استلهام فقه الجهاد في يوم ذكرى الجهاد

الإمام الصادق المهدي

بسم الله الرحمن الرحيم

استلهام فقه الجهاد في يوم ذكرى الجهاد

الإمام الصادق المهدي

 

16 رمضان 1440هـ

21/5/2019م

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.

أحبابنا في الله وأخوتنا في الوطن العزيز،

في ذكرى بدر الكبرى وصداها السوداني واقعة الجزيرة أبا، يطيب لنا أن نؤكد أن للفعل جهد ومشتقاته تعود كل وسائل العطاء الإنساني كجاهد واجتهد.

لا يتحقق عطاء إنساني في كافة نواحي الحياة الإنسانية إلا اجتهاداً وجهاداً يبلغ غاية الوسع في مجاله كما أكد الحكيم:

تُريدينَ لُقيانَ المَعَالي رَخيصَةً       وَلا بُدّ دونَ الشّهدِ من إبَرِ النّحلِ

فيما يلي أتطرق لفقه الجهاد في الإسلام:

أولاً: الجهاد هو بذل الوسع لإعلاء هداية الله في نفس الإنسان. وفي كل دروب الحياة فالإنسان يغالب الشر في نفسه الأمارة مجاهداً. ويدعو إلى سبيل الله (بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)[1] مجاهداً. ويغالب الجهل والفقر والمرض مجاهداً. ويقاتل دفاعاً عن النفس وعن حرية العقيدة مجاهداً. الجهاد بهذا المعنى ليس حصة في الحياة. بل هو التزام يجري في كل الحياة.

قال ابن القيم إن آية السيف وهي الآية الخامسة من سورة التوبة آية محكمة وناسخة لكل ما عداها من آيات التسامح ودفاعية القتال في الإسلام. وصفوا إحدى آيات ثلاث بأنها آية السيف وهي:

  • الآية الخامسة من سورة التوبة وهي: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
  • والآية 29 من التوبة وهي: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)
  • والآية 36 من التوبة: (وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

الحقيقة أن الآية الخامسة من التوبة سبقتها الآية الرابعة وهي: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) هذه الآية أعطت الأمان لأولئك الذين لم يكن اتصالهم بالمسلمين عدائياً. وأعقبتها الآية السادسة وهي: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ).

هاتان الآيتان تؤكدان أن الآية الخامسة إنما تقرر حكماً يسري في ظرف معين، أي أن الآية الخامسة معنية بفئة معينة بدأت المسلمين بالعدوان وأخرجتهم من ديارهم.

والآياة 29 المقصود بها ليس كل أهل الكتاب بل فريق منهم له شروط ذكرتها الآية.

أما الآية 36 فهي بنصها لا تأمر بهجوم بل تقول: (وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

الفيصل في تدبر القتال وأسبابه الآية 13 من التوبة (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).

إن في كتاب الله مائة آية موزعة على 48 سورة تأمر بالتعامل مع الآخرين بالتي هي أحسن، وتحصر القتال في الدفاع عن النفس أو عن حرية الدعوة.

مثلاً الآية 8 من سورة الممتحنة ونصها (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ).

والآية 125 من سورة النحل (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

الحقيقة المحكمة أن الدعوة للإسلام بالحسنى. والقاعدة (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[2]. أما القتال فهو لرد العدوان بنص الآية 39 من سورة الحج (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).

أهم انجازات الدعوة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تمت دون قتال: فتح المدينة بالقرآن، واستمال أهل الجزيرة العربية في عامي صلح الحديبية، وفتح مكة يوم المرحمة كما قال نبي الرحمة.

ولكن كثيراً من كتاب السيرة سموها المغازي قياساً على أنبياء بني إسرائيل كما جاء في سفر الخروج في عهد موسى عليه السلام من الغزو، وكما جاء في سفر التثنية أنه بقيادة يوشع بن نون الذي خلف موسى عليه السلام بأن الأرض من خليج العقبة في البحر الأحمر إلى البحر الأبيض ومن سيناء إلى الفرات ستكون لبني إسرائيل وعليهم قهر شعوبها وطردهم وألا يبرموا معهم معاهدة ولا يساكنوهم.

