الإمام يفتح نوافذ الفن

بسم الله الرحمن الرحيم

مجموعة أصدقاء المهجر

المركز السوداني السماني التربوي

في أمسية ثقافية فنية

تحت عنوان: الإمام يفتح نوافذ الفن

3/11/2018م

محتويات

القسم الأول:  ماهية الفن. 3

القسم الثاني: الدين والفن: 7

القسم الثالث: الفن في السودان. 11

 

 

 

الأخ الرئيس

أخواني وأخواتي، أبنائي وبناتي

السلام عليكم رحمة الله،

الشكر أجزله لمجموعة أصدقاء المهجر، والسودانيون عموماً في المهجر أحباب لبعضهم البعض بصورة مدهشة لكثير من الناس الآخرين، حتى كأنهم أسرة واحدة بصورة تحكى فيها قصص كثيرة عن كيف أن هذه الحميمية تطغى على كل شيء بين السودانيين، ولذلك فإن مفهوم أصدقاء يطابق هذا الوصف. قال لي أحد زملائي المصريين: أنتم السودانيون تحبون بعضكم ولا تحبون السودان، ونحن نحب مصر ولا نحب بعضنا. وأياً كانت هذه الحقيقة على كل حال الحقيقة المتعلقة بحب السودانيين لبعضهم بعضاً حقيقة.

ليس هكذا فحسب، لقد عملتُ في العمل العام منذ نعومة أظافري، منذ العشرينات، وبذلك اختلطتُ بكل القوى السياسية داخل السودان وخارج السودان، كان واضحاُ لي تماماً أن هناك اختلاف بين الشيوعي، والأخ المسلم، والسلفي، والأفريقاني، والعروبي في البلدان المختلفة وفي السودان، بحيث أن السوداني في كل هذه التصنيفات أكثر تسامحاً.

في عام 1968م كنت في رحلة لبيروت وصادف معي المرحوم عبد الرحمن الوسيلة من الحزب الشيوعي، وقابله في المطار عضو من الحزب الشيوعي اللبناني. وفي المطار عقدتُ مؤتمراً صحافياً صغيراً حضره وبعد حديثي تطرق لي المندوب الشيوعي لكي يحرجني مهاجماً ومديناً للرجعية. أسكته الوسيلة، ولا تجمعني به علاقة صداقة ولا معرفة، قال له نحن في السودان نتعامل بوصال لا قطيعة.

وفي سلوك المرحوم محمد إبراهيم نقد دليل على مدرسة شيوعية منفتحة على الآخر كما ذكرت في تأبينه أنه سودن المارسكية. وقد ظهر تواصله بالناس ومع الناس تماماً في دفنه.

هذا يقال عن مدرسة أخوانية يمثلها أمثال أحمد عبد الرحمن والمحبوب عبد السلام وآخرين بصورة لا تشبه الأخوان في غير السودان.

ومدرسة السلفية، ولديهم جواز مرور تكفيري، في السودان يخاطبون الصوفية بعبارة أخواننا الصوفية. والنموذج هو المرحوم الشيخ الهدية، كان رمزاً للانفتاح على الآخر والتواصل.

العروبيون أمثال المرحوم محمد علي جادين والأخ عبد العزيز حسين الصاوق كذلك  يمثلان سودنة للبعث.

والأفريقانيون أذكر كان كان المرحوم جون قرنق أيضاً يهتم بالتواصل مع أهم حملة الأفكار، وقد سبقه على ذلك صديقي المرحوم وليم دينق. وأخواننا حملة السلاح الآن حينما يلتقون الوفود الحكومية يندهش الوسطاء للحميمية بينهم، يأكلون ويتآنسون ويضحكون سوياً، ويستغربون إذاً كيف وقلماذا هم محتربون؟ ولماذا يحتاجون لوسطاء على أي حال.

هذه كلها مدارس وليست اتجاهات فردية.

إذن تسمية مجموعتكم أصدقاء المهجر في رأيي اسم على مسمى وتجسد مشاعر التواصل الأقوى السوداني حقاً.

وأشكر المركز السوداني السماني التربوي الشكر الجزيل على استضافتنا وأقول الصوفية هم من غرسوا التسامح في الطبع السوداني. ولهم دوران: الدعوة السلمية التي نشرت الإسلام في السودان بل في كل أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب شرق آسيا، واتخاذهم الوسائل السلمية. فدوراهما هما نشر الإسلام سلمياً وغرس التسامح في السودان. فالمركز يفتح أبوابه لأنشطة مختلفة بغض النظر عن الخلاف باعتبار أن التسامح يجمع بين الناس.

طلب مني اختيار عنوان، وقد اخترت عنوان: فتح منافذ الفن، وسأتحدث تحت ثلاثة عناوين: الفن، والدين والفن، والفن في السودان. وبعد نهاية حديثي فإني مستعد لأي تساؤل أو تعليق.

الحقيقة أن روح التسامح غالبة في السودان، ولكن هناك من دخلت فيه جفوة حول الدين، وهناك قصة مشهورة. مصل قال لجاره بعد الصلاة حرماً ومد يده، الجار قبض يده وقال: ليست من السنة! قال له: وهل هذا الجفاء “المساخة” من السنة؟ هذا مع كلام النبي صلى الله عليه وسلم قال: أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ”[1].  أي السهلة. وقال: “تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ”[2] والقرآن يوجه: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِۖ وجادِلْهُم بالتي هِي أحسَن)[3]. وقال الحكيم:

الدينُ ليس تَجهُّما و عُبُوسا            والدينُ ليس مظاهراً وطُقُوسَا

الدينُ إيمانٌ و فيضُ سَمَاحةٍ         فاسْعَدْ و أسْعِدْ لا تَكُن مَنْحُوسَا

القسم الأول:  ماهية الفن

  1. كثير من الناس يربط الفن بالترفيه. الترفيه في حد ذاته مهم وقد كتبت في كتابي أيها الجيل صدرت منه حتى الآن طبعتان، وقد فصلت فيه أن للإنسان عشر ضرورات وهي: الروحية، والمادية، والعقلية، والأخلاقية، والعاطفية، والاجتماعية، والرياضية، والجمالية، والترفيهية، والبيئية.

الترفيه في حد ذاته مهم لا غنى عنه للبهجة ولطرد الملل. في السجن كنتُ أسأل زملائي ما هو أسوأ ما في السجن؟ أسوأ ما فيه الملل. الإنسان في السجن أكثر شقاء يواجهه هو الملل. والترفيه يطرده. قال ابن عباس: إني لأستعين بشيء من اللهو على الجد لأن القلوب إذا ملت كلت وإذا كلت عميت.  وفي ذات مجلس تحلقت حول ابن عباس وفود ضربت كباد الإبل من كل أنحاء المدن الإسلامية، يسألونه عن الشأن الديني فأبصر عمر بن أبي ربيعة فاستدعاه وسأله ماذا أحدثت يا عمر؟ فأنشد عمر قصيدة تشبيب رائية:

أَمِن آلِ نُعمٍ أَنتَ غادٍ فَمُبكِرُ            غَــــــــداةَ غَــــــــدٍ أَم رائِحٌ فَمُهَجِّرُ

تَهيمُ إِلى نُعمٍ فَلا الشَملُ جامِعٌ         وَلا الحَبلُ مَوصولٌ وَلا القَلبُ مُقصِرُ

وَلا وصل نُعمٍ إِن دَنَـت لك نافع        وَلا نَأيُها يُسلــــــــي وَلا أَنتَ تَصبِرُ

استنكر بعض الحاضرين هذا الانشغال بعمر انصرافاً عنهم، فقال إني لأستعين بشيء من اللهو على الجد. وفي هذا المعنى قال ابن الفارض:

ولا تكُ بالّلاهي عنْ اللهوِ جُملةً      فَهَزْلُ المَلاهي جِدُّ نَفْسٍ مُجدّة

نعم الفن مهم للترفيه ولكنه أوسع من ذلك كثيراً.

