الإصلاح السياسي العربي

بسم الله الرحمن الرحيم

الإصلاح السياسي العربي

3 فبراير 2005م

 

بمقاييس الحكم الراشد القائم على المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون كانت أجزاء عريضة من العالم محرومة منه لا سيما في جنوب وشرق أوربا، وأمريكا الجنوبية، وجنوب شرق آسيا، وأفريقيا جنوب الصحراء، والعالم العربي.

وعبر تطورات تاريخية جرت في الثلث الأخير من القرن العشرين انتقلت غالبية تلك الدول إلى نظم دستورية ديمقراطية ليبقى العالم العربي عامة في ذيل العالم في مجال الحكم القائم على المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون.

الإصلاح السياسي الديمقراطي مطلب نادت به قطاعات شعبية عريضة في البلدان العربية ولكن صوته كان خافتا لخمسة أسباب أساسية هي:

الأول: الرؤى الأيديولوجية التي هيمنت على الطبقة السياسية كانت تعطي أولوية لأهداف أخرى أهداف التحرير والوحدة القومية، والعدل الاجتماعي الاشتراكي، والتأصيل الإسلامي، والتنمية الاقتصادية. وعندما تراجع دور الأيديولوجيات العلمانية بعد هزيمة يونيو 1967م تمددت المشروعات الإسلاموية وهي بدورها همشت المطلب الديمقراطي.

الثاني: ضعف منظمات المجتمع المدني الحزبية والنقابية وهي لبنات البناء الديمقراطي.

الثالث: الثقافة التقليدية السائدة التي تعتبر الديمقراطية أداة غزو ثقافي فكري غربي.

الرابع: القمع الذي مارسته النظم والحكومات ضد الديمقراطية وآلياتها.

الخامس: موقف قوى الهيمنة الدولية أثناء الحرب الباردة وبحث المعسكرين عن حلفاء لهما دون قيد أو شرط ما داموا حلفاء.

وبعد نهاية الحرب الباردة في 1989م تفجرت ثورة ديمقراطية في أوربا الشرقية ولكن في بقية أنحاء العالم لا سيما العربي وقفت الولايات المتحدة الأمريكية داعمة النظم الحاكمة باعتبارها الأفضل لحماية مصالحها وأهمها: النفط، وأمن إسرائيل، وحرية الممرات المائية والبرية والجوية عبر البلدان العربية.

هذه الصورة حطمتها أحداث 11 سبتمبر 2001م في نيويورك وواشنطن إذ تعرضت الولايات المتحدة لحرب غير تقليدية فانبرت تواجهها حرب عالمية ضد الإرهاب ومصادره. وصار واضحا للولايات المتحدة أن النظم الاستبدادية تفرخ الإرهاب ولا بد من إصلاح ديمقراطي يجفف هذا المصدر.

وجاء تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2002م يعلن موقفا ناقدا من نظم الحكم العربية ويحدد شروط التنمية البشرية وعلى رأسها الحكم الراشد القائم على المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون.

هذا التقرير صار بمثابة نداء معزز بحيثيات قوية لصالح التحول الديمقراطي في العالم العربي.

واعتمدت عليه المبادرة الأمريكية المسماة شراكة من أجل مستقبل مشترك في الشرق الأوسط الكبير. وعرضت على ملتقى قمة الدول الثمان في جزيرة البحر في يونيو 2003م وتسربت منها تفاصيل أزعجت بعض الدول العربية واعتبرتها تدخلا غير مشروع في شئونها الداخلية.

الدول العربية نفسها تداولت الأمر ووضعت تصورا مشتركا للإصلاح الديمقراطي في مؤتمر القمة العربي الأخير في تونس 24 مايو 2004م .

على ضوء الاعتراضات الرسمية العربية راجعت الولايات المتحدة صيغة مبادرتها وانتهى الأمر إلى اجتماع مشترك عربي/ دولي في المغرب في 12 ديسمبر  2004م أدى إلى تكوين منبر مشترك أطلق عليه منتدى المستقبل.