القتال في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كان سجالاً، وأهم إنجازات السيرة كانت سلمية. نعم وقعت حروب فيما بعد كحروب بين دول، ولكن الإسلام لم ينتشر بالسيف، وبذلك اعترف المستشرقون المنصفون كالسير توماس أرنولد في كتابه “الدعوة للإسلام”.

وقد أوضحنا في كتبنا أن الغلو والإرهاب الذي يمارسه بعض المسلمين اليوم مخالف لضوابط القتال في الإسلام، ويعود لمظالم داخلية وخارجية وظفت نصوصاً إسلامية لاكتساب شرعية إسلامية كالحديث الضعيف المتعارض مع مقاصد الشريعة ومع نصوص القرآن القائل: “بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مَعَ السَّيْفِ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي”[3].

نعم إن دعوة الحق لا يحدها زمان أو مكان على أساس (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[4] .

وقد نحتنا عبارة الجهاد المدني لوصف الوسائل الفكرية والسياسية والتعبوية، والاعتصامات، والإضرابات، والحشود، والمظاهرات، والحوارت الجادة لتحقيق الأهداف الدينية والوطنية المنشودة.

وفي القرن العشرين كان لهذه الوسائل عالمياً انتصارات باهرة في تحقيق تطلعات الشعوب في تشيلي وفي الهند وفي بولندا في أسبانيا؛ وفي السودان كان لهذه الوسائل ثلاث مرات في 1964م، 1985م، و2019م مفعولاً ناجعاً في تحرير الوطن من قبضة الطغيان.

الجهاد المدني في السودان عبر سبع انتفاضات في 1990، و1996، و1998م، و2006م، و2012م، و2013م، و2019م. الانتفاضات الست السابقة نزعت الشرعية عن النظام الانقلابي الباطش كما استنزفته المقاومة المسلحة التي دفعت نحوها سياساته القمعية.

أما الانتفاضة السابعة فقد صارت ثورة شعبية عارمة كان مددها الأكبر من شباب وشابات كانوا أكثر ضحايا نظام ولدوا في زمانة الغابر.

هذه الثورة المباركة صحبتها بركات خارقة أهمها:

  • انتفاضة الأقاليم في الدمازين وعطبرة والجزيرة أبا وغيرها استنكاراً للحرمان المعيشي.
  • حركة المهنيين التي بدأت مطلبية تقية ثم أسفرت عن وجهها السياسي في الوقت المناسب لتساهم في التعبئة الثورية.
  • حشود السادس من أبريل 2019م تجمعت في أضخم اعتصام مواجه للنظام الحاكم الذي قلنا عنه في 5 يناير 2019م إنه صار جنازة تطلب من يدفنها، وقلنا في 5 أبريل أن الخروج في حشود غد، أي السادس، فرض عين على كل وطني.
  • مفاجأة استقبال عسكريين أمام القيادة العامة للمواكب المعتصمة ودياً.
  • أمر الطاغية اللجنة الأمنية تفريق الاعتصام أمام القيادة العامة بالقوة. والمفاجأة التاريخة أن الأجهزة الأمنية بمكوناتها الأربعة اجتمعت على رفض الأمر والإطاحة بالطاغية.

هذا موقف تاريخي يحاكي موقف الجيش البولندي من نقابة التضامن الذي من مالآته انهيار الاتحاد السوفتي، فقد تحدت نقابة التضامن الحكومة البولندية واجتمع حلف وارسو العسكري وأمر الجيش البولندي أن يبطش بالنقابة، ولكن قائد الجيش رفض وقال مقولة تاريخية، قال الجنرال ياوزلسكي: إن الجندي البولندي لن يرفع السلاح في وجه المواطن البولندي.

  • التفاف الرأي العام الوطني والإقليمي وراء الثورة الشعبية السودانية.
  • تأييد الرأي العام العالمي للثورة السودانية.

ينبغي أن ننظر لهذه الثورة على أساس أنها إطاحة بنظام ظالم ومخادع لإقامة نظام جديد.

إن الذي حرم ثورات الربيع العربي من ثمارها هو أنها وقفت عند حد الإطاحة بالطغاة ولم تهندس البديل.

