة لتاريخ السودان القديم والحديث

بسم الله الرحمن الرحيم

كلية التربية جامعة الخرطوم

إعادة قراءة مستنيرة لتاريخ السودان القديم والحديث

28/1/2018م

 

الأخ الرئيس

أخواني وأخواتي، أبنائي وبناتي، مع حفظ الألقاب والمقامات،،

 

السلام عليكم ورحمة الله،،

 

يطيب لي أن أشكر البروفيسور سمير محمد على الرديسي، وأسرة الكلية، على دعوتي للتحدث إليكم في هذا الموضوع المهم: إعادة قراءة مستنيرة لتاريخ السودان القديم والحديث.

التاريخ ليس مجرد ديوان للأحداث، ولا هو مجرد صور فكرية عن الماضي، إنه ديوان للأحداث يستنطق معانيها فيربط بينها، ويفسرها، ويجعلها كاشفة للماضي ومنيرة للحاضر وصالحة لإنارة المستقبل.

العلوم الإنسانية والاجتماعية مهما التزمت من مناهج موضوعية تختلف من العلوم الطبيعية لأنها تتأثر حتماً بقيم، وعقائد، وثقافات روادها.

أحداث الماضي وقعت ولا تتغير، ولكن قراءتها واستنباط معانيها حتماً تختلف.

فيما يلي أبسط أطروحتي حول تاريخ السودان القديم والحديث:

  1. علم المصريات حول وادي النيل يركز على أن تاريخ حضارة الوادي مركزه مصر وأن السودان ملحق بالتبعية.
  2. وأن الفترة المسيحية التي عمت مصر والسودان كذلك اتسمت بالتبعية.
  3. أما الفترة التي أعقبت الفتح الإسلامي لمصر فقد شهدت في السودان ممالك لم تحظ بالقدر الكبير من التأريخ والبحث.
  4. وأن السودان بصورته الجغرافية الحالية كونه غزو محمد علي باشا في 1821م، ومنذئذٍ صار السودان جزءً من مصر.
  5. وأن فترة الدعوة والدولة المهدية كانت مجرد فترة عصيان ما لبث أن أبيد بيد الفتح الثنائي المصري البريطاني لرد الأمر لما كان عليه من إلحاق السودان بمصر.
  6. وأنه أثناء الحكم الثنائي حرّض البريطانيون السودانيين للمطالبة بتقرير المصير ما أفضى بعد ذلك للاستقلال.
  7. وأن استقلال السودان كان منحة بلا مجهود لنيلها.
  8. وأن تاريخ السودان المستقل في فترة 62 عاماً تأرجح بين نظم لبرالية ونظم انقلابية أوتقراطية تجعله ضحية لأرجوحة بينهما تحول دون استقرار إستراتيجي للبلاد.
  9. وأن حركات الوعي الفكري والسياسي في السودان ما هي إلا فروع من أصولها في الخارج.
  10. هذه القراءة كرست أوصافاً مثل مقولات: السودان المصري، ومقولة أن السودان مجمّع هامشيات، وأخيراً مقولة وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي آفي ديختر أن السودان دولة مصطعنة مصيرها أن تتفكك إلى خمس دويلات: الجنوب، والشرق، والغرب، والوسط، والشمال.

هذه قراءة لتاريخ السودان تجمعت وقائعها من مقولات علماء مصريات، ودعايات غزاة، وإحباطات سودانيين توهموا لحين:

وسنبدعُ الدنيا الجديدةَ وفقَ ما نهوى

ونحمل عبءَ أن نبني الحياة ونبتكر

ولكن سنوات عجاف خيبت الرجاء:

هل التي تعَمَّمَتْ أرجلنا؟

أم الرؤوس انتعلتْ أحذيةً؟

وطنْ،

وطَنْ،

كان لنا وطنْ!

ولكن هناك قراءة أخرى:

  1. قال المؤرخ الصقلي اليوناني: “يجمع المؤرخون أن السودانيين هم أول الخليقة، وأول من عبد الله وقرب القرابين، وأول من خط بالقلم”.
  2. علم الآثار من إنجازات المعارف الغربية والشواهد فيه تنسب إليهم:
  • البروفيسور هيتشكوك قال:علم الآثار يؤكد أن الحضارة في وادي النيل انتقلت من الجنوب إلى الشمال.
  • الأستاذ هرمان بل قال: حضارة وادي النيل مهدها السودان.
  • وقال لي الأستاذ تشارلس بونيه عالم الآثار السويسري: عندما هممتُ أن أقوم بحفريات في كرمة قال لي زملائي: لا تتعب، فجنوب مصر لا يوجد تاريخ بل مجرد جغرافيا. ولكنني بعد حفرياتي وصلت لنتيجة أن حضارة وادي النيل بدأت هنا. أي أن هذه الحضارة بدأت جنوباً ولكن تمددت وتطورت شمالاً.
  1. نعم الفترة الفرعونية المتطورة عمت مصر والسودان وفي ظلها بدأ كاتشا المتوفي 751 ق.م. فتوحات واصلها خليفته بعنخي ثم تهارقا، وكلاهما توج فرعوناً لكل وادي النيل. وقد امتد حكم الكوشيين لوادي النيل قرناً من الزمان.

وفي مرحلة لاحقة نقل الكوشيون عاصمتهم من نبتة بالقرب من كرمة الحالية، إلى مروي جنوباً.

  1. وفي عهد ازدهار الحضارة الكوشية تعرضت مصر لأرتال من الغزاة: غزو فارسي، وآشوري، ويوناني؛ غزاة حاولوا التمدد جنوباً، ولكن قاومهم الكوشيون الذين امتدت حضارتهم ألف عام من 1030 ق.م إلى 340 ميلادية.

هذه الحضارة الكوشية استخدمت في البداية الكتابة الهيروغليفية ولكن منذ 200 ق.م أبدعت أبجدية ما زالت مستعصية على الترجمة.

  1. دخلت المسيحية السودان سلمياً، وتأسست ثلاث ممالك سودانية، النوبة، والمغرة، وعلوة. ممالك استمرت منذ 540م إلى 1504م، وهم الذين قاوموا الفتح الإسلامي وأبرموا معه اتفاقية البقط للتعايش السلمي. وهذا استثناء في علاقة الدولة الإسلامية التاريخية مع الدول الأخرى.
  2. الممالك السودانية الإسلامية، ونذكر منها مملكة الفونج، والفور، والمسبعات، وتقلي، والكنوز ممالك سودانية عملت على نشر الإسلام والثقافة العربية سلمياً، وكانت من الناحية الاثنية خليطاً عربياً، زنجياً، نوبياً، أو بجاوياً.

إن لهذه الممالك دوراً مهماً في تكوين الشعب السوداني الحديث، ولكن لأسباب أهمها أن التاريخ كتبه الغزاة هُمش تاريخها. الفترة ما بين 1504 إلى 1821م غائمة في تاريخنا.

اليوم يوجد عمل كبير تحت عنوان: سنار عاصمة الثقافة السودانية. ومنذ يومين زارني الأستاذ المؤرخ والباحث بروفيسور يوسف فضل مع أحد تلاميذه، وأهداني مائة مؤلف بأقلام باحثين وعلماء. هذا الجهد بدأ منذ سنين. شكرته على هذه الزيارة والهدية، ولكن أبديتُ له ملاحظتين مهمتين:

الأولى: لا يعقل أن يعزل أمثالنا من هذا الجهد، ومع أن العلماء المعنيين يقومون بعمل موضوعي لكن النظام القائم يجير كل مجهود ثقافي أو رياضي لإطار حزبي. هذا انحراف يضر المقاصد القومية المنشودة.

الثانية: نحن مهتمون للغاية بشأن سودان النهر وسودان الظهر الغربي والشرقي. التركيز على سنار دون اهتمام مماثل بالفاشر يصب في خانة التهميش التي أشعلت الحروب. استعرضتُ المائة كتاب فوجدت 95% منها معنية بالثقافة السنارية الدائرة حول المثلث المشهور، نظرة تعززها مقولة الأستاذ عبد الله الطيب في حديث في الأحفاد: من ليس له أصل في طبقات ود ضيف الله فليس بسوداني.

لا تقاوم شعارت تقرير المصير إلا بالاتجاه حقاً وصدقاً وفي كل المجالات نحو السودان العريض، وكما قيل:

إذا لَمْ يَكُنْ للمَرْءِ في دولة امرئٍ نَصيبٌ ولا حظٌّ تَمَنَّى زَوالَها

  1. تاريخ السودان المسيحي الممثل في الممالك المسيحية حافل بالدلائل على العطاء والصمود في وجه الغزاة. وتاريخ الممالك السودانية الإسلامية يشهد بالانتشار السلمي الشامل للدعوة الإسلامية، وبعطاء مشايخ الطرق الصوفية الذين أقاموا مؤسسات فريدة حول المسايد للتعليم والتربية، بل لنصح وانتقاد الحكام إن لزم، المشايخ: فرح ودتكتوك، وحسن ود حسونة، وأدريس ود الأرباب، وغيرهم، أساطين في التصوف، والتربية، والإصلاح الاجتماعي. كما أنهم أضافوا لعلمهم وورعهم استقلالاً من الحكام، وتقدمية اجتماعية، ومقدرة على استصحاب ثقافات فولكلورية محلية مؤلفة للقلوب.

