الإمام الصادق المهدي: لماذا أنا مسلم؟

الإمام الصادق المهدي
الحبيب الإمام الصادق المهدي حفظه الله ورعاه زعيم حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله وآخر رئيس وزراء شرعي ومنتخب للسودان ديمقراطياً

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

لماذا أنا مسلم؟

الإمام الصادق المهدي

غرة رمضان 1441هـ، أبريل 2020م

 

 

عرفت البشرية مئات الآلاف من الثقافات، ومع تنوعها ففيها دائماً ثلاث ظواهر متكررة: لغة أو لهجة تفاهم، وملة غيبية، وأساليب لكسب المعيشة.

الملة الغيبية قد تكون سحراً أو وثناً أو إلهاً أو أجرام طبيعية أو قداسة أسلاف، وهلم جراً.

في دراسة مقارنة الأديان ربط علماء مجتمع غربيون بين ديانة الجماعة ومستواها الاجتماعي كما فعل ماكس فيبر في كتابه سوسيولوجيا الدين. آخرون من فلاسفة عهد التنوير الأوربي ربطوا ما بين المستوى العقلي والديانة، كما فعل أوغست كومت الذي قال إن الإنسان في مرحلته البدائية يتخذ عقائد سحرية، ثم تتطور العقائد لتصير عقائد إلهية، ثم تنمو معارفه العلمية فيتخلى عن الديانات لكي يدبر مصيره العلم.

هذه قراءات نظرية بهرت كثيرين حتى أن الكاتب المصري الشهير نجيب محفوظ تبناها في روايته أولاد حارتنا.

ومع هذه المقولات فإن تاريخ البشرية الفكري والثقافي خالف هذا التنظير، وسوف أتطرق فيما بعد لتاريخ الإنسانية ما بين الدين واللا دين، وأثبت أن الدروس المستفادة في هذه المجالات في النقاط الآتي بيانها:

1) هنالك عوامل جعلت الإنسان في كل مراحل حياته يؤمن بعقائد تتعلق بما في وراء الطبيعة من غيب هي:

  •  كيف بدأ الوجود الكوني؟
  •  كيف دبت الحياة في الوجود؟
  •  كيف ظهر الإنسان في الوجود؟
  •  ما هي مرجعية الأخلاق؟
  •  ما هو مصير الحياة والكون؟

هذه الأسئلة لا توجد إجابات عقلية ولا تجريبية لها، لذلك تجيب عليها عقائد حول الغيبيات.

2) الحضارة الأوربية متداخلة مع الحضارة الإسلامية في المراحل المختلفة. كذلك الأديان الإبراهيمية تتداول قصصاً مشتركة.

المسيحية، وهي منسوبة للسيد المسيح عليه السلام، كانت في بدايتها طائفة يهودية، ولكن القديس بولص بمعارف دينية غير سامية طورها بصورة جعلتها هي الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية. وفي هذا الطور تقدم سلطان الكنيسة ليصير سلطاناً ثيوقراطياً كاملاً. صارت مؤسسة الكنيسة مركز السلطان السياسي والثقافي والمعرفي.

الثقافة الأوربية نهلت من الفلسفة اليونانية القديمة وتأثرت بفكر مستقل عن الكنيسة وافد من الحضارة الإسلامية، ورفدتها حركة تنوير مستقلة عن الكنيسة. وصل النزاع الكنسي بين الكاثوليك والبروتستانت إلى طريق مسدود بعد حروب طاحنة، فعقدوا صلح وستفاليا في 1648م. وشهدت الحضارة الأوربية ثورات سياسية كالثورة الفرنسية، واقتصادية كالثورة الصناعية البريطانية، وفكرية ألمانية.

الاتجاه الموحد الذي صبت فيه هذه الرؤى هو إسقاط السلطان الثيوقراطي كما تجسده الكنيسة. وبما أن سلطانها لاهوتي فإن الثورة عليها قالت إن الحقيقية ليست غيبية بل حاضرة في هذا العالم الزماني المكاني، وهذا هو معنى سيكولارزم أي الحقيقة الدهرية. هذه هي الرؤية التي تبناها كثير من فلاسفة عصر التنوير الأوربي.

3) منذ بداية الصدر الأول في ثقافتنا الإسلامية نشأ تباين بين الاجتهاد النقلي والاجتهاد العقلي. هذا التباين زاد حدة لدى اطلاع المسلمين على الفلسفة اليونانية كما نقلتها دار الحكمة التي أمر بإنشائها الخليفة المأمون.

حاول الفلاسفة المسلمون منذ الفارابي والآخرون التوفيق بين المنقول والمعقول. كانت أكثر المحاولات في هذا الصدد نبوغاً ما جاء في كتاب ابن رشد “فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”. وقام مذهب المعتزلة بعقلنة نصوص الشريعة الإسلامية. كان أبو حامد الغزالي قبل كتاب ابن رشد قد تطرق لإبطال محاولات الفلاسفة المسلمين في كتابه “تهافت الفلاسفة” الذي رد عليه ابن رشد بكتابه “تهافت التهافت”، وهكذا دواليك.

الفلسفة الألمانية هي الأكثر نبوغاً في الفلسفة الأوربية، وكان الفيلسوف الألماني عمانويل كانط أهدى المفكرين لمعادلة صائبة بين المعارف العقلية والتجريبية، وواقع العقائد الغيبية. أكد كانط صحة المعرفة العقلية والتجريبية، ولكنه قال هنالك أمور في الواقع كالقانون الأخلاقي ينبغي الاعتراف بها كحتميات عملية.

4) وفي الواقع التاريخي تآزر فلاسفة عهد التنوير للانتصار للسكيولارزم (الدهرية أو العلمانية). ولكن تكررت ظاهرة وهي أنه حيثما طردت التوجهات الدينية حدث رد فعل مضاد أنعش الأصولية الدينية.

العولمة وقد صارت علماً لانتصار العلمانية أحدثت ردة فعل مضادة ما جعل النصف الثاني من القرن العشرين يشهد انتعاشاً في أصوليات كل الأديان.

في أمريكا انتعشت الأصولية الإنجيلية وصارت من روافد دعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وفي روسيا انتعشت الأرثوذكسية وصارت من روافد دعم الرئيس فلاديمير بوتين. وكذلك في الهند حتى صار الانتعاش الهندوسي سنداً للحكومة الحالية، وهلم جراً.