المبادرة الأمريكية مع ما صحبها من زخم إعلامي رجعت صدى المبادرة الأوربية التي أدت إلى الشراكة الأوربية المتوسطية التي جمعت بين أوربا ودول جنوب البحر الأبيض المتوسط. هذه المبادرة تهدف إلى إقامة منطقة سلام واستقرار وسوق حرة وتوفر دعما ماليا وتقنيا للدول الأقل نموا وتشترط التزاما قاطعا بالديمقراطية وحقوق الإنسان.

إن أمام المبادرتين الأمريكية والأوربية عقبة لا يرجى أن تتمكنا من اجتيازها وهي أن دول المنطقة المعنية ذات هوية جغرافية وثقافية معنية ولا يمكن إلغاء الهوية الثقافية لصالح الجغرافية وحدها. لا سيما بالنسبة للصراع العربي الإسرائيلي الذي لا يمكن لأية مشروعات تخص المنطقة الجغرافية أن تتخطاه. الحل العادل والشامل لهذا الصراع هو الشرط الأول لأية مشروعات خاصة بحاضر ومستقبل المنطقة.

أما بالنسبة لقضية الإصلاح السياسي فثمة الآن التصور الرسمي الذي قرره مؤتمر القمة العربي في تونس، وثمة سلسلة من المؤتمرات التي عقدتها قوى سياسية ومدنية عربية غير رسمية. هذه المؤتمرات أصدرت رؤى وبيانات أهمها وأشملها بيان الاستقلال الثاني “نحو مبادرة للإصلاح السياسي في العالم العربي” الذي نظمه مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في بيروت في مارس 2004م.

قرارات مؤتمر القمة العربي في تونس بشأن الإصلاح السياسي، وبيان الاستقلال الثاني يمثلان رؤيتين مختلفتين رؤية رسمية ورؤية شعبية. هذان الموقفان يمثلان ثنائية الداخل الرسمي والشعبي.

المبادرات الأوربية والأمريكية في المقابل تمثل ثنائية الداخل والخارج.

درج كثير من الكتاب والساسة على القول أن الإصلاح يجب أن ينبع من الداخل! أي داخل؟ الداخل الرسمي القاصر دون تطلعات الشعوب؟ أم الداخل الشعبي الذي تحاصره القيود، تحاصره القيود الرسمية وقيود شعبية تفرضها حركات الغلو الإسلامي.

كذلك ينبغي ألا نبالغ في الفصل بين الداخل والخارج فالدول العربية تسمح لنفسها باستيراد أشياء كثيرة من الخارج وسوف تصحب ذلك حتما عبر التعليم والإعلام مفاهيم سياسية. وبعض هذه المفاهيم السياسية في مجال حقوق الإنسان والحكم الراشد الذي يقوم على المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون مفاهيم إنسانية كلية ينبغي أن تستصحبها كل الثقافات لا سيما الثقافة الإسلامية التي تتطابق مبادؤها السياسية مع مطالب الحكم الراشد.

هنالك حاجة لنظرة جديدة لثنائية الداخل بين الرسمي والشعبي، ولثنائية الداخل والخارج نظرة تقوم على الحوار لا المواجهة الحوار الذي ينبغي أن يقوم على ثلاثة أضلاع: الضلع الرسمي، الضلع الشعبي، الضلع الدولي.

إن الموقف الرسمي والشعبي يجمعها ضرورة تجنب الصدام لأنهما في خندق واحد في وجه تيارات الغلو الإسلامي وفي وجه اختراقات الهيمنة الدولية.

في وجه الغلاة والغزاة ينبغي أن تتجه الحكومات والنظم إلى حوار جاد.

والقوى الدولية التي تدرك أن زمان الإملاء قد ولى وتأخذ الدرس من تجاربها عليها أن تأخذ الواقع الداخلي في الحسبان فالتجربة الأمريكية في العراق درس ذو فائدة عظيمة في إدراك القوة العسكرية مهما عظمت لحدودها.

هذا الحوار الثلاثي الأضلاع يمكن أن يؤدي لمفاهيم تصاغ بموجبها خريطة طريق للإصلاح السياسي العربي بتأييد رسمي وشعبي ودولي. إذا تحقق هذا فإنه يعالج الثنائيات ويستجيب لتطلعات الشعوب المشروعة وإذا تخلف هذا المشروع الراشد فإن الساحة سوف تباح لمشروعات الغلاة والغزاة الظلامية.