التاريخ أهمل إلى حد كبير عطاء السودان المسيحي، وسودان الممالك، وينبغي أن ينالهما الاهتمام وإدراك ما غرسا من إنسانيات سودانية هي ذخيرة بشرية للسودان.

  1. محمد علي باشا وهو ألباني الأصل صار والياً عثمانياً لمصر بموافقة أهلها. ومع ما حقق لمصر من إصلاحات مشهودة فإن نظام ورثته عزل نفسه من الشعب ما يفسر الثورة العرابية في مصر؛ الثورة العرابية كانت ضد العثمانية والخديوية، والنفوذ البريطاني.

أما بالنسبة للسودان فلا شك أن غزوه وحد ما بقي من الممالك السودانية. ولكنه كان غزواً امبريالياً لم يحظ أبداً بقبول سوداني بدءاً من قصة الأيقونة مهيرة، إلى قصة المك نمر. إسماعيل باشا أذل المك وفرض عليه أتاوة كما قال الباحث عبد الرؤوف جبر: أن يدفع ألف وقية ذهب، وألفي عبد ذكر، و4 آلاف نساء وأطفال، وألف جمل، وألف بقرة، وألف من الضان، فعاقبه بحرقه. لذلك فرض الاحتلال عقاباً جماعياً على السودانيين في حملة الدفتردار، كانت إبادة جماعية. أقاموا عهداً باطشاً الشعار المرتبط به: عشرة رجال في تربة ولا ريال في طلبة.

خطأ كبير أن يحتج بعض أهلنا في مصر بهذا العهد أساساً للعلاقة بين بلدينا. بل الصحيح أن يقولوا حقيقة إننا وهم كنا تحت السلطان العثماني الذي حاولوا مقاومته بالثورة العرابية. وقاومه أهل السودان بالثورة المهدية فقد كان كلانا ينشد التحرير.

في محاضرة في القاهرة في 26 يناير 1998م قلت هذا احتفال في قلب القاهرة بتحرير الخرطم في 26/1/1885م صدق أو لا تصدق! وكان في المحاضرين المؤرخ المصري المرحوم يونان لبيب رزق فقام وقال: أصدق، يا فلان كان في الشارع المصري يؤمئذٍ تياران: التيار الإسلامي بقيادة الشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده؛ والتيار الوطني بقيادة العرابية، وكان التياران يرحبان بالثورة المهدية لتمتد لمصر وتحررها من الخديوية. مقولة الشيخين مثبتة في العروة الوثقى، ومقولة العرابية في رسالة العوام.

ينبغي أن يصنف التصدي لقهر الخديوية والعثمانية حركة تحرير جامعة بين الشعبين.

  1. أما الدعوة والثورة المهدية فقد حارت البرية فيها، وتتطلب مراجعات أساسية. قال الأستاذ بيتر هولت المؤرخ البريطاني: إن الكتب التي أمر بها ونجيت وكتبها نعوم شقير، وإبراهيم فوزي، وأهرولدر، وسلاطين وغيرهم كانت أدبيات دعاية حربية. وقيل إذا بدأت الحرب، بدأ الكذب. يخطئ من يعتبرها مرجعاً لتاريخ المهدية كما فعل كاتب شوق الدرويش، كما يخطئ من يجعلها، أي المهدية، مبرأة من كل عيب كما فعل إسماعيل عبد القادر الكردفاني. لذلك ينبغي أن تقرأ كتجربة بشرية لها إنجازاتها وعليها عيوبها.

أبدأ بالحديث عن محتوى الدعوة وأقوال علماء ضدها أنه ليس منتظر آخر الزمان.

د. محمد إبراهيم أبو سليم رحمه الله قدم خدمة جليلة لتراث المهدية بتحقيق ونشر سبعة أجزاء هي الأعمال الكاملة للإمام المهدي.

أنا كإمام هذه الدعوة المنتخب أقول: مهما كان من المنقولات، فلا مجال لمهدي يأتي آخر الزمان لأنه يومئذٍ القرآن يقول: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ)[1].

