الإمام الصادق المهدي ينعي المفكر الإسلامي جمال البنا

الحبيب الإمام الصادق المهدي حفظه الله ورعاه زعيم حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله ورئيس الوزراء الشرعي والمنتخب للسودان

 

 

31 يناير 2013م

 

نعي فكري إسلامي لجمال البنا

 

منذ أن احتل الغزاة ديار المسلمين نشأت في الفكر الإسلامي جدلية التعامل مع الوافد من الماضي أي الأصل، والتعامل مع الوافد من الخارج أي العصر، وكان من أهم مواقف الفكر الإسلامي من هذه الجدلية مواقف المستسلمين للغزو الفكري والثقافي الذين دفعتهم كراهية الذات لأيقنة (من أيقونة) الوافد، ومواقف الذين استنكروا الوافد لدرجة شيطنة الوافد من الخارج وتقديس الوافد من الماضي حتى البشري منه.

قال الصحابي ابن مسعود (رضي الله عنه): “قد كاد الشيطان بني آدم بمكيدتين عظيمتين لا يبالي بأيهما ظفر: إحداهما الغلو ومجاوزة الحد والإفراط، والثانية: هي الإعراض والترك والتفريط”. فمكيدتا الشيطان إذن هما: التعطيل والغلو.

وقال ابن القيم: من واجب الفقيه أن يعرف الواجب اجتهادا وأن يلم بالواقع إحاطة ويزاوج بينهما.

في الفكر الإسلامي الحديث كان لمدرسة “العروة الوثقى” دوراً مهماً في مهمة التوفيق بين التأصيل والتحديث، هذه المدرسة مالت أكثر نحو التأصيل على يد صاحب تفسير المنار.

حركة “الأخوان المسلمون” تنتمي لمدرسة المنار، ولكنها خرجت من النطاق النظري إلى العملي انفعالا بسقوط الخلافة في 1924م، وصدوداً عن الغزو الفكري والثقافي المصاحب للاحتلال.

صاغت الحركة فكراً تأصيلياً في ثياب حديثة، واستمدت من وسائل التنظيم التعبوي والسياسي الحديثة، وصمدت في وجه تحديات قومية واشتراكية، وانتعشت بعد تراجع الفكر الشيوعي، والقومي، لا سيما بعد هزيمة 1967م.

الاجتهاد الإسلامي في الحركة الأخوانية من داخل الصندوق التنظيمي تكلس، ما أدى لاجتهادات إسلامية من أصل أخواني خارج الصندوق، على اليمين كانت اجتهادات سيد قطب وعلى اليسار كانت اجتهادات محمد الغزالي، ولكن المفكر الذي تأثر بنفس العوامل التي اندفع بها الشيخ حسن البنا والذي كان نده في النشأة في بيت رجل عالم هو والدهما، ولكنه اتخذ منذ البداية خطاً إسلامياً أكثر انفتاحاً على الفكر الإنساني هو طيب الذكر الأستاذ جمال البنا.

جمال البنا عالم ومفكر وباحث مخلص لدينه يرى أن إحياء الدين تطلع مستقبلي وليس عودة ماضوية، وكان مقداماً برأيه، أصم عن غضب من حوله ورضا، في حملة فكرية لم تهدأ حتى آخر أيامه، وكان زاهداً في المناصب والمظاهر يعيش في مكتبته المحراب ولا يغيب عن مؤتمرات أو مراكز دراسات داخل مصر أو خارجها ولا عن أية منابر إعلامية صحافية أو قضائية، ويواصل مؤلفاته كتب وكتيبات، فكأنه معهد أو حزب من شخص واحد. حقاً، من الناس من هو واحدٌ كألف، وألفٌ كأُف!

كل الذين يدركون أن التمسك بالأصل شرف البقاء ولكنه شرط مشروط باجتهاد جديد يستصحب مستجدات الفكر والعلم والعمل، سوف يجدون في تراثه الفكري والعلمي كنزاً لا تبلى جواهره.

الحشويون سوف يتمسكون ببعض غرائبه تبخيساً لشأنه، فينسجون من الحبة قبة، وعين السخط تبدي المساوئا، ولكن من لا يخطئ ليس بشراً، ومن اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحدٌ.

رحم الله الأستاذ جمال البنا، ورحم أخته فوزية التي مكنته ورثتها أن يواصل اجتهاده غير مشغول بهموم المعيشة.

لن يفقده الذين استراحوا لإعدام الوافد من ماضينا، ولن يفقده الذي استراحوا لإعدام الوافد من حاضرنا، ولكن الذين يدركون أن نهضتنا تقوم على التأصيل والتحديث سوف يفقدونه وسيجدون في اجتهاداته عزاءً.

أحسن الله عزاء أسرته ووطنه وأمته و(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).

 

الصادق المهدي