الإصلاح ومرجعيته وضرورته وآفاقه

الإمام الصادق المهدي
سماحة دولة الحبيب الإمام الصادق المهدي حفظه الله ورعاه رئيس حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله ورئيس الوزراء الشرعي والمنتخب للسودان وعضو مجلس التنسيق الرئاسي لقوى نداء السودان ورئيس المنتدى العالمي للوسطية والفائز بجائزة قوسي للسلام لعام 2013 وعضو المنظمة العربية لحقوق الإنسان وعضو اللجنة التنفيذية لنادي مدريد للحكماء والرؤساء السابقين المنتخبين ديمقراطياً والمفكر السياسي والإسلامي

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتدى العالمي للوسطية الإسلامية

بالتعاون مع وزارة الشؤون الإسلامية

المؤتمر الدولي: (الفكر الإصلاحي وسقوط خطاب العنف)

في الفترة ما بين (20-22/01/2012م)– موريتانيا

 

الإصلاح ومرجعيته وضرورته وآفاقه

بقلم: الإمام الصادق المهدي

7 يناير 2012م

 

(1) الدين بين الثابت والمتغير:

دين الله واحد قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ)[1] وهو المعنى الذي يفسره حديث النبي (ص): “َالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ”[2]. وجوهره هو: التوحيد- النبوة- المعاد- والعمل الصالح. ولكن اختلفت الشرائع باختلاف أحوال الزمان والمكان فكان الأنبياء يرسلون إلى قومهم.

رسالة محمد (ص) زادت على الرسالات الأخرى بأمرين مهمين: أنها كانت الخاتمة، وأنها كانت للناس كافة لا لقومه وحدهم. قال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)[3].

إن في الرسالة الخاتمة ثوابت مثلما في كل الرسالات مع إضافة ثوابت عبادية هي الشهادة – والصلاة- والزكاة- والحج لمن استطاع إليه سبيلا.

وفي رسالة الإسلام مجال واسع لاستيعاب مستجدات الزمان والمكان في أمر المعاملات وأهمها: ولاية الأمر، وشئون المعيشة، والعلاقات مع الآخر الملي والدولي.

لقد وردت في دفاتر الوحي نصوص حول هذه القضايا. نصوص انطلق منها المجتهدون فاستنبطوا أحكاماً بموجب قواعد القياس والاجماع.

اجتهادات أئمة الاجتهاد شملت كافة نواحي الحياة.

أهم أولئك الأئمة لدى أهل السنة الأئمة الأربعة:

أولهم: الإمام أبو حنيفة (ت 767م): وكان يعيش في بيئة العراق المنفتحة على الحضارات القديمة ومع اعتماده على الكتاب والسنة أصلاً للاحكام فإنه قال: إن للشريعة مصالح مقصودة من أجلها شُرعت، هذه المصالح أساس استنباط فيما ليس فيه نص. هذا الإمام تأثر في اجتهاده ببيئة العراق الأكثر انفتاحاً.

ثانيهم: الإمام مالك (ت 795م): الذي اعتمد في صياغة اجتهاده على روايات أهل المدينة معتمداً على المنقول من السنة، فاهتم بأحاديث النبي وألف فيها كتابه الموطأ، ولكثرة اهتمامه بمرجعية الأحاديث سمى اجتهاده باجتهاد أهل الحديث.

ثالثهم: الإمام الشافعي (ت 819): وقد كان أكثر المجتهدين منهجية فجمع أصول وقواعد الاستنباط وجعلها علماً مميزاً، وجعل الفقه تطبيقاً لتلك القواعد. وفي التطبيق إذ تأثر في اجتهاده بظروف البيئة صار له نمطان من الاجتهاد أحدهما في المدينة وقد كان أقرب لاجتهاد مالك، والآخر في مصر وقد كان اقرب لاجتهاد أبي حنيفة.

رابعهم: الإمام أحمد بن حنبل (ت 855 م): عاصر ابن حنبل تكاثر الآراء الوافدة وتقدم المنهج العقلاني الذي دعا إليه المعتزلة، هذه العوامل أفزعت الغيورين على سلامة العقيدة ما جعل اجتهاد أحمد بن حنبل أكثر تمسكاً بالنصوص والفهم الظاهري لها.