  1. تعريف الفن: هو استخدام المهارة والخيال لخلق الأشياء والتجارب الجمالية التي تتأتى فيها المشاركة للآخرين. أقول: كل أمر يراد له قوة تأثير ينبغي أن يأخذ طابعاً فنياً. ليس فقط العقل والحجة بل لا بد من الفن.

أقسام الفن البعض يقول إنها سبعة، وأرى أنها 14 هي:

فنون مرئية: الرسم، والتلوين، والنحت، والتصميم الفني، والخزفيات، والعمارة.

فنون مسموعة هي: الموسيقى بأنغامها المختلفة من سلم سباعي وخماسي إلخ.

فنون الكلمة: الأدب، الشعر، النثر الفني، الرواية، والغناء حتى الأكثر حداثة منه كالراب والريقي.

فنون الأداء: الرقص، المسرح، والسينما.

ثقافات البشر 10 آلاف، كلها تشمل الدين، والسياسة وإدارة السلطة، والبناء والمساكن، والطرب، والحماسة، فكل إيقاعات الحياة تدخل في هذه الثقافات. ساتخذ الدين مثلاً لأظهر لأي درجة تختلف قوة تأثير التعبير عن المعنى الواحد بوسائل مختلفة، وسأتطرق لثلاثة أشياء: الوصايا العشر المنسوبة لموسى عليه السلام، والـ Sermon on the Mount أي موعظة الجبل المنسوبة لعيسى عليه السلام، ونصوص بنفس المعنى من القرآن الكريم. لنرى لأي قدر كان نص الكلمات الأخرى المنسوبة للأنبياء موسى وعيسى عارية عن التعبير الفني، بينما القرآن زاخر بالتعبير الفني.

الوصايا العشر: أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكَ ، لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً،  لاَ ‏تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلَهِكَ بَاطِلاً، اُذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ،  لاَ تَقْتُلْ، لاَ تَزْنِ، لاَ تَسْرِقْ، لاَ تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ، لاَ تَشْتَهِ امرأة جارِكَ.

موعظة الجبل: وهي طويلة نقتبس منها:

في أمر الأنبياء: (لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ).

وفي الوعظ: لَا أقول عينٌ بعين وسن بسن. لاَ تَزْنِ حتى بالنظر. أحبوا أعداءكم.

هذه خلاصات مما جاء في موعظة الجبل.

التعابير القرآنية:

(وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا* وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)[4].

وفي أمر وحدة الدين: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ* وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)[5]. بهذا المعنى هؤلاء جميعهم مسلمين، هذا في أمر وحدة الدين.

 وفي التسامح: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ* وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِۚ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ)[6].

وفي معنى الرد على السيئة: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[7].

أسلوب القرآن يلبس هذه الحلل الفنية ليس فقط في التعابير بل استخدام البلاغة واستخدام البيان: التشبيه، والمجاز، والكناية. والبديع: من طباق، وجناس، واقتباس، وتورية، والمقابلة والسجع ((وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا* فَالْمُورِيَات قَدْحًا* فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا)[8]، (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْر * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ)[9]. وهناك نصوص موزونة: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَۚ)[10].

هذه النصوص تلبس المعاني ثياباً فنية. إننا كمسلمين إبراهيميين بيننا وبين الملة الإبراهيمة ثلاثة أمور تجمعنا: التوحيد، مكارم الأخلاق، والآخرة. فنحن نتفق عليها وتجمعنا بهم، ولكننا نختلف في الشرائع والأحكام. ونرى إذن كيف إذا اتفقت المعاني فإن النصوص القرآنية تلبس زياً فنياً، وهو إحدى الوسائل التي حفظ بها ربنا القرآن: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[11]. هذه من الوسائل. لذلك كان هناك مشركون يذهبون خلسة ليستمعوا للقرآن لأن العبارات الفنية تشدهم: أبو سفيان ابن حرب، وعمر بن هشام (أبو جهل)، والأخنس بن شريق. وفي العصر الحديث هناك عدد من الناس منهم جيفرى لانغ وهو عالم فيزياء أمريكي، ودانيال مور الأمريكي، الاثنان قالا ما معناه أن التعبير القرآني يشدنا حتى ونحن لا نعرف معناه. وأولهما أسلم.

إذن التعبير الفني يشد حتى لو لم يكن الإنسان يدرك معناه. وقد حضر أبو تمام فارسية تغني بلغتها الفارسية وقال:

وَلَمْ أفْهَم مَعانِيهَا ولكن               ورتْ كَبدِى فَلَمْ أَجْهل شجاها

يعني أني لم أعرف كلامها ولكن شدتني وأسرتني بالفن.

التعبير الفني عموماً آسر، يشدك يأسرك لا تستطيع أن تلتفت تتركه، وهذا مثلاً رسومات في الدين المسيحي رسومات ليوناردو دافنشي مثلاً الموناليزا، التي لو نظرت لها تظن أنها تنظر إليك من أي مكان تجلس فيه، فتشدك، وكذلك بقية الرسومات المشهورة.

وأيضاً الموسيقى، طبعاً موسيقى الغرب الكلاسيسكية  نشأت في الكنائس كجزء من الترانيم العبادية.

وواضح تماماً أنه في الدعوة الإسلامية أيضاً عندنا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم لحسان: “هَاجِهِمْ، وَجِبْرِيلُ مَعَكَ[12].

وطبعاً الإمام المهدي قال لأحمد ود سعد في المنشور: أشعارك لها قوة أكثر من قوة السلاح في هزيمة العدو.

هذا كله في الأمور الدينية وفي الأمور الوضعية كذلك.

وأحدهم يصف أثر استعمال الوسائل الفنية هذه بقوة قال:

عليمٌ بإبدال الحروف وقامعٌ          لكلِّ خطيبٍ يشبُه الحقَّ باطلُه

فهذه المعاني أخاذة، آسرة، لما فيها من التعابير الفنية. ولما في الفن من خيال قيل في حكمة إنجليزية: (Poets are unacknowledged legislators of the world)   أي الشعراء هم المشرعون غير الرسميين للبشرية، لأنهم يقولون حكمة للإنسانية، وهو معنى قال  فيه الشاعر العربي:

ولولا معان سَنَّها الشِّعْرُما درى      بناةُ المعالي كيفَ تُبْنى المكارمُ

إذن هذه كلها ملامح من دور الفن.

