الإصلاح الديمقراطي في الوطن العربي

بسم الله الرحمن الرحيم

الإصلاح الديمقراطي في الوطن العربي

الإمام الصادق المهدي

3 يونيو 2004م

مقدمة:

اليوم أصبح الإصلاح الديمقراطي في الوطن العربي مطلبا شعبيا. وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م صار مطلبا دوليا. وبدافع الضغط  الدولي أولا ثم الضغط الشعبي الداخلي ثانيا صار الإصلاح الديمقراطي شعارا للدول العربية ما برح إعلامها يرفعه. ولكن حظ  الإصلاح الديمقراطي في الوطن العربي من النزول إلى أرض الواقع محفوف بألف عقبة وعقبة ولا يرجى أن يتحقق إلا عبر نضال شاق.

فيما يلي أقدم أطروحة تتناول النقاط الآتية:

  • الموروث الاستبدادي: إن للإسلام مبادئ سياسية معلومة كالشورى والوفاء بالعهد وقد مورست في العهد الأول بأسلوب نبوي ثم أبوي بعد وفاة النبي (ص). الانقلاب الأموي حول الخلافة إلى سلطان استصحب الأساليب البيزنطية والفارسية القديمة في دمشق لا أسلوب حكومة المدينة. وعلى النمط الأموي سار النمط العباسي، والعثماني، والصفوي، والمغولي حتى أعقبتها نظم السلطة الاستعمارية. وبعد فترات ليبرالية قصيرة أعقبت جلاء الاستعمار خضعت نظم الحكم في غالبية البلدان الإسلامية لنظم استبدادية وراثية أو عسكرية. هذا التقليد الاستبدادي السلطاني صحبه حتما الامتثال الشامل لأمر الحاكم وتدجين المجتمع المدني. الدول الإسلامية المعاصرة التي لم تكن خاضعة للدول الإسلامية التاريخية مبرأة من ذلك الموروث الاستبدادي السلطاني والمجتمع المدني فيها نسبيا أقوى وأكثر حيوية.
  • غلبة الفكر المنكفئ: الثقافة الإسلامية التاريخية زاخرة بحيوية هائلة واستطاعت أن تكون ثقافة عالمية بما استصحبت من فكر وثقافات آخرين. ولكن ظروفا كثيرة أطاحت بالحرية الفكرية وبالعقلانية وقاد الفقه الفكر وامتثل الفقه نفسه لقاعدة: الامتثال لكتاب الله وسنة نبيه بفهم سلفنا الصالح:

كل العلوم سوى القرآن مشغلة      إلا الحديث وإلا الفقه في الديــــن

العلم ما كــــــان فيه قال حدثنا       ما سوى ذاك وسواس الشياطين

الفقه الذي سيطر على الساحة فقه تأسس على نصوص في الكتاب والسنة وبموجب آلية صورية هي القياس والإجماع استنبطت أحكامه. هكذا قفل باب الاجتهاد مما جعل عددا من المفكرين المعاصرين يقولون بضرورة إحداث قطيعة ابستمولوجية مع الماضي- على حد تعبير محمد عابد الجابري. هذا الرأي غير صحيح أولا لأنه يغفل الاستنارة والعقلانية في التراث العربي الإسلامي وإن طغى عليها موقف الجمهور وثانيا لأنه يسلّم بمقولة الأصولية الأبستمولوجية بلا تاريخية الفكر المعني. المطلوب إذن هو تحقيق القطيعة مع فكر معين في مرحلة تاريخية معينة.

إن الثقافة الإسلامية التقليدية المنكفئة هذه متمكنة في كافة البلدان العربية والإسلامية وتخدمها مؤسسات تعليمية واسعة الانتشار كذلك منابر الوعظ في أكثرية المساجد وتتلخص أسسها في الآتي:

أن القرآن أحصى كل شيء والسنة بينت العلم المطلوب، وأن اجتهاد السلف استنبط كل التعاليم  والأحكام وليس على الخلف إلا الإلمام بما نقل إليهم وتطبيقه على أساس أنه إرادة الله لخلقه. هذه التعاليم والأحكام شاملة للعقائد والعبادات والمعاملات وحاسمة لعلاقات المسلمين فيما بينهم وعلاقاتهم مع الكيانات السياسية الأخرى والأديان. هذا الانكفاء الثقافي يؤسس لموقفين متناقضين: موقف قبول الواقع السياسي والامتثال لأمر المتغلب اتقاء الفتنة، أو الموقف الحركي الراديكالي العامل لتقويض الواقع السياسي وتطبيق تعاليم وأحكام السلف على نحو ما فعلت حركة طالبان.

