«الجنجويد» وملف تسليح القبائل العربية

الإمام الصادق المهدي في برنامج مصر في يوم
دولة الحبيب الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وإمام الأنصار المنتخب ورئيس الوزراء الشرعي للسودان ورئيس المنتدى العالمي للوسطية والفائز بجائزة قوسي للسلام لعام 2013 وعضو المنظمة العربية لحقوق الإنسان وعضو نادي مادريد للحكماء الديمقراطيين والمفكر السياسي والإسلامي
دولة الحبيب الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وإمام الأنصار المنتخب ورئيس الوزراء الشرعي للسودان ورئيس المنتدى العالمي للوسطية والفائز بجائزة قوسي للسلام لعام 2013 وعضو المنظمة العربية لحقوق الإنسان وعضو نادي مادريد للحكماء الديمقراطيين والمفكر السياسي والإسلامي

الخميس، ١٩ يونيو/ حزيران ٢٠١٤

نشرنا أمــس حلـــقـة أولى من ملاحظات الصادق المهدي الفكرية والتاريخية حول السودان في عنوان «الهوية السودانيـة بين التسبيك والتفكيك» وهنا حلقة ثانية:

< لأقاليم السودان هوياتها الصغرى ضمن هوية الوطن الكبرى، تتجلى فيها حقائق إثنية وطوبوغرافية وتاريخية متنوعة، وعلى رغم التنوع الذي يطاول الجميع فلدارفور خصوصية زائدة، خصوصاً ما يتعلق بالتاريخ الحديث.

دارفور موطن سلطنة للداجو، ثم للتنجر، ثم للفور. واستمرت سلطنة الفور المستقلة تحكم منذ قبل قيام دولة الفونج إلى ما بعد سقوطها وغزو محمد علي باشا السودان، ولم تنضم دارفور للحكم العثماني إلا لعشر سنوات فقط، في حين أن وسط السودان وشماله عاشا فيه لأكثر من ستين عاماً.

ودارفور تأخر ضمها للسودان الحديث الذي أقامه الاحتلال الثنائي اسماً، البريطاني حقاً، عقدين من الزمان.

ولدى ظهور فجوة التنمية بين دارفور ومناطق أخرى في السودان ظهرت في دارفور جبهة نهضة دارفور بعد ثورة أكتوبر 1964 معبرة عن نداء مثقفيها وتطلعاتهم لمستقبل أفضل. حزب الأمة، باعتباره صاحب التأييد السياسي الأكبر في دارفور، اتخذ موقفاً تعاونياً مع جبهة نهضة دارفور، ووصل معها إلى ورقة تفاهم انضمت بموجبه الجبهة لحزب الأمة.

وفي مرحلة لاحقة عندما كوَّن حزب الأمة الحكومة الائتلافية بعد ثورة رجب/ نيسان (أبريل) 1985، اتخذ الحزب موقفاً إيجابياً من تمكين أهل دارفور من المشاركة في السلطة وفي رسم برنامج التنمية وتمكين أبناء الإقليم من حكم إقليمي بصلاحيات واسعة، لذلك عندما نشرت أسماء حكومة الأمة الائتلافية هاجمها المزاج الخرطومي في شكل كاريكاتير لهاشم كاروري قائلاً: آدم، أبكر، سرنوب… دي حكومة ولا سكن عشوائي؟ وقال أحد أقطاب الجبهة الإسلامية القومية «دي حكومة ولا قطر نيالا؟».

ومع مشاركة د. علي حسن تاج الدين من المساليت في مجلس رأس الدولة، واختيار د. عبد النبي علي أحمد من البرتي حاكماً للإقليم، ثم د. التجاني سيسي أحد أبناء الفور حاكماً للإقليم، ظهرت في أواخر العهد الديموقراطي نبرة استقطابية، إذ زعم الشرتاي منصور عبد القادر (فوراوي اتحادي) أن حزب الأمة منحاز للعرب في دارفور. كان سبب الاتهام غير المنطقي أنه يريد استقطاب العناصر غير العربية، لا سيما الفور، إلى حزبه.

وفي عام 1999 وقع صراع على السلطة بين أعضاء المؤتمر الوطني، الحزب الحاكم، صراع أدى إلى انقسامه إلى مؤتمرين: الوطني والشعبي.

انضم بعض أبناء دارفور إلى المؤتمر الشعبي وتبنوا نقد المؤتمر الوطني من زاوية التهميش، على نمط ما جاء في «الكتاب الأسود» الذي وثق لتهميش أهل دارفور ومناطق أخرى.

صار الموقف الجديد في دارفور:

عناصر من القبائل غير العربية تحالفت مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، وفي 2002 أعلنت تكوين حركة تحرير دارفور، ثم سمتها حركة تحرير السودان على سُنّة الحركة الشعبية.

– وعناصر خرجت من المؤتمر الوطني مع المؤتمر الشعبي، فكونت «حركة العدل والمساواة».

ونتيجة لسياسات النظام الانقلابي الجديد تضخم دور الحركة الشعبية بقيادة د. جونق قرنق وما صحب ذلك من مكاسب حققتها الحركة.

انتقلت حركة التظلم في دارفور من الصيغة المطلبية، كما في جبهة نهضة دارفور، إلى حركات مسلحة مركزها دارفور، لكنها تجد دعماً من قوى سياسية أخرى ودعماً من جهات دولية.

ومن أخطاء الحزب الحاكم الفادحة الانقياد وراء توجهه الإسلاموي العروبوي والعمل على مده غرباً من دارفور مستعينا بعناصر غير نظامية من الإثنية العربية لدعم الحكومة في مواجهة التمرد المسلح، هؤلاء دعموا القوات المسلحة بوسائل حربية غير نظامية، ما أدى إلى تجاوزات كثيرة وتعديات على حقوق الإنسان؛ استنساخاً لما كان يجري في حروب التركي عند غزوهم دارفور: الجيش التركي (الجيش الرسمي)، الباشبوزق (ما يعادل الدفاع الشعبي)، والخيالة (ما يعادل الجنجويد لاجتياح البلد وأخذ الرقيق).

لكن الاستنجاد بعناصر عربية وما قاموا به من أعمال، عمّق التباين الإثني في دارفور إلى درجة غير مسبوقة. تضاف إلى ذلك المزاعم حول استجلاب عناصر إثنية عربية من دول الجوار الأفريقي وإحلالها في أراضي القبائل الأفريقية المهجرة والمطاردة. كثير من ضحايا هذه الأعمال، لا سيما من الفور والمساليت، لجأوا إلى معسكرات نازحين كبيرة قرب المدن، وبعضهم ومعهم زغاوة ومسيرية جبل لجأوا إلى معسكر لاجئين في تشاد هرباً من استهداف قراهم في وسط وغرب وشمال شرق دارفور. الفكرة الأمنية في هذا الهجوم على القرى المدنية هي تجفيف البركة لحرمان السمك من بيئة حاضنة.

رحلتنا إلى دارفور

حينما انفجرت الأوضاع في دارفور انشغل بها الإعلام العالمي بشكل غير مسبوق في عامي 2003 و2004، وفي عام 2004 وحده زار 209 صحافيين أجانب دارفور، ونشرت 17 مليون مادة خبرية عن دارفور في أربع وكالات كبرى (وكالة الأنباء الفرنسية، أسوشييتد برس، رويترز، بي بي سي) على مدى عشرين شهراً فقط، بينما ظل الإعلام المحلي ينكر تماماً أن يكون ما ينقله الإعلام العالمي صحيحاً. قرر حزبنا أن يرسل وفداً رئاسياً لولايات دارفور للاطلاع على حقيقة الأوضاع، فكانت الرحلة في الفترة من 23 إلى 25 حزيران (يونيو) 2004، وشملت عواصم ولايات الإقليم الثلاث آنذاك: الفاشر، ونيالا والجنينة. فزرنا معسكرات النازحين في تلك المدن واستمعنا إلى شهادات كثيرين ممن حضروا لينورونا.

أما بالنسبة إلى النازحين فقد أحصينا في ذلك الوقت أكثر من مليون نازح (العدد الآن نحو ثلاثة ملايين) الأغلبية الساحقة منهم كانوا حينها من أصول قبلية ثلاثة: فور، زغاوة، مساليت. وهم يروون قصة واحدة فحواها: أحرق حلالنا. ضربتنا طائرات من الجو. وفي الأرض هاجمتنا قوى مسلحة غير نظامية تلبس زياً عسكرياً وتمتطي خيلاً وإبلاً. استهدفنا لأرضنا، ومالنا، ولون جلدتنا!

هذه القصة يجمع عليها النازحون ويؤيدها من دون تحفظ زعماء قبائلهم الموجودون في المدن الكبيرة، كما يؤيدها المثقفون من أبناء هذه القبائل. وفي الجنينة أيدتها أمامنا قيادات المؤتمر الوطني من أبناء المساليت. وهم يعتبرون أن العدوان عليهم مدعوم من الحكومة أو من عناصر بعينها داخل الحكومة، ويذكرون تفاصيل عدوان همجي كثيرة روعنا لها، وحينما عدنا طالبنا بإجراء مساءلات فورية والتحقيق في ما يحدث في دارفور. وقلنا بوضوح إنه ما لم تتم مساءلة قانونية حاسمة لهذه التعديات فإن الأمم المتحدة سوف تتدخل تدخلاً تجبرها المعاهدات الدولية عليه، ولكن، لا حياة لمن تنادي.

أعمال التصدي للحركات المسلحة وما صحبها من إجراءات، مثل حريق القرى، لفتت نظر الرأي العام العالمي ومنظمات حقوق الإنسان، ما أدى إلى إرسال مجلس الأمن بعثة لدارفور شهدت بحدوث جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ووصل الأمر بعد عام 2004 إلى سلسلة من قرارات مجلس الأمن تحت البند السابع بخصوص دارفور، وكان من بينها القرار (1593) الذي أدان جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وحوّل المتهمين بارتكابها إلى المحكمة الجنائية الدولية. هكذا تحولت قضية دارفور من تظلمات جهوية إلى مواجهات عسكرية ثم إلى قضية دولية.

قبل المضي في موضوعنا نبحث قضية أُثيرت باستمرار، وما تجاهلنا لها إلا لأنها كانت من نوع الدخان المصنوع الذي لم ينتج عن نار حقيقية. وهي قضية تسليح القبائل العربية ضد الأفريقية.

ظلت هذه التهم موجهة ضد حزب الأمة يثيرها بدون وعي وإلمام منافسوه في الساحة السياسية بطريقة منظمة ومخطط لها بغرض تأليب الرأي العام السوداني وتشكيك قواعد الحزب في مناطق ثقله بخطه وقيادته على مستوى المركز والأقاليم. وأهمها اتهامه بتسليح القبائل العربية ضد النوبة في جنوب كردفان، وتهمة دعم القبائل العربية بدارفور ضد الزرقة، وتهمة ضلوعه في أحداث الضعين بين الرزيقات والدينكا التي أنجبت كتاب بلدو/ عشاري المتعلق بتهمة الرق. حزب الأمة بريء من كل ذلك، والحقائق الدامغة تؤكد سلامة موقفه من هذه التهم المثارة، وقد ظللنا نطالب بتحقيق شفاف واستجلاء للحقائق وكشف للمظالم منذ الاستقلال، ونعتقد أن هذا التحقيق ضروري لتنقية الحياة العامة في السودان لمعرفة المظالم وتثبيت الانتهاكات وعدم نسيانها، وكذلك لتبرئة الذين طاولتهم يد الدعاية والتشويه من دون وجه حق. ظل حزب الأمة في كل وثائقه السياسية يقول بضرورة تكوين مفوضية عدالية للتحقيق في كل المظالم والأحداث التي وقعت في الحياة العامة لاستجلاء الحقائق والإنصاف، ليشمل الإجراء الفترة منذ استقلال السودان في 1956 إلى يومنا هذا.

ونعتقد أن الأسباب الحقيقية لهذه الإشاعات هي:

‌أ – أن الحكومات الشمولية التي استولت على الحكم للفترة الأطول، لعبت دوراً إقصائياً بهدف تشويه الدور التاريخي للحزب والعمل على تفتيت قواعده وتغيير مفاهيم أتباعه، فروّجت «الإنقاذ» لهذه الفرية وإن كانت هي التي قامت بما تتهم به حزب الأمة.

‌ب – تلقفت الحركة الشعبية التهمة منذ البداية لأنها تتماشى مع ما تبشر به من قطيعة إثنية داخل الشمال، وحذا حذوها بسبب الكيد السياسي كثير من الأحزاب العقائدية والمنافسة، بهدف تغيير الولاء التقليدي للمواطنين وإيجاد مواقع لهم في المناطق التي تدين بالولاء لحزب الأمة.

‌ج – الحروب التي كانت، وما زالت تدور في غرب السودان شكلت بعداً جديداً، وذلك بتجسيد المشاكل القبلية والعرقية للعنصر الأجنبي، بغرض الحصول على المال والسلاح وكسب عواطف الأقوياء لمساعدة المستضعفين في المناطق المذكورة.

د – عدم تصدي الحزب لهذه الشائعات في وقتها ودحضها ساعد كثيراً في انتشارها، في ظل غياب الديموقراطية وحرية الكلمة.

مراحل تسليح القبائل

وفي ما يلي المراحل التي صاحبت تهم تسليح القبائل:

المرحلة الأولى: بعد اندلاع حرب الجنوب الأولى في أيلول (سبتمبر) 1963 وانطلاق أولى طلقات التمرد في نقطة فشلا بمديرية أعالي النيل، والتي كانت تضم عدداً قليلاً من الشرطة، ونسبة لاتساع الرقعة الجغرافية وقلة القوات المسلحة في المديرية (كتيبة واحدة)، اتخذت السلطات العليا قراراً بتسليح سلاطين قبائل النوير في مراكز الناصر وأكولو وفنجاك بانتيو، وكذلك قبيلة المورلي في البيبور والدينكا في مركز بور وقبيلة الشلك في مركز كدوك.

كانت المرة الأولى التي تم فيها تسليح للقبائل من طريق سلاطينهم لحماية أرواحهم وأموالهم من هجمات التمرد التي كانت تستهدفهم. هذا التسليح حدث في عهد الفريق إبراهيم عبود.

المرحلة الثانية: مرحلة أيار (مايو) (196 بعد اتفاقية أديس أبابا 1972، ومع بداية مرحلة نزع سلاح المتمردين وإعادة دمجهم في القوات المسلحة، اتخذت السلطة العليا أيضاً قراراً بتخصيص كتيبتين من القوات المسلحة، إحداهما تتمركز في منطقة سفاهة تتحرك مع قبيلة الرزيقات في مراحيلهم من الشمال للجنوب حتى مركز أويل، والكتيبة الثانية تتمركز في الميرم للتحرك مع قبيلة المسيرية في مراحيلهم حتى مركز قوقريال. وأطلق على هذه الكتائب (قوات المراحيل) وذلك للحيلولة دون حدوث اشتباكات بين القبائل العربية المذكورة والقبائل في جنوب السودان، حفاظاً على استمرار اتفاقية أديس أبابا وعدم إعطاء أي ذريعة للقوات المتمردة الجاري استيعابها للإخلال بالأمن والاستقرار.

الإنسان الــــعادي أصبح لديـــه مفهــــوم عام مغلـــوط بأن قوات المراحيل هي قوات قبليـــة سلّحتها الحكومة، بينما في الحقيقة أن قـــوات المراحيل تابعة للقوات المسلحة تـــم تكليفها بمهمة حماية مراحيل الرعاة ولا علاقة لها بالتهم المثارة بتسليح القبائل.

المرحلة الثالثة، مرحلة الفترة الانتقالية: بعد انتفاضة نيسان (أبريل) المباركة، أُعلِن وقف إطلاق النار من جانب واحد لتشجيع الحركة الشعبية لتحرير السودان على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، ولكن للأسف، ردت الحركة من جانبها بأنها ستنقل عملياتها إلى مسرح العمليات الرقم 2، وهذا يعني منطقة جنوب كردفان وسموا الحكومة وقتها حكومة جنرالات مايو الثانية (May2). وبعد أسبوعين من وقف إطلاق النار من جانب واحد ضربت الحركة عدداً من القرى والفرقان والنقاط الخارجية في جنوب كردفان، نذكر منها على سبيل المثال: القردود، الأزرق، الليري غرب، الليري شرق، وكالوقي. هذه الهجمات تعتبر الأولى من نوعها على جنوب كردفان، الأمر الذي أحدث اضطراباً وهلعاً في نفوس مواطني المنطقة، وعليه قررت السلطات العليا إرسال وفد عالي المستوى من المجلس العسكري ومجلس الوزراء برئاسة اللواء فضل الله برمة ناصر وعضوية كل من د. حسين سليمان أبو صالح وزير الصحة، د. عابدين وزير الزراعة، الفريق أحمد عبد العزيز (رحمه الله) قائد المستشفى العسكري والمسؤول وقتها من الإغاثة ونائبه العقيد وقتها الفريق حالياً إبراهيم سليمان، واللواء مصطفى محمود الحاكم العسكري لإقليم كردفان الكبرى. وبعد وصول الوفد مدينة كادقلي اجتمع مع السلطة الرسمية والشعبية، وكان محافظ جنوب كردفان وقتها الأستاذ جبريل تيه من أبناء كادقلي. قدّم المواطنون في كادقلي للوفد ثلاثة مطالب تكررت في جميع المناطق التي زارها الوفد. وهي وفق إفادة اللواء برمة بحسب الأسبقيات التالية:

أولاً: نطالبكم بتوفير الحماية لنا من هجمات الخوارج، أو تساعدونا لكي نحمي انفسنا، أو نحن سننضم إلى الجهة الأقوى.

وكان الرد عليهم: بدءاً بالنقطة الثالثة: انضمامكم للأقوى يعني انضمامكم للمعتدي عليكم وهذا التصرف يخالف القوانين الشرعية والوضعية ومن حقكم الدفاع عن أنفسكم وصد المعتدي عليكم والذي لا يدافع عن عرضه وماله فقد كفر. أما طلبكم الخاص بتوفير الحماية لكم فهذا طلب مشروع وهو من حقكم على الحكومة فالدولة التي لا توفر الحماية لمواطنيها دولة غير مسؤولة، ولكن، نحن لا نود أن نخدعكم ونقول إننا سنوفر لكم ذلك ولا نفي بوعودنا نتيجة لانشغال القوات المسلحة في العمليات بالجنوب وسوء المواصلات بالمنطقة وصعوبة حركة القوات في فصل الخريف.

أما طلبكم الثاني والخاص بمساعدتكم لحماية أنفسكم فهو مطلب معقول وقابل للتنفيذ، وعليه سنقوم بتسليح جميع القبائل على خط التماس (عرباً ونوبة) بطرق قانونية بواسطة النظار والسلاطين والعمد بإشراف القوات المسلحة والشرطة. وروى اللواء برمة أنه بعد عودة الوفد إلى الخرطوم أوضحوا للمجلس العسكري الانتقالي ومجلس الوزراء أهمية تسليح مواطني التماس بطريقة موقتة للحيلولة دون التسليح العشوائي، وأهمية معرفة السلاح الذي سلم للمواطنين والسيطرة عليه وسهولة جمعه بعد إحلال السلام. كما أوضح الوفد للمجلسين أنه في حال عدم الاستجابة للتسليح بالطريقة القانونية فإن مواطني المنطقة ذكروا للوفد بأنهم يملكون الثروة والرجال وسيقومون بتسليح أنفسهم، ولا يستبعد ظهور أسلحة ثقيلة إذا لم تتم السيطرة على التسليح بالطرق المشروعة، وأن أعضاء المجلسين وافقوا على فكرة التسليح، ولكن لم يتم التنفيذ نتيجة الحملة الإعلامية المكثفة التي مارستها الأحزاب العقائدية، وقد كتبت إحدى الصحف بالخط العريض «المهدية تعود»، وفي ذلك الوقت لم يكن لحزب الأمة وجود في السلطة.

المرحلة الرابعة: في عهد حكومتي ما بعد أيار (مايو) 1986 حينما تقلدت لفترة وزارة الدفاع وكان اللواء الركن فضل الله برمة ناصر وزير دولة للدفاع، تقدم الإخوة في هيئة القيادة بطلب في اجتماع مشترك معهم مفاده أن القوات المسلحة استنفدت الكثير من احتياطياتها في العمليات التي اتسعت رقعتها بالجنوب، وأنهم في حاجة ماسة إلى عملية إسعافية سريعة لحماية ظهر القوات المسلحة. واقترحنا عليهم فكرة إنشاء قوات للدفاع الشعبي لكنهم فضلوا التصديق لهم بإعادة تجنيد المفصولين من الخدمة العسكرية، على أن يعملوا في مناطقهم الواقعة على خط التماس من دون نقلهم لمناطق أخرى، وذلك بهدف توفير الحماية لأهالي المنطقة والقيام بالواجبات الثانوية (حراسة المنشآت وأطواف الإمدادات)، والحق أن معظم العائدين من المفصولين كانوا من أبناء النوبة.

تقدم الإخوة في هيئة القيادة مرة أخرى بطلب لمساعدتهم في حث المواطنين على الالتحاق بالقوات المسلحة لدعمها بالرجال… ولسد النقص الناجم عن عدم رغبة الموطنين في التجنيد أصدرت مرسوماً بتكوين لجنة من أحزاب الأمة والقومي والاتحادي الديموقراطي والجبهة الإسلامية القومية لوضع قانون تنشأ بموجبه قوات للدفاع الشعبي تحت إمرة القوات المسلحة، ولكن للأسف قام انقلاب حزيران 1989 قبل أن تنتهي اللجنة من إجراءاتها، وقامت الجبهة الإسلامية القومية بسرقة الفكرة وتنفيذ المشروع بطريقة جعلت من قوات الدفاع الشعبي قوات موازية للقوات المسلحة وليست تابعة لها. هذا تنفيذ خاطئ لفكرة صائبة.

التقاطعات السودانية الحالية

لدى حلول القرن الميلادي الجديد في عام 2000 اشتدت الاستقطابات في السودان حول نقاط التقاطع الآتية:

أولاً: المشروع الإسلامي الذي جاء به النظام، مع أنه استفز التيارات غير الإسلامية لكنه استفز تيارات إسلامية تتطلع إلى أسلمة أكثر أصولية، هذا النقد من اليمين للتجربة صار حاداً جداً بعد إبرام اتفاقية السلام في 2005.

كانت التجربة قد واجهت نقداً إسلامياً منذ بدايتها على يد كيان الأنصار، نقداً للانقلاب كوسيلة للأسلمة، ونقداً للمشروع نفسه من زاوية إسلامية، فصار هنالك أكثر من موقف إسلامي. وفي المقابل نشأت تيارات علمانية بعضها متحالف مع الحركة الشعبية وبعضها الآخر ينادي بقومية عربية.

ثانياً: في السودان عدد من التكوينات الإثنية الثقافية: عربية، وزنجية، وبجاوية، ونوبية، ونوباوية. حول هذا التباين، وبمقدار تبني النظام للعروبة وحماسة الحركة الشعبية ثم حركات دارفور المسلحة للأفريقانية، اشتد صراع الهوية بين العروبة والأفريقانية.

هناك وعي بالعروبة عنصري ضيق. العروبة مفهوم ثقافي. إنسانية العروبة هي التي جعلت شعوباً كثيرة فارسية وتركية ونوبية تستعرب وتقود المعارف العربية، على نحو ما فعل سيبويه، والبخاري، ومسلم، والطبري، والجاحظ وغيرهم. إن عرب السودان أصيلون في عروبتهم لا يحتاجون شهادة من أحد، ولكن، عليهم فهم عروبتهم في إطارها الإنساني والثقافي وقبول الآخر وإلا خلقوا استقطاباً مدمراً. كذلك إن للعروبة في السودان خصوصية تنبغي مراعاتها. وفي عروبة السودان هجنة. فينبغي أن تتخلى عن أصوليتها المشرقية وتستنطق واقعها الإنساني. لأن جد العرب العدنانيين نفسه، إسماعيل عليه السلام، لم يكن عربياً لأبيه إبراهيم عليه السلام وأمه هاجر. والنبي صلى الله عليه وسلم قال مقولة تنضح إنسانية وتجعل العروبة أمراً متحركاً مكتسباً لا إثنياً جامداً إذ قال: «ليست العربيةُ بأحدكم من أب ولا أمّ، وإنما هي لسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي».

والحقيقة في هذا المجال أن في العالم العربي وجوداً كبيراً لمجموعات وطنية غير عربية، كالأكراد، والبربر، والتركمان، والزنوج، وغيرهم. وإذا استطاعت النظم الدكتاتورية هضم حقوقهم في الماضي فإن حقوق الإنسان العالمية والثقافية، والتحول الديموقراطي المزمع، تجعل احترام الهويات الثقافية حتمياً.

ولكن أسوأ ما أفرزه التيار العروبوي الجامد في السودان هو الخطاب العنصري البغيض الذي غمر الساحة الإعلامية بمفردات لا تليق بعد أن وصلت الإنسانية هذا الوعي واجتمعت على لفظ العنصرية. والأسوأ أنها تنطلق من جهات ترفع شعارات إسلامية، والدين الإسلامي واضح بشكل جلي في لفظ العنصرية «دَعُوهَا، فإنها مُنْتِنة» على حد تعبير النبي صلى الله عليه وسلم.

يقابل التيار العروبوي تيار زنجوي مضاد. الإحساس بوعي أفريقي نما في الأوساط السوداء في منطقة البحر الكاريبي، ثم في الولايات المتحدة، ثم في بريطانيا، وفرنسا. إنه إحساس بهوية مخالفة في بيئة إثنية معادية. هذا الإحساس بانتماء أفريقي يتجاوز أقاليمها وأقطارها وفد إلى القارة من خارجها. وفي أفريقيا تبناه مفكرون ورجال دولة وصاغوه صياغات مختلفة. الصياغة الوافدة من خارج القارة محملة بأعباء التنافر الإثني واللوني. لذلك لم يكن غريباً أن تبنى المفكر السنغالي والسياسي ليوبولد سنغور الفرنسي الثقافة رؤية إثنية زنجوية للأفريقانية سماها الزنجوية NEGRITUDE. هذه الرؤية الإثنية اللونية من شأنها أن تفرق بين سودان أفريقيا وبيضانها. بين شمال القارة وجنوبها. ومن شأنها أن تفرق بين سودان أفريقيا أنفسهم في مدى الطيف اللوني والإثني، لا سيما بين الإثنيات البانتوية والحامية في الساحل الشرقي من أفريقيا وشمالها.

التركيز على الهوية الإثنية يصيب القارة في أكثر من موقع مثلما عمّق بين التوتسي والهوتو الذي أشعل أواسط القارة بالدم والنار.

الرؤية الأخرى للأفريقانية ولدت في القارة ولم تفد إليها، وتبناها القادة المؤسسون للفكر الأفريقاني القاري PAN -AFRICAN أمثال كوامي نكروما، ونلسون ما نديلا، وغيرهما. هؤلاء عرفوا الأفريقانية تعريفاً قارياً جغرافياً سياسياً ضم القارة كلها، وانطلق من تحالفات إقليمية مجموعة الدار البيضاء واتجه إلى تكوين منظمة الوحدة الأفريقية.

الحقيقة التي لا مراء فيها هي: أن الأفريقانية القارية هي أمل القارة، والأفريقانية الإثنية هي ضياع القارة.

الفهم الزنجوي للأفريقانية ما زالت تتبناه عناصر فكرية وسياسية أفريقية. هذا الفهم من شأنه أن يقوض الوحدة الأفريقية الحالية. وأن يباعد بين دول وشعوب حوض النيل أكثر فأكثر، وهذا القرب أو التباعد ينعكس على استقرار المنطقة وطريقة التعامل مع النزاعات داخلها.

وما بين العروبة الثقافية والعنصرية، والأفريقانية والزنجوية، فإن التعبير الذي سيسود السودان وأفريقيا على النطاق الأوسع سيترك صداه على مسألة التفكيك والتسبيك، وعلى ضعف العلاقات العربية- الأفريقية أو قوتها، ويمكن السودان أن يكون مثالاً من هذه الناحية، فإما أنه أعطى صوتاً قوياً للتعايش أو عضّد العقلية الاستقطابية.

لماذا فشلت الحلول؟

جذور المشاكل المحيطة بالسودان الآن والكامنة في أسباب الاحتراب الحالي هي:

– الخلل في علاقة الدين بالدولة والدين بالسياسة.

– خلل في إدارة التنوع الثقافي.

– عدم التوازن في توزيع الثروة.

– عدم التوازن في توزيع السلطة.

– عدم التوازن في علاقات البلاد الإقليمية والدولية.

ينبغي الاعتراف بأن هذه الأسباب ما زالت ترفد كثيراً من جذور التوتر والاحتراب في السودان.

كان من الممكن للتفاوض بين النظام السوداني والحركة الشعبية، الذي استمر فترة طويلة (1997- 2005) وانتهى بإبرام اتفاقية 2005، أن يتم عبر منبر قومي وأن يشخص التأزم السوداني تشخيصاً محيطاً به، لكن طرفي الاقتتال كانا حريصين على تفاوض حزبي ثنائي، والأسرة الدولية كانت معنية بوقف الحرب أكثر من بناء السلام.

اتفاقية السلام لعام 2005م، التي سمت نفسها «اتفاقية السلام الشامل»، ادعت هذه التسمية من دون وجه حق، فقد علقت الاتفاق على ثلاث مناطق هي: أبيي، وجنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق، وتركت الحرب الأهلية في الجبهات الغربية والشرقية مستمرة، واتخذت الاتفاقية مفهوماً ضيقاً للثروة هو اقتسام عائد نفط الجنوب، مع أن مفهوم الثروة أوسع كثيراً من ذلك، ويشمل الاستثمار الزراعي والصناعي، والخدمات الاجتماعية والموارد المائية، والخدمات المصرفية. اتفاقية السلام الشامل كانت محاصصة بين المؤتمر الوطني، والحركة الشعبية في السلطة المركزية، والسلطة اللامركزية، والمؤسسات المسلحة واقتسام عائدات نفط الجنوب، ولم تهتم بجبهات القتال الأخرى بل، بما أنها وضعت هيكلاً يقسم السلطة والثروة على حزبي التفاوض، أي على اثنين، حالت دون أي قسمة أخرى، وبالتالي وضعت سقوفاً صارت حجر عثرة في تحقيق اتفاقيات سلام لاحقة، كما أن الاتفاقية حصرت النصوص الدستورية في مطالب الحزبين، مانعة توسيع نصوص الدستور أن تشمل حقوقاً دستورية لآخرين.

بثمارها تعرفونها، كما قال السيد المسيح عليه السلام. اتفاقية السلام 2005 وضعت لنفسها عدداً من الأهداف، أهمها: أن تجعل الوحدة بين الشمال والجنوب جاذبة، وأن تحقق السلام الشامل في البلاد، وأن تحقق تحولاً ديموقراطياً وعد به الباب الثاني في الدستور الذي استصحب مواثيق حقوق الإنسان الدولية. ولكن:

أضاعت الوحدة الجاذبة ثلاثة عوامل، هي: تقسيم البلاد على أساس ديني، وحصر قسمة الثروة في إعطاء الجنوب 50 في المئة من عائدات نفطه، ما صار من حوافز الانفصال للاستئثار بكل عائدات نفطه، وحصر ملكية الاتفاقية في حزبين هما على طرفي النقيض من مسألة الهوية، لذلك صوَّت أهل الجنوب بنسبة 98 في المئة لمصلحة الانفصال.

الحياة