وأيضاً في الترويج. الفن يمكن أن يقنعك بأن تقوم بفعل لا تريده، مثلما تعمل شركات الدعاية، التي تجعل السيدات والسادة الذين يقومون بـ(window shopping)  يشترون أشياء لا يحتاجنوها ذلك أن واجهة العرض الـ(window) تشده، فالشركات تصرف حوالي ترليون دولار في السنة عشان تعمل لنا غسيل أدمغة (Brainwashing) لكي تقنعنا. فتأتي مثلاً بصورة سيدة جميلة جداً، فأنت تضع نفسك في محل الجميلة هذه وتشتري الأشياء المعروضة. المعنى أن هذه الدعاية قوية ً جداً.

ومن القصص التراثية أن تاجراً استورد كثيراً من الخُمَر (الطِرَح) ذات ألوان مختلفة فبيعت إلا ذات اللون الأسود. فمر به شاعر متنسك وسأله عن سبب حزنه فلما علمه قال له لا تحزن سوف أعطيك بعض الأبيات الشعرية وعندما تنشدها في السوق فسوف تجد أن بضاعتك قد بيعت، والأبيات هي:

قُلْ للمَليحَةِ في الخِمارِ الأسودِ        مــــــاذا فَعَلتِ بِزاهِدٍ مُتَعبِّدِ

قَد كان شَمَّرَ للصـــلاةِ إزارَهُ          حَتى قَعَدتِ لَه بِبابِ المَسجدِ

رُدِّي عَلَيهِ صَلاتَهُ وصـــيامَهُ         لا تَقتُليهِ بِحَـــقِّ دِيــنِ مُحَــمَّدِ

طبعا لما غنوا هذه الأغاني البنات تسابقن للخمار الأسود هذا وصرفوا البضاعة.

لا شك الآن القوة الناعمة الأمريكية اليوم تقودها هوليوود والهندية تقودها بوليود. وصار الناس أي شخص يرى ما يُدهش يقول فنان. أعرف أحد الناس إذا رأى أي شيء جميل امرأة أو شجرة جميلة يقول: أشهد أن الله فنان ماهر، غير الشهادة لذلك النص.

هنالك قصة مشهورة سيدة جاء شاعران أمرؤ القيس والنابغة يريدان أن يخطبا تـأييدها، فقالت لهم من يقول شعر أفضل من الآخر يفوز. فهذا قال امرؤ القيس وصف جواده:

فللسَّوط أُلهوبٌ وللسَّاق دِرَّةٌ          وللزَّجر منه وَقْعُ أخْرجَ مُهذِب

الآخر قال:

فأَدْرَكَهُنَّ ثانِيًا مِن عِنانِهِ              يَمُرُّ كمَرِّ الرائِحِ المُتَحَلِّبِ

ففاز بيت الشعر الأخير لأن الآخر حصانه فاز بالسوط، أما هو فثاني من عنانه، ومن يركب الخيل منكم بمعنى أني”ما شادي الُسُرُع”. وبهذه الطريقة فاز.

وفي الرياضة، فإن محمد علي كلاي لم يكن أقوى من غيره ولكنه كان يستعمل الفن، ملاكم ولكن فنان، ومحمد صلاح المصري أيضاً يدخل الفن في حركاته لذلك يفوز.

 

القسم الثاني: الدين والفن:

كل الثقافات الإنسانية تستعين بأساليب فنية في الغناء وفي الرقص وفي مراحل العبور: الختان والزواج والوفاة كل هذه المراحل في الأفراح  والأتراح. لكن هناك مذاهب ترى الانعزال من الدنيا مثل الناس الذين يسمونهم “حمامة المسجد”. الإسلام ليس كذلك، بل له رأي إيجابي في الدنيا، ولا يدعو فقط للآخرة، لذلك فمن مقاصد الشريعة ليس الزهد في الدنيا ولكن: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَاۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَۖ)[13].

جاء شاعر لعمر بن عبد العزيز، يريد أن يمدحه فقال هذا البيت:

تشاغل الناس بالدنيا وزينتها        وانت بالدين عن دنياك مشغول

قال له لا ليس كذلك، غير كلامك، قل:

فَلا هُوْ مِنْ الدّنْيَا مُضِيعٌ نَصِيبَهُ      ولا عرضُ الدنيا عنِ الدينِ شاغله

طبعاً عمر بن عبد العزيز كان عالماً ولذلك غير المعنى.

لكن حصل خلل لهذا الاعتدال في العهد الأموي والعهد العباسي، حصل خلل في هذا التوازن بين الدين والدنيا، وبين الإسلام والترغيب في الحياة. في العصر الأموي حصلت ممارسات سيئة جداً أشبه بإباحية وتبنوها الشعراء عمر أبي ربيعة في قصيدة  يتكلم عن مخالفة كبيرة ارتكبها إذ دخل على امرأة قالت:

قَالَتْ وَعَيْشِ أَبي وَحْرْمَةِ                 اخْوَتي لأُنَبِّهَنَّ الحَيَّ إنْ لَمْ تَخْرُجِ

إذا لم تخرج فسأصيح…

فَخَرَجْتُ خَوْف يَمينِها فَتَبَسَّمَتْ           فَعَلِمْتُ أَنَّ يَمِينِها لَمْ تَحْرُجِ

فَلَثمْتُ فاها آخِذاً بِقُرُونِها                 شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ ماءِ الحَشْرَجِ

تصرف مثل هذا في القصيدة المعلنة.

هذا أيضاً شاعر يتكلم عن بني أمية:

بنو أمية هبــــــــوا طال نومكم               إِنَّ الْخَلِيفَةَ يَعْقُوبُ بنُ دَاوُودِ

ضَاعَتْ خِلاَفَتُكُم يا قَوْم فَالتَمِسُوا             خَلِيفَةَ اللَّهِ بَيْنَ الزِّقِّ وَالْعُودِ

في العصر العباسي أيضاً وصلت درجة سيئة جداً من المجاهرة. أبو نواس:

ألا فاسقِني خمراً وقل لي هيَ الخمرُ                 ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهرُ

ولذلك هذا الموقف جعل أناس يضعون أحاديث واضح أنها تتناقض من اللهجة المعتدلة للدين. أن صلى الله عليه وسلم نهى عن تسعة أشياء أحدها الغناء، وأنه قال:أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ بِنَفْيِ الطُّنْبُورِ وَالْمِزْمَارِ”[14] وأنه: “نَهَى عَنْ ضَرْبِ الدُّفِّ، وَلَعِبِ الصَّنْجِ، وَصَوْتِ الزَّمَّارَةِ”.. وعن الشعر أنه صلى الله عليه وسلم قال: “لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا يَرِيَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا”[15].

ابن حزم من المشهورين وابن القيسراني والغزالي، جرحوا هذه الأحاديث، وفي رأيي هذه الأحاديث غير صحيحة ولكن وضعت رد فعل للتهتك والمجاهرة التي ذكرناها من ابن أبي ربيعة وأبو نواس وغيرهما.

الإمام أحمد روى عن السيدة عائشة رضى الله عنها: “أن امرأة جاءت إلى رسول الله فقال: يَا عَائِشَةُ، أَتَعْرِفِينَ هَذِهِ؟ قَالَتْ: لَا، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَالَ: “هَذِهِ قَيْنَةُ بَنِي فُلَانٍ، تُحِبِّينَ أَنْ تُغَنِّيَكِ؟” قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَعْطَاهَا طَبَقًا، فَغَنَّتْهَا”.