موقف نظم الحكم الاستبدادية والثقافة الدينية المنكفئة من الديمقراطية متطابق. الأول يعتبرها خطرا على الحكم والثاني يعتبرها خطرا على الدين.

لا يرجى لأي إصلاح سياسي أن يضرب جذورا في الواقع ما لم تصحبه صحوة ثقافية تؤسس مشروعية العقل والمصلحة والحرية، وتنزع قميص الحديد الثقافي الموروث.

وطالما بقي ذلك القميص في مكانه فإن أي واعظ مهما كان بسيطا سيغلب بحجته أي أستاذ مهما كان عالما لأن الواعظ يستخدم المنطق الديني الثقافي السائد. كذلك فإن أي حركي مهما كان متهورا سيغلب أية تيارات سياسية معاصرة لأنه ينشط أشواقا متجذرة في قلوب وعقول الكثيرين.

  • الوصاية الشمولية: عرفت المنطقة العربية أيديولوجيات وضعية كثيرة قومية كالبعث والناصرية، واشتراكية، وشيوعية.. هذه الأيديولوجيات دارت في فلك نخبوي لم تستطع اختراق الجسم الاجتماعي التقليدي إلا بصورة قشرية.

إن في الديمقراطية عدة مفاهيم منها أنها حكم الشعب لنفسه ومنها أيضا أنها الحكم لمصلحة الشعب. النخب المعنية اعتبرت نفسها ديمقراطية بالمعنى الثاني وأنها أدرى بمصلحة الشعب مما دفع بها إلى إقامة نظم الوصاية الشمولية الحديثة. هذه النظم استولت على السلطة بالقوة، ومارست حكما استبداديا محكما داعية لمشروعات نهضوية تحديثية. ولكنها في نهاية الأمر أذاقت شعوبها تجربة مرة وأخفقت في تحقيق أهدافها وعانت ما عانت من الانفجارات الداخلية مما جعل كثيرا من تلك النخب يراجعون مواقفهم من الديمقراطية ويعطونها الأولوية المستحقة.

  • الغرب والديمقراطية في عالمنا: إن الغرب وطن الليبرالية والديمقراطية الحديثة لم يكن أثناء الحرب الباردة معنيا بالديمقراطية في عالم الجنوب، بل كان همه انحيازها له في الصراع ضد المعسكر الشرقي. وبصرف النظر عن الحرب الباردة، هنالك تفكير سائد في الغرب أن الديمقراطية لا تلائم كثيرا من البلدان الأخرى. هذا الرأي النظري تدعمه أسباب مصلحية جعلت الغرب يفضل التعامل مع نظم أوتقراطية. فالحاكم المنتخب يهتم بمصالح ومطالب ناخبيه في المقام الأول، ويهتم ببحث علاقات بلاده بالغرب على أسس مصالح متبادلة، وهو أكثر ثقة بنفسه لأن حكمه يعتمد على ثقة ناخبيه. أما الحاكم الأوتقراطي فإنه لا يجد حرجا في الاستجابة للمطالب الأجنبية حتى إذا لم تحقق لبلاده مصالح وطنية، وهو في الغالب يؤسس أمن حكمه على تعاون أجنبي.

أأقاتل الحجاج في سلطانه         بيد تقر  بأنـــــها مــــــــولاته

ماذا أقول إذا وقفت إزاءه          في الصف واحتجت له فعلاته؟

السياسة الغربية وهي في بلدانها حرة ومستنيرة لعبت دورا ظلاميا في الخارج مفرداته:

  • ‌أ) تأييد نظم أوتقراطية وتفضيل التعامل معها.
  • ‌ب) اتباع سياسات في المعاملات بين الشمال والجنوب غير متكافئة بل استغلالية.
  • ‌ج) إدارة الصراع أثناء الحرب الباردة بصورة لا أخلاقية مارست بموجبها الاغتيالات والمؤامرات وإبرام تحالفات انتهازية مثلما حصل في أفغانستان. السياسات الغربية ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان بذرت بذور الإرهاب العالمي المعاصر.
  • ‌د) حركات التحرير التي لجأت للعنف في المنطقة نتيجة مباشرة لغرس إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني ولسياسات إسرائيل التوسعية.
  • البعث الديني: منذ السبعينات في القرن الماضي تشهد الأديان بعثا أصوليا وثقت له بعد بحث واسع جامعة شيكاغو في دراسة نشرت عام 1988م. السبب الأهم للانتعاش الأصولي في كل الأديان هو تهديد الحداثة والعولمة لقيمها، ولكن في العالم العربي الإسلامي هنالك عوامل إضافية أهمها:
  • ‌أ- إخفاق المشروعات النهضوية الحديثة خلق فراغا.
  • ‌ب- هزيمة 1967م عممت إحساسا بالإهانة نما معه اتجاه للدين للعزاء والأمل في النصر.
  • ‌ج- الثروة النفطية صرف قسط منها في برامج تعليمية وإعلامية دينية غذت الفكر السلفي. السلفية الحقيقية وسيلة تحرير فكري كما كان الحال قبل قفل باب الاجتهاد. لكن السلفية الاصطلاحية هي إخضاع الحاضر والمستقبل لاجتهاد ماضوي.
  • ‌د- الثروة النفطية خلقت آمالا عريضة ولكن التصرف فيها بالاستهتار الاستهلاكي خلق فراغا روحيا. كما أن تغريب الثروة خلق تبرما واسعا.
  • ‌ه- هذا ما كان من أمر الأصولية الفكرية ولكن حركة الجهاد في أفغانستان وفي الأراضي المحتلة أنبتت للتفكير الأصولي أسنانا وأظافر.
  • ‌و- البرنامج الأصولي الحركي الآن بلغ درجة من النضج والتأييد الشعبي والطموح لا سيما بعد أحداث 11/9/2001م.
  • أثر أحداث 11/9: المفاجأة، والغضب، والإحساس بالإهانة في الولايات المتحدة لدى حوادث 11/9 غذت رغبة عارمة في العقاب والانتقام. هذه المشاعر تطابقت مع موقف أمريكي يرى أن انتصارها في الحرب الباردة يبرر لها إملاء أجندة الأمن العالمي متحالفة مع تابعين إن أمكن ومنفردة إذا لزم.

كان كثيرون يقولون بعد الحرب الباردة أن المسلمين هم الخطر الآخر على الحضارة الغربية وهو رأي روجت له قيادات إسرائيلية لتجد حلفاء في حملتها ضد المقاومة الفلسطينية.

بعد حوادث 11/9 انطلقت الحرب العالمية ضد الإرهاب للقضاء على الإرهابيين والدول التي تقف وراءهم.

إن للحرب على الإرهاب مبرراتها الأخلاقية والقانونية ولكن الاندفاع غير المدروس فيها ساهم في عزل الولايات المتحدة، وفي بث الكراهية، وفي اتساع رقعة الإرهاب.

7-    غياب الديمقراطية كهم أمني غربي: بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001م ظهر جليا أن هناك علاقة قوية بين غياب الديمقراطية في الشرق الأوسط وبين هموم الدول الغربية الأمنية لا سيما الخاصة بالإرهاب. واستنتج كثيرون أن جذور التطرف وعدم الاستقرار في المنطقة تكمن في غياب مجتمع مفتوح.  هذا الاستنتاج جعل الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي يهتمان بدرجة أكبر بالإصلاح الديمقراطي في العالم العربي.

إن التحليلات والبيانات الواردة في تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2002م ولعام 2003م (وقد صدرا من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي) وضعت النقط على الحروف في أمر نظم الحكم في العالم العربي واعتبرتها غالبا خارج التاريخ وأوضحت الشروط المطلوبة للدخول في التاريخ.

8-     مبادرة الشرق الأوسط الكبير:  في فبراير 2004م تسربت للصحافة العربية معلومات عن وثيقة معدة بعنوان “مبادرة الشرق الأوسط الكبير” وبسبب انتقادات وجهت لها أجريت مراجعة في أبريل وما زالت تخضع لدراسة لتقدم لاجتماع الحكومات الثمان (G-8) في يونيو الجاري.

ملامح المبادرة الهامة هي:

  • تكوين هيئة معونة ديمقراطية لتنسيق مجهود الدول الثمان لمساندة الإصلاح الديمقراطي في المنطقة.
  • تكوين حافظة لدعم الديمقراطية لتمويل تطوير برامج المجتمع المدني.
  • القيام بمهام تدريبية.
  • برامج لدعم التحول الديمقراطي، والحكم الراشد عن طريق مساعدات فنية للانتخابات الحرة، وتدريبات للبرلمانيين، ودعم حرية الإعلام، وإنشاء آليات لمحاربة الفساد.