الفترة الانتقالية المتفق عليها فترة مؤقتة سوف تحكمها ظروف استثنائية يجسدها تحالف عكسري مدني يحدد تفاصيله إعلان دستوري، واقترحنا أن يراعي نجاح هذا التحالف ميثاق شرف يحافظ على سلامة واستمرار هذا التحالف.

نعم التطلع هو أن تدير السلطة التنفيذية إدارة مدنية. يمثل القوى المدنية في مجلس السيادة ومجلس الوزراء مدنيون ذوو خبرة ووطنية وكفاءة بلا محاصصة حزبية. إنما تمثل القوى السياسية في مجلس تشريعي لمراقبة الأداء التنفيذي. كما ينبغي أن تقوم السلطة الانتقالية بعقد المؤتمرات وفيها تشارك القوى السياسية بعقد المؤتمرات القومية في القضايا المهمة: مؤتمر للسلام، ومؤتمر اقتصادي، ومؤتمر للعلاقات الخارجية وغيرها من القضايا المهمة لا سيما المؤتمر القومي الدستوري. وأن تكون ولاية القضاء مستقلة والولاية التشريعية ممثلة للقوى السياسية والمدنية التي أطاحت بالنظام الظالم.

واقترحنا أنه بالإضافة للإعلان الدستوري المنظم للحقوق والواجبات في الفترة الانتقالية أن يبرم ميثاق شرف يلزم كافة الأطراف بالتعاون الإيجابي أثناء الفترة الانتقالية، وبدعم هياكل الحكم الانتقالي، وبالتصدي لقوى الردة والحنين للطغيان المباد.

السؤال المهم الذي يطرح نفسه هو ماذا بعد الفترة الانتقالية؟

النظام المنشود بعد الفترة الانتقالية هو نظام الديمقراطية والسلام العادل الشامل والحكم الفدرالي؛ مبادئ ينص عليها الدستور الدائم الذي يضعه مؤتمر قومي دستوري يفصل معالم الحكم الراشد، ويخاطب ويعالج كافة القضايا المطروحة وأهمها بالإضافة للحقوق السياسية الحقوق الاجتماعية لأن ديمقراطية سياسية بلا رافد عدالي اجتماعي لا تكفي.

كذلك يخاطب قضية الدين والدولة لمعالجتها بما يشبع التطلعات الدينية للأغلبية المسلمة في توافق مع حقوق المواطنة المتساوية.

الإسلام هو دين غالبية أهل السودان وهو محمول عقدي وثقافي يعترف بذلك حتى المواطنون المسيحيون كما قال مكرم عبيد: أنا مسلم وطناً وقبطي ديناً. وقال فارس الخوري أنا مسيحي ديناً ومسلم حضارة. لا بد من الاعتراف بالمرجعية الإسلامية واستحقاقاتها في توافق مع المساواة في حقوق المواطنة والالتزام بالديمقراطية.

الحكم الراشد هو الذي يحقق المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون ويكفل حقوق الإنسان، ولكن الصيغة الوافدة لهذا النظام تتطلب أقلمة ثقافية واجتماعية.

النظام المجدي للممارسة الديمقراطية في بلادنا هو نظام الديمقراطية التوافقية التي تستطيع بناء الوطن وتحقيق التنمية، وتسمح بالتنافس الانتخابي الحر وتتطلب التوافق بين الكتل المنتخبة على مبادئ عامة مشتركة.

ولكن لكي يمكن بناء نظام توافقي حر ينبغي للمكونات السياسية أن تهيئ نفسها لهذا التوافق.

من أهم الممهدات لهذا التوافق إبرام “ميثاق المهتدين” بين كافة أهل القبلة في البلاد للتعاون فيما يجمع بينهم والتعايش مع الاختلافات بالتي هي أحسن وقد اقترحنا منذ سنين نصاً لهذا الميثاق.

كذلك ينبغي إبرام ميثاق بين كافة اتباع الأديان سميناه “ميثاق الإيمانيين”.

ولكن الجسم السياسي كذلك مشحون بعصبيات معلبة تحول دون بناء مناخ توافقي.

الرؤى الحالية التي تنادي بها القوى السياسية تشبه حروباً أهلية معلبة ما لم تجر مراجعات في أطروحاتها.

ابدأ بنفسنا وأقول إن كياننا الدعوي الأنصاري مستعد لإعلان موف دعوي غير إقصائي ملتزم بأن المهدية محررة من الشخصنة ومن نهاية الزمان، تعتبر المهدية وظيفة إحياء الدين، وتقبل التنوع الاجتهادي لإبرام ما يتفق عليه وما يبقى خلافياً يعذر بعضنا بعضاً فيه ومآله: (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[5].

وأما حزب الأمة القومي فنحن بصدد دعوة للمؤتمر العام الثامن للحزب لمراجعة كافة مكوناته وتحقيق التأسيس الرابع للحزب بما يفتح المجال الفكري واسعاً للتوافق القومي المنشود.

وهنالك الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي نعترف بجماهيرته، ولكن يتطلب التكوين المؤسسي وبيان محتوى اتحادي وإجراء المراجعات الطائفية والسياسية المهيأة للمرحلة التوافقية.

حزب المؤتمر السوداني إضافة دم جديد للجسم السياسي السوداني وكان مثلنا لم يلوث نفسه بمشاركة النظام المخلوع. ولكن عليه دراسة الأسباب التي جعلت خمسة أحزاب جديدة تنهض بصورة واعدة ثم تتفكك. الأماني وحدها لا تكفي، المطلوب استيعاب الواقع لتحقيقها.

بالنسبة للحزب الشيوعي فالشيوعية بطرحها المعهود إقصائية ويرجى إجراء مراجعات، فالدين ليس حتماً يدعم الاستغلال الاجتماعي، بل كما قال الفرد سميث الإسلام أكبر محاولة في التاريخ لتحقيق العدالة الاجتماعية، وأحكام الإمام المهدي في السودان كانت على أعلى درجة من الحرص على العدالة الاجتماعية، وثيولوجيا التحرير التي نشأ في حضنها البابا الكاثوليكي الحالي مهتمة بالعدالة الاجتماعية. والموقف من الرأسمالية يحتاج لتعديل كما اكتشف الحزب الشيوعي الصيني والحزب الشيوعي الفيتنامي. كذلك تجب مراجعة الموقف من الديمقراطية فهي ليست كما ظنوا أداة في يد الطبقات المستغلة بل حكمت بموجبها أحزاب عمالية، ولا بد من الاعتراف بقيمة الوطنية فلا تذوب حتماً في الأممية.

لا شك أن الفكر البعثي له اجتهاداته، ولكن مقولة حزب بعث عربي في السودان متعدد الثقافات والإثنيات تؤجج الاستقطاب الحاد، حقيقة اعترف بها لي المرحوم ميشيل عفلق ووعد أن يكتب حول خصوصية الوضع في السودان وغيره من بلاد الشمال الأفريقي.

وهنالك الحركات الأفريقانية المطلوب ألا تنظر للأفريقانية إثنياً بل قارياً لما يجمع سكان القارة من تطلع لوحدة قارية تحقق التضامن والتنمية والسلام في القارة.

الحركات السياسية ذات المرجعية الإسلامية لا سيما على ضوء الدرس المستفاد من تجربة النظام المخلوع تحتاج لوقفة أساسية مع الذات للاعتراف بالأخطاء الجسيمة التي ارتكبت في حق الإسلام والسودان. أن تقوم بنقد ذاتي فيه اعتراف بخطأ الانقلاب على الديمقراطية وخطأ محاولة تطبيق الشريعة بالوسيلة الانقلابية القهرية. وخطأ التمكين للذات وإقصاء الآخرين وما صحب الانفراد بالأمر من مفاسد. وخطأ التعامل مع المسلمين الآخرين بمفاهيم جائزة في حرب العدو:  كمقولة الحرب خدعة، والكذب على العدو جائز، والاغتيال السياسي يجوز كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، في أمر كعب بن الأشرف وهلم جرا.  وعليهم التخلي نهائياً عن فكرة الحاكمية فالحاكمية في الكون لله أما في ولاية الأمر فهي للشعب كما عبر عن ذلك أبو بكر رضى الله عنه في خطبته بعد البيعة.

وينبغي أن يعلنوا مواقف أساسية لصالح الحكم الراشد الذي يقوم على المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون، والإطار الوطني للحوكمة والتطلع لوحدة الأمة في إطار تعاهدي.