الغزالي قال في إحياء علوم الدين: “من لم يحركه العود وأوتاره، والربيع وأزهاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج”. أي حجر. وقال: “من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية زائد في غلظة الطبع وفي كثافته عن الجمال وعن الطيور”، لأن الجمال حينما تحدوها تستجيب، والطيور وكل الطبيعة تغني وترقص، والحيوانات كذلك، فالإنسان الذي لا يتحرك مائل عن الاعتدال من كل هذه الحيوانات.

أما الشعر فقالوا أن القرآن قال: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ)[16] أن هذا تحريم للشعر..  لكن الحقيقة ذهب شعراء قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم يا رسول الله هل نحن ضمن هذا الوصف فقال لهم لا هناك استثناء (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواۗ)[17]. هؤلاء استثناء.  والحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم الشعر هو نفسه:

أنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ              أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ

وأثنى على الشعراء قال أنا لم أشته أن أقابل أحد من شعراء الجاهلية هؤلاء مثل عنترة، ليس فقط لقوة عنترة بل هو من أكثر الشعراء عذوبة في الجاهلية. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم عن دريد بن الصمة وهو شاعر: “يبعث أمة وحده”.

كذلك جاء كعب بن زهير المسجد ليقول قصيدة ثلاثة أرباعها تشبيب بسعاد، وفي نهايتها مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، القصيدة فيها:

بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ        مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ مَكبولُ

وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا        إِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُ

تَجلو عَوارِضَ ذي ظَلمٍ إِذا            اِبتَسَمَت كَأَنَّهُ مُنهَلٌ بِالراحِ مَعلولُ

الأمر الوحيد الذي علق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم هي عندما تكلم عن الرسول:

إنَّ الرَسولَ لَنورٌ يُستَضاءُ بِهِ        مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ الهند مَسلولُ

قال له لا بل من سيوف الله مسلول، فقط هذه التي صححها، ولكن الباقي لم يستنكره وأعطاه بردته.

التماثيل: التماثيل والصور حرمت علينا لا في حد ذاتها ولكن لأنها كانت تعبد، أي كانت هناك شبهة وثنية. أما إذا كانت هناك أغراض أخرى: أغراض علمية أو أغراض جمالية وغيرها فلا حرمة، مثلما قال ربنا سبحانه تعالى عن الجن وسليمان: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًاۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)[18]. بمعنى يا آل داود أشكروني على أنهم يعملون لكم هذه الأشياء المذكورة، فعندما لا تكون للشرك لا حرمة للصور ولا للتماثيل.

القاعدة هي: كل تعبير بالنثر أو بالشعر أو بالصور إذا كان فيه محظور حرام، وإلا فهو حلال. مثلاً صورة شخص لجواز سفر كيف تكون حراماً؟ أما إن كانت صورة لشخص متهتك فتحرم. فالأغراض هي التي تحدد الحرام من الحلال، وليست الوسيلة المطروقة سواء أكانت شعر أو نثر، فحرامه حرام، وحلاله حلال.

لقد تكلم أعمق العلماء بصورة إيجابية عن المسائل الأدبية والفنية: ابن حزم الأندلسي في كتابه “طوق الحمامة”، ابن القيم في كتابه “روضة المحبين ونزهة المشتاقين”، والسيوطي في كتابه “شقائق الاترنج في رقائق الغنج”. خلاصة ما يقولون إن المحبة في الطبع الإنسان، ولا يصح قول الذين يقولون كلاماً يطعن في مسائل في الطبع الإنساني وفي الفن والتعبير عنها ويحرمها.

فيما يتعلق بمسألة الحب فإن أفلاطون يقول كلاماً كالأسطورة، إن الإنسان الأول كرة انشقت نصفين، وكل شق يقضي حياته يبحث عن شقه الآخر، بمعنى كأنما الإنسان لا يكون إنسان إلا بهذا التكامل بين ذكر وأنثى بهذا المفهوم. وفي القرآن آية تقول نفس هذا الكلام (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَاۖ)[19].

وطبعاً هناك كثير من الناس كانوا يتكلمون عن حب السينما والحب السوقي، وطبعاً أيضاً يقولون إنه حرام، مثلما قال نزار قباني:

الحبُّ يا حبيبتي

قصيدةٌ جميلةٌ مكتوبةٌ على القمرْ

الحبُّ مرسومٌ على جميعِ أوراقِ الشجر

الحب منقوشٌ على ريش العصافير

وزخات المطرْ

لكنَّ أيَّ امرأةٍ في وطني

إذا أحبتْ رجلاً

ترمى بخمسينَ حجرْ

بمعنى النظرة المبدئية ضد أنه تكون هناك محبة بين الناس، مع أن الرسول صلى الله عليه نفسه يقول: “لّم يَر لِلَمُتَحَابِينَ مِثَل النَكاَح”[20]. بمعنى أن يكون هناك زواج، نحن  ليس فقط مسموح بل مطلوب أن نتعارف (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواۚ)[21]. لا تتنافروا بل تتعارفوا، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: “الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ”[22] ويمكنك أن ترى شخصاً رجلاً أو امرأة وتحبه من أول نظرة تحبه وآخر تكرهه من أول نظرة، وهذه  لأن الأرواح أجناد مجندة، وهنا يوجد كلام عظيم جداً يقوله أيليا أبو ماضي:

قال قوم  إنّ المحبّة إثم              ويح بعض النفوس ما أغباها

إنّ نفسا لم يشرق الحبّ فيها       هي نفس لم تدر ما معناها

أنا بالحبّ قد وصلت إلى نفسي     وبالحبّ قد عرفت الله

لأن طبعاً المسلمين والمؤمنين مفروض علاقتهم مع ربنا تكون محبة (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِۗ)[23].

بدون شك الشعر والموسيقى والنغم له أثر على الإنسان، العالم الفيلسوف الفارابي هو واضع علم الموسيقا في تراثنا. قيل إنه سئل في مجلس عن تأثير الأنغام؟ فركب آله عازفة كالعود وعزف لحنا فتحركت قوائمهم ورقصوا. وعزف لحناً آخر فضحكوا. وعزف ثالثاً: فبكوا. ثم عزف رابعاً: فناموا فتركهم وذهب. مما يؤكد قوة تأثير الأنغام.

وهناك قصيدة عمرو بن كلثوم التي رفع بها شأن تغلب، التي قال فيها المتنبي:

وَإنْ تكنْ تَغلِبُ الغَلباءُ عُنصُرَهَا             فإنّ في الخَمرِ معنًى لَيسَ في العِنَبِ

قصيدة عمرو بن كلثوم هي:

أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَـا           وَلاَ تُبْقِي خُمُـوْرَ الأَنْدَرِيْنَا

ويقول:

لنَا الدُّنْيَا ومَنْ أمْسَى عَلَيْها                  ونَبْطِشُ حَيِنَ نَبْطِشُ قَادِرِينا

مَـلأْنَا البَـرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّـا                   وَظَهرَ البَحْـرِ نَمْلَـؤُهُ سَفِيْنَـا

إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ                     تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا

قمة الفخر، وقد صار بهذا الكلام سيّد موقف قبيلته.