في التاريخ الإسلامي القديم أدى تحكم النهج التقليدي الذي تبنته “جوهرة التوحيد” إلى رد فعل المعتزلة الذي تبناه المأمون حتى جعله مذهب الدولة. هذا بدوره أحدث ردة فعل مضادة تقليدية في عهد المتوكل قادها الحنابلة.

وفي تركيا انتصرت حركة الرئيس مصطفى كمال للسكيولارزم، وألغت الخلافة العثمانية وأقامت نظاماً بديلاً معادياً للدين. هذا الفعل الكمالي في تركيا أحدث ردة فعل في الاتجاه المضاد. وبعد 50 عاماً من تحكم الدهرية (العلمانية) في عام 1970م كون نجم الدين أربكان حزباً إسلامياً: حزب الاستقلال. هذا الحزب اكتسب شعبية كبيرة وصار كلما فاز بأغلبية الأصوات قام العسكريون الأوصياء على تركة مصطفى كمال بحله. أمام هذه المساجلة قام أحد قادة حزب أربكان، وهو رجب طيب أردوغان، بتكوين حزب راعى فيه توفيقاً مع العلمانية باسم حزب العدالة والتنمية. صار هذا الحزب منذ عام 2002م يخوض ويكسب انتخابات عامة في تركيا.

كان أكثر مقلدي مصطفى كمال في العالم العربي الحبيب بورقيبة. وكان بورقيبة في عهده والعهد الذي تلاه بقيادة زين العابدين بن علي يعاملون أصحاب الأجندة الإسلامية كمجرمين. والنتيجة أنه بعد الثورة الشعبية في تونس، وفي ظل نظام انتخابي حر استطاع حزب النهضة الذي عقد مصالحات مع الآخر العلماني هو الحزب السياسي الأكثر شعبية.

الدرس المستفاد من كل هذه التجارب هو أن بين التأصيل الديني والمطلب العلماني سجال، والميل في اتجاه أحدهما وتهميش الآخر يقود لردة فعل مضادة، وأن الاستقرار يتطلب توفيقاً.

هذه النظرة التوفيقية صار يطرقها فلاسفة السكيولارزم على الصعيد النظري. قال بيتر بيرقر أحد قادة الفكر “العلماني” لقد أخطأنا إذ اعتبرنا العلمانية شرطاً للديمقراطية. ولكن تحت عنوان علماني مورست أقبح النظم فاشية كما في عهد هتلر وستالين. الصحيح هو أن التعددية هي شرط الديمقراطية. وقال زعيم “علماني” آخر، شارلس تيلور: اتضح لنا أن الدين ليس شأناً فردياً فحسب، وله وزنه في الشأن الفردي والعام. لذلك ينبغي أن يكون للمفهوم السياسي ذي المرجعية الدينية الحق في التنافس السياسي ما دام لا يقول بالثيوقراطية ويقبل التعددية. فاللبرالية تهزم نفسها إذ أبعدت المتدينين بالقوة من الحياة العامة.

والحقيقة في الواقع أن البلاد التي اتخذت دساتير علمانية بفهم إلغاء دور الدين في الحياة العامة كما في أمريكا، وبريطانيا، وألمانيا وغيرها تمارس تعايشاً بين الدستورية العلمانية والدور الملموس للمؤسسات الدينية في الحياة العامة.

إذن الدرس المستفاد من تاريخ الإنسانية هو أن النظام الثيوقراطي الذي يحتكر الحقيقة لمفاهيم غيبية يحرك ضده فكراً وتحركاً ناسوتياً، وهكذا دواليك.

5) التدين لزم كل ثقافات البشرية. والتدين يضاعف القدرات البشرية لوجود مثل أعلى يعطي الحياة معنى ويدفع صاحبه إلى مزيد من العطاء.

كارل يونق، أهم تلاميذ سجموند فرويد، خالف مادية أستاذه وتحدث عن العقل الباطن الجماعي، واعتبره مصدراً لمعارف غير مادية. وفي الحقيقة حتى في العلم الوضعي فهنالك معارف الباراسيكولوجي.

وتحدث بعض علماء النفس عما يمكن أن يتعلمه العلم الطبيعي من الدين حول الطباع البشرية. قال دافيد استنو إن بحثه العلمي أثبت أن الاعتقاد الديني يجعل صاحبه أكثر صموداً في وجه الصعاب، وأن الشعائر تؤثر على العقول بما يحقق قدرة أكبر لضبط النفس، بل تحدث عن مجموعة من القدرات سماها التكنولوجيا الروحية.

وفي تاريخنا الإسلامي لا شك أن الإيمان قلب كل الموازين لصالح المؤمنين. كما أن بعض الصحابة اتصفوا بالزهد أمثال أهل الصفة، وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي وغيرهما. هذه النزعة كانت نواة التصوف في الإسلام. التصوف الذي اتسم بالنشاط الروحي وحقق للإسلام فتوحات هائلة فصلتها في محاضرتي عن “التصوف الراشد ودوره في بناء الحضارة الإنسانية” بتاريخ سبتمبر 2019م.

وفي كتابه الضخم عن التاريخ عدد ارنولد توينبي ثماني حضارات عالمية صنفها جميعاً انتماؤها الديني.

6) عدد المسلمين في عالم اليوم 1.7 مليار نفس، ومع أن عددهم ليس الأكثر بين الأديان، فإن الإحصاءات تدل على أنهم الأكثر تزايداً. بسبب التوالد والتحول للإسلام.