ولا مجال لشخص غاب قبل 13 قرناً أن يأتي مهدياً فالقرآن واضح وسنة الكون واضحة: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ َ)[2].

أما مسألة انتظار مخلص فأمر مشروع: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[3].

أما وظيفة الهداية فهي كذلك أمر مشروع. قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[4] وقال: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ)[5].

أما مسألة إخبار من الغيب فهي واردة في التراث الإسلامي بكثرة. في القرآن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ)[6] والحديث: “وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ”[7] لا سيما في التراث الصوفي كما فصل ذلك الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال.

على أي حال وضع المهدي مقياساً: ما جاءكم منسوباً لي إذا وجدتموه مخالفاَ للكتاب والسنة فاضربوا به عرض الحائط.

الدعوة المهدية نقلت العطاء السوداني من التلقي للمبادرة، وبأدائها قدمت دلائل على عبقرية الإنسان السوداني، واستحقت شهادات لها غير مسبوقة:

  • قال الأستاذ سعد محمد حسن بعد دراسة كل الحركات المهدية في التاريخ الإسلامي: “حتى ليعد محمد أحمد – بحق- خير من أدعى المهدية.
  • وقال د. عبد الودود شلبي: كانت حركة تمثلت فيها كل حركات الإصلاح في عصره.
  • وقال الشيخ محمد أحمد بن إسماعيل: إن المهدي كان عالماً زاهداً مجاهداً حسني النسب صحيح عقيدة الولاء والبراء حرر بلاده وأصلح حالها بأحكام الشريعة الإسلامية.
  • وقال الأستاذ عبد العليم عبد العظيم البستي: توفرت في المهدي صفات الزعامة المهدية إلى جانب نسبه الحسني وزهده وورعه. كان وديع النفس كريم الخصال قوى الإيمان مخلصاً في دعوته. هزم الأقوى منه عسكرياً وأقام دولة الإسلام.
  • وقال د. محمد عمارة عن الدعوة المهدية: “كانت سلفيتها تجديداً يتحدى التخلف العثماني ويعود بالأمة لحضنها العتيد – الإسلام- لمواجهة التحدي الحضاري بجناحيه: العثماني المتخلف. والاستعماري التغريبي”.

أختم فأقول:

تراث الدعوة الديني: أن الشعائر الدينية ثابتة وتلزم الاتباع. وأن أمور العادات والمعاملات متحركة على أساس “لكل وقت ومقال حال ولكل زمان وأوان رجال”.

إن الملزم هو نصوص الوحي القطعية، أما اجتهادات الصحابة والأئمة فغير ملزمة.

وتراثها الوطني أنها رسخت مفهوم التصدي لطرد النفوذ الأجنبي ووضعت عملاً سودانياً في مكان الإبداع لا الاتباع.

ولكنننا نعترف برفض تكفير من خالفها. ونعتبر ذلك جزءاً من حدة المواجهات.

ونعترف بأنها واجهت معارضة داخلية تصدت لها بعنف زائد. وأنها مع الإلمام التام بواقع السودان جهلت الواقع الإقليمي والدولي المعاصر، فلم تحسن التعامل معه.

  1. خطأ آخر ارتكبته طبقة باشوية في مصر باعتبار أن الغزو الثنائي استرد لمصر السيادة على السودان.

غزو عام 1889م هو ثنائي اسماً ولكنه بريطاني فعلاً، فمصر نفسها كانت تحت الاحتلال  البريطاني لا يجوز ان تؤسس عليه العلاقة بين البلدين.

الحكم البريطاني في السودان حقق للسودان مكاسب: سياسة الأرض التي اتبعها، ومشروعات التنمية التي أقامها كالجزيرة والسكة حديد، وإقامة مؤسسات دولة حديثة، ونظام اقتصاد حديث كانت إنجازات تقدمية مهمة لبناء الوطن.

سياسة الاحتلال البريطاني في السودان كانت إلى درجة كبيرة مستنيرة لسببين الأول: احترامهم الكبير لبسالة المقاومة السودانية لدرجة الإشادة بها. والثاني: لأنهم كانوا يريدون إثبات إمتيازهم على العهد العثماني وكسب ود السودانيين في التنافس مع مصر الخديوية.

إنها فترة تتطلب إثبات محاسنها دون إغفال عيوبها.

في العهدين العثماني والبريطاني نحن ومصر تحت الاحتلال ويضر بعلاقة الإخاء بين الشعبين الادعاء بأن لمصر حق سيادة على السودان، بل يصحح الفهم لتقوم العلاقة على أساس الهويات المشتركة والمصالح المشتركة.