هنالك مجتهدون آخرون ولكن هؤلاء الأربعة كوّن مقلدوهم مذاهب، وإذا اتخذنا هذه المذاهب الأربعة انموذجاً لوجدنا كيف أن نهجها يصور تأثير ظروف الزمان والمكان والظروف الاجتماعية على اجتهاد أصحابها، ولأنهم كانوا يدركون أن اجتهاداتهم اجتهادات بشرية كانوا متواضعين فيقولون ما معناه: رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ويقولون لا تقلدنا بل خذ من حيث أخذنا أي من الكتاب والسنة، لذلك لم يكن أبو حنيفة حنفيا، ولا مالك مالكيا، ولا الشافعي شافعيا، ولا ابن حنبل حنبليا. ولكن هذا التمذهب جاء بعدهم تعصباً لهم، وتجسيد لهذا التمذهب والتعصب جاء في جوهرة التوحيد:

ومالك وسائر الأئمة وأبو القاسم هداة الأمة

فواجب تقليد حبر منهم كذا قضى القوم بقول يفهم

هذا النهج هو أساس مقولة قفل باب الأجتهاد سبب الركود الفكري الذي حنط الأمة.

 

(2) الاستبداد والركود ثم الاحتلال:

وفي المجال السياسي، وبعد الاضطراب الذي صحب الفتنة الكبرى تأثر والي الشام معاوية بالتجربة البيزنطية في ولاية الأمر واستمع لنصيحة المغيرة بن شعبة: “قد شهدت ما كان من أمر الفتنة وسفك الدماء ومن يزيد بعدك خلف فأعقد له ولا تكون فتنة ولا سفك دماء”. هذا التقليد صار متبعا، فأدى الولاء للخلفاء الذين هم ملوك بني أمية، أو بني مروان، أو بني العباس أو العثمانيين، والصفويين، والمغول إلى الركون لطاعة المتغلب على نحو ما قال ابن حجر العسقلاني: “أجمع الجمهور على طاعة المتغلب والقتال معه”.

لقد صار المطلب الديني هو اتباع المذهب تقليدا، وطاعة المتغلب في أمر الحكم وولاية الأمر.

الركود الفكري والاستبداد قتلا حيوية الأمة وصنعا فيها حالة الاستعداد للاحتلال الأجنبي الذي تمدد على أرض المسلمين وأخضعها لسلطانه بلدا بلدا.

أوربا كانت في ظلام عصورها الوسطى، ولكن الفكر والحضارة الإسلامية التي تمددت فيها عبر أسبانيا أيقظتها يقظة استمرت حتى شهدت أوربا ثلاث ثورات نقلتها إلى الحضارة الحديثة:

· ثورة فكرية ثقافية أدت إلى حرية الاجتهاد الفكري وإلى حرية البحث العلمي.

· ثورة سياسية أدت لتحرير الشعوب من وصاية الحكام.

· وثورة اقتصادية أدت إلى تنمية اقتصادية صناعية.

هذه العوامل جعلت الدول الأوربية قوية بصورة غير معهودة فاخضعت العالم لسلطانها في العالم المعمور واستولت على المناطق غير المعمورة.

في وجه الاحتلال الأجنبي نهض مصلحون ومجددون في كل أرجاء الأمة نادوا بالعودة للكتاب والسنة تحررا من التقليد الذي فرضه التمذهب، ونادوا بالخروج عن سلاطين الجور تحررا من الاستبداد.

ولكن على الصعيد الفكري والثقافي كان للحضارة الغربية الغازية أثرا كبيرا على الأمة فانقسم موقفها منها إلى ثلاثة أقسام هي:

· الرفض التام للحضارة الغربية من منطق أن في تراثنا ما يكفينا فالحضارة الوافدة إن طابقته فلا حاجة لها وإن ناقضته فلا مشروعية لها .

· التسليم التام لها من منطق أن تراثنا هو الذي قعد بنا وحبسنا في الماضي والحضارة الغربية هي مستقبل الحضارة الإنسانية الذي لا يقاوم.

· موقف ثالث يوفق بين ثوابت الدين ومنافع العصر الحديث.

 

(3) الفهم الصحيح لقضية الإصلاح

من الناس من يرى أن الإصلاح هو الرفض التام للحضارة الحديثة والدعوة لبعث الأمة بالعبور إلى الجذور، الاصلاح إذن بعث ماضوي يعتبر كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة صاحبها في النار.

آخرون يرون على النقيض أن الإصلاح هو إحداث قطيعة معرفية بالماضي واستصحاب الحضارة الحديثة حذوك النعل بالنعل.

ولكن الفهم الصحيح للإصلاح هو أنه حركة تصد لتغيير الواقع المحيط بنا بمشروع نهضوي يتعامل مع الوافد إلينا من الماضي بتأصيل دون انكفاء، ويتعامل مع الوافد من التجارب الإنسانية الحديثة بتحديث دون استلاب.

