(إعلانُ باريس) .. لُؤْلُؤَةٌ أَمْ صَدَفَة؟!

السيد كمال الجزولي
السيد كمال الجزولي

بقلم:- السيد كمال الجزولي

(1)

تتجه أكثر التحليلات رجحاناً، بشأن “الحوار” الذي ابتدره البشير في يناير الماضي، إلى أن هدفه ليس، كما يروِّج الإعلام السُّوداني الرَّسمي، رصَّ صفٍّ وطني متسق على طريق المعالجات الشاملة لمشكلات البلاد، بل، فقط، توحيد صفِّ الإسلامويين المنقسم على نفسه، المتشاكس بأشكال شديدة التنوُّع، أكثرها شيوعاً القصف المتبادل بصواريخ “الفساد” بين خنادق “الإخوة الأعداء” صباح مساء! يَعلق بذيل هذا التحليل إسناد مطلب “التوحيد” نفسه، لا لإرادة أيٍّ من هذه الخنادق، وإنما لإرادة المركز العالمي لحركة الإسلام السِّياسي التي أضحت تتهدَّدها شتَّى المخاطر، على خلفيَّة إزاحة “الأخوان المسلمين” عن سدة الحكم في مصر بالبندقيَّة المؤيَّدة شعبيَّاً، فضلاً عمَّا يجري في بلدان أخرى لأجل الحدِّ من صعود تيَّارهم، مع تشكيل كتلة إقليميَّة صلبة تناوئ مخططهم المكشوف للالتحام بالنفوذ الإيراني في المنطقة.

ربَّما يفسِّر هذا سرَّ اضطرار الترابي لأن يلعب دور “السَّمسار” لتسويق “حوار البشير”، ما عدَّه الكثيرون استئنافاً لتحالفهما القديم، رغم تطاول مفاصلتهما التي بلغت، في مدارج الضَّغينة، حدَّ نزع الترابي “الشَّهادة” عن قتلى “مجاهدي” الحكومة، وشطب وعدهم بالحور في الجِّنان العُلى! لكن ها هو الرَّجل، الآن، يروِّج، بنشاط جمٍّ، لـ “حوار” خصمه، دون أدني قيد من إطلاق سراح المعتقلين، أو أبسط شرط من إلغاء القوانين المهدرة للحريَّات، أو ما إليه من مطالب تهيئة أجواء “الحوار” التي ما انفكت ترفعها، إلى أن جفَّت أقلامها وبحَّت حناجرها، أحزاب “الإجماع الوطني” المعارضة، والتي كان حزب الترابي جزءاً منها حتَّى الأمس القريب، بل وطرحت أقلَّ منها بكثير، دون جدوى، حتَّى الأحزاب “المتوالية” مع الحزب الحاكم، والتي انقلب حزب الترابي ينتظم فيها اليوم!

(2)

مع ذلك كله لم يتفضَّل “النظام” نفسه بتقديم أقلِّ تنازل من شأنه أن يبيِّض وجوه مَن كانوا تحمَّسوا لـ “حواره”، كالمهدي، عساه يساعدهم في إقناع جماهيرهم به، مِمَّا فتح العيون أجمعها على حقيقة مفارقة هذا “الحوار” لأيِّ معنى من معاني التَّوافق حول أيَّة قضيَّة وطنيَّة. فلئن كانت “حريَّة التعبير” هي “عمود الوسط” الضَّامن لتوفير عنصر “المكاشفة” في أيِّ “حوار” جاد، فقد تكفي، لإثبات افتقار “حوار البشير” لهذا المقوِّم، واقعة القبض على المهدي التي عرضنا لها في مقالة سلفت، وإيداعه زنزانة السِّجن، وهو، بعدُ، ثالث أكبر ثلاثة داعمين لهذا “الحوار”، جزاءً على مجرَّد تجرُّؤه بنقد قوَّات الدَّعم السريع، دَعْ الكثير غيرها من الوقائع التي سبقتها، وصاحبتها، وأعقبتها، وجميعها أبعد ما تكون عن إسناد أيِّ “حوار” حقيقي، كتواتر قصف المدنيين وما إلى ذلك من جرائم الحرب اللعينة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، ومواصلة اعتقال وسجن المئات بلا مسوِّغ قانوني، كإبراهيم الشيخ، رئيس حزب “المؤتمر السُّوداني”، رغم مرضه، فضلاً عن الهجوم الليلي على مقر حزبه بأم درمان، وكذلك التحفُّظ على كوادر حركة “العدل والمساواة” كرهائن، والاعتداء الدَّموي على صاحب صحيفة “التيَّار”، والإصرار على الاستمرار في تعويق العمل الحزبي، وتخويف النشاط المدني، وإرهاب الحراك الطلابي، وتطبيق القوانين المخالفة للدُّستور، وقمع الحريَّات والحقوق، وعلى رأسها الحريَّات الصحفيَّة .. والحبل على الجَّرار!

(3)

لم يكن ممكناً، بطبيعة الحال، ألا يقرع ذلك كله ناقوساً عالياً لدى المهدي وحزبه بأن المقصود شراء الوقت لأجل تكبيل السَّاحة السِّياسيَّة بصنوف من المطل والمماحكات والمناورات التي تكاد لا تنتهي إلا لتبدأ، وحبَّذا لو نجم عن ذلك، في الأثناء، تسميم الجسم المعارض، وزرع الشِّقاق داخل مفرداته السِّياسيَّة، من جهة، وبين بعضها البعض، من جهة أخرى، وبينها وبين المعارضة المسلحة، من جهة ثالثة، ريثما تتاح للنظام مهلة يأمل أن تملأ فيها أشرعته رياح جديدة ربَّما توفِّرها له محطة الانتخابات القادمة التي فرغ من ترتيبها وإعداد عدتها وحده!

لم يترك “حزب البشير”، إذن، من سبيل للمهدي الذي كان قاب قوسين أو أدنى من التحالف معه، سوى أن ينفض يده عن “حوار البشير”، وأن يذهب إلى ما أسماها محجوب محمد صالح، عن حق، “مرحلة إعادة بناء التحالفات السِّياسيَّة”؛ فبما أن أيَّ تحالف في السُّودان الآن سيكون بلا جدوى إذا لم يشمل حملة السِّلاح، فقد قرَّ قرار المهدي على إجراء “حوار” جاد مع الجَّبهة الثَّوريَّة، لضمان التَّواثق معها، ابتداءً، حسب محجوب محمَّد صالح، على “رؤى وتصوُّرات محدَّدة تتبلور في مشروعات إعادة بناء الدَّولة على أسس جديدة تعالج جذور المشكلة” (الراكوبة؛ 9 أغسطس 2014م)، ومن ثمَّ تخيير النظام بين أحد أمرين لا ثالث لهما، فإما التقيُّد بضوابط صارمة للحوار والسِّلام الشَّامل، وإما الانتفاضة الشَّعبيَّة، على أن يعمل الطرفان، معاً، على تسويق هذه الاستراتيجيَّة بين قوى المعارضة المختلفة، لأجل إطلاق “حوار” خلاق يفضي إلى تحالف استراتيجي واسع ومتماسك؛ أمَّا بغير ذلك، وفق استنتاجات محجوب السَّديدة، فـ “سينحرف الحوار إلى ساحة المناورات والتحالفات الموقوتة” (المصدر نفسه). ولعلَّ ذلك مِمَّا ينسجم، تماماً، مع ما كان المهدي قد وصف به لقاء باريس بأنه انعقد، أصلاً، “لنقدِّم رؤية تُجمع حولها قوى التغيير، والسَّلام العادل الشَّامل، والتحوُّل الدِّيموقراطي الكامل”؛ مثلما وصفه عقار، في سياق متطابق، بأنه “بحث عن حلٍّ عاجل لمشاكل السُّودان، تحت مسمَّى التغيير الدِّيموقراطي، وإيقاف الحرب، نأمل أن نجمع حوله المعارضة السُّودانية في المراحل المتقدِّمة” (حريَّات؛ 8 أغسطس 2014م).

(4)

هكذا وُلد “إعلان باريس” بين الأمَّة والثوريَّة، في الثامن من أغسطس الجَّاري، حيث بادرت الأخيرة بوقف العدائيَّات من طرف واحد لشهرين قابلين للتمديد، مساهمة في معالجة الأزمة الإنسانيَّة، وتوفير الأمن، وإنهاء القصف الجوِّي للمدنيين. واتفق الطرفان على مقاطعة أيٍّ انتخابات قادمة لا تشرف عليها حكومة انتقاليَّة تنبثق عن حوار شامل، لتؤدِّي مهام توافقيَّة؛ كما أمَّنا على إيقاف الحرب، وبسط الحقوق والحريَّات، وإطلاق سراح المعتقلين والمحكومين سياسيَّاً، وفي مقدِّمتهم إبراهيم الشيخ، رئيس المؤتمر السُّوداني، وتبادل الأسرى بين الثَّوريَّة والحكومة، كمدخل لحوار جاد، وعمليَّة دستوريَّة، وترتيبات حكم انتقالي؛ واتفقا، كذلك، على رفع المُعاناة المعيشيَّة، ومواصلة كشف الفساد، وأقرَّا وحدة السُّودان على أسس العدالة والمواطنة المتساوية؛ وحمَّلا النظام مسؤوليَّة العنف السِّياسي، واستهداف المدنيين، وتوسيع الحرب، ومفاقمة جرائمها، وفصل الجَّنوب، وتكريس النزعات الإثنيَّة، وتمزيق النسيج الوطني؛ واتفقا، كذلك، على على التمييز الإيجابي للأقاليم المتأثِّرة بالحرب؛ وناقشا، عميقاً، علاقة الدين بالدَّولة، واتفقا على مواصلة مناقشتها لأجل الوصول إلى صيغة مُرضية لكلِّ الأطراف؛ والتزما، أيضاً، بمساندة المجهودات الإقليميَّة والدَّوليَّة الهادفة لنشر السَّلام والاستقرار في دولة الجنوب؛ وأكدا على التطلع لاتِّحاد سوداني بين الدَّولتين المستقلتين؛ وتركا الباب مفتوحاً لكلِّ القوى الرَّاغبة في الانضمام للإعلان.

تلك، على وجه التقريب، بعض أهمِّ نقاط “إعلان باريس” الذي أعاد، على نحو أو آخر، الإعلاء من شأن ذات القضايا التي سبق أن طرحتها وثيقة “الفجر الجديد” مطلع يناير 2013م، لولا أن طمرتها ملابسات معلومة تسبَّبت فيها الحكومة بحملتها الجائرة ضدَّها، والمعارضة بتراجعها غير المنتظم عنها. كما أمَّن الإعلان، في السِّياق، على ذات الشروط التي سبق أن رفعتها قوى “الإجماع الوطني”، في 19 فبراير و5 أبريل 2014م، لقبول “حوار البشير”، ووردت، لاحقاً، أيضاً، ضمن مختلف تعبيرات الحركات المسلحة، وتحديداً إيقاف الحرب ومعالجة تداعياتها الخطيرة علي الأوضاع الإنسانية، وإطلاق سراح المعتقلين والأسري والمحكومين لأسباب سياسيَّة، وإلغاء كلِّ القوانين المقيدة للحريات، والتسليم بضرورة قيام وضع انتقالي كامل.

(5)

لذلك، ومثلما لم يكن مستغرباً أن يتحفظ الترابي على الإعلان، مفضلاً عليه، في مكابرة غليظة، “حوار البشير” (سودان تريبيون؛ 10 أغسطس 2014م)، لم يكن مستغرباً، من باب أولى، أن يعترض عليه النظام نفسه، كونه يسحب البساط، إلى حدٍّ بعيد، من تحت قدمي “حوار البشير”، وأن يرفض، بالذَّات، الوقف “المؤقت” للعدائيَّات، تمسُّكاً بالوقف “الدَّائم” لإطلاق النار (راديو عافية دارفور؛ 10 أغسطس 2014م)، كشعار ظلَّ النظام يتشبَّث به، أملاً في أن يحقق من ورائه هدفاً مستحيلاً، هو أن يُلقي المقاتلون، ابتداءً، أسلحتهم، نهائيَّاً، وأن يأتوا إلى مائدة التفاوض مجرَّدين، مرَّة وللأبد، إلا من ثلة كلمات وبضع وريقات! واستطراداً فبسبب نفس هذا الشِّعار أجهضت المفاوضات العسيرة، أصلاً، بين الحكومة والحركة الشعبيَّة/قطاع الشمال بأديس أبابا في الثلاثين من أبريل الماضي.

لكن المستغرب، حقاً، ألا يرى فاروق أبو عيسى، رئيس “الهيئة العامَّة للإجماع الوطني”، جملة المضامين القويَّة التي يفجِّرها “إعلان باريس”، وخطوته الواسعة على طريق اجتذاب المعارضة المسلحة إلى دائرة النشاط السِّياسي السِّلمي، بل والمعنى الخاص لكون من بادر بذلك هو إمام إحدى الطائفتين الدينيَّتين الأوسع في السُّودان، وزعيم أحد أكبر حزبين فيه، وهو نفسه من شكلت اعتراضاته المتكررة، في ما مضى، عقبة كأداء على طريق توحيد، أو حتَّى تنسيق مواقف المعارضتين السِّياسيَّة والمسلحة؛ لا يرى أبو عيسى في الإعلان شيئاً من ذلك كله، بل يغلبُ لديه، في هذا الوقت الخطأ بالذَّات، خلافه مع الرَّجل، قائلاً في ندوة بلندن: “أنا لا أثق في أيِّ عمل طرفه المهدي!” (المجهر؛ 11 أغسطس 2014م)، فيمسي، للأسف، كمن يبيع لؤلؤة ليشترى صدفة!

ضمان المواقف السِّياسيَّة مطلوب، ولكنه نسبي. ولو تروَّى أبو عيسى شيئاً لأدرك ما يُفترض أنه يدركه، أصلاً، وهو أن الصِّراع السِّياسي لا يعترف بـ “رمي الودع”، أو “ضرب الرَّمل”، أو مراهنات سباق الخيل، وإنما هو متغيِّرات يثبت الناس فيها على مواقفهم الصَّائبة أو لا يثبتون، ويراجعون حساباتهم الخاطئة أو لا يفعلون، فيُحسب هذا وذاك إمَّا لهم أو عليهم! فليس مطلوباً، إذن، لا من الأمَّة ولا الثَّوريَّة، تقديم صكِّ ضمان مطلق اليوم بأن موقف أيٍّ منهما لن يتغيَّر غداً!

لقد اندرج “إعلان باريس”، نهائيَّاً، ضمن مدخلات الصِّراع السِّياسي في بلادنا، وكلُّ شـاة معلقـة، في المبتدأ والمنتهى، من عرقـوبها. وإذا لم يكن لدى أبو عيسى، أو أيَّة قوَّة أخـرى، بديـلاً عمليَّاً عن المشـروع الذي يطرحـه “إعـلان باريس”، فإننا نسـأل الله العـلي القدير أن يوفق رئيس “الإجماع الوطني”، ورمزه الكبير، إلى إعادة ضبط منظاره الأحول الذي نظر من خلاله إلى الإعلان، قبل أن يرتد إلينا البصر خاسئاً من تصريحه العجيب!