ولكن هنالك عوامل فكرية وثقافية لتمدد الإسلام أهمها 15 عاملاً هي:

  •  تنسب الملل لمؤسسها أو لقومه، ولكن الإسلام ينسب لمبدأ كصفة للموحدين.
  •  الملل الأخرى تربط بين كرامة الإنسان والانتماء لها. الإسلام يطلق الكرامة باعتبارها آدمية ما يؤسس للإخاء الإنساني.
  •  في الملل الأخرى منح صفات لاهوتية لقادتها، في الإسلام البشرية ملزمة للكافة.
  •  رسول الإسلام كامل البشرية ما يجعله الأصلح للاقتداء، زعماء الملل الأخرى محاطون بتأليه.
  •  حجة الملل الأخرى تعتمد على وقوع معجزات. في الإسلام الإعجاز موضوعي، وهو أن شخصاً معروفاً ليس بكاتب ولا قاريء أتى بنص قرآني لا يجارى.
  •  تاريخ الأدب العربي قبل الرسالة معروف بالفصاحة التي يعقد لأصحابها المحافل، النص القرآني استخدم كل أساليب الفصاحة من نثر فني، وطباق، وجناس، وتورية، وسجع ووزن بصورة معجزة.
  •  ركز العالم الفرنسي موريس بوكاي في كتابه عن القرآن والتوراة والإنجيل والعلم، واستشهد بحقائق علمية في القرآن لم تكن معروفة في ذلك الوقت. مثل دورة المياه من الأرض فالسحاب فالمطر. وهنالك حقائق كثيرة أخرى مثلا مقولة إن الذكورة والأنوثة في الجنين من النطفة الذكرية: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ* مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) [1].
  •  صحيح في تاريخ اليونان نظام ديمقراطي ولكنه انقرض تماماً وصار نظام الحكم السائد قيصري وكسروي. ولكن الإسلام وضع مبادئ ولاية الأمر عددها الخليفة الأول، تقوم على المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون. صحيح نظم الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية فيما بعد انحرفت انحرافاً أيده الفقهاء كما جاء في مقولة ابن حجر العسقلاني: أجمع الفقهاء على طاعة السلطان المتغلب والقتال معه.
  •  وانفرد الإسلام بين الملل بالربط بين ولاية الشورى والعدالة الاجتماعية كما نوه لذلك الفرد سميث.
  •  انفرد الإسلام بالاعتراف للإنسان بقدرات: أن فيه قبساً روحياً، وعقلاً برهانياً، وحرية اختيار.
  •  وتعاليم الإسلام فيها توازن بين مادية اليهودية وروحانية المسيحية، بل إنها تشبع عشر حاجات للإنسان بما يحقق فلاحه، فالتوازن سر الاستقامة: الحاجة الروحية، المادية، الأخلاقية، المعرفية، الاجتماعية، العاطفية، الجمالية، البيئية، الرياضية، والترفيهية. وهو ما شرحته في كتابي “أيها الجيل”
  •  وأقر الإسلام للوجود الطبيعي بسنن: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [2]. والوجود الطبيعي سجل حقائق هي نواميس الطبيعة: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ) [3].
  •  كثير من الملل تحصر المعرفة في المنقول. الإسلام يقر وسائل المعرفة الأربعة: الوحي، الإلهام، العقل، والتجربة.
  •  كثير من الملل تعتبر الأخلاق هي ما جاء في أوامر النص المقدس. الإسلام أكد وجود أسساً موضوعية للأخلاق، وهي: المعاملة بالمثل، المعروف والمنكر، الإيثار.
  •  وكانت الملل الأخرى موجهة لقوم بينما رسالة الإسلام للناس كافة.

هذه العوامل جعلت كثيراً من أعظم العقول العالمية تسجل اعترافات أساسية:

  •  مقولة مونتجمري واط إن افتراض أن محمد كاذب مستحيل.
  •  مقولة مايكل هارت في كتابه عن المائة الأكثر أهمية في تاريخ الإنسانية وجعل الرسول محمد أولهم.
  •  مقولة توماس ارنولد عن أن الإسلام انتشر بوسائل سلمية، في كتابه الدعوة للإسلام.

الاعترافات شملت كثيرين جمعت بهم قائمة أمثال: آن مارس باشميل، وجوناسون نلسون، ومارشال هوجسون، وهلم جرا.

وفي هذا الصدد صدرت مؤخراً أدبيات في غاية الأهمية أذكر منها:

  •  عالمان من جامعة واشنطن ألفا 113 من المبادئ الأخلاقية والمعاملات كما وردت في نصوص الوحي الإسلامي وأطلقا عليها عبارة: المقياس الإسلامي The Islamic Index وطبقاها على دول العالم ووجدا أنها تنطبق في أكثر الحالات على أخلاق ومعاملات الدول المتفوقة إنسانياً واجتماعياً، لا الدول المنسوب سكانها للإسلام.
  •  وباعتبار الإسلام مبدأ وليس اتباع شخص نشر عالم الأديان المقارنة الأمريكي روبرت شدنقر كتاباً بعنوان: هل كان يسوع مسلماً؟ وفي الكتاب نشر حجته ليجيب: نعم كان مسلماً.
  •  واعتبرت كلية القانون في جامعة هارفارد أن أفضل نص للتعبير عن العدل هو نص الآية 135 من سورة النساء، لذلك وضعت في مدخل كلية القانون. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)[4].

الجواب التلقائي عن السؤال: لماذا أنا مسلم؟ هو أنا مسلم كسائر أفراد الأمة بالميلاد.

ولكنني أعتقد أن الإنسان آية من آيات الله، وهو مستخلف في ملكه، ومؤهل بقبس روحي، وبعقل برهاني، وبحرية اختيار.

إني أستدعي كل هذا التأهيل لأقول أنا مسلم بالحجة في المستويات الثلاثة. وأخاطب رفاق ملتي لمشاركتي في هذه البركات.

7) قال نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام: “يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلِ الْجَاهِلِينَ” .

  •  أقول عن تحريف الغالين إن منهم من يقول إن النصوص بظاهرها كافية. هذا المبدأ الظاهري الذي قال به ابن حزم فإن غاب التأويل ماذا نقول في النص (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) [5] ، والشمس أكبر من الأرض أضعافاً مضاعفة. هذا النص لا يفهم إلا تأويلا كما قال الرازي .
  •  وانتحال المبطلين الذين باجتهادهم يعطلون الدين كما سوف أبين مقولات خمسة منهم وأفندها.
  •  وتأويل الجاهلين، هؤلاء وهم يتحدثون عن الإمرة في شؤون البشر يؤولون قوله تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) [6] أن الإمرة لله يتقلدونها عن طريق الحاكمية أو ولاية الفقيه. هذه ثيوقراطية غريبة على الإسلام. أمر الناس في مسألة الإمرة شورى بينهم كما في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ اجتمع الأنصار والمهاجرون واختلفوا في الأمر ثم حسمه عمر رضي الله عنه بأسلوب بشري سماه فلتة.
  •  وتعرض الإسلام لهجمة أخرى: هجمة قوى الهيمنة الدولية لتوظيف حماسة المسلمين لخدمة أغراضهم.

