الثورة الرقمية وأثرها في الشأن العربي

الإمام الصادق المهدي
الحبيب الإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله

 

 

بقلم الحبيب الإمام الصادق المهدي

 بسم الله الرحمن الرحيم

 نادي مدريد تجمُّع يضم نحو 90 من رجال ونساء كانوا رؤساء دول أو حكومات من القارات كلها انتخبوا ديموقراطياً، وهو لذلك جراب رأي عالمي وكنز خبرات لا مثيل له، وقد دعيت جمعيته العمومية إلى اجتماع دوري لإحياء الذكرى العاشرة لتكوينه في مدينة نيويورك الأميركية في النصف الأول من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري. كانت الجمعية العومية محضورة بأكثر من نصف الأعضاء، ونظم النادي بمناسبة الاجتماع حلقة دراسية حول الطفرة الرقمية، من تواصل اجتماعي، مثل الـ «فايس بوك» والـ «تويتر» والـ «سكايبي»، أي البرنامج التلفوني الرقمي عبر التلفون المصور، والموسوعة الرقمية المفتوحة، أي الـ «ويكيبيديا»، ومن إعلام جديد، كما في المحطات الفضائية، ومن مكتبة معلومات لا مثيل لها كما في الانترنت، ومن وسائل اتصال جديدة كما في الهواتف النقالة وتطوراتها البديعة.

تناولت الحلقة الدراسية أثر هذه الثورة الرقمية على الحوكمة، والإدارة، والإعلام، والتعليم، والبحث العلمي، والعلاقات الدولية، وضمت الحلقة الدراسية، بالإضافة لأعضاء نادي مدريد من رجال ونساء الدولة، خبراء في التخصصات المختلفة، واستمع الحاضرون لنحو ستين مداخلة تدارسوها بصورة تمثل إضافة معرفية حقيقية في بيان أثر الطفرة الرقمية على حياة البشرية.

 وكان من واجبي أن اقدم محاضرة بعنوان “التكنولوجيات الجديدة، والربيع العربي، والحوكمة في القرن الحادي والعشرين”.

قلت إن ما حدث ليس موسماً، بل تحول تاريخي يمحو مقولة الاستثنائية العربية، ويلحق المنطقة بموجة التحول الديموقراطي العالمية، وإن ما حدث هو وسائل تواصل اجتماعي أتاحتها الطفرة التكنولوجية الجديدة في مجتمع عربي متعطش للخروج من جبروت الطغيان، في عالم شديد الحساسية لقضايا حقوق الإنسان، وإعلام فضائي بالغ الكفاءة في نقل الأحداث بالصوت والصورة إلى كل أركان العالم بسرعة البرق.

وقلت:

 أولا: العالم العربي عامة يعاني طغيان نظم ذات سمات مشتركة هي الحزب أو العشيرة الحاكمة بقبضة حديدية، تحرسها أجهزة أمنية لا ترحم، ويروج لها إعلام طبال، وتسخَّر في خدمتها محسوبية اقتصادية تفرِّق بين المواطنين على أساس الولاء للنظام الحاكم.

هذه القبضة الحديدية مهما اختلفت الشعارات الأيديولوجية المبررة لها، طبقت نظم الفاشستية الحديثة في تركيع الشعوب، وبدا كأن أجهزتها بتلك الوسائل القمعية قد أخضعت شعوبها إلى احتلال داخلي محكم، لكن الوسائل التكنولوجية الجديدة أتاحت قنوات للتواصل، والتشاور، والتنسيق بعيدة من عيون أجهزة القمع التقليدية، واستقتال الشهيد محمد البوعزيزي أشعل غضبة شعبية واسعة في مجتمع تراكمت فيه المظالم عبر السنين.

 ثانياً: الدور الرائد التونسي في كانون الأول (ديسمبر) 2010، قدَّم مثلاً للثورة المصرية. الثورة المصرية عززت القدوة التونسية بصورة نوعية على طول العالم المتحدث باللغة العربية وعرضه، كما عبر الشاعر اليمني الأرياني:

ما نال مصر نقمةٌ أو نعمةٌ  ***  إلا وجدت لنا بذلك نصيبا

وكان لفضائية قطر (الجزيرة) في التبشير بفجر جديد دورٌ، على حد تعبير مجلة الإكونوميست: “الأصغر حجماً الأكبر تأثيراً”.

 ثالثاً: إذا كان انتشار الثورة الشعبية بالريادة الشبابية مفهوماً في الإطار العربي بسبب التشابه في أسباب الغبن وأهداف التطلع، فما الذي يفسر قدوة «الربيع العربي» لحركات احتجاج شعبي مماثلة في بلدان الديموقراطية العريقة، بحيث تظاهر الشباب والشعوب في ألف مدينة، مثل حركة «احتلال وول ستريت»، و «احتلال بورصة لندن» وغيرها؟

هنالك تظلُّم عام في تلك البلدان يعود الى الأسباب الآتية:

  •  أن النظام الديموقراطي الممارَس أعطى حقوقاً سياسية وغيَّب الديموقراطية الاجتماعية.
  •  أن التفاوت في الدخل بلغ درجات غير معقولة. كان أعلى راتب لمديري الأعمال يبلغ 40 ضعف أدنى راتب في السبعينات. صار الآن يبلغ 400 ضعفاً.
  •  أن تهور إدارات المصارف والشركات هو المسؤول عن الاضطرابات المالية، وبدل أن يعاقبوا يمنحون مزيداً من الامتيازات.
  •   أن سلطان المال شوَّهَ الممارسة الديموقراطية، ومَكَّنَ الأغنياء من رقاب الفقراء، وعلى حد تعبير يعقوب هكر وبول بيرسون في كتابهما «الفائز يحوز كل شيء»، أتاح المال لأصحابه فرصة طغيان شامل وحرمان الآخرين.

 رابعاً: الفاشستية الحديثة استخدمت عاملين في تطويع الشعوب هما الخوف والتضليل. التكنولوجيات الحديثة أتاحت للشباب وسائل حجَّمت عامل الخوف الذي كسرته المليونيات الشعبية، كما أن التكونولوجيات الحديثة كشفت الغطاء عن ستار التضليل.

 صارت المليونيات دروعاً بشرية، والإعلام الحديث رافعاً مسانداً، والضمير العالمي المسكون بحقوق الإنسان وبمسؤولية الحماية كابحاً لأساليب الطغاة.

 هذه المنظومة صارت آلية جديدة لإحداث التغيير السياسي والاجتماعي. صحيح أنه بعد الإطاحة بالطغيان بصورة سلسة في تونس ومصر، بسبب المفاجأة وبسبب انحياز القوات المسلحة مؤسسياً للمطالب الشعبية، فإن المطالب الشعبية في البلدان الأخرى واجهت مقاومة كبيرة بسبب غياب المفاجأة، وبسبب انتماء القوات المسلحة العشائري، أو الطائفي، أو الأيديولوجي، ولكن مهما كانت عوامل الثورة المضادة في بلدان الانتقال السلس، أو بلدان مقاومة التغيير، فإن ثورة الشعوب ضد الاحتلال الداخلي (أي نظم الاستبداد) تلبي حاجة موضوعية، مثلما كان الحال أمام مواجهة الاحتلال الأجنبي، ويرجى أن تنتصر إرادة الشعوب مهما تكاثرت العثرات.

خامساً: التجربة التونسية، سواء في الريادة في الثورة، وفي إجراء انتخابات نزيهة، وفي سلوك القيادات السياسية الحكيم، هي تجربة رائعة ويمكن أن تحقق لتونس عبوراً متيناً للفجر الجديد.

لكن مصيراً ما سوف يحدث في المنطقة ويكون أكثر تأثراً بما سوف يحدث في مصر.

 أقول في هذ الصدد:

 لم يكن للذين أحدثوا الاختراق الثوري في مصر برنامج ثوري محدد ولا قيادة موحدة، وأقدمت القوات المسلحة لإدارة الشأن الوطني، واندفع الكافة يمارسون حرية بلا بوصلة، فأدى ذلك لشعور بالفوضى، ومع عزوف القوات المسلحة الواضح عن الاستمرار في الحكم والحرص على تسليم السلطة لقيادة مدنية منتخبة، فقد ترددت أصوات تطالب بوصاية عسكرية على البلاد.

 لا يوجد دليل قاطع على أن القوات المسلحة مع كل ما ظهر في سلوكها من حكمة سوف تقبل هذا الدور، ولكن إذا حدث، فسوف يواجَه بثورة ثانية لا محالة.

 التوجه الإسلامي الناشط في المجال السياسي اكتسب دوراً كبيراً في الشارع السياسي في كل البلدان، لا سيما في مصر. لذلك صارت التيارات الإسلامية، وخصوصاً الإخوان المسلمين، الأكثر شعبية، والأفضل تنظيماً.

 ومع إجراء الانتخابات العامة في أقل من عام بعد الثورة، يرجى أن يكون لهم حجم كبير في مجلس الشعب ومجلس الشورى المنتخبين.

لذلك، وفي ظروف مصر التي تواجه مفاصلة حادة بين الإسلاميين والعلمانيين، وبين المسلمين والمسيحيين، تعالت أصوات الخوف من دكتاتورية تصعد بالسلَّم الانتخابي وتمارس الاستبداد باسم الإسلام.

 أقول:

إن العقل السياسي الإسلامي اليوم يواجه استقطاباً من طيف عريض، في حده من اليمين طالبان، وفي حده من اليسار أردوغان، ومما بينهما من توجهات، فأين تقف القوى الإسلامية في مصر من هذا الطيف؟

مهما كان الموقف النهائي، فمن الواضح أن العوامل الآتي بيانها سوف تؤثر بصورة حاسمة في موقفها:

  •  تجنُّب التجربة الجزائرية، التي أعطت الحركة الإسلامية فيها الحجّة للقوات المسلحة للانقضاض عليها، بسبب إعلانات يُستدل منها أنها سوف تصعد الحكم بالسُّلَّم الديموقراطي ثم تستغني عنه.
  •  الإدراك أن مشاكل مصر الأمنية، والتنموية، من الفداحة الى درجة لا يمكن مواجهتها إلا بموجب تعبئة وطنية شاملة.
  •  أن العلاقات بالجوار الأفريقي، والآسيوي، والأوروبي تفرض ضوابط معينة لإقامتها على أساس الجدوى والمنافع المتبادلة.
  •  أن العلاقة الإيجابية بالأسرة الدولية تتطلب الالتزام بحقوق الإنسان كما في المواثيق العالمية.

لذلك، يبدو واضحا أن أيَّ قوى إسلامية كي تجد طريقها للجدوى والنجاح يجب عليها:

‌أ. الالتزام المُحْكَم بنظام سياسي يقوم على المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون.

‌ب. الالتزام بنظام يحقق اقتصادياً التنمية، والعدالة، والرعاية الاجتماعية.

‌ج. أن تراعي المرجعية الإسلامية حقوق المساواة في المواطَنة.

‌د. أن تقوم العلاقات الدولية على أساس الندية والمصالح المشتركة.

‌ه. أن تكون للقوات المسلحة هيبتها المهنية كجزء من الجهاز التنفيذي.

 هذا معناه أن الظروف الذاتية والموضوعية في مصر تطرد احتمال قيام استبداد جديد تحت راية إسلامية.

سادسا: ماذا يفعل المفكرون والساسة والناشطون في الحقل العام للمساهمة في الفجر الجديد والحيلولة دون المزالق التي تتيح للثورة المضادة فرصاً لتقويض التحول الديموقراطي؟

 كان كتابي الذي صدر في القاهرة في تشرين الأول الماضي مساهمة في هذا المجال، وعنوانه «معالم الفجر الجديد».

ومن منطلق «المنتدى الإسلامي العالمي للوسطية»، سوف ندعو لمؤتمر يضم ممثلي الطيف الإسلامي للإجابة على سؤالين هما:

– ماذا يعني مفهوم دولة مدنية حديثة بمرجعية إسلامية؟

– ما هي الدروس المستفادة من التجارب الإسلامية المعاصرة في إيران، وأفغانستان، وباكستان، والسودان، وتركيا، وماليزيا، واندونيسيا، وغزة، استصحاباً للإيجابيات وتجنباً للسلبيات؟

هذا المؤتمر يرجى أن يعقد قريباً في القاهرة.

 – عملنا على تكوين منبر جامع للحركات الشعبية العربية للتشبيك بينها، مهامه: التنسيق والتعاون بينها، والدفاع عنها، وتقديم الدعم الإنساني لجرحاها ونازحيها.

 سابعاً: ماذا يفعل الغرب مع هذا الفجر الجديد؟

 سياسات الغرب، لا سيما الولايات المتحدة في المنطقة، وخصوصاً في العراق وأفغانستان وفلسطين، ودعمها المستمر للطغاة وانحيازها المطلق للعدوان الإسرائيلي، أكسبها عداوة الشعوب، وأتاح المجال الأوسع لتجنيد القوى التي تمارس ضدها أعمالاً عدائية. وفي مرحلة سقوط الطغاة وسلطان الشعوب وتعدد مراكز القوى الدولية، لا بد أن يراجع الغرب، لا سيما الولايات المتحدة، سياساته نحو المنطقة مراجعة فصَّلْنا معالمها في كتابنا «أصمُّ أم يسمع العم سام»، وأن تدرك الأسرة الدولية عامة أنها هي التي أنشأت دولة إسرائيل بقراراتها، مع حقيقة أن عملية سلام عبر تفاوض بين جلاد وضحية هي عملية مستحيلة. ينبغي أن تقوم الأسرة الدولية التي صنعت المشكلة بحلها على أساس عادل، لأنه لا سلام من دون عدالة. الحكومات التي سوف تنتخبها الشعوب الحرة في المنطقة سوف توجهها هذه المبادئ.

 وفي ملتقى نيويورك اقترحت لنادي مدريد تبني الدعـــوة لــــمؤتمر دولي لدراسة المراجعة المطلوبة في السياسة الدولية للتعامل المجدي مع الفجر العربي الجديد والمراجعة المطلوبة في عملية السلام.

نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية