التعايش الديني في السودان

بسم الله الرحمن الرحيم

التعايش الديني في السودان

13 نوفمبر 2005م

 

التناول الخاطئ لأمر الدين تسبب في كثير من الفرقة الوطنية في السودان. بدأت الفرقة بقانون المناطق المقفولة الذي أقام في السودان أبارثيد ديني وثقافي لمدة أربعين سنة، ثم كانت الفرقة الوطنية التي سببتها قوانين سبتمبر 1983م ثم مشروع التوجه الحضاري الذي التزم به انقلاب يونيو 1989م فعمق النزاع حول الدين بين المسلمين وغيرهم وخلق استقطابا حادا داخل الجسم الإسلامي. لذلك رأينا ونحن أمام مرحلة جديدة أن الأمر الديني يحتاج لميثاق ديني خاص وميثاق ثقافي لما للدين من أثر على الثقافات لكي نؤسس لعلاقات جديدة بين الأديان في السودان. وفي ندوة دعا لها مجلس التعايش الديني الذي يديره الأستاذ الطيب زين العابدين في يناير من هذا العام وحضرها كبير أساقفة كانتربري السابق تداولنا مسألة تنظيم العلاقة بين الأديان، وتبنى المجلس توصية بوجوب عقد هذا الميثاق.

لا اتفاقية السلام الأخيرة ولا الدستور الانتقالي المجاز هذا العام عالجا موضوع العلاقات بين الأديان وبين الثقافات بالإحاطة اللازمة.

فيما يتعلق بالدستور الانتقالي فقد قدمنا دراسة حوله انتقدناه لهدمه ركنا هاما هو الشورى فقد وضعت مسودته ثنائيا، وغابت عن المفوضية التي أجازته جهات سياسية معتبرة ومع ذلك هي مطالبة بالامتثال له، وحقوق الإنسان فيه جاءت ناقصة ومقيدة، وهو خاضع لاتفاق حزبين سياسيين ويفصل حقوقهما الحزبية مميزا لمواطنين على أساس سياسي وهادما مبدأ المساواة الذي يوجبه الشرع والعقل، وحاميا تلك الامتيازات الحزبية بترتيبات عسكرية في شكل انقلاب كامن مؤسس للإكراه، كما أن صيغة الاستفتاء المنصوص عليها في الدستور تكرس استمرار المصالح الحزبية الثنائية إلى ما بعد الفترة الانتقالية، إلى آخر ما ذكرناه. ولكنني أرحب بسبع نقاط نص عليها الدستور في أمر الحريات الدينية هي:

* احترام التعددية الدينية وكفالة حرية الأديان.

* كفالة حق الجماعات الدينية في تشريعات مستمدة من عقيدتها.

* النص على آلية تمكين غير المسلمين من الاستثناء من تطبيق الأحكام الإسلامية حيثما هم أغلبية.

* النص الواضح على الحقوق الدينية.

* تنظيم حقوق الأسرة وفقا للشرائع.

* احترام التنوع الثقافي/ الديني.

* النص على كفالة حقوق الإنسان والحقوق الدينية فيها كما ورد في المواثيق الدولية..

وهنالك سبع نقاط أخرى متعلقة بالملف الديني نعتبرها مقيدة أو مناقضة للنصوص أعلاه هي:

الأساس الجغرافي لتطبيق الأحكام الإسلامية: وهو أساس رفضناه عندما قدم وزير العدل مشروع القانون الجنائي في عام 1989م، ولدى حوارنا مع المؤتمر الوطني، حيث اتفقوا معنا على ما يفهم منه أن تطبيق الأحكام يدور مع المسلم حيثما كان والاستثناء يدور مع غير المسلم حيثما وجد.

عدم نفاذ النص على الحقوق الدينية حيث ترد في باب الموجهات التي لا تنفذ في المحاكم.

هضم حرية المسلمين الاجتهادية بفرض الاجتهادات والقوانين التي وضعتها أقلية إسلامية بفهم اجتهادي أحادي مما يفرض اجتهادات مذهبية برؤية الأقلية وبدون الشورى المفروضة.

النصوص حول وضع العاصمة مشبعة بالتناقضات وحمالة أوجه بما يتيح لطرفي الاتفاقية أن يفهماها فهما متناقضا. كذلك فإن التدابير الخاصة بمراعاة الحقوق في العاصمة تثير التساؤل والريبة حول آلية كفالة الحقوق خارج العاصمة القومية..

حرية العقيدة والعبادة تكفل دستوريا (وفقا لما يتطلبه القانون والنظام العام) وهذا يفتح مجال أن يقيد القانون الحق الدستوري وينتقصه. والتعبير الأصح هو: وفق الترتيبات التشريعية الصحيحة.

انتهاك الحريات الدينية عبر القوانين الحالية التي يفرض الدستور سريانها، وبعضها ينتهك الحقوق الدينية في نصوصه.

الدستور ينص على استقلال القضاء، ولكن النص على استقلال القضاء في المواثيق السابقة للنظام ظل اسميا.. إن استقلال القضاء مبدأ إسلامي أكيد عبر عنه القاضي أبو يعلى بقوله إن القاضي إمام في اختصاصه. لم ينص الدستور على إصلاح الأوضاع القضائية الراهنة كما طالب بذلك القضاة المبعدون دون وجه حق في مذكرتهم بتاريخ 5/1/2005م.

إن السودان مقبل على حلقة هامة من حلقات البناء الوطني، تتطلب خلق الإجماع الوطني حول القضايا الأساسية، وفي هذا الصدد فإن المسألة الدينية كانت وستظل من أهم الملفات في ضبط التعامل بين السودانيين بما يحقق التعايش السلمي ويكفل الحقوق والحريات الدينية للكافة. ولا بد من تحقيق التالي:

أولا: أن تستمر عملية المراجعة الدستورية حسب ما نص عليه في بروتوكول ميشاكوس ـ وهو جزء من اتفاقية السلام ـ أن تستمر هذه المراجعة الدستورية طيلة فترة الانتقال، ولكن بشكل شامل وعادل يتجاوز ذهنية القسمة الثنائية التي طغت على مفوضية المراجعة الدستورية في حلقتها الأولى، وأن يعدل الدستور بما يضمن تمثيله بحق لإجماع أهل السودان، وفي هذا الصدد فإننا نقترح إجراء تعديلات تتجاوز أوجه القصور الواردة آنفا فيما يتعلق بالحقوق والحريات الدينية.

ثانيا: الاتفاق على الميثاق الديني الذي يكفل الحقوق الدينية، ويضبط العلاقات ويحقق التعايش الديني في السودان. لقد طرح حزب الأمة مثلا ميثاقا من إحدى عشرة نقطة تشكل الأسس الواجبة لتحقيق التعايش السلمي بين أهل الأديان المختلفة في السودان. ويرجى أن يبحث مع غيره من المقترحات للوصول لميثاق يحقق الحريات والحقوق الدينية للكافة، ويحمي العلاقة بين الأديان وبين المذاهب الدينية المختلفة من الانزلاق نحو الغلو والتطرف.

ثالثا: الملف الأخلاقي: هنالك انهيار أخلاقي ملحوظ في البلاد تسببت فيه سياسات القهر العقدي من جهة والإفقار الاقتصادي من جهة أخرى فالجوع أخو الكفر.. وهذا يقتضي تجنيد كل الوسائل التربوية والإعلامية والتعليمية للتركيز على قيم الفضيلة والأخلاق. ينبغي أن تشهد الفترة الانتقالية ضمن ما تشهد من تحولات صحوة أخلاقية لاحتواء هذه الحالة، تعمل فيها المنظمات الدينية المختلفة بدورها المنوط بها ضمن الوسائل الأخرى، وتتلقى الدعم المجتمعي والرسمي اللازم. هذه الصحوة الأخلاقية هي جزء لا يتجزأ من العافية الاجتماعية في البلاد.

رابعا: الملف الإنساني: وتنظيم دور المنظمات الدينية ـ ضمن غيرها ـ في الإغاثة الإنسانية خاصة في دارفور التي تعيش الآن انفلاتا يضعها على حافة التفتت الاجتماعي الشامل، وفي المناطق التي دمرتها الحرب في الجنوب.

إذا تم تحقيق هذه الخطوات فإن التعايش الديني هو ثمرة مرجوة، ليس ذلك فحسب، بل إن الدين سيثمر في المجتمع السوداني عافية وعطاء، ويمثل قوة تنفخ في سواعد بنيه وفي هياكل المجتمع.. هذا بدلا من استخدام الشعار الديني، زورا أو جهلا، مدية لذبح آمال الشعب السوداني، كما كان في أيام «الإنقاذ» السابقة!.