‌أ) تحريف الضالين: القرآن نصه حمال أوجه كما قال الإمام علي رضي الله عنه. فيه المحكم والمتشابه، وفيه الناسخ والمنسوخ، وفيه المقيد بظروفه كما قال الخليفة عمر رضي الله عنه، وبسبب ذلك مسك سهم المؤلفة قلوبهم.

هذه العوامل تتطلب التدبر: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [7]. فمن يلغي هذه المعاني ويتمسك بالمعاني الظاهرة للنصوص إنما يحرفها، وقد وقع في هذا الظاهريون. فقه التفسير يتطلب التدبر والحكمة ومراعاة المقاصد، لكيلا نقع في نهج الخوارج. لم يخرجوا عن الدين ولكنهم خرجوا عن نهج التدبر.

‌ب) انتحال المبطلين: هؤلاء دفعتهم المبالغة في استصحاب المستجدات إلى التخلي عن جوهر الدين. أذكر منهم:

  •  محمد عابد الجابري، ومناداته بقطيعة معرفية مع التراث الشرقي. التراث الشرقي والمغربي فيهما جهالات كما فيهما إشراقات. مثلاً مقولة ابن الجوزي عن العقل، ومقولات فلاسفة المعتزلة كمقولات القاضي عبد الجبار عن الأخلاق، نعم لقطيعة معرفية مع التراث المنكفئ.
  •  محمد أركون، والمطالبة بتطبيق العلوم الإنسانية على فهم القرآن. القرآن خطاب للإنسان، وهو يستخدم كل معارفه لفهمه على ألا يكون ذلك لأنسنة القرآن ونفي ألوهية مصدره.
  •  محمد شحرور، يقول في تأويل القرآن إن عبارات اللغة تحتفظ دائماً بمعناها، هذا غير صحيح لأن الإسلام أعطى ألفاظاً لغوية معانٍ اصطلاحية، واقترح في تأويلاته معاني للألفاظ القرآنية خاطئة.
  •  نصر حامد أبو زيد، واعتباره القرآن منتجاً ثقافياً وقوله بتاريخية النص. نعم هنالك نصوص مرتبطة بتاريخها، ولكن ثمة نصوص خالدة.
  •  محمود محمد طه، وقوله إن الإسلام رسالتان وقوله بنسخ المتقدم أي القرآن المكي للمتأخر أي القرآن ا لمدني. قال إن الرسالة الأولى كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن بها هم المؤمنون وليس المسلمين. وهو كاشف للرسالة الثانية في القرن العشرين، وأتباعها هم المسلمون الحقيقيون. المسلم في التاريخ هو النبي وحده وأتباع الرسالة الثانية الآن. هذه المقولة وقوله إن القرآن المكي ناسخ للمدني تجاوزات لا يسمح بها عقل ولا نقل، إلا إذا جاء بها وحي جديد، ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم المرسلين، وقد انقضى القرن العشرون الذي جعله مربط رسالته الثانية بدون تحقق نبوءاتها.

التفسير الوحيد لهذه المبالغات هو أنها تهدف لأنسنة النصوص لكي تصير قابلة لاستصحاب المستجدات المعرفية والاجتماعية. الإسلام دون حاجة لهذه المبالغات قابل لاستصحاب المستجدات.

الطبيعة في نظر الإسلام هي كلام الله المنظور، ونواميس الطبيعة حق على الإنسان المستخلف اكتشاف تلك النواميس في كل المجالات وتسخيرها. وحتى الكتاب المقروء، القرآن، يتطلب الاجتهاد الإنساني لفهمه.

‌ج) تأويل “إن الحكم إلا لله” [6] أدى في ظروف مأزومة كما في الهند، وضغط التعصب الهندوسي، لمقولة الحاكمية وهي بمعنى ولاية الفقيه، ونقلها سيد قطب للمجال العربي كذلك تأثراً بظروف أزمة وتعصب علماني. القول بالحاكمية وبولاية الفقيه يدخل الإمرة في الإسلام في نهج ثيوقراطي بينما الإمرة بين المسلمين شورية كما حدث في تنصيب الخليفة الأول، والمعنى الذي عبر عنه الخليفة الأول في قوله: “وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ (ولاية بشرية لا إلهية) وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي (المساءلة) الصِّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ (الشفافية) والضَّعيف فيكم قَوِيٌّ عندي حتى أرجِّع عَلَيْهِ حقَّه إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضعيف عندي حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (سيادة حكم القانون)”.

‌د) ولأن الإسلام محمول وجداني وثقافي حرص على استغلال عاطفته الطغاة داخل البلدان والغزاة من الخارج. قالت السيدة هيلري كلينتون: أمريكا هي التي كونت منظمة المجاهدين في أفغانستان لمحاربة الاتحاد السوفيتي. هذه المنظمة وجدت دعماً كبيراً ولكن فيما بعد تحولت للقاعدة وجزء منها كون داعش.

في جريدة القارديان البريطانية بتاريخ 5/7/2010م أن بريطانيا تعاملت في عمل مشترك مع كل حركات الغلو مع بن لادن، ومع الظواهري، ومع طالبان، ما يدل على تواطؤ بريطانيا مع حركات التطرف في الإسلام.

كما أن دولاً كبرى كانت حريصة على اشتعال واستمرار الفتنة بين أهل السنة والشيعة. قال الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون في كتابه “نصر بلا حرب” معلقاً على الحرب العراقية الإيرانية: إن الإنسان يتمنى حدوث هذه الحرب، ويتمنى ألا ينتصر أحد فيها.

وبعد حرب 1973م قال هنري كسنجر وزير خارجية أمريكا السابق: ينبغي افتراق كلمة العرب حتى لا تواجه إسرائيل موقفاً موحداً.