وتراجع الحركات السلفية موقفها، فالسلفية في المسائل الشعائرية ملزمة لكافة المسلمين: التوحيد، والنبوة، ومكارم الأخلاق، والأركان الخمسة والمعاد. أما في ولاية الأمر ونظم الاقتصاد وكافة المعاملات والعادات فالحركة واجبة على نحو ما قال ابن القيم: الواجب شيء والواقع شيء والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب وينفذ الواجب بحسب استطاعته فلكل زمان حكم، و الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم (أعلام الموقعين).

لقد رحبنا بحركة المهنيين السودانية منذ نشأتها في 2016م، وقيامها بالواجب المطلبي في ظل نظام قمعي اخترق الحركة النقابية ووظفها لصالحه واجب وطني مقدر. وتحولها في ظروف مواتية لحركة سياسية تحول حميد، وقد كان له أثر كبير في بلورة الموقف الوطني الديمقراطي في الأشهر الخمسة الماضية. هذا التحول والعوامل التي ذكرت سابقاً كان له أبلغ الأثر في نجاح الثورة الشعبية السودانية. ولكن عليهم إدراك أن لهذه الثورة حواضن تعهدت أهدافها ثلاثين عاماً، وأن مشهد السادس من أبريل مشهد قومي غذته روافد كثيرة.

إن للمهنيين الآن دوراً سياسياً مهماً و مطلوباً لإنجاح الثورة المباركة.

إن هؤلاء الثوار يمثلون أسلوباً جديداً في مكافحة الطغيان، وهم الآن يمثلون دماً جديداً في الجسم السياسي السوداني سوف يكون له أثر بليغ في بناء الوطن واستنهاض شبابه. سيكون من أهم واجباتهم العمل على تحرير الحركة النقابية من قبضة التمكين.

ممارسة الدور السياسي في الظروف الاستثنائية التي مرت بها البلاد مطلوبة، ويمكن أن يدفع بهم لتكوين حزب سياسي باسم المهنيين ففي بلاد كثيرة تكونت أحزاب من منتمين لوظائف عمل كما كان من أمر حزب العمال البريطاني.

ممارسة العمل السياسي في نظام ديمقراطي تتطلب وجود تكوينات ذات برنامج وقاعدة وقيادة منتخبة وحتى النقابات لا تعمل إلا بموجب نظم تحدد العضوية وهيكل القيادة.

لنجاح التجربة الديمقراطية القادمة في السودان ينبغي تجاوز المرحلة الاستثنائية لتكوين لبنات النظام الديمقراطي.

وكذلك ينبغي أن تطور حركات التحرير المسلحة موقفها من حركات مقاومة إلى تكوينات سياسية ديمقراطية للتنافس في بناء الوطن.

التكوينات السياسية السودانية بشكلها الحالي المعهود تمثل حروباً أهلية معلبة ولن تفلح في بناء الوطن الديمقراطي. ما لم تتحقق صحوات في القوى السياسية السودانية فإنها لن تصلح في إنجاح الفترة الانتقالية وسوف تخفق في بناء الوطن الديمقراطي المنشود.

علينا جميعاً أن نواجه السؤال هل نحن مدركون لاستحقاقات بناء الوطن الديمقراطي بصورة تمهيدية أثناء الفترة الانتقالية وبصورة مستدامة في المستقبل؟

سؤال اجتهادي جهادي مهم طرحه والاستعداد للإجابة عليه في أنفاس ذكرى يوم الجهاد.

على أية حال نحن سوف نبشر بهذا الأفق الجديد لأن النجاح فيه من استحقاقات المرحلة الانتقالية ومن استحقاقات بناء وطن السلام العادل الشامل والديمقراطية. إن الإخفاق في هذه الاستحقاقات سوف يمنح قوى الردة الداخلية وظهيرها الخارجي ذخيرة لمحاولة تعطيل المرحلة التاريخية الجديدة الواعدة بإنجازها وأصدائها الإيجابية عالمياً.

 

والله ولي التوفيق.

[1] سورة النحل الآية (125)

[2] سورة البقرة الآية (256)

[3] صحيح بخاري

[4] سورة النحل الآية (125)

[5] سورة آل عمران الآية (55)