الإمام الصادق المهدي يتحدث عن الراحل المقيم الدكتور عمر نور الدائم

الإمام الصادق المهدي مع الدكتور عمر نور الدائم
الحبيب الإمام الصادق المهدي مع الراحل المقيم الحبيب الدكتور عمر نور الدائم

 

 

الإمام الصادق المهدي يتحدث عن الراحل المقيم الدكتور عمر نور الدائم

بسم الله الرحمن الرحيم

طلبت مني بنتي نور عمر اقدم سيرة والدها مقدمة تُظهر العلاقة بيننا وتُظهر ايضاً صفاته.

أنا التقيت عمر رحمه الله في جامعة الخرطوم، كنا معاً في كلية العلوم، ولم يجمعنا عمل سياسي ولا أى تنظيم غير سياسي وإنما الذي جمعنا المحبة الفطرية. فمنذ أن التقينا ساد بيننا المعنى: إنما الأرواح أجناد مجندة فما تالف منها ائتلف وما تخالف منها اختلف. فكانت هذه هى أولى الصفات التي جمعتني به، الميل الفطري والمحبة.

والحقيقة أننا بعد أن تعارفنا صرنا اصدقاء، وكانت هذه الصداقة تتمثل في اشياء كثيرة، في الأنشطة الإجتماعية من داخل الجامعة، وفي الإتصالات خارج الجامعة. ولكن طبعاً هو من خلفية أنصارية وأهله كما هو معلوم ينتمون لحزب الإستقلال الأول حزب الأمة، ولذلك وجدنا أننا بعد أن تصادقنا توجد هذه الرابطة، هذه العلاقة الدينية والسياسية. وكان هو فيما يتعلق بهذه الخلفيات والمنطلقات قد أكمل تعليمه في داخل السودان وأنا كنت قد درست خارج السودان لفترة من الزمن، ولكن مهما كانت خلفيتنا التعليمية وجدنا هذا الإخاء وهذه المحبة واستمرت هذه العلاقة على طول وجودنا في جامعة الخرطوم كلية العلوم، وبعد ذلك لأسباب ذكرتها أنا في ظروف أُخرى ذهبت للدراسة في أوكسفورد وهو واصل إلى أن تخرج في كلية الزراعة.

كنا وهو طالب بكلية الزراعة كنا نلتقي، أنا ازوره في شمبات هو وزملاؤه الذين كانوا ايضاً من أحب الناس لي، كانت هناك بيني وبينهم هذه المودة. وكان عنده صديق إسمه مبارك، هذا الصديق كان ذو شخصية مرحة يستخرج من كل شئ نكتة. هذا المرح كان جزء من ما ساد بيننا. وطبعاً أنا فيما بعد كتبت عن هذا الموضوع لأن كثير من الناس يعتقدون أن الفكاهة نوع من العبث وهذا غير صحيح، ولذلك أنا كتبت كتاباً سميته: “الفكاهة ليست عبثاً”. الفكاهة لها دور مهم جداً في الناحية النفسية للإنسان وفي الناحية الإجتماعية ثم تلعب دوراً كبيراً جداً هذه النكات في المسائل الحياتية، في السياسة، في الإقتصاد، في كل جوانب الحياة، فالفكاهة ترويح عن النفس وهى وسيلة من وساءل في رأيي هزيمة الشيخوخة. كثير من الناس لا يعتقدون ولا يفهمون الدور النفسي والإجتماعي للفكاهة. مبارك الكرار هذا كان تجسيداً لهذه الفكاهة، وأنا كنت عندما ازورهم أشعر كيف أن هذه الصحبة تعمل عملاً كبيراً جداً في تدعيم المحبة بيننا.

وافترقنا بعد ذلك فترة من الزمن إلى أن جاءت الفترة التي فيها حكم السودان نظام ديكتاتوري ثم جاءت فرصة أول إنتفاضة شعبية في السودان، إنتفاضة أكتوبر في عام 1964، واستطعنا بعملٍ دؤوب ضد الدكتاتورية أن نسقطها بموجب تلك الإنتفاضة. وكنا كلٌ منا في موقعه قد قمنا بدورٍ في هذه الثورة، هو كان موظف في وزارة الزراعة، الأخ عمر كان موظف في وزارة الزراعة، وهو كموظف في وزارة الزراعة جاءت هذه الفرصة، وعدد كبير جداً من المهنيين السودانيين احتشدوا لإسقاط النظام الديكتاتوري.

والمدهش أن الأخ عمر بعد أن أسقطنا النظام الديكتاتوري وصارت الفكرة استرداد الديمقراطية جائني وقال لي أنا من الآن فصاعد طلقت العمل المهني والوظيفي البيروقراطي وأُريد أن نعمل معاً في المجال السياسي نُعبر عن مصالح أهلنا، نُعبر عن تطلعات أهلنا، نُعبر عن خدمة لهؤلاء الأهل الذين لم يجدوا التعبير الصحيح عنهم، ولذلك منذ إذ صرنا بالإضافة للصداقة القديمة والمودة صرنا معاً في العمل السياسي.

وفي العمل السياسي هذا كانت أول مهمة لنا أن ننقل حزب الأمة من حزبٍ يقوم على الأبوة والوصاية، وهذه كانت مرحلة قديمة نفعت وأفادت ولكن صرنا محتاجين لمرحلة جديدة، فجئنا بما يمكن أن يسمى جيل أكتوبر، جيل حل محل الحرس القديم ورفع شعارات سياسية جديدة فيها دنون من الشعب، فيها التعبير الصحيح عنه، فيها معاني جديدة عكسناها أنا وهو في الحكومة التي دخلنا فيها، أنا كنت في سنٍ باكرة، في العشرينيات من سني ولكن عندما جاءت القاعدة، قاعدة حزب الأمة، جاءت لكى تُعيد تكوين حزب الأمة بعد ثورة أكتوبر رأوا جميعاً، القاعدة رأت أن الشخص الذي قام بدور كبير في استرداد الديمقراطية كان شخصي ولذلك مع أن أسرتي كانت تُريد شخصاً آخر، أصرت القاعدة أن أكون أنا رئيس حزب الأمة في عشرينيات عمري، وكان هذا إمتحان كبير أن أكون أنا في عشرينيات عمري رئيساً لأكبر حزب سياسي في السودان.

وكان هذا ايضاً فرصة لتطوير علاقتي مع الدكتور عمر نور الدائم، في ذلك الوقت لم يكن دكتوراً لكن كان زميلاً لي، فعملنا معاً لعمل ما سميناه فيما بعد الإصلاح والتجديد في حزب الأمة، وحققنا بذلك فعلاً قفزة في طريق أكبر حزب سياسي في السودان. ثم جاءت فقرة مهمة جداً، هناك نشأ خلاف ما بين رئيس الوزراء عن حزب الأمة المرحوم السيد محمد أحمد محجوب والهيئة البرلمانية، وكانت الهيئة البرلمانية مكونة من نواب حزب الأمة، وكانوا يرون أن السيد محمد أحمد محجوب مع أنه هو رئيس الوزراء المنتخب كان غير مهتم بقضاياهم ولذلك اختلفوا معه فنشأت فرصة من يكون رئيس الوزراء؟ كنا نبحث أنا ودكتور عمر وغيرنا نبحث عن شخص آخر، كانت الفكرة أن يكون السيد محمد إبراهيم خليل أو السيد عبد الله عبد الرحمن نقد الله إلى آخره، ولكن جاء عمر بفكرة قال لي يا فلان نحن الذين نخاطب القاعدة ونقنع القاعدة ونمثل القاعدة ثم نأتي ونسلم الراية لغيرنا، هذا ليس صحيحاً، يجب أن نكون نحن المسائلون أمام هذه القاعدة، ولذلك يجب أن نكون نحن المسؤولون عن قيادة الحكومة. وطبعاً كانت في مشكلة لأنه أنا ما كنت يمكن أن أكون نائب وإن لم أكن نائب فلا يمكن أن أكون رئيس وزراء لأني كنت في آخر العشرينيات من عمري.

المهم، انتظرنا لغاية ما دخلت البرلمان، وكان هو وراء فكرة أنه يجب أن ندخل الحكومة حتى نتمكن من خدمة أهلنا ونكون مساءلون أمامهم. ولذلك دخلت الحكومة وكانت تجربة مهمة، كان هو من أهم الوزراء في تلك الحكومة الديمقراطية واستمرت العلاقة بيننا باستمرار إلى أن جاءت مشكلة ثانية وهى أن الأنصار لم يكن لهم إمام بعد قتل الإمام الهادي الشهيد في عام 1970 وصارت هناك مشكلة كبيرة جداً من يكون إمام الأنصار، وأنا لم أكن أُريد أن أتقدم بهذه المهمة بإعتبار أن رأيي أن لا يكون هناك مزج بين القيادة السياسية والقيادة الدعوية، وكنت أفكر دائماً أن يكون كيان الأنصار دعوي وحزب الأمة حزب سياسي، ولكن نشأت مؤامرة سبقها أن النظام القائم في ذلك الوقت في الحُكم كان يُريد أن يجعل من قيادة كيان الأنصار، أن يُريد أن يجعل منها كياناً تابعاً وأن يختار أو يُعين إمام يكون مُدجن لصالح النظام، وهذا طبعاً كان سيضرنا جداً لأنه سيجعل قاعدة مهمة زى الأنصار تابعة لشخص لا يلتزم بمبادئ هذا التكوين، تكوين الأنصار قائم على الجهادية والمجاهدة والإجتهاد، فما ممكن أن نتركه لكى يستغل هذه الجهة، لذلك طبعاً كانت فكرتنا كلها حسب وصية الإمام الصديق أن يكون الإمام منتخباً، ففي النهاية حدث ما حدث. الحُجة القوية جداً التي كان يقولها المرحوم الدكتور عمر لي، يا فلان ماذا لو جاء في كيان الأنصار شخصٌ يحمل أفكار متخلفة، أنت تحمل أفكار مستنيرة وتقدمية، فسيجد الأنصار نفسهم يتبعون إماماً ذو أفكار متخلفة ومنكفئة وأنت صاحب الأفكار التقدمية لا مكان لك أمامهم لذلك ينبغي أن تتقدم أنت للإنتخاب كإمام للأنصار. وكنت كما قلت أنا رافضاً للفكرة ولكن أقنعتني هذه الحُجة. ثم كان هناك عدد كبير من الأنصار يرى ضرورة أن أكون أنا الإمام لمجاهدات وثقة في نفسي رأوها.

على كل حال هكذا صرت جامعاً ما بين رئاسة حزب الأمة وإمامة الأنصار على غير تخطيطٍ مني. وأنا الآن أفكر في ضرورة أن أفصل المؤسستين، مؤسسة الحزب ككيان ديمقراطي يجمع الأنصاري وغير الأنصاري والمسلم وغير المسلم، وكيان الأنصار ككيان دعوي منحصر على الأنصار وحدهم، وهذا ما أسميه أنا وأعمل من أجله، أسميه التأصيل التقدمي أو التقدمية المؤصلة. على كل حال هذا ما أسعى إليه.

وطبعاً إفتقدتُ كثيراً زميلي وحبيبي ورفيق الدرب عمر نور الدائم في حادث هو كان عمر من أكثر الناس إهتمام بالمجاملات، في السودان العزاء في الموتى والتهنئة في مناسبات الأعراس وغيرها أمرٌ مهم جداً عند السودانيين. السودانيين عندهم علاقات من النواحي الإجتماعية أنا أعتقد لا يوجد مثلها من حيث المحنة ومن حيث التضامن في كل هذه الأمور. وكان عمر من الذين يهتمون كثيراً بالعزاء يسافر مسافات بعيدة لكى يقرأ الفاتحة على الموتى ويعزي فيهم، ولذلك كان هو دائماً حريصاً جداً على أن يذهب ومعه وفد لهذه العزاءات، وفي آخر رحلة قام بها كانت هذه الرحلة لعزاء في منطقة النيل الأبيض وهو عائد حصل لهم الحادث الذي أودى بحياته رحمه الله رحمة واسعة.

ولكنه كان كما قلت أنا مجاهداً ومجتهداً من الركاب كما يقول أهلنا إلى التراب، يعني من القوة زى ما بيقولوا أهلنا برضه إلى الهوة. من القوة إلى الهوة، من الركاب إلى التراب، رحمه الله رحمة واسعة. وأنا تحدثت في نعيه عن ضرورة أن نتخذ له تمثالاً معنوياً، التماثيل مش ضروري تكون بالنحاس أو بالجبس أو بالمواد، ولكن ممكن أن تكون معنوية. دا محتاجين نحنا فعلاً في هذه السيرة أن نرسم له معالم تمثال معنوي حتى تقتدي الأجيال بمثل هذه التجربة وبمثل هذا الدور.

رحمه الله رحمة واسعة ووفق الجميع أن يحيوا سيرته بالمعاني التي تنير الطريق للأجيال القادمة.

والسلام عليكم ورحمة الله.

____________________________________________________

*** كُتب النص من مقطع الفيدو