9-     مركز السياسة الخارجية التابع للاتحاد الأوربي أطلق برنامج الدعم المدني، والاتحاد الأوربي بصدد تطويره عبر برنامج عمل من عشر نقاط يلتزم به الاتحاد الأوربي لتحقيق الإصلاح السياسي في العالم العربي. النقاط العشر هي:

  • ‌أ- تكوين حافظة لدعم التوجه الديمقراطي في دول الشرق الأوسط.
  • ‌ب- أن تتسع قائمة اهتمامات الاتحاد الأوربي لتشمل: بناء الأحزاب السياسية، ترتيب العلاقات السوية بين المدنيين والعسكريين، بناء القدرات البرلمانية …الخ.
  • ‌ج- اشتراط تحقيق إصلاحات في مجالات محددة ومبرمجة لاستحقاق المساعدة. مثلا: دعم مشروعات البنية التحتية يربط بإصلاحات تمكين المواطنين من مراقبة الإدارات المحلية والسيطرة على ميزانياتها.
  • ‌د- التواصل الإيجابي مع الإسلاميين. لا سيما في إجراء حوارات بناءة ودعم المنظمات الاجتماعية.
  • ‌ه- تقييم الفوائد السياسية لبرامج التعاون الاقتصادي. المنظمات غير الحكومية في المنطقة غير مهتمة بالديمقراطية ومستسلمة للأوتقراطية. ينبغي تشجيع وعيها بالديمقراطية وعملها من أجلها لينمو القطاع الخاص المنحاز للديمقراطية.
  • ‌و- العون التنموي يجب أن تخصص نسبة منه لدعم الديمقراطية.
  • ‌ز- دعم المجال الثقافي في اتجاهات تزيد من الوعي بالديمقراطية.
  • ‌ح- التعاون مع وزارتي العدل والداخلية من أجل الاستقرار والعدالة.
  • ‌ط- تكوين منبر أوربي أمريكي للتعاون من أجل الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط.
  • ‌ي- هذه البنود تشكل معا أساسا لتعاقد بين الاتحاد الأوربي ودول الشرق الأوسط من أجل الإصلاح الديمقراطي.

المتوقع أن يكون اجتماع الدول الثمان مجالا لبلورة رؤية مشتركة حول هذه القضية.

10-     حركة الدمقرطة العربية: الدراسات المقارنة للديمقراطية التي أجرتها منابر عالمية متخصصة وثقت بالمقاييس الموضوعية التي اعتمدتها أن العالم العربي هو اليوم من أواخر معاقل الاستبداد في العالم.

وفي السنوات الأخيرة، أجرت بعض الدول العربية إصلاحات سياسية من باب الإصلاح الاستباقي ولكن هذه الإصلاحات ما زالت في نطاق محدود لم يبلغ بعد الالتزام بحقوق الإنسان الذي يكفل الحريات العامة ولا الالتزام الدستوري الذي يضع قيدا على السلطة التنفيذية ولا الالتزام الدستوري الذي يضع التشريع في يد هيئة نيابية منتخبة.

لذلك نجد في أكثرها الشعار الديمقراطي مرفوعا ولكن التحول الديمقراطي ممنوعا.

في دراسة سابقة بعنوان الشورى والديمقراطية: رؤية عصرية تطرقت لمعظم الحجج الرافضة للديمقراطية وأوضحت تهافتها. ولكن هنالك حجج جديدة تساق لتبرير المخاوف من التحول الديمقراطي.

لقد صدر من مؤتمر القمة العربي الأخير وثيقة التطور السياسي والتحديث. يؤخذ على هذه الوثيقة الآتي:

  • ‌أ) افتراض أن ثمة برامج تطوير وتحديث وتحول ديمقراطي مجدية يريد النص الاستمرار فيها.
  • ‌ب) النص على أن مفهوم الإصلاح يتعلق بالوطن العربي في إشارة ضمنية إلى رفض المشروعات الدولية في هذا المجال.
  • ‌ج) جاء في النص :استمرار الجهود وتكثيفها لمواصلة مسيرة التطوير في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية تحقيقاً لتقدم المجتمعات العربية النابع من إرادتها الحرة بما يتفق مع قيمها الثقافية، والدينية، والحضارية، وظروف كل دولة وإمكاناتها. هذا معناه الإبقاء على الأمور كما هي لأن الإرادة الحرة المذكورة غير موجودة. ولأن النص على ما يتفق مع قيمها ومفاهيمها الثقافية والدينية والحضارية مع هيمنة ثقافة الانكفاء في هذه المجالات معناه جعل تلك الثقافة قيداً على حركة الإصلاح.
  • ‌د) جاء في النص: تعميق أسس الديمقراطية والشورى وتوسيع المشاركة في المجال السياسي والشأن العام وفي صنع القرار في إطار سيادة القانون، وتحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير وفقاً لما جاء في مختلف المواثيق والعهود الدولية وضمان استقلال القضاء، وتعزيز مشاركة فئات الشعوب كافة رجالاً ونساءً في الحياة العامة ترسيخاً لمقومات المواطنة في الوطن العربي. هذا كلام عام طيب وجديد ولكنه غير مصحوب ببرامج محددة كما سوف نبين فيما بعد.
  • ‌ه) وجاء في النص: تحديث البنية الاجتماعية لدولنا والارتقاء بنظم التعليم وتطوير قواعد المعرفة لمواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية والتقنية في العالم وتمكين مجتمعاتنا من التعامل مع متطلبات روح العصر في إطار صيانة هويتنا واحترام تقاليدنا الأصيلة. هناك فهم سائد لهويتنا وتقاليدنا الأصيلة يحبس الحاضر والمستقبل في الماضي، والنتيجة أن يكون معنى هذا النص أن نقبل التطور التكنولوجي ونتمسك بالمحافظة الاجتماعية.
  • ‌و) هنالك حجج أخرى جديدة رائجة تمنع التحول الديمقراطي في الوطن العربي أهمها:
    • الحرب على الإرهاب الذي يستهدف الدول العربية على أشدها. وهي تفرض قيدا على الحريات حتى في الدول الديمقراطية العريقة.
    • الواقع الحالي يؤكد أن إجراء انتخابات حرة سوف يأتي بالقوى الأصولية الإسلامية للسلطة والشواهد على ذلك كثيرة. وهذا سوف يفجر الأوضاع داخليا ودوليا كما دلت على ذلك تجارب معاصرة.
    • مقولة أن المسألة الفلسطينية والمسألة العراقية تشكلان أزمة للأمن القومي العربي ولا يمكن تحقيق تطور سياسي ديمقراطي بمعزل عن حلهما حلا عادلا.

يصعب على الإنسان أن ينتقل من حال إلى حال دون معاناة، وتاريخ التطور السياسي في العالم يؤكد أن كفالة الحريات والتحول الديمقراطي لم يتحقق دون صراعات طويلة ومريرة. لذلك لا يرجى تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي دون ضغط داخلي يمارسه المجتمع المدني بكفاءة عالية وضغط دولي مركز.

11-    الضغط الداخلي: يعتمد على وجود منظمات مجتمع مدني قوية تبلور المطلب الديمقراطي وتكون تنظيمات سياسية ونقابية ومنابر فكرية وإعلامية وتخوض معارك سياسية مدنية في سبيل تحقيق التحول الديمقراطي.

لا يوجد مجتمع آخر في العالم بلغ ما بلغت المجتمعات العربية من مستويات التنمية الاقتصادية مع الإبقاء على مجتمع مدني مدجن سياسيا ومهادن للدولة الأوتقراطية. وإذا استمر هذا الحال فإن المجتمع المدني العربي لن يستطيع قيادة النضال المدني السياسي من أجل الديمقراطية بل سوف يترك زمام المبادرة للدولة، أو لمنظمات الغلو الإسلامي، أو للأسرة الدولية.

في الفترة 12-14 مارس 2004م اجتمع مؤتمر الإصلاح العربي في مكتبة الإسكندرية جامعا لعدد من منظمات المجتمع المدني العربي وأصدر المؤتمر وثيقة الإسكندرية، نادت الوثيقة بالآتي:

  • تعميم رؤية الإصلاح العربي الشامل التي بلورها المؤتمر.
  • تعميق هذه الرؤية بمزيد من الدراسات والمشاورات.
  • إقامة شبكة تربط المهتمين بقضايا الإصلاح في العالم العربي وتسهل الاتصال بينهم بإقامة منتدى للمناقشة على الإنترنت على هذا الموقع.
  • تفعيل نشاطات المجتمع المدني العربي وتقوية إسهاماته في إحداث التغيير المنشود عن طريق شراكة حقيقية بين المجتمع المدني والحكومات.

أقول عن وثيقة الإسكندرية أن ما ورد فيها من معان طيبة  ولكنها تعاملت مع الإصلاح كقضية نظرية لا برنامج سياسي يوجب القيام بإجراءات محددة.

أوردت الوثيقة عبارات فضفاضة جيدة ولكنها اكتفت بها لإيجاد أرضية مشتركة مع الحدود المقبولة حاليا للسلطات الرسمية.

الضغط الداخلي سوف يبقى محدودا ما لم تبلغ المنابر الفكرية، والأحزاب السياسية، والنقابات، درجة  تؤهلها للتأثير الفعال على الأحداث. وإلزام الحكومات بقبول البيان الديمقراطي الذي سوف أفصله لاحقاً.

12-    الضغط الخارجي: مهما قيل عن المبادرات الدولية فينبغي أن يذكر لها الإيجابيات الآتية:

أولاً: تخلي الولايات المتحدة عن موقفها التلقائي المعهود في دعم النظم الأوتقراطية. وهذا فيه ما فيه من إقناعها بحتمية الإصلاح ومن رفع روح الإصلاحيين المعنوية.

ثانياً: وضعت قضية الإصلاح الديمقراطي بندا هاماً في أجندة العالم العربي.

ثالثاً: إتاحة فرصة فريدة للتحول الديمقراطي في العالم العربي بسبب التقاء المطالب الداخلية المزمنة بالإصلاح الديمقراطي بالاهتمام الغربي بنفس الهدف.

ولكن ينبغي أن تتجنب الأسرة الدولية بقيادة الولايات المتحدة إصدار مرسوم استعلائي رنان يستفز المشاعر الإسلامية والوطنية استفزازاً تؤججه الكراهية العامة في المنطقة للسياسات الأمريكية في فلسطين وفي العراق.

الحلول الخارجية الجاهزة لن تجدي ومهما كانت خطة أمريكا للعراق فإن ما يجري الآن لا يمكن أن يكون مقصودها. قال الإمام العز بن عبد السلام: “كل أمر تقاصر عن تحقيق مقصوده فهو باطل”. أقول: الطبخة الخارجية الكاملة قياساً بـ “التيك أواي” لن تجدي بل سوف تأتي بنتائج عكسية. البرامج الخارجية التي سوف يبلورها حوار قاصر على الطرف الدولي وأطراف رسمية عربية لن تجدي كذلك.

النهج المجدي هو إجراء حوار ثلاثي بين الطرف الدولي، والطرف الرسمي العربي، وطرف ثالث يمثل المجتمع المدني العربي.

  • رسالة المجتمع المدني: إن على المجتمع المدني العربي أن يعمل لتحقيق ثلاثة أمور:

 أولاً: أن يعمل عبر القنوات المؤهلة لتحقيق صحوة ثقافية إسلامية تحرر الفكر والثقافة الإسلامية من حبسهما في الماضي إلى دورهما المستقبلي.

إن شعار فصل الدين عن السياسة وفصل الدين عن الدولة خلق مشكلة وهمية لأنه أسقط مفهوم فصل الدولة عن الكنيسة وهو مفهوم مشروع لأنهما مؤسستان يمكن الفصل بينهما. أما الدين لا سيما الإسلامي فليس مؤسسة يمكن الحديث عن فصلها عن مؤسسة الدولة. المطلوب هو ضبط العلاقة بين الدين والدولة بحيث تقوم الدولة على حقوق المواطنة المتساوية وحرية الاعتقاد والتعايش بين الأديان وعدم إعطاء مواطن حقاً دستورياً بسبب عقيدته الدينية.

كذلك لا يمكن فصل الدين من السياسة فالدين التزام وجداني سوف يؤثر على سلوك صاحبه في المجال السياسي ولكن المطلوب أن يكون ذلك ضمن التزام بالآليات الديمقراطية والتزام باحترام حقوق الآخرين الدينية.

إن الساحة زاخرة باجتهادات فردية وجماعية في موضوع دور الدين في الدولة والمجتمع الحديثين. ويغلب الآن على الاجتهادات الجماعية أنها إما تحت مظلة دولة فينتقص هذا من حريتها، أو تحت تأثير حركات معارضة راديكالية فينتقص هذا كذلك من حريتها.