الحقيقة هي أن هامش الالتزام بمبادئ وأحكام الدين واسع من:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[4] إلى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[5].

· من (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)[6] إلى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ)[7].

· من النهج المكي إلى النهج المدني.

من قوله تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[8] إلى قوله: (مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[9]

كذلك هامش استصحاب التعامل مع الوافد من الخارج من استصحاب النافع من الحضارة الحديثة إلى الاستلاب ومقولة: علينا قبول الحضارة الغربية بخيرها وشرها!

 

(4) مرجعية الإصلاح: أدوات الاجتهاد وقاعدة ابن القيم

التأصيل اتباعا لقطعيات حقائق الوحي واجب ديني، ولكنه واجب لا يعرف إلا اجتهادا، وهذا الاجتهاد لا ينبغي أن يقوم على فهم ظاهري للنصوص بل على فهم تدبُري لها كما قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[10] إذا تدبرنا النصوص لوجدنا أنها بعد ختم الرسالات برسالة محمد (ص) صارت الأمة مكلفة ببيان الواجب الديني. هذا التكليف يخرج من إطار الاجتهاد الصوري المحصور في القياس والاجماع، فالقياس لا يطابق، والاجماع في غير الثوابت مستحيل. أدوات الاجتهاد التي تمكننا من التعامل مع المستجدات في إطار أهل السنة هي: المقاصد- العقل- المنفعة – الإلهام- والسياسة الشرعية.

أما المقاصد: فمشروعيتها هي قوله تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)[11]. التفسير الصحيح لأم الكتاب أي مقاصد الكتاب لأن أمّ معناها قصد أما العقل فقد قال تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[12]، وتكثر الآيات التي تحث على التفكر وهو نشاط العقل، وعلى المطالبة بالبرهان، والشريعة كما قال الإمام الشاطبي تشترط العقل فيمن تطبق عليه فلا تسري على الطفل أو المجنون ولا يجوز أن تشترط العقل ثم تخالفه، قال: “كل ما أوجبه الشرع أجازه العقل”.

أما المنفعة: فقد قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ)[13]، وقال النبي (ص): ” لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ”[14].

أما الالهام: فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[15]، وقال النبي (ص): “اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله”.

وفي أمر السياسة الشرعية: وضع القرآن موجهات عامة بقوله: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ)[16]. وكل إشارة للحكمة، والقسطاس، والميزان، إنما تشير إلى استهداف العدل والإصلاح وإن لم يرد به نص. الحكمة هي تدبر الأمور ومزاوجة الواجب والواقع، عكس الإفراط والتفريط. هذه مسألة تعرض لها الإمام ابن القيم مستشهدا بمقولة ابن عقيل: السياسة ما كان فعلا يكون فيه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي. قال ابن القيم مشيرا لمشروعية هذا النهج : “هذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام ومقام ضنك ومعترك صعب فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق، وجرأوا أهل الفجور علي الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها مع علمه وعلمهم وعلم غيرهم قطعا: أنها حق مطابق للواقع ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول وإن نفت ما فهموه هم من شريعة باجتهادهم.

والذي أوجب ذلك نوع تقصير في معرفة الواجب وتقصير في معرفة الواقع. وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأي ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمر إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياساتهم شرا طويلا وفسادا عريضا، فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك واستنقاذها من تلك المهالك”.

أي أن ابن القيم وضع قاعدة في أمر النهج الفقهي الصحيح وهو ضرورة الاحاطة بالواجب اجتهادا، وبالواقع إحاطة والتزاوج بينهما أي أن هنا حركة مستمرة للاحياء الديني وأكد أن الفهم الجامد لمطالب الشريعة أدى لتعطيلها وفتح الباب للخروج منها.

 

(5) ما هي ضروة الإصلاح في ظروفنا الحالية؟

مثلما نحن مطالبون بمعرفة حقائق الوحي المنزلة والتعامل معها بمنطق التدبر لأنها تمثل الحق المنزل، قال تعالى: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)[17]؛ فإننا كذلك مطالبون بالإحاطة بحقائق عالم الشهادة أي الكون الطبيعي لأنه من آيات الله، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ)[18]، وهو كون مؤسس على سنن واجبنا أن ندركها ونسخرها لمقاصدنا، قال تعالى عن تلك السنن: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[19].

ونحن كذلك مطالبون بالإحاطة بكافة التجارب الإنسانية قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[20].

وجاء في الأثر: “الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها”.