  1. معركة الاستقلال كانت دليلاً آخر على العبقرية السودانية.

الإمام عبد الرحمن المهدي والحركة الاستقلالية اتهموا بمداهنة البريطانيين، نعم داهنوهم ولكن الوثائق التي رجع إليها الأستاذ المؤرخ حسن أحمد إبراهيم وأثبتها في كتابه عن الإمام عبد الرحمن المهدي، أثبتت أنها كانت مداهنة تكتيكية ضمن مواجهة إستراتيجية نجحت في تحقيق مقاصدها. وفي اللحظة المناسبة استطاع حزب الأمة الذي ارتضي الدخول في الجمعية التشريعية، أن يسحب البساط من تحت أقدام البريطانيين، ويجعل الجمعية تتخذ قرار الحكم الذاتي ضد رغبتهم، برغم تجنيد كل موظفيهم وحلفائهم لهزيمة القرار. لذلك غضب البريطانيون من حزب الأمة وكونوا حزباً سياسياً موالياً باء بالفشل. وعندما وافقت القيادة المصرية على تقرير المصير للسودان بعد ثورة 1952م أبرم الإمام عبد الرحمن والحركة الاستقلالية مع مصر اتفاقاً كان هو المعبر الحقيقي لاتفاقية الحكم الذاتي فبراير 1953م التي عبدت الطريق نحو الاستقلال.

وحتى الحركة الاتحادية أثبت لها الإمام عبد الرحمن في مذكراته فضل التشدد خارج الجمعية التشريعية، ما ساعد أعضاء حزب الأمة في داخلها على تحقيق مكاسب وطنية، كما أن الرئيس إسماعيل الأزهري في الوقت المناسب تبنى المطلب الاستقلالي، وحقق الجناحان إنجازاً مجيداً، فقد كانت الدول تحصل على استقلالها في نطاق الكومنولث البريطاني، لكن استقلال السودان كان بلا شائبة، ومنذ نداء السودان للسودانيين ثم مذكرة مؤتمر الخريجين العام 1942م وما تلى ذلك من حركات فإن الحركة السياسية السودانية بعد أن انشقت حول تقرير المصير اتحدت بصورة مذهلة وفأجات الدولتين البريطانية والمصرية.

أما حركة 1924م التي اختلف بعض الناس في تصنيفها، فهي حركة وطنية بحق ضد سلطان بريطانيا ومع نضال الشعب المصري المماثل، ولكنها لم تكن حركة استقلالية.

الشاهد، لم يكن الاستقلال منحة بل  نتيجة عمل متقن حقق الهدف الوطني بأقل خسائر.

  1. صحيح نظم الحكم اللبرالية لم تستقر، ولكن الدرس المستفاد هو أنها بحاجة لتوازنات جهوية وثقافية واجتماعية غابت، ولكن تركت وعياً مفيداً بما يجب إصلاحه.

وهناك دروس أخرى: لدى اعتقالي في 5/7/1989م بعد فترة أخذت لبيت أشباح وخيرت: أن أسجل فشل التجربة الديمقراطية ويطلق سراحي، أو أرفض فأحاكم ميدانياً. رفضتُ ومن داخل السجن نشرت كتابي بعنوان: الديمقراطية راجحة وعائدة. وفيه قدمت مرافعة موثقة لرجحان التجارب الديمقراطية على الأوتقراطية. وتنبأتُ أن التجربة الثالثة سوف تكون الأسوأ. والآن أنا بصدد توثيق ذلك في كتاب ملحق.

ولكن بصرف النظر عن سجلات الأداء، ومع شدة أشواق الشعب السوداني للديمقراطية لأنها تناسب مزاج التسامح والمساواة المتأصل في طبعه، فإن في تجاربنا عوامل مهددة للتجربة الديمقراطية أهمها:

  • وجود ولاءات دينية وقبلية موروثة تؤثر على حرية الأفراد.
  • وجود أحزاب عقائدية مسكونة بأهداف طموحة ولكنها يائسة عن تحصيل شعبية لتحقيق طموحاتها.
  • توغل ثقافة ضباط أحرار تجعلهم يتطلعون لدور سياسي.
  • وجود مثقفين يؤهلهم التعليم لمواقع عالية في المجتمع، ولكن لا يطيقون التواصل الشعبي ما يجعلهم عرضة لإغراءات الأوتقراطية.