إننا الآن نسعى للدعوة لمؤتمر يؤمه مائة عالم وخبير وسياسي مؤهلين لممارسة اجتهاد جماعي يضع مرجعية لصحوة فكرية ثقافية إسلامية تؤسس لوفاء للأصل له مستقبل في العصر.

ثانياً: أن يحدد بوضوح ماذا يجب عمله لتحقيق التحول الديمقراطي العربي. وهذا يبدأ بالاتفاق على أمرين:

  • إصدار بيان ديمقراطي يبرمج للمطلوب عمله.
  • يقيم آليات للعمل داخل كل دولة وآلية لتنظيم العمل المشترك من أجل التحول الديمقراطي: إقامة المنبر الديمقراطي العربي.

ثالثاً: أن يحدد دعاة الإصلاح الديمقراطي ماذا يريدونه من الحكومات وماذا يريدونه من المجتمع الدولي وأن يعملوا لتحقيق تلك المطالب بوسائل الحوار، والتنظيم، والتعبئة، والضغط أي الجهاد المدني الخالي من العنف.

  • البيان الديمقراطي:
  • الشرط الأساسي للتنمية البشرية في الوطن العربي بما يحقق التنمية والعدالة واللحاق بالعصر وتفجير طاقات الأمة المعنوية والمادية هو تحقيق الحكم الراشد.
  • الحكم الراشد يقوم على أربعة قوائم: المشاركة- المسائلة- الشفافية- سيادة حكم القانون. أي الديمقراطية.

المشاركة توجب تنظيم الأحزاب السياسية، والنقابات، وتحرير منظمات المجتمع المدني من الوصاية الحكومية وكفالة حقوق الإنسان وإقامة آليات مستقلة للمتابعة والحماية.

المساءلة: تكوين السلطة التنفيذية بوسائل ديمقراطية على أن تضبط السلطة التنفيذية بالدستور سواء كانت ملكية دستورية أو جمهورية منتخبة. والمساءلة تعني كذلك قيام مجالس نيابية منتخبة للقيام بمهام التشريع ومراقبة السلطة التنفيذية.

الشفافية: كفالة حرية الصحافة وحرية الحصول على المعلومة، وضبط حركة المال العام في ميزانيات تخضع بنود إيراداتها وصرفها للقرار التشريعي، وتخضع كل الحركة المالية لمراجعات قانونية من هيئات مؤهلة ومستقلة.

سيادة حكم القانون توجب أن يخضع الجميع للقانون وأن يكون القضاء الذي يطبق القانون مستقلاً.

هذه الأهداف لا يمكن تطبيقها في آن واحد وبأسلوب واحد في كافة أقطار الوطن العربي وينبغي إنزالها من حيث التوقيت والأسلوب على الواقع الاجتماعي في كافة الأقطار العربية ولكن مع اعتماد هذه المرونة ينبغي أن يتفق على محورية الالتزام الديمقراطي وعلى ضرورة إيجاد آلية في كل قطر تعمل من أجله وعلى إيجاد منبر عام يحقق التعاون وينسق الجهد وعلى أن هذا الجهد يتطلب تقوية منظمات المجتمع المدني، والصحوة الثقافية، ومساندة الأسرة الدولية بالكيفية التي يحددها المنبر الديمقراطي العربي.

إن ما نريده من الولايات المتحدة ومن الاتحاد الأوربي هو:

  • ‌أ- الإلمام بالبيان الديمقراطي العربي وتأييد أهدافه العامة.
  • ‌ب- الاعتراف بالمنبر الديمقراطي العربي والاعتراف به طرفاً ثالثاً في سبيل الاتفاق على كيفية دعم الأسرة الدولية للإصلاح السياسي العربي.
  • ‌ج- ممارسة الضغط الذي لا يصل لدرجة إسقاط نظم أو احتلال قطر بل يجعل تعاونه مع البلد المعني مقترنا بجدية ذلك البلد في الالتزام بالإصلاح السياسي.
  • ‌د- أن يفضي الحوار بين الأطراف الثلاثة إلى تعاهد ثلاثي من أجل الإصلاح الديمقراطي في الوطن العربي.

14–  دروس من التجربة السودانية:

 الدرس الأول: دخلت المسيحية ثم الإسلام للسودان سلمياً.

