الحالة السودانية مشروع اغتيال أم انتحار؟

بسم الله الرحمن الرحيم

الحالة السودانية مشروع اغتيال أم انتحار؟

12 مارس 2007م

 

المحدَّثون أي أصحاب الحدس الشفاف يقعون ضمن الألمعي الذي

يريك الرأي كأن قد رأى وقد سمع

الفنانون من طرف خفي يطرقون معانٍ لا تستبين لغيرهم إلا بعد حين، قال الشاعر السوداني التجاني يوسف بشير:

ويفجّر لــك الغيوب وينشـر

بين عينيك عالما مــن ذخائرْ

فتخير وصف وصور رؤى الوحي

وصــغ واصنع الوجـود المغايرْ

عدد من شعرائنا منذ فترة لمسوا الضياع القادم علينا مثلا محمد المكي إبراهيم قال في 1999م:

ولكن ها هي الوعول

تأوي إلى شعب جبل

مقطوعة الأنفاس

وتحت البيرق الأبيض

تنتظر رصاصة الرحمة

وقال عالم عباس:

هل القميص ما نلبس أم الكفن؟

وطن! وطن! كان لنا وطن!

ومنذ عام افتتحت معرضا لفنانين تشكيليين شباب بأمد رمان فإذا باللوحات مع تنوعها  تكرر معنى واحدا: ضياع الوطن.

ثم لحقت البيانات العقلانية توثق هذا الضياع: مؤشر الدول المتردية للعام 2005م الذي وضع السودان أولها، ومؤشر إدراك الفساد الذي وضع السودان أكثر دول العالم العربي فسادا.

ويكفي الاستماع الآن لتصريحات المسئولين الحكوميين المضطربة المتناقضة والحائرة لندرك أننا نعاني حالة غير مسبوقة.  قليلون الذين ما زالوا بمحميات ذهنية يعتقدون أن انقلاب 1989م حسم الهوية، وطبق الشريعة، وحقق الأمن الغذائي، والسلام العادل الشامل.  لم يعد خافيا أن السودان مندفع نحو هاوية التمزق والتدويل. حقيقة يفسرها مدبرو الانقلاب بالكيد الاستعماري الأمريكي ويجدون آذانا عربية صاغية لقياس الدور الأمريكي في السودان عليه في فلسطين، والعراق، ولبنان.

حقيقة الدور الأمريكي بالسودان

+ في عهد الرئيس الأمريكي كلنتون عملت الإدارة الأمريكية بعد حادث أديس أبابا 1995م على تجريم النظام بمجلس الأمن ودعم جيرانه ومعارضيه لإسقاطه.

+ إدارة بوش أدانت سلفها وبالسودان خالفت نهج كلنتون ودعمت عملية السلام وتفاوضه إلى إبرامه في يناير 2005م. صحيح أن الاتفاقية كانت أقرب إلى إملاء أمريكي منها إلى نتيجة تفاوض سوداني. ولكن السياسة الأمريكية نحو السودان خضعت لنشاط سبعة لوبيات قوية لم يفتر نشاطها بتوقيع السلام: لوبي مسيحي- وصهيوني- والكوكس