هذه دروس من ماضينا السياسي مهمة لإصلاح المستقبل.

لقد كان الانقلاب الأول خالياً من أهداف أيديولوجية ولكن عبر 6 سنوات تأكد أن حكم القبضة الحديدية لن يفلح في السودان، وقدرت القيادة العسكرية التصميم الشعبي وردت الحق الديمقراطي.

وكان الانقلاب الثاني درساً في أن القفز فوق الواقع الاجتماعي لا يجدي. وصمود الشعب السوداني أجبر النظام أن يتحول من اليسار إلى اليمين دون جدوى بل صمم الشعب وانحازت القوات المسلحة لمطالبه.

وكان الانقلاب الثالث كذلك أماني للقفز فوق الواقع الاجتماعي وأجبر الصمود الشعبي الانقلابيين على سلخ جلدهم أربع مرات دون جدوى: المرة الأولى: عندما تراجع وأبرم اتفاقية نيفاشا. الثانية: عندما تعرض  للانقسام. الثالثة: عندما وافق على مبدأ حوار وطني جامع لبناء المستقبل. والرابعة: عندما لجأ لاستجداء حمايات داخلية وخارجية غير معتادة. واستجدت لغة سياسية: الرئاسة تفرض فوق كل رأس ولغة دبلوماسية يا محسنين أحمونا.

النتيجة أن هذه التجارب ليست مجرد تقلبات بل دروس مفيدة للغاية في التنمية الفكرية والسياسية في السودان. إنها ليست تقلبات فارغة بل دروس في التطور السياسي تجعل السودانيين الأكثر خبرة بين رصفائهم في إمتحان التطور السياسي.

صحيح أن كثيراً من الفكرويات والحركات وافدة للسودان، ولكن الشيوعية السودانية، والأخوانية السودانية، والسلفية السودنية، والأفريقانية السودانية، والبعثية السودانية، أكثر تسامحاً وانفتاحاً على الآخر من نهج جذورها.

  1. تاريخنا يجبرنا أن نتأمل أن محيطنا الإقليمي حقق استقراره بالإمتثال لحاكم أتى بالدبابة أو بصدفة الوراثة ولكننا في السودان حاولنا إقامة نظام مدني حر متقدم على معطيات سياسية واقتصادية ما عرضنا لعدم الاستقرار ومغامرات المغامرين.

وكثير من النظم حولنا اعتمدت على اقتصاد السوق الحر بينما حرصنا على دولة رعاية اجتماعية.

وكثيرون ركنوا إلى حماية أجنبية ولكننا حرصنا على استقلال  القرار الوطني.

هذا الطموح المتقدم على كثير من المناطق حولنا هو الذي تسبب في عدم الاستقرار، وإذا فهم السبب بطل العجب.

مهما تقلبت الأمور فإن قيام الأساس الفكري على التوفيق بين التأصيل والتحديث، وقيام النظام السياسي على المشاركة والمساءلة، وقيام النظام الاقتصادي على التنمية والعدالة، وقيام العلاقات الخارجية على استقلال الإرادة؛ مطالب مهما تعثرت لأمور سوف تفرض نفسها بإرادة الشعوب.

أعازلتي مهلاً اذا ما تأخرت                قوافلنا حتماً فسوف تعود

ولا بد من ورد لظمآى تطاولت            ليالي سراها واحتواها البيد

  1. التحديات التي تواجه أقطار منطقتنا متشابهة، والحلول المطلوبة لمواجهتها متطابقة.

ومواردنا البشرية، والطبيعية، تؤهلنا للعبور بامتياز، وتاريخنا بماضيه من إنسانيات نادرة أهمها الإبداع، والتسامح، والتنوع، والتجارب الفريدة، وهي خصال تشهد عليها محطات معلومة في تاريخنا تؤهل بلادنا للنجاح في امتحان المصير.

ختاماً: عدد من الأصدقاء في عدد من البلدان قالوا لي يا فلان تعال واستوطن معنا هنا فسوف تجد تجاوباً لن تجده في بلاد السوء دان.  كان ردي الذي تدعمه هذه القراءة لتاريخنا يا غافلين ليس السوء دان بل السؤدان، أي صيغة المبالغة من السؤدد.

 

والسلام.

[1] سورة الأنعام الآية (158)

[2] سورة الأنبياء الآية (34)

[3] سورة المائدة الآية (54)

[4] سورة آل عمران الآية (104)

[5] سورة الأنعام الآية (89)

[6] سورة الحديد الآية (28)

[7] رواه البخاري