 

إن في الحضارة الإنسانية الحديثة جوانب مشرقة في جوانب كثيرة أهمها:

· حرية البحث العلمي والتكنولوجي الذي بموجبه سخّر الإنسان قوى الطبيعة لأغراضه، حرية البحث العلمي في عالم الشهادة توجيه رباني وهو متاح لكل بني آدم وقد حققت الحضارة الحديثة في ذلك فتوحات رائعة. إن استصحابنا لحرية البحث العلمي والتكونولوجي والعمل على توظيف التكنولوجيا في أوطاننا ضرورة حياتية فإن نحن قصرنا فيها لا نستطيع تسخير قوى الطبيعة لمقاصدنا ولا أن ننافس مجتمعات جعلت التكنولوجيا والنظم الحديثة قدراتها المادية أضعافا مضاعفة. بين السيف والصاروخ النووي بون شاسع يجعلنا أسرى للتفوق التكنولوجي إن نحن لم نأخذ بأسباب التطور العلمي والتكنولوجي.

· ومع أن ديننا ينص للإنسان على حقوق متفرعة من خمسة أصول هي: الكرامة، والحرية، والعدالة، والمساواة، والسلام؛ فإن التجربة الإنسانية الحديثة من منطلقات بشرية اهتدت لنفس تلك الأصول وطورتها في شكل معاهدات ومواثيق تطابق ولا تناقض ما عندنا على نحو ما قال شاعر النيل حافظ إبرهيم:

أيُّ شَيءٍ في الغَربِ قَد بَهَرَ الناسَ جَمالاً وَلَم يَكُن مِنهُ عِنـدي

إن استصحابنا لهذه المعاهدات والمواثيق يطابق ولا يناقض حقائق الوحي وهي حقائق وثقنا لها في كتابنا “الإنسان بنيان الله”.

· حقائق الوحي الإسلامي تقيم ولاية الأمر على المشاركة (وأمرهم شورى بينهم) وعلى المساءلة (الدِّينُ النَّصِيحَةُ)[21] وعلى الشفافية (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ)[22] وعلى سيادة حكم القانون “لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا”[23]. ولكن الاستبداد الذي بسط سلطانه على الأمة غيب هذه المبادئ. التجربة الإنسانية السياسية الحديثة أقامت نظم حكم تحقق هذه المبادئ وتحفظها عبر مؤسسات.

إن مواثيق ومعاهدات حقوق الإنسان ونظم الحكم الحديثة التي تقوم على المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون ضرورية لتحرير الشعوب من الحكم المطلق الذي يضع ولاية الأمر في يد أفراد فيفتح أبواب الفساد لأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.

حقائق الوحي الإسلامي بالفهم المقاصدي لها تقيم العلاقة بين الملل على أساس التسامح والتعايش قال تعالى عن أهل الكتاب: (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ)[24] وقال: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[25] كذلك تقيم العلاقة مع الآخر الدولي على أساس: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[26]. إن إقامة العلاقات الدولية على أساس نظام عادل يقوم على معاهدة توجب التعاون في سبيل المصالح المشتركة وتمنع العدوان أمر ضروري لا سيما في عالم مدجج بأسلحة الدمار الشامل القادرة على تدمير كوكب الأرض.

وبالإضافة للعوامل التي توجب إقامة علاقتنا الدولية على أساس معاهدات التعاون والسلام، فإن بلداننا لا تخلو من وجود جماعات وطنية مختلفة دينا أو ثقافة من الأغلبية، ما يوجب مراعاة حقوقها في المواطنة، وهي حقوق يراها ديننا الذي يعترف بالتنوع كحقيقة كونية (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)[27].

ويعيش ثلث أمتنا في دول أغلبياتها مختلفة، ولا يحفظ حقوقهم الدينية والثقافية إلا عهد المواطنة على سنة النبي (ص) عندما أبرم مع أهل المدينة صحيفة المدينة.

فكر المسلمين القديم قسم العالم على أساس دار سلام ودار حرب، واعتبر الكفر علة للقتال ما سموه جهاد الطلب، هذا الفهم للعلاقات الدولية ليس صحيحا فعلة القتال في الإسلام ليست اختلاف الدين بل العداوان: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[28] وقوله: (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[29]. إن الذين ينادون بعلاقات دولية تقوم على أساس الحرب على كل أهل الملل الأخرى وجهاد الطلب يتخذون مواقف تتعارض مع الفهم الصحيح للإسلام، كذلك الذين ينادون بنظم حكم ماضوية ونظم اقتصاد بائدة.