كذلك سيف الدولة، وهو أمير عادي لحلب الشام شهرته وخلدته أشعار المتنبي وحققت له مكانة في عصره وفيما تلاه من العصور فصار شخصية تاريخية عظيمة.هذا من صنع المتنبي، لكن المتنبي استخدم الفن حتى قال:

وَمَا الدّهْرُ إلاّ مِنْ رُواةِ قَصائِدي             إذا قُلتُ شِعراً أصْبَحَ الدّهرُ مُنشِدَا

فرفع سيف الدولة من أمير عادي جداً إلى شخصية كبيرة جداً، وهي حقيقة غير موضوعية، وذلك يقال إن أكثر علاقات عامة ناجحةً في التاريخ العلاقة بين المتنبي وسيف الدولة.

فبلا شك أن الفن لا يقوم بدور الترويج والتأييد فقط ولكن أيضاً الخلود، ويظهر هذا في الأثر الباقي للفنون فالموناليزا والمعلقات كلها خلدت على مر السنين، والفن العظيم يخلد. لذلك قال أحد شعراءنا، الهادي آدم:

آية الفن أن يكون جسورا         أن يرى في الوجود رأيا خطيرا

لك يا صاحب الروائع آيٌ          تجعل الفن بالخلود جديرا

ريشة كلما جرت فوق قرطاس    أنارت للناس ليلا ضريرا

 

القسم الثالث: الفن في السودان

سأتحدث عن الفن في السودان  في 12 نقطة:

الأولى: هنالك استخفاف شديد جداً بالسودان، وأنتم الموجودين بالغربة خاصة من أجل أولادكم لا بد أن تبحثوا كيف نعظم شأن السودان.

هناك حقائق حول السودان، قال تشارلس بونيه؛ وهو عالم آثار سويسري، أحب السودان حباً شديداً، وقال إنه يريد عمل حفريات في كرمة فقال له زملاؤه علماء الأثار لا تضيع وقتك في السودان فلا يوجد جنوب مصر شيء، لا يوجد تاريخ بل جغرافيا فقط: شجر وحجر ونهر وجبل. قال لي: حينما جئت وقمت بالحفريات اكتشفت أن تاريخ الإنسانية كله بدأ هنا، فأول مدينة متحضرة في الكون هي كرمة، ومنذها ابتدأ يركز على هذا المعنى، ستين سنة ياتي ويعمل على حسابه هذه الحفريات.  قلت له يا مستر تشارلس نحن نقدر لك كلامك هذا أنا ألقبك السوداني الأبيض، عكساً لوصف الطيب صالح في روايته عن الإنجليزي الأسود. واقترحت في حضرته أن يدفن في إحدى إهرماتها إذا أذنت أسرته بعد طول عمر، ولا حرج في صليبه.

أيضاً قال لي السفير الحردلو رحمه الله وقد كان سفيرنا في السنغال أن الرئيس السنغالي الأسبق ليوبولد سنغور قال له: “الحضارة الإنسانية الأولى صنعها أجدادكم النوبة ، وهم سادة الصناعة الأولى،  والزراعة، والمعرفة، والشعر، والفنون، والأهرامات”. معان كررها هرمان بل عالم الآثار بقوله: “السودان هو أصل حضارة وادي النيل”. وقد قدم الشيخ أنتا ديوب  في كتابه “الأصول السوداء للحضارة المصرية” The Black Origins of Egyptian Civilization الكثير من الأدلة لتلك الحقيقة.

مراحل التاريخ في السودان عشرة: كرمة، ثم كوش، ثم مروي، ثم العهد المسيحي، ثم الممالك الإسلامية، ثم العهد الخديوي، ثم المهدية، ثم الحكم الثنائي، ثم السودان المستقل، ثم السودان المنقسم على نفسه.

الحفريات أثبتت أمرين: الرقي الحضاري لأهل السودان، وإرتباط  التعبير الفني بالدين في الحقب المختلفة.

تاريخنا القديم مهمل سوى بعض المؤلفات وسيطرت عليه الكتب التي أمر مؤلفيها بها ونجيت باشا رئيس مخابرات جيش الاحتلال في مصر. وهي كتب وصفها المؤرخ الأكاديمي البريطاني بيتر هولت عميد كلية التاريخ في جامعة الخرطوم سابقاً بأنها أدبيات دعاية حربية لتبرير غزو السودان.

السودان قاوم الفتح الإسلامي الذي فتح مصر وعندما جاء ليفتح السودان قاوموه، قاومته الدولة المسيحية السودانية، ولذلك عمل معها اتفاقية البقط (Pact) للتعايش، في أثناء التعايش هذا حصلت الهجرات العربية وحصل نشاط العلماء والفقهاء والطرق الصوفية، وحقيقة الطرق الصوفية لعبت دوراً أكبر لأن هذا الإختراق اختراق سلمي. فالدولة الإسلامية التاريخية انتهت، وفي غيابها استطاعت الطرق الصوفية أن تُسلم أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب شرق آسيا.

أسلوب الطرق الصوفية متميز على أسلوب العلماء أو الفقهاء؛ الفقهاء يلقون دروسهم في جامع ويذهبون. ولكن شيوخ الطرق يقيمون المسيد يجلسون إلى الناس ويختلطون مع الناس ينصحونهم ويرشدونهم ويتمازجون اجتماعياً معهم، ويدخلون في مسائلهم المختلفة. إضافة لذلك فقد استخدموا وسائل فنية محلية: النوبة والذكر الذي هو كالرقص الجماعي وهكذا.. فهذه كلها جعلت وضعهم أميز وأكثر قدرات على كسب شعور الناس ومشاعرهم، ومثلما هو معروف الطرق الصوفية تستخدم كثير جداً من الغيبيات والذهنية البسيطة تدخل الدين في الغيبيات، ولو قرأتم طبقات ود ضيف الله موجود فيها هذه الغيبيات في تعامل الناس وكانت تلك ذهنية الناس حينها، ولذلك كانت قدراتها أكبر في كسب الناس. هناك كتاب مهم جداً كتبه ماكس فيبر عن “سوسيولوجيا الدين”، فمن هم في مستوى بسيط أكثر يتقبلون التدين بالدين الذي فيه غيبيات. كل ذلك أتى بميزة للطرق الصوفية وقدراتها.  وطبعاً حصلت مواجهة بين الشيخ والفقيه، الشيخ الهميم والقاضي دشين الذي قال له لقد تزوجت خمسة وسكتنا والآن تريد أن تجمع بين الأختين لن نسكت لك، وقد فسخت عقدك هذا، الشيخ قال له الله يفسخ جلدك، فانفسخ جلده. هذا في الطبقات. وأيضاً لو شاهدتم فيلم رواية عرس الزين التي كان بطلها علي مهدي، الزين شاب غرقان، وإمام الجامع كان لا يوافق على أنه هو يتزوج بنت جميلة “النعمة”، هذا الغرقان المدروش تنتصر له الرواية.

فالسودان كان الطابع الصوفي غالباً عليه. تسامح الطرق مع وجود حكام ظلمة أتى بظاهرة سيئة جداً وهي تفسخ كبير جداً في معاملات الناس وتهتك ومجاهرة بالسوء. من ذلك أن غردون وهو لم يات للسودان مرة الأخيرة فقط، بل جاء قبلها حاكماً للإستوائية، في ذلك الوقت الحاكم العام حينها إسماعيل آيت باشا أقام له حفلاً فيه بنات يرقصن عاريات ومظاهر إباحية شديدة، حتى أن غردون اشمأز من هذا الاستهتار وغادر الحفل. أيضاً في سنة 1837م أقام مأمور بربر حفلاً فيه إباحية وبنات يتعاطين المسكرات ويقمن بتصرفات ماجنة. كل هذا خلق جواً مستفزاً جداً في السودان، تسبب في كراهية شديدة جداً للحكم الخديوي. فحينما غزا العثمانيون السودان في 1821م وجدوا مقاومة مثل ما حدث مع الشايقية وموقف مهيرة الشهير. كذلك ما حصل مع الجعليين، فقد أهان إسماعيل باشا ابن محمد علي باشا المك نمر، أولاً فرض عليه ضرائب غير معقولة: ألف جمل وألف رقيق وألف دقيق، فرص عليه ألفيات، ورماه بالكدوس، وطبعاً أهلنا الجعليين لا يقبلون مثل هذا الكلام، فأسرها له المك نمر وأقام لهم مأدبة سكروا فيها، وقام جماعته بحرق الباشا وجماعته، رداً على هذا الظلم. هذا أدى إلى حملة الدفتردار وهي حملة عقوبة جماعية لأي منطقة في السودان،  هذه الإهانات زائد الضرائب خلقت غبينة، ومثلما سمعتم كان يقال “عشرة في تربة ولا ريال في طلبة” كل هذه المظالم كانت موجودة.

وكتب الشيخ أحمد العوام أن العالم الإسلامي محتاج لإنقاذ وهكذا، هذه كلها تفاصيل أتت بالثورة المهدية، الثورة جاءت في وقت فرضت برنامج أحادي جهادي تعبوي للجهاد بإعتبار أن مهمة السودان مهمته أن يوحد ويفتح العالم الإسلامي أي يحرره ويوحده، تعبئة من أجل قوة نووية نفسية أنه لا بد للسودان أن يلعب هذا الدور.  ولا شك أنه نتيجة لهذا حصلت نهضة  شعرية ومدائح ولكن ركزوا فقط على هذا النوع من الفن وعلى غرض واحد وهو التعبئة بصورة كبيرة جداً. وأيضاً منشورات الإمام المهدي وإنذاراته والتعبئة التي فيها والشعراء كان الشعراء أيضاً عظام جدا شعراء الشعر الفصيح محمد عمر البناء الشيخ الطاهر المجذوب …الخ ومدائح ود سعد، وودالتويم ، وود أب شريعة يعني هذه كلها حملات تعبوية قوية جداً.

هذه البيئة نجحت تعبوياً لكنها حملت الناس في رأيي فوق طاقتهم لأن فيها هذه الدرجة من التعبئة للاستعداد لهذه المهام، وحولت السودانيين لدرجة أنه حينما وصفهم أعداؤهم قالوا: (they are the bravest that walked on earth ) أشجع ممن مشى على الأرض، وآخر:Execution of heros إعدام أبطال. ونستون تشرشل: (we did not defeat them we destroyed them by fire arms) لم نهزمهم ولكن دمرناهم بقوة السلاح. هذه الحالة فيها فعلاً أحادية تعبئة، تحديد هدف فرد واحد وهو الجهاد والاستعداد، ولكن هزموا بقوة السلاح غير المتكافئة. ولذلك الكلام الذي تغنى به وردي رحمه الله  غير صحيح في كرري وهو:

ما لان فرسان لنا              بل فر جمع الطاغية

الصحيح هو ما جاء في قصيدة الفرجوني الرائعة والمعنى الذي تحتويه نعم قتلوا هزموا ولكن المقاومة كانت سبباً في خلق بذرة للوطنية السودانية. الصورة الصادقة التي رسمها  الفرجوني، في رأيي هي من عيون الشعر العربي في السودان.

أفضل من وصف أحداث كرري المرحوم عصمت حسن زلفو في كتابه عن كرري ولذلك نترك هذا الموضوع لمن يريد يعرف الحقائق يرجع لذلك الكتاب.

ولكن المهم أنه بعد هزيمة الدولة فإن الحكم الثنائي البريطاني حقيقة والثنائي شكلاً أقام حكماً حديثاً. سياسة المحتل الإنجليزي كانت أكثر اعتدالاً عنها في مصر وفي كينيا وفي العراق، وهذا بسبب روح الفدائية المغروسة في السودانيين وهم يعتبرونها تحت السطح، فإن مسوها ستنبعث، بمعنى أنهم كانوا حذرين “ساقوا يمين”، وتغاضوا عن أمور كثيراً، مثلاً منعوا التبشير المسيحي في الشمال حتى لا يستفزوا الناس. أحبوا أن يعملوا مقارنة لصالحهم فيما يتعلق بالعهد العثماني السابق، ولأن السيادة كان حولها اختلاف مع مصر فقد أرادوا أن يكسبوا قلوب السودانيين في التنافس مع مصر. المهم العهد الجديد سمح بدرجة عالية من الاستقرار وظهرت الفنون الجديدة الشعر والدوبيت والغناء بصورة كبيرة جداً في السودان. قال لي المؤرخ محمد عبد الرحيم الله يرحمه، كأن الناس جاءتهم حالة راحة بعد العناء الشديد بالانشداد نحو القتال، وازدهر الشعر الفصيح والشعر القومي. بالنسبة للشعر الفصيح: محمد سعيد العباسي، وعبد الله البنا، وأحمد محمد صالح. هذا الشعر السوداني أفضل من الشعر العربي المعاصر نداً بند في رأيي، وانتشرت الفنون الشعبية في مناطق السودان المختلفة خصوصاً الطرفية غناء ورقص  وأنغام في كل مناطق السودان وخاصة البعيدة من المركز، وازدهر الفلكلور بكل  الأغراض المتعددة، وانتشر الدوبيت على لسان كثيريين أمثال إبراهيم ود قدور، وإبراهيم ود الطويل، محمد احمد عبد الكريم أبو سن “الحاردلو”، والحاردلو كان من أقوى  المعارضين في المهدية وقصائده كانت قوية جداً وجارحة:

ناساً قباح من الغرب يوم جونا

سووا التصفية ومن البيوت مرقونا

أولاد ناس عزاز متل الكلاب سوونا

يا يابا النقس يا الانجليز ألفونا

**

جابولنا العمم بقت حرارة وخنقة

وجابولنا الجبب بقت حلاة الزنقة

وهكذا من هذا الهجاء. المهم من أهم نتائج شعر الدوبيت في تلك الفترة غرس الإنسانيات السودانية. في عام 1988م وفي زيارة رسمية للأردن أقام لي السفير السوداني أحمد دياب مأدبة غداء حضرها السودانيون الموظفون في الهيئات الدولية وطلب الأمير الحسن بن طلال ولي العهد يومئذ أن يحضرها فحضرها وقال لنا: حرصت ان أقدم لكم شهادة وهي أن السودانيين ينفردون بخصال أسميتها إنسانيات سودانية هي: الكرامة، والتواضع، والتسامح، والمروءة، والوفاء.

شعراء الدوبيت هؤلاء هم المشرعون لهذه الإنسانيات غرسوها وشهروها ـ مثلاً:

الكرامة:

البهين امرك قطع لا تزورو

ولوكان القمر لا تهتدي بي نورو

التسامح:

الهوي والشرق بـــــــــي ليمو لماهو

الزيـــــــن والفســــل بي خيرو عماهو

حفر العــــــد غريق لامن يجيب ماهو

لملم سعينات الرجال سواها في سقاهو

المروءة:

مما قام صغير ما بمشي في الفرغات

للجار والعشير هو الدخري للحوبات

ستار العروض البرفع الواقعات

التواضع:

إياك والغرور إن كان جلوسك حافل

اتواضع لإلهك لا يراك الغافل

إذا رأيت نفسك فضيل تكون سافل

أما العافية زايلة وكل بدراً آفل

بمعنى تواضع لا ترى نفسك متكبر.

الإنسانيات السودانية كثيرة وهذه مجرد نماذج منها، وهي من أجمل ما قيل في الإنسانيات في كل فرائض الشعر النبوي، وكذلك كانت أشعارهم جيدة في مجالات الإقدام، والحماسة، والفروسية، ووصف الطبيعة، والغزل، حتى وصف الحيوانات. الحردلو كان جالس في السوق أتوا ناس يحملون جرو أسد فانزعج:

جابوك للسويق ﺳﺎﻛﺖ ﺩﺭﺍﺩﺭ ﺿﻴﻌﻪ

ﻭﺍﻣﻚ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺮﻳﻢ ﻣﺎﻫﺎ ﺍﻟﻤﺮﻩ ﺍﻟﺴﻤﻴﻌﺔ

ﻧترﺓ ﻧﺎﺱ ﺃﺑﻮﻙ ﺍﻟﻠﻲ ﺭﺟﺎﻝ ﻟﻮﻳﻌﺔ

ﻭﺇﺕ ﻛﺎﻥ ﻛﺒﺮ ﺟﻨﺒﺎ ﺗﻘﻠﺐ ﺍﻟﺒﻴﻌﺔ

السويق بمعنى سوق.

المهم أود أن نصل للجزء الخاص بالحقيبة لنختم.

بالنسبة للحقيبة فإني لم أسمع شعراً غنائياً في منطقتنا كلها التي تتكلم اللغة العربية أفضل أو حتى تقارن بفصاحة شعر الحقيبة، فمن كان رأى أو سمع فليخبرنا لكني لم  أجد.

الحقيبة فيها خمس خصال:

أولاً: إلمام بالثقافة العربية لدرجة استخدام نصوص الوحي في الشعر الغنائي.

ثانياً: تمثيل ضمير الشعب وطنياً كما تمثله أم درمان العاصمة الوطنية لأنها جمعت الناس  في السودان مثلما قال المرحوم عبد الله محمد الزين: أنا أم درمان أنا السودان

المسألة الثالثة: فيها أصالة تحكي نغم مشي البقر، ومشي الجمال. السلم الخماسي، وهذا مشترك بيننا نحن والقرن الفريقي وبيننا والصين.

رابعاً: أنها طرقت مواضيع متنوعة كأنها موسوعة للأحوال النفسية والاجتماعية في السودان.

خامساً: أنها عبقرية في شعرها وأنغامها خالدة.

أنا أول ما سمعت قصائد الحقيبة هذه مع أمي، وأولادي سمعوها وآمل أن أولادهم يسمعونها، المهم أن هذه القصائد خالدة، ولا شك أصبح يتذوقها الجد والجدة الأب والأم والحفيد والحفيدة، أنغامها جميلة، أما شعرها فلا يضارعه شعر غنائي في كل الثقافة الفنية العربية في رأيي.

وسآتي بنماذج تثبت ذلك قال سيد عبد العزيز:

يا أنة المجروح يالروح حياتك روح

الحب فيك يا جميل معنى الجمال مشروح

الحب ده نار فى الجوف زى الزناد مقدوح

منه الجبابرة تلين لصوت بلابل الدوح

هذه كلها فيها فلسفة عميقة جداً.

خليل فرح:

عزة في هواك

عزة في حماك نحن الجبال

وللبخوض صفاك عزة نحن النبال

عزة ما سليت وطن الجمال

وقلبي لي سواك ما شفتو مال

العبادي: يقول معاني في الغزل أيضاً أنا لم أر مثلها في الأشعار المختلفة:

دون فصادة سواك إلهـك

الإبار ما مسن شفاهـك

بفظاظة ما فاه فاهــــــك

فطرة أدبك وطبع انتباهك

دون تعلم مثبوت نباهك

ود الرضي قال قصيدة  أعتقد أنها نادرة جداً في الموضوع لأنه تغزل في زوجته  وكثير من الناس لا يفعلون ذلك:

ست البيـت بريــدها بــراهـا

ترتاح روحي كل ما أطراها

قـالــت جارتهـا مجـاوراهــا

مــا قوالــة بـس حـاشـاهــا

مهــما أبقــي مـــر بالعانــي

حافظة مــن الأنوثة معانــي

في كثير من وجوه نشاط الفنون في السودان الحديث تطور الشعر الفصيح والدوبيت والفنون الشعبية والفن التشكيلي والمسرح. وابنتي رباح عملت دراسة  لهذا كله ونحن سننشرها إن شاء الله.

كان للإمام عبد الرحمن دوراً مهماً في رعاية الفنون في زمانه، وفي ذلك الزمن كان الفنانون يسمون المطاليق، وحينما صلى الإمام عبد الرحمن على جنازة الفنان كرومة غضب البعض كيف يصلي عليها. لم يكن موقف الإمام مجرد مسألة مزاج، بل هناك أسباب أساسية جداً، فالإمام  دعم الفن وكان أولاً يريد أن يؤكد للأنصار أن هناك سياسية جديدة نحو هذه القضية، وقد انطلق من مفهوم “لكل وقت ومقال حال ولكل زمان وآوان رجال” وهي عبارة الإمام المهدي. فقد وجد بعد الاحتلال الأجنبي أن القوة الخشنة لا تجدي وقد جربها عبد القادر ود حبوبة في الحلاوين، وجربها السيد حامد في منطقة سنجة، ولذلك أجرى تغييراً باعتبار أنه لا يوجد تكافؤ عسكري، وقد كان في كرري درس لذلك فكان من إحدى أسباب الخط الجديد، وحينما اختط الإمام عبد الرحمن ذلك الخط قاومه بعض الأنصار. وكان يريد أن يوضح التسامح الذي اختطه،  فجاء عالم فقيه كان معه، فقدمه يصلي بالناس، وفي الصف هناك أنصار لا يتنازلون عن طريقة المهدي في الصلاة، هذا العالم كبر تكبيرة الإحرام ولم يتعوذ ولم يبسمل، ودخل مباشرة في تلاوة الفاتحة: الحمد لله رب العالمين.  فأحد كبار الأنصار عبد المجيد أبب ساق سلم فوراً: السلام عليكم، السلام عليكم، طلع من الصلاة اعتبرها باطلة  والإمام واقف في الصف. بعد أن انتهت الصلاة  سأله الإمام: مالك يا عبد المجيد؟ قال له يا سيدي أنا والشيطان لن نصلي في صف واحد! وهكذا. أصبحت هناك هذه النزعة:

القفطان امرقو                لباسو فيك ما بخيل

بتخيل فيك الدروع    وركوب عواتي الخيل

لكن الإمام احتج بأنه “لكل وقت ومقام حال”، والمهدي قال كذا، فصار يعزز استخدام القوة الناعمة، وفعلاً أعاد هيكلة  مفاصل الجهاد والزهد. وحرص على التربية الروحية في القرآن والراتب.. الخ. و كان من أسباب دعايته  ودعمه للقوة الناعمة وجود سودانيين يريدون أن يندمجوا في مصر فامتصتهم الثقافة المصرية والفن المصري، وهو يريد أن يعزز الهوية السودانية بالفن، ولذلك شجعه، واحتضن الطرب والشعر والدوبيت والغناء من أجل تدعيم الهوية السودانية لئلا تذوب في الثقافة المصرية، خصوصاً أن هناك من يريد ذلك، فحينما قامت ثورة 24 ؛ ثورة 24 كانت هدفها السودان يتحد مع مصر وهكذا أصبحت هناك حركة مضادة تركز على الهوية السودانية ضد ذلك الاتجاه.

النقطة الحادية عشر: هنالك من طعن في أسلوبه هذا، بمعني اعتبروه مهادناً ضيع القضية، وحسن أحمد إبراهيم الذي كان رئيس قسم التاريخ بجامعة الخرطوم وهو من أبناء الدويم وأصلهم يعود للمتمة، كتب في مقدمة كتابه عن المهدية الثانية، قال: لقد أردت أن أوثق خيانة السيد عبد الرحمن. فاكتشفت على العكس أنه استخدم التقية من أجل أن يحقق أهدافه السياسية والدينية. ولذلك أصفه بأنه أهم شخص سوداني في القرن العشرين.

المهم هذا فيما يتعلق بالدور الذي قام به الإمام عبد الرحمن في دعم هذه الهوية. وأن العلاقة بينه وبين الفنانين وصلت إلى درجة كبيرة جداً من الإلفة مثلما قال عبيد عبد الرحمن:

آويتنـا ودنيتنــــا               وناديتنــــا بأسمانا

ولميـت شقة الفرقـة           القبيـــــل قاسمانا

أيادي نعمتك فــــي            كـــل شيء مقاسمانا

هذه العلاقات وظفت لعمل السيناريو الثاني لعلاقة الأنصار بالعصر الحديث ولخلق دعم للهوية السودانية في مقابل الدعوة الاتحادية.

النقطة الأخيرة: معهد الموسيقى والمسرح الآن صار جزءً من جامعة السودان، ويرجى أن تستطيع نقابة الفنانين تطوير دوره، كذلك هناك نشاط مسرحي يرجى تطويره على يد نقابة المسرحيين، ومع أن التشكيليين السودانيين أبدعوا  مدارس سيما مدرسة الخرطوم، ومدرسة الواحد وغيرهما لكن الضغوط والتدخلات الدكتاتورية قد أجبرتهم وأجبرت كثيرين للهجرة من الوطن، ومع ذلك يرجى أن يقام لكل هذه الفنون مجالس  أسوة بمجالس المهن كالطب والهندسة. ولكن هذه الفنون قد عانت من تدخلات مسيئة أثناء فترات الهوس الأيديولوجي في أول عهد مايو وفي آخر عهد مايو، وفي ظل حكم الإنقاذ، ومع هذا الهوس الأيديولوجي فإن هناك فن أو نشاط فني كبير في محافل الرواية وهنالك كثير جداً من الشباب ذكوراً وإناثاً بدأوا يكتبون روايات كثيرة جداً  فهو  أدب روائي أحدث نهضة فنية كبيرة جداً، وفي وسط الغناء، أيضاً هنالك نهضة شعرية يقودنها أناس مثل محمد المكي إبراهيم، وعالم عباس، والمكي مصطفى يتكلمون بحرية وبالشعر القومي يقودها القدال وحميد ومحمد صالح المجذوب وزروق العوض، كل هؤلاء كان لديهم هذه الجرأة.

ولكن الحقيقة لا يوجد انتعاش للفن بكل أنواعه إلا إذا كفلت الحريات، بدون كفالة الحريات كل شيء يصبح مقيد، والذين يقرأون الكتابة على الحائط يدركون أن هذا  الفجر آت، مكتوب على حائط معنوي أن هذا الفجر آت، ومن يقرأ المكتوب على الحائط يستبشر أن هذا الفجر وراد ليس في السودان فقط بل للمنطقة كلها، المنطقة كلها مثلما قال عنها أحد شعرائنا:

آفة الشرق حاكمٌ معبودٌ              وشعوبٌ تروعهنَّ قيودُ

وبرأيي هذا في طريقه للزوال. الحقيقة التي وصلت إليها الأوضاع في المنطقة كلها تبشر بما قاله ابن زريق، وله أجمل قصيدة في الفراق:

لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ     قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ

والقصيدة تقول:

فَأَضيَقُ الأَمرِ إِن قدرتَ أَوسَعُهُ

فالحال ضيق جداً وبعد هذا لا تمضي إلا لأن تتسع. فهذه هي الحالة في منطقتنا. أصحاب الفنون لأن لديهم قرون استشعار معنوية، أحدهم قال بيتاً فيه قرون  الاستشعار هذه.

لا تضق بالحياة فالسحب لا يحجبن شمساً

 ولن يخفين ومضا

إن للحق قوة ذات حدٍ من

شباة الردى أدق وأمضى

والسلام عليكم.

 

 

 

 

 

ملحوظة: القيت الكلمة شفاهة وحولها المكتب الخاص للإمام الصادق المهدي للنص المكتوب.

 

[1] المعجم الأوسط

[2] صحيح البخاري

[3] سورة النحل الآية (125)

[4] سورة الفرقان الآيات 63 ، 64، 65، 66، 67، 68، 69، 70، 71، 72)

[5] سورة آل عمران الآيتان (84، 85)

[6] سورة النحل الآيتان  (126، 127)

[7] سورة فصلت الآية (34)

[8] سورة العاديات الآيتان (1، 2، 3)

[9] سورة الفجر الآيتان (1، 2، 3، 4)

[10] سورة آل عمران الآية (92)

[11] سورة الحجر الآية (9)

[12] رواه النسائي

[13] سورة القصص الآية (77)

[14] ميزان الاعتدال في نقد الرجال

[15]  رواه الترمذي

 [16] سورة الشعراء الآيات (224، 225، 226)

[17] سورة الشعراء الآية (227)

[18] سورة سبأ الآية (13)

[19] سورة الأعراف الآية (189)

[20] صحيح ابن ماجه

[21] سورة الحجرات الآية (13)

[22]  مسند الإمام أحمد

[23] سورة البقرة الآية (156)