8) المسلم مطالب بالتصدي للانحرافات المطروحة باسم الإسلام، ولكن عالمنا الفكري زاخر بحركات فكرية درج كثير من دعاة الإسلام على التعامل مع الاختلافات المذهبية داخل الجسم الإسلامي بعبارات الإقصاء: روافض ونواصب. والتعامل مع الرؤى الفكرية المخالفة بالتكفير. ليس من العدل أو الحكمة أو مراعاة الواقع نبذ هؤلاء وإشهار سلاح الردة وحد الردة ضدهم. في كتابي بعنوان “العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي الإسلامي” المنشور عام 1985م قدمت الحجة أنه لا يوجد حد ردة في شريعة دين يقول (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ) [8] . فإن لم ننبذ هذه الرؤى الفكرية كمرتدين ماذا نقول في أمرهم؟

‌أ) العلمانية أو سكيولارزم أو الدهرية كانت في الأصل ردة فعل مضادة لتحكم الثيوقراطية في أوربا. عبارة علمانية مشتقة بغير قياس من عبارة عالم، أي هذا المكان وهذا الزمان. صحيح أن العقل والتجربة والشعور صالح للمعرفة عن عالم الشهادة. ولكن العلمانية محملة بجانب أيديولوجي ينكر أية قيمة لما ليس من عالم الشهادة. ههنا العلمانية بالتحكم الأيديولوجي تخوض فيما يتجاوز مداركها.

الموقف الصحيح في هذا الصدد أن نخاطب العلمانيين بمبادئ مشتركة هي:

  •  العقلانية فيما تدرك العقول.
  •  حرية البحث العلمي والتجريبي.
  •  حرية الاعتقاد الديني.
  •  حرية اللقاح الحضاري.
  •  الفصل بين حقوق المواطنة والانتماء الديني.
  •  ديمقراطية مؤسسة التشريع.

‌ب) الشيوعية: هذه العبارة ترجمة غير صحيحة لعبارة كمنزم، فعبارة شيوعية تعني أن الأمر مشاع بينما الفكرة في حقيقتها محددة المعالم للغاية، إذ تعتبر المادة هي أساس القيمة في الوجود فحسب، وتعتبر الطبقة الاجتماعية وحدها أساس الانتماء السياسي والسيطرة السياسية. كمنزم تفهم كردة فعل لرأسمالية ظالمة كما نشأت في بريطانيا إبان الثورة الصناعية، كما صور مظالمها الروائي البريطاني شارلس دكنز.

الصرخة ضد الظلم وتسييس المطالبة بالعدالة الاجتماعية مواقف مشروعة.

ولكن واضح أن في الوجود قيماً غير المادة. وليست الطبقة الاجتماعية وحدها أساس الانتماء السياسي. ومشروعية الولاية السياسية تعتمد على نتائج التنافس الديمقراطي.

لقد عبرت الكمنزم عن حالة استقطاب حاد في النظام الرأسمالي. ولكن هذا الاستقطاب في البلاد الرأسمالية المتفوقة قد اختفى كما في البلاد الإسكندنافية، والآن حتى في البلاد الرأسمالية المحافظة ظهرت بقوة حركة تصحيحية متطورة من داخل رحم النظام الرأسمالي. في 2011م ظهرت حركات “احتلوا” المحتجة على غياب الديمقراطية الاقتصادية. وفي 2013م خاطبت منظمة أوكسفام مؤتمر دافوس بضرورة “تعديل مسار غياب العدل” واصمة النظام الرأسمالي بأنه اقتصاد الـ1%، وبالتالي: لا غرو في سيادة الاضطرابات الاجتماعية، والشعوبية، والغضب السياسي. هذه المظالم ضاعفتها جائحة كورونا الحالية بآثارها الاقتصادية البالغة على الجميع ولكنها تقع رأسياً على الشرائح الأفقر، ما سوف يواجه النظم الرأسمالية المحافظة بضرورة التصحيح أو مواجهة انفجارات تبدد السلام الاجتماعي فيها.

‌ج) القومية العربية: الانتماء القومي العربي انتماء حقيقي، وقد جمع بين المسلمين والمسيحيين العرب، ولكنه وقع في ثلاثة أخطاء بالغة:

الخطأ الأول: تبني نظرة حادة عدائية للإسلام، مع أن بعض دعاته كانوا أكثر تفهماً إذ قال قسطنطين زريق: الإسلام هو دين العرب القومي.

الخطأ الثاني: هو اتخاذ الانقلاب العسكري وسيلة للسلطة السياسية، فضحى بشعار الحرية وأقام نظماً فاشية جردت حتى كوادره من الحرية كما أوضح منيف الرزاز (البعثي) في كتابه “التجربة المرة”.

الخطأ الثالث: عدم الاستعداد للتعامل بعدالة مع القوميات الأخرى المتعايشة مع العرب.

في عام 1988م التقيت الأستاذ ميشيل عفلق في بغداد، ووجهت له هذا النقد، تقبله وقال إنه سوف يجري مراجعات، ولكنه توفي قبل ذلك، وذكرت هذه المحادثة في نعيه.

‌د) الأفريقانية: اتجاه مقدر لمواجهة ما تعرضت له القارة من مظالم، وكان أول ظهوره في العالم الكاريبي والأمريكي حيث الاضطهاد الأكبر الذي واجهه الإنسان الأسود المجلوب للرق. امتد هذا الشعور إلى القارة الأفريقية، ولكن في أفريقيا بالإضافة للغبن الزنجي توجد الحاجة لوحدة القارة لتحقيق مصالح مشتركة. الأفريقانية ببعدها الإثني تبنتها مدرسة نيريري، والأفريقانية ببعدها القاري تبنتها مدرسة نكروما. للأسف تبنت الحركة الشعبية لتحرير السودان مدرسة نيريري. ولكن موقف الحركة الشعبية فيما بعد تطور عندما وقع معنا إعلان نيروبي في 1993م، ثم وقع معنا إعلان القضايا المصيرية في أسمرا في 1995م.

الأفريقانية الإثنية سوف تمزق الأقطار الأفريقية، وسوف تجعل المواجهة العدائية بين أفريقيا شمال الصحراء، وأفريقيا جنوب الصحراء أمراً حتمياً، بينما الأفريقانية القارية هي أساس الاتحاد الأفريقي المرجو تطوره.

واجبنا في السودان من منطلق تحالف إسلامي وطني ديمقراطي منشود إجراء حوارات مع كل هذه الرؤى الفكرية بهدف الاتفاق على ميثاق جامع تسترشد به التجربة الديمقراطية القادمة. تحالف يرجى أن يحصل على التأييد الشعبي ليتمكن من بناء الوطن.

أما الذين سوف يتخلفون عن هذا التجمع فلا يعاملون بالقمع الأمني بل بالعزل الشعبي.