الإصلاح ضرورة حياتية لتجنب هذا الانتحار الديني والثقافي: انتحار ديني لأنه يضع الإسلام في مواجهة التطور الإنساني الذي تحث عليه مبادئ الإسلام إذا فهمت فهما صحيحا، وانتحار ثقافي لأنه يحشر ثقافتنا في علبة خارج التاريخ.

 

(6) آفاق الإصلاح في عالمنا:

كثير من آيات الكتاب تعِد الأمة بخير آت قال تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)[30] وقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[31]، ومع ذلك فإن هذه النصوص لا تنطق، إنما ينطق بها الدعاة المجددون المصلحون: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[32] وقوله تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ)[33].

ولكن أكثرية الدول الإسلامية لا سيما العربية وقعت تحت نير حكام طغاة انفردوا بالحكم وغيبوا المشاركة، وأذلوا كرامة المواطن، وأخضعوا المجتمعات لظلم اجتماعي غاشم، وبطشوا بالمصلحين الإسلاميين واللبراليين وغيرهم، ووضعوا بلدانهم تحت وصاية أجنبية.

النظام الظلامي الشرق أوسطي قام على ست:

· حزب أو عشيرة منفردة بولاية الأمر.

· أمن مطلق اليد على الناس لإخضاعهم.

· إعلام طبال.

· لا مساءلة وبالتالي فساد مستحكم ونهب للأموال.

· اقتصاد محابي للمحاسيب وحاضن للفوارق الاجتماعية.

· ركون لحماية أجنبية.

هذا الظلم هو أكبر محرض للاحتجاج والثورة. فانبرى شباب ألموا بوسائل الاتصال الحديثة فاستعصى أمر اكتشافهم على أجهزة الأمن في بلدانهم فأشعلوا شرارة انتشرت على نطاق واسع وحركت تجمعات احتجاج مليونية تصدت لحكم الطغاة.

حركة الثورة الديمقراطية العربية في تونس امتدت لمصر ثم لبلدان أخرى.

كان نجاح الثورات في تونس ثم في مصر سلساً، لكنه في البلدان اللاحقة واجه مقاومة لأن الحكام استعدوا لقمعه فتحول الأمر إلى حروب أهلية. ولكن الشعوب كسرت حاجز الخوف واكتسبت ثقة في نفسها واكتشفت سلاحا ماضيا هو الدروع البشرية والكاشفات الإعلامية والمساندة الدولية لحقوق الإنسان.

هذه الثقافة التحررية الجديدة متماهية مع موجة التاريخ في اتجاه انعتاق الشعوب ولن تخبو بل مرشحة لتعم المنطقة بحيث تتجه نحو التحول الديمقراطي حتى في البلدان الملكية التي إن اتخذ الملوك فيها مواقف واعية، يمكنهم المحافظة على عروشهم ضمن صيغة الملكية الدستورية كما حدث في بعض الدول الأوربية.

إن رسوخ الأشواق الإسلامية في النفوس، وإخفاق التجارب الوضعية، وتعرض دعاة الإصلاح الإسلامي للقهر، عوامل أدت وسوف تؤدي لانتصارات انتخابية للحركات الإسلامية حيثما تتيح الحرية للشعوب التعبير عن تطلعاتها بحرية.

إن الذي أدى إلى شعبية التطلع الإسلامي ثلاثة عوامل مهمة هي:

· جاذبية الوعد الإسلامي.

· إخفاقات التجارب الحديثة في بلداننا وقد مورست في الغالب تحت نظم ترفع شعارات قومية أو اشتراكية ذات توجهات وضعية.

· نظم الطغاة ساهمت في دعم شعبية التوجهات الإسلامية لأنها بطشت بأصحابها واستخدمتهم فزاعة للآخرين لا سيما للقوى الخارجية الغربية.

إن التحدي الذي يواجه القوى السياسية ذات المرجعية الإسلامية يدور حول سبعة ملفات هي:

أولا: المطلوب تبني فكر يوفق بين التأصيل والتحديث ويجيد إدرة التنوع الديني والثقافي في المجتمع. هذا التحدي قوبل في تونس بكفاءة عالية، ويتوقع في المغرب، ويرجى أن يحدث في مصر مع صعوبته لوجود استقطابات حادة.

ثانيا: تحقيق الحكم الراشد الذي يقوم على المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون.

ثالثا: اتخاذ نظام اقتصادي يحقق التنمية والعدالة في توزيع ثمارها. تحقيق الطفرة التنموية المطلوبة بقدرات ذاتية صعب جدا، والاسرة الدولية اعلنت رغبتها في دعم الربيع العربي اقتصاديا ولكن لن يتحقق ذلك بالقدر المطلوب مع انتصار التيارات الإسلامية والغرب على أية حال يمر بظروف اقتصادية صعبة. يمكن لهذا الأمر أن يجد دعما من الدول العربية الثرية ولكن هذا يشترط أن يكون موقفها من التغيرات الثورية العربية ايجابيا هذا شرط يصعب توافره وربما اهتمت بدعم الثورة المضادة.

رابعا: التوفيق بين المصالح القطرية والقومية العربية، والقارية الأفريقية أو الآسيوية، والأممية الإسلامية؛ بصورة تحقق تكاملا بين حلقات الانتماء المشروع المذكورة.

خامسا: الاستقطاب الداخلي. هنالك فرق كثيرة في الجسم الإسلامي أهمها ثلاثة: أهل السنة – الشيعة- الصوفية. الغلو في مواقف هذه الفرق سوف يخلق استقطابا ذميما في الجسم الإسلامي تستغله الهيمنة الدولية لتمزيق الأمة كما حدث في العراق، ولبنان ويمكن أن يحدث على النطاق الأوسع. والتحدي هو كيفية التعامل مع ملفات الغلاة وهم نوعان، غلاة العلمانيين الذين قال باسمهم د. مراد وهبة إن للديمقراطية أربعة شروط إذا لم تتوافر فهي لن تتحقق وهي:

· العقد الاجتماعي ومعناه هدم مبدأ أن الحاكم يستمد سلطته من الله.

· العلمانية ومعناها أن لا سلطان للعقل إلا العقل.

· اللبرالية ومعناها أن سلطة الفرد فوق سلطة المجتمع.

النوع الثاني من الغلاة هم غلاة الانكفاء الإسلامي، بعض الناس يسميهم سلفيين ولكن العودة للسلف بالمعنى الحقيقي هي عودة لمرحلة المدينة الفاضلة وصحيفة المدينة وسائر ممارسات نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، ولكن هؤلاء مرجعيتهم إلى رؤية ماضوية تمقت التفكير وهو واجب ديني وفطرة إنسانية وتعتبر التفكير كالتكفير، مرحلة تتمسك بظاهر النصوص في رفض للتوجيه الرباني: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[34] وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا)[35] هؤلاء يكفرون الديمقراطية، ويوجبون نقاب المرأة عبادة لا عادة، ويجعلون الاختلاف في الدين علة للقتال.

سادسا: إدارة العلاقات الخارجية مع الآخر الدولي والإقليمي على أساس التعاون وحفظ السلام.

سابعا: الالتزام بالسلام العادل والحرص على تحقيقه حيثما توجد نزاعات.

إن التصدي لهذه القضايا السبع بنجاح هو أخطر ما سيواجه القوى السياسية ذات المرجعية الإسلامية في قيادة بلدانها.

لقد ثبت في كثير من الحالات أن الحركات الإسلامية السياسية عالية الكفاءة في إدارة حركات المعارضة، والمقاومة، والاحتجاج. ولكن كفاءتها في إدارة شئون الحكم والاقتصاد والعلاقات الخارجية متدنية.

إن القوى الإسلامية التي سوف تقدم على الحكم بموجب الانتصارات الانتخابية سوف تجد فرصة ذهبية للتعبير عن كفاءتها ومواجهة التحديات المذكورة بنجاح، وأمامها دروس من تجارب حديثة يمكنها الاستفادة منها:

· في باكستان ربط الحكم الانقلابي بين سلطانه وتطبيق الشريعة فأفسدت الانتهازية التجربة.

· إن الانقلاب العسكري في باكستان كما في السودان وسيلة خاطئة لتطبيق الإسلام لأنها تجافي منهاج الإسلام وقد حرّمها الإمام الألباني.

· التجربة السودانية ربطت بين الإسلام وإهدار حقوق الإنسان في الكرامة، والحرية، والعدالة وهي فرائض الإسلام السياسية التي لا يجوز إهدارها.

· التجربة الإيرانية قيدها انتماؤها المذهبي والالتزام بولاية الفقيه، هناك ضرورة للاعتراف بأن أهل السنة في المناطق الشيعية لا ينالون حريتهم وحقوقهم المشروعة، كذلك حال الشيعة في المناطق السنية، ومنذ الثورة الإسلامية في إيران حدثت صحوة شيعية هائلة توجب علينا جميعا العمل على ميثاق تعايش في ظل ميثاق إسلامي جامع. نعم هنالك عقبتان ينبغي الحوار لتخطيهما: الأولى: هي مقولة شيعية: إن من لا يؤمن بالإمامة ليس مؤمنا. ولكن آخرين يرون – مثلا السيد علي الأمين- أن نلتزم جميعا بالثوابت المجمع عليها: التوحيد- والنبوة- المعاد- والعمل الصالح- واعتبار ما عداها خلافات مذهبية تلزم أصحابها لا غيرهم.

وكذلك مسألة ولاية الفقيه في كل الأمور، والصحيح حصرها في الأمور العبادية، أما المعاملات فأمرها ولاية الأمة كما قال كثيرون من الشيعة – مثلا- آية الله منتظري.

· التجربة التركية مع ما فيها من إيجابية التخلي عن علمانية معادية للدين لعلمانية معتدلة، فإنها لا تصلح في غير ظروف مشابهة.

· التجربة التونسية وهي في بداية الطريق تبدو واعدة في إمكانية التصدي للتحديات المذكورة بنجاح. الدرس من التجربة التونسية مفيد لأنه استصحب التعددية، والسبب هو استنارة قيادات البلاد الشعبية: قيادات التيار الإسلامي الأكبر، والتيارات الأخرى اللبرالية، والاشتراكية. في مستهل التسيعنات زار الشيخ راشد الغنوشي السودان وزارني ليحثني على تأييد نظام الحكم السوداني الذي أسسه انقلاب يونيو 1989م. واختلفت معه بحجة أن هذا النظام أساء للإسلام بربطه بإهدرا كرامة الإنسان، وكبت الحريات العامة، ونفي العدالة؛ ولكن في العشرين عاما التالية ذاق الشيخ راشد مرارة الظلم على يد حكام تونس، وانفتح على تجربة غربية تكفل حقوق الإنسان، واتجه هو والمعارضون التونسيون الآخرون لكتابة وثيقة استطاعت أن تمهد للم شعث الفرقاء في الوطن تحت مظلة جامعة.

 

(7) آفاق رسالة الإسلام الإصلاحية

إن أمر الإسلام لا يقف عند حد الدول الإسلامية لأن رسالة الإسلام للناس كافة، ولا يجوز نشر الإسلام بالقوة لأنه تعالى يقول: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[36] وهو بالإضافة لذلك مستحيل، والتوجيه القرآني: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[37].

إن للشعوب في البلدان الإسلامية حقوقا كثيرة في الحكم الراشد، وفي التأصيل والتحديث، وفي العدالة الاجتماعية، وفي علاقات دولية تقوم على الندية والمصالح المتبادلة، وفي السلام العادل، وقد عجزت الأيديولوجيات الوافدة التي سيطرت على البلدان الإسلامية في الوفاء بها كما عجزت الأيديولوجيات القومية، وكما عجزت ممارسات كثيرة ترفع الشعار الإسلامي ولكنها تحقق عكس مقاصد الشريعة.

ولكن نظم الاستبداد الأشهر في المنطقة مارست قهرا تحت رايات الاشتراكية والقومية أي رايات أيديولوجيات وضعية، واستهدفت كل مقاومة لا سيما المعارضة الإسلامية، وفي حملتها ضد الحركات الإسلامية استخدمتها كفزاعة تخيف الجماعات الوطنية الدينية والتيارات اللبرالية بأن حكمهم هو الأفضل لهم من حكم الجماعات الإسلامية، ونفس الاسلوب استخدم لإخافة الأسرة الدولية لا سيما الغربية المهيمنة على السياسة الدولية بأن الإسلاميين إذا حكموا سوف يشكلون خطرا كبيرا على السلام والاستقرار الدولي.

ولكن وبعد الثورات الديمقراطية التي عمت المنطقة ظهر جليا أن الشعوب إذا حصلت على حريتها فإنها سوف تعبرعن تطلعاتها الإسلامية.

إن ما تواجهه القوى السياسية الإسلامية الحائزة على ثقة الشعوب هو أن تجتهد في تلبية استحقاقات الشعوب وإثبات أن هداية الإسلام هي الأجدى لحل المشاكل المزمنة.

إن رسالة الإسلام للناس كافة ولكن نشر الإسلام بالقوة كما يتوهم بعض المسلمين ينافي مبادئ الإسلام نفسها إذ يقول تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[38] وهو على أية حالة مستحيل مع ضعف المسلمين الحالي، وحتى في عهد قوة المسلمين فكما أثبت السير توماس آرنولد فإن الحرب دارت سياسا بين الدول ولكن لم ينتشر الإسلام بالقوة.

إن دين الإسلام وفق معطيات محكمة مؤهل ليصير دين الإنسانية، مقولة محمد أسد ما زالت صحيحة إذ قال: “رغم العقبات التي خلفها تأخر المسلمين، فإن الإسلام هو أعظم قوة تنهض بالهمم عرفها الإنسان”. وقال أيضا: “إن للإسلام جاذبية شديدة وقدرة على استقطاب الباحثين عن الحقيقة”.

 

أقول: إن لجاذبية الإسلام بالإضافة للطف الله وعنايته أسبابا واضحة هي:

أولا: لأنه الدين الأكثر وضوحا في عقيدة التوحيد لله.

ثانيا: لأن القرآن هو الكتاب المحفوظ نصه منذ دون كتاب الوحي على لسان النبي محمد (ص).

ثالثا: لأن النبي محمد (ص) رسول لا لبس في بشريته، وأميته دليل على أن الكتاب الذي أملاه على كـُـتّاب الوحي من مصدر عليم. وهي حجة قوية أثبتها القرآن: (لَّوْ شَاء اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)[39]، كما أن تفاصيل حياته معلومة دون غموض: متى وأين ولد، ومتى وأين توفى، وماذا قال وفعل؟

رابعا: واعتمدت الرسالة أسلوبا عقلانيا في بث حقائقها تجنبا لاساليب الرسالات الأخرى قال تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ)[40].

خامسا: ومثلما حرصت رسالة الإسلام على بث كتابها المنزل، حثت على معرفة حقائق الكتاب المنشور أي الطبيعة وتسخيرها للبشر.

سادسا: ورسالة الإسلام تشبع ضرورات الإنسان العشر: روحية، مادية، عاطفية، معرفية، أخلاقية، اجتماعية، جمالية، ترفيهية، رياضية، وبيئية.

سابعا: والإسلام يعترف بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان ويعترف بالتنوع البشري والتعدد الديني ويوجب الدعوة لحقيقته على أساس (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[41].

هذه الحقائق شدت كثيرين من غير المسلمين من الغربيين والأمريكان للإسلام فدونوا في كتبهم ذلك.

إن مناخ حقوق الإنسان وتوافر حرياته هو أفضل مناخ لانتشار الإسلام بقوته الذاتية مثلما حدث في المدينة وقالت السيدة عائشة عن تلك الظاهرة إن المدينة فتحت بالقرآن.

وفي هذا المجال فإن الغيورين على الإسلام عليهم تحقيق أمرين:

الأول: مقولة النبي (ص): “يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ”[42]

الثاني: تقديم القدوة الصالحة فإن الأعمال أبلغ أنواع المرافعة في أية قضية.

______________________________________________________________________________

 

الهوامش

 

[1] سورة الشورى الآية (13)

[2] الإمام أحمد بن حنبل

[3] سورة الأعراف الآية (158)

[4] سورة آل عمران الآية (102)

[5] سورة التغابن الآية (16)

[6] سورة المائدة الآية (44)

[7] سورة النساء الآية (77)

[8] سورآل عمران الآية (85)

[9] سورة النحل الآية (106)

[10] سورة محمد الآية (24)

[11] سورة آل عمارن الاية (7)

[12] سورة البقرة الآية (242)

[13] سورة الحج الآية (78)

[14] سنن بن ماجة

[15] سورة الحديد الآية (28)

[16] سورة البقرة (269)

[17] سورة الإسراء الآية (105)

[18] سورة الحجر الآية 85)

[19] سورة طه الآية (50)

[20] سورة يوسف الآية (111)

[21] مسند ابن حنبل

[22] سورة البقرة الآية (283)

[23] صحيح مسلم

[24] سورة آل عمران الآيتان (113، 114)

[25] سورة النحل الآية (125)

[26] سورة الممتحنة الآية (8)

[27] سورة الروم الآية (22)

[28] سورة الحج الآية (39)

[29] سورة التوبة الآية (13)

[30] سورة الانبياء الآية (105)

[31] سورة النور الآية (55)

[32] سورة آل عمران الآية (104)

[33] سورة الأنعام الآية (89)

[34] سورة محمد الآية (24)

[35] سورة الفرقان الآية (73)

[36] سورة البقرة الآية (256)

[37] سورة النحل الآية (125)

[38] سورة البقرة الآية (256)

[39] سورة يونس الآية (16)

[40] سورة الإسراء الآية (59)

[41] سورة النحل الآية (125)

[42] رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