هكذا أسلم أغلبية أهل السودان واستعربوا بحركة من تحت إلى فوق. ونتيجة لهذه الحقيقة صار المجتمع المدني في السودان في مقابل السلطة الحكومية قوياً.

قوة المجتمع المدني هذه انعكست تاريخيا في حقائق معلومة وفي العصر الحديث أدت إلى أن المجتمع المدني هو الذي قاد معركة الاستقلال وانتصر فيها وهو الذي أسقط النظام العسكري الأول والثاني بانتفاضات شعبية. والنظام الحالي تعامل معه المجتمع  المدني بصورة أدت في نهاية المطاف إلى محطة جديدة في التطور السياسي السوداني محطة ما كان يمكن أن نبلغها لولا ضغط مارسته المقاومة الجنوبية المسلحة، والأسرة  الدولية لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية. لكن هذه الضغوط لم تكن على فراغ بل كان المجتمع المدني السوداني فعالاً في رسم الأهداف، وفي نقل الموقف من المواجهة العسكرية إلى الحوار، وفي التنظيم الشعبي على أراض الواقع، وفي تنوير الأسرة الدولية بالمطالب الشعبية.

الدرس الثاني: حركة “الإنقاذ” الانقلابية في السودان كانت في بداية استيلائها على السلطة طالبانية في إقامة السلطة على القهر – وفي أحادية السلطات واستبعاد الآخرين- وفي التحالف في البداية مع حركات الغلو الإسلامي- وفي معاداة النظام الدولي الحالي. ولكن عصمها من بقية حماقات طالبان ما حظيت به من ثقافة عصرية عالية فلم تحرم المرأة من التعليم والعمل ولم تحارب أجهزة الإعلام الحديثة بل استغلتها استغلالاً فعالاً.

ومن أهم الدروس المستفادة في هذا المجال هو إثبات إخفاق المشروع الإسلاموي المنكفئ.

إننا في السودان قد درسنا بالتفصيل هذا الإخفاق وسوف ننشر النتيجة لكي يتجنب الآخرون هذه المغامرات المجربة.  والمأمول الآن أن يتمكن أصحاب التجربة أنفسهم من تجاوزها بسلام والتطلع لعمر جديد في إطار فهم صحوي للإسلام وقبول ملزم للديمقراطية.

إن التجربة السودانية في هذا المجال سوف يكون لها أثرها الكبير على الصحوة الفكرية والثقافية الإسلامية المعاصرة.

الدرس الثالث: متعلق بالأسلوب الذي تمت به المداخلة الدولية في الشأن السوداني.

إنها مداخلة فيها درجة عالية من البراجماتية والتدرج والحوار الثلاثي الحكومي المدني الدولي.

هذه المداخلة مختلفة نوعا ونتائج مع المداخلة العراقية ويرجى أن تكون نموذج أفضل.

واجه السودان ظروفا قاسية يرجى أن يتجاوزها.

من المؤسف حقاً أن هذه التجربة السودانية بعيدة جدا من أية مشاركة عربية رسمية أو شعبية، بل بدا كأن حواضن الأمر من الخارج هي دول الغرب ودول أفريقيا جنوب الصحراء.

لا شك أن لتعامل النظام السوداني في هذا الصدد دخلا بهذه القطيعة ولكن ينبغي أن نقول أن للقصور العربي الحالي عن الدور القومي المطلوب دخلا في هذا التقصير.

إن للسودان دورا مفتاحيا في ثلاثة أمور تمس الأمن القومي العربي: حوض النيل- حوض البحر الأحمر- والعلاقات العربية الأفريقية.

إن الغياب العربي الحالي عن المشهد السوداني سيؤدي لقيام حقائق جديدة تضر بالسودان وتضر بالكيان العربي ويرجى انفعال الرأي العربي الشعبي والرسمي بذلك وتحركه بالسرعة والجدية اللازمة لاحتواء الأضرار وتحقيق المصالح.

أما بالنسبة للإصلاح الديمقراطي العربي فإنه يشهد أفضل فرصة في الوقت الراهن.

أما في السودان فإن احتمالات تحقيق السلام والمحافظة على وحدة البلاد ضمن معادلة جدية تحقق تحول ديمقراطي حقيقي احتمال كبير والسودان يمثل تربة خصبة للغاية للبيان الديمقراطي العربي، والمنبر الديمقراطي العربي، والتعاهد الثلاثي الرسمي المدني الدولي المنشود.