9) لكي تتضح الرؤية فإن الموقف الإسلامي الصحوي بحاجة لبيان تذكرتنا الإسلامية، لا سيما وقد أدى تبني النظام المباد لأجندة إسلامية أو إسلاموية جاهلة وظالمة وإقصائية، لردة فعل مضادة تنادي بتكوين تحالف شامل باسم التقدمية واستدامة الديمقراطية ينادي بتجميع كافة التيارات الموصوفة ب”العلمانية” في صعيد واحد، لا يرجى مع ديناميات الواقع أن يصل للسلطة إلا عبر حركة انقلابية تستنسخ العهد المايوي المباد.

هؤلاء الغافلون لا يدركون أن ما هم بصدده في الواقع السوداني إنما يعطي قوى الردة الإسلاموية ذخيرة:

لا يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه

10) التذكرة الفكرية التي يرجى أن ينادي بها دعاة الصحوة لإعطاء الثورة الشعبية لوناً فكرياً يجعلها عبوراً نحو مرحلة تاريخية جديدة تعبر بالسودان بل بالإقليم والعالم نحو آفاق جديدة سوف أفصلها فيما يلي:

أ‌) التعامل الاجتهادي مع الموروث من الماضي، لا سيما وبعض المسلمين يقولون إن ما لم يعرفه البدريون بدعة. وآخرون يستشهدون بقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[9] لاعتبار كل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وحياً إلهياً.

الحقائق التاريخية تؤكد أن عهد الصحابة في الصدر الأول شهد متغيرات لم يعرفها البدريون. والبدريون اختلفوا في أمور كثيرة على رأسها ولاية الأمر هل هي للمهاجرين أم للأنصار؟ وفيما بين المهاجرين هل هي لقريش عامة أم لبني هاشم؟ خلافات اقتتلوا حولها.

(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [10] تتعلق بالقرآن لا كل ما نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في القرآن نفسه عتاب للرسول كقوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [11]، وغيرها. الإمام القرافي قال: ينبغي التفريق بين ما هو تشريع وما ليس كذلك في أحاديث السنة. لقد كان لكم في رسول الله أسوة في أمور الدين لا العادات. البدعة في ثوابت الدين وإلا منعت حركة المجتمع. وهنالك تجميد آخر نشأ حول الالتزام بتقليد المذاهب المعتمدة كما جاء في جوهرة التوحيد. ازاء هذا الانكفاء ينبغي وضع مقياس مشروع للتعامل مع التراث كالآتي:

  •  فهم القرآن بنهج التدبر وبالمقاصدية للتمييز بين المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والتأويل الواجب.
  •  التعامل مع أحاديث السنة القولية على أساس فقه السنة تمييزاً بين المتواتر وحديث الآحاد والتخلي عن ما يعارض نصاً قرآنياً وما يعارض حقيقة علمية كتأبير النخل وما يناقض حقيقة واقعية كحديث يقول إن هذا الصبي إذا عاش حتى الشيخوخة يدرك قيام الساعة، والتخلي عن أحاديث شاذة فقد تعرضت الأحاديث للوضع بصورة كبيرة وفي هذا الصدد جاء في مسند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال: “إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر عنه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه”.
    مثلاً: الأقوال المنسوبة للنبي والتي تكرس لدونية المرأة مثل أن المرأة كلها عورة، وإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأن النساء لعب شاوروهن وخالفوهن وغيرها من أحاديث ذكورية غير صحيحة والأسوأ أنها تفتن المرأة في دينها فتخرج من دين يهينها.
  •  التعامل مع السيرة النبوية على أساس أنه صلى الله عليه وسلم بشر كامل البشرية فكثير من كتاب السيرة في مجاراة لسيرة عيسى عليه السلام شحنوا السيرة بالغرائب، وآخرون في مجاراة لسيرة إله الجنود اليهودي شحنوا السيرة بالغزو والقتالية. القرآن أكد (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ) [12]. نهج الغزو اليهودي أسبابه أنهم يريدون استئصال أهل أرض يزعمون أنها لهم. القتال في الاسلام دفاعي كنص الآية: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ ) [13]. تفاصيل أسباب القتال مفصلة في الآية 13 من سورة التوبة ونصها: (أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). [14]
    إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الموضوعية باهرة ومعجزة في أطرها الموضوعية ولا تحتاج لما قد حشره فيها كثير من كتاب السيرة كما قال البصيري:

لم يمتحنا بما تعيى العقول به    حرصاً علينا فلم نرتب ولم نهم

لذلك أعكف على كتابة السيرة بعنوان: الرسول الإنسان رسول الإنسانية.

  •  التعامل مع الفقه على أساس اجتهاد مؤسسي يتجاوز الفقه الصوري المحصور في القياس والإجماع بل يراعي تغير الزمان والمكان والحال ويراعي العقل والمصلحة ومقاصد الشريعة الكلية.
  •  تاريخ أمتنا فيه خيرات كثيرة وفيه مظالم ففي أكثر فتراته تحولت ولاية الأمر لولاية السيف وسفك الدماء والاغتيالات التي طالت الخلفاء الأوائل وخمسة من خلفاء بني أمية و12 من خلفاء العباسيين وهلم جرا.

ينبغي نزع القدسية عن تاريخ أمتنا واعتبارها تجربة بشرية يشاد بإيجابياتها وتجنب سلبياتها.

هذا معناه أن موقفنا من تفسير القرآن والسيرة والفقه يتطلب اجتهاداً جديداً يراعي ظروف الزمان والمكان والحال، وقد تناولت معالم هذا الاجتهاد الجديد في عدد من مؤلفاتي وأهمها: العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي الإسلامي. وكتاب نحو مرجعية إسلامية متجددة. وكتاب الانسان بنيان الله. وكتاب أيها الجيل. وكتاب جدلية الأصل والعصر. إنها مدرسة اجتهادية كاملة.

ب‌) الوجه الآخر المهم هو بيان كيفية التعامل مع الوافد من العصر الحديث الذي طور ته الحضارة الغربية. النهج القرآني واضح في تناول تجارب الآخرين: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ) [15]. وفي الصدر الإسلامي استصحب الصحابة كثيراً من تجارب الآخرين مثل تدوين الدواوين وصك العملة. وفي مرحلة لاحقة ترجموا كتب التراث الفلسفي اليوناني وقال العالم منتجمري واط إن المسلمين هضموا فلسفات العالم القديم بصورة مدهشة.

في مرحلة تاريخية معلومة استطاع المسلمون تطوير حياة عقلية وتكنولوجية متقدمة برزت فيها أسماء الخوارزمي، والرازي، وابن سينا، وابن الهيثم، والبيروني، وابن النفيس، وابن بطوطة، وابن خلدون، وعبد الجبار، وابن رشد، وهلم جراً.

هذه النهضة هي التي أيقظت أوربا من سباتها قرن الأوسطي بشهادة المستشرقين المنصفين. ولكن في مرحلة لاحقة أصاب الحضارة الاسلامية الركود حتى قال قائلهم:

العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين

كان لهذا الركود ركائز أهمها طرد العقل البرهاني واعتماد الجمود الفكري والركون للاستبداد السياسي في الحكم.

ينبغي أن نستصحب من العصر الحديث منظومة حقوق الانسان والحريات لا سيما حرية البحث العلمي. ولكن قوى الهيمنة الدولية تعمل على توظيف هذه العوامل النيرة لدعم استعلائها ما يحدث ردة فعل مضادة كلما كان التحديث وجهاً من وجوه الاستعلاء الخارجي صار التحديث مشبوهاً وعزز أجندة الغلاة.

من أهم مفكري الحضارة الغربية الذين نبهوا لهذه المسألة المؤرخ العالمي أرنولد توينبي إذ قال: الحضارة الغربية تهزم نفسها ما لم نعترف بدور الحضارات الأخرى في بنائها ونعترف بأن الحضارات الأخرى سوف تستصحب عطاءنا بصورة تراعي محمولاتهم الحضارية. وأن نعترف أن للحضارات الأخرى مستقبلاً دوراً معنا في بناء الحضارة الانسانية.

11) لقد لحق بشعار تطبيق الشريعة حديثاً تطبيقات شوهت المطلب وأهم تجربتين في هذا الصدد ما حدث في السودان على عهد نظام 25 مايو الذي حول تطبيق الشريعة إلى مؤسسة عقابية لدعم الطغيان ونظام 30 يونيو الذي حول الشعار إلى سلم للسلطة.

الشريعة منها قسم ثابت هو المتعلق بالشعائر وقسم متحرك هو المتعلق بالعادات والمعاملات وفيه تتغير الفتوى بأحوال الزمان والمكان والحال.

في كتاب العقوبات الشرعية والنظام الاجتماعي الاسلامي بيان لمطالب الشريعة في ظروف العصر الحديث بموجب اجتهاد جديد وخلاصة الموقف هنا هي أن تطبيق الشريعة مهمة مستقبلية تتطلب اجتهاداً جديداً وليس مهمة ماضوية تتطلب العودة لمرحلة ماضية كما يقول آخرون.

وبنفس منطق الاجتهاد الجديد أصدرنا نداء المهتدين لتحقيق تعايش واجب بين المسلمين. ونداء الإيمانيين للتعايش بين كافة الديانات، ونداء حوار الحضارات للتأصيل لهذا الحوار. ينبغي تحرير الشعار الديني من أن يصير خطة قفز للوراء وتحريره من أن يفتح باب النزاعات المذهبية ومن أن يصير وقوداً للصراعات بين الملل ثم بين الحضارات.

12) كل ثقافات البشر تتطلع لمخلص يجسد الأمل في وجه الصعوبات ويعد بغد أفضل. في ثقافة الأمة الإسلامية تتجسد عقيدة المخلص في عقيدة المهدي المنتظر ثم عقيدة العيسوية أن لعيسى عليه السلام ظهور قبل نهاية الحياة. اليهود ينتظرون المسيح إذ لا يعتبرون عيسى الذي ظهر هو المسيح المنتظر. والمسيحيون ينتظرون أن يظهر المسيح مرة ثانية. هذه العقائد مستمرة وحولها عدد من المذاهب.

ونحن في السودان نعيش اختلافاً حاداً بين أنصار يعتقدون أن المهدي قد ظهر فعلاً وآخرين ينكرون ذلك، والمسلمون عامة منقسمون بين أهل السنة ولديهم عدد من المدارس حول المهدي المنتظر أهمها أنه سوف يظهر قبيل الساعة. والشيعة كذلك لديهم أكثر من مدرسة حول المهدي المنتظر أهمها الإثنا عشرية التي تعتبر محمد الحسن العسكري الذي اختفى منذ 13 قرناً سوف يعود وهو المهدي المنتظر.

الإمام محمد أحمد أعلن دعوة بأنه المهدي المنتظر ووجد تأييداً كبيراً في السودان وخارجه ووحد السودان وحرره ولكنه انتقل في ريعان شبابه وخلفه الخليفة عبد الله بن محمد وحكم دولة مستقلة تكالبت ضدها قوى الامبريالية حتى قضت عليها.

وفي ظل الحكم الامبريالي استطاع السيد عبد الرحمن وهو ابن المهدي بجهاده واجتهاده، لا بمكانة في الدعوة التاريخية، استطاع أن يقيم كياناً أنصارياً كبيراً مؤيداً للمهدية.

المهدي المؤسس لم يضع دستوراً للخلافة ولكنه عين كبار صحابته خلفاء لخلفاء النبي باعتباره هو خليفة للنبي. وقياساً على هذا الترتيب بويع عبد الله خليفة للمهدي.

السودانيون مختلفون على هذه المهدية ومن باب أولى سائر المسلمين. وبصفتي حاملاً لمنبر هذه الدعوة بموجب دستور للخلافة وضعه الإمام الصديق وهو أن الامام يختاره الأنصار قد تم اختياري في مؤتمر السقاي في عام 2002.

التأهيل لهذا الاختيار يقوم على ثلاث ركائز: الجهاد والاجتهاد والتأييد الشعبي. لقد جاهدت جهاداً كبيراً واجتهدت اجتهاداً مشهوداً ونلت هذا الاختيار. أقول بصفتي هذه غصت في كل أدبيات الإمام المهدي وفي ندوة في عام 2010 حضرها علماء سودانيون وعلماء من أهل السنة والشيعة قدمت أطروحة حول المهدية قبلها الحاضرون. أقول لن يجمع أهل السنة على شخص يدعى المهدي، ولا معنى لظهوره آخر الزمان إذ نص الآية: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ) [16]. وظهور شخص غاب قبل 13 قرناً مستحيل إذ النص (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) [17]، ولكن يمكن لمن شاء أن يحتفظ باعتقاده الخاص دون محاولة زحزحته على أن نتفق جميعاً على الحاجة للاتفاق لإحياء الاسلام وتوحيد المسلمين في ظروفنا الراهنة. تحقيق هذا الاتفاق هو الخلاص المنشود. وسقت الدلائل من وثائق الإمام محمد أحمد المهدي أنه لم يعتبر دعوته آخر الزمان ولا هي عودة الإمام الثاني عشر. دعوته إذن وظيفية وهي وظيفة إحياء الدين وقد وضع أساساً لهذا الاحياء خلاصته: لا تقديس إلا لقطعيات النصوص، إذن لا وجوب لاتباع المذاهب، الشعائر ثوابت تتبع، ما عداها من عادات ومعاملات متحركة بحيث لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال. هذه المعاني تصب في تيار الاسلام العام.

بالنسبة للعيسوية أقول يستحيل أن يتفق على شخص بعينه بأنه هو عيسى. ولكن هناك دلائل على أن البشرية وقد حققت وحدة تكنولوجية واتحاداً حول منظومة حقوق الانسان يرجى أن تكتمل الوحدة العالمية حول القانون الاخلاقي.

في مؤتمر لكل الأديان في كانتربري في عام 1976 طرحت فكرة أن تتحد الأديان على القانون الأخلاقي وعلى منظومة حقوق الانسان وعلى مبدأ العدل والسلام وأن تعتبر أن الانسانية على هذا الدرب يمكن أن تحقق وحدة روحية. وأقول إن الاسلام بالمعنى الواسع يصلح أن تتحد حوله الأديان. العيسوية ليست شخص بل مبدأ الوحدة الأخلاقية والروحية للبشرية. أي أن العيسوية هي وظيفة اتحاد البشر على منظومة أخلاقية وروحية.

هذه الرؤى تنقل النقاش ليدور حول المبادئ وهو مثمر لا حول الأشخاص وهو عقيم. المهدوية والعيسوية كرموز لآمال الخلاص المجسدة في أشخاص تؤجج النزاعات ولكنها كمبادئ تتيح التوافقات.

 

13) كان اليونانيون يعتقدون أن في أرض السودان بركة حتى قيل في الالياذة أن آلهتهم تحج إلى السودان الخالي من اللوم أهله. ومهما كان من أساطير الأولين فالسودانيون أقاموا حضارة كوش التي امتدت ألف عام. ودخلت بلادهم المسيحية ثم الإسلام سلمياً. وقاوموا الغزاة الآشوريين والرومان وحتى الفتح الاسلامي ولكيلا نغتر فقد عددت في كتاب الانسانيات السودانية وكذلك اللاانسانيات السودانية.

الثورة الشعبية التي أطاحت بالنظام الظلامي الأخير كانت محفوفة بالبركات تراكمت مقاومتها ثلاثين عاماً ومع انهيار كثيرين ظلت الكيانات الحامية لمحمول القيم الوطنية صامدة حتى الآخر.

وفي المحطة الأخيرة تعددت بركات:

الإجماع الشعبي والتصميم الشبابي والنسائي الرائع وتكوين الاعتصام الحاشد، والمدهش استضافة القيادة العامة للثوار، والمدهش مرة ثانية أن اللجنة الأمنية المجهزة للبطش بالشعب انحازت له بالإجماع. وتدفق الشلال الحماسي وجد خزان حكمة جعل التوافق بميزان القوى ممكناً.

أحداث مباركة إذا قال أحدنا إن لوحها كان مقروءاً منذ 1970م في القطينة، ومنذ أكتوبر 1989م في كوبر، لقال الذين يعتقدون أن الإنسان مجرد معادلة كيميائية: مستحيل.
على أية حال، استطعنا أن نبرم اتفاقات جعلت الفترة الانتقالية ممكنة.

لكن صار واضحاً أن إعلان قوى الحرية والتغيير، وهياكل التحالف التي صلحت للمرحلة الماضية لم تعد صالحة، مما جعلنا نطرح الآن العقد الاجتماعي الجديد، والجبهة الجامعة المقترحة بديلاً.

يرجى أن ندرس الإصلاح المطلوب عن طريق ملتقى تأسيسي جامع لإصلاح المسيرة حتى نهاية الفترة الانتقالية.

هذا الوفاق ممكن بل ضروري، ولكن بطبيعة الأشياء وفي ظل الحريات سوف تنقسم الرؤى.

نأمل أن تتكون ثلاث جبهات: جبهة الذين يغلبون التأصيل على التحديث وتسمى المؤصلة، وفي الطرف الآخر الذين يغلبون التحديث على التأصيل وتسمى المحدثة، وما بينهما جبهة التوفيق بين التحديث والتأصيل وتسمى الموفقة. هذه الجبهات ينبغي أن تتفق على حد أدنى قومي، ولكن الفيصل بين برامجها المختلفة هو الاحتكام للشعب عبر الانتخابات العامة الحرة.

الرد على السؤال: أنا مسلم بالميلاد، ولكن هداية الإسلام فتحت لي الطريق وأرجو أنا وزملائي أن نخاطب الجميع بما يمكننا من بناء الوطن.

(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [18].

 

___________________________________________________________

[1] سورة النجم الآية رقم (45 و 46)
[2] سورة القمر الآية رقم (49)
[3] سورة الحجر الآية رقم (85)
[4] سورة النساء الآية رقم (135)
[5] سورة الكهف الآية رقم (86)
[6] سورة يوسف الآية رقم (40)
[7] سورة محمد الآية رقم (24)
[8] سورة البقرة الآية رقم (256)
[9] سورة النجم الآية رقم (3 و 4)
[10] سورة النجم الآية رقم (4)
[11] سورة التوبة الآية رقم (43)
[12] سورة الإسراء الآية رقم (59)
[13] سورة الحج الآية رقم (39)
[14] سورة التوبة الآية رقم (13)
[15] سورة يوسف الآية رقم (111)
[16] سورة الأنعام الآية رقم (158)
[17] سورة الزمر الآية رقم (30)
[18] سورة هود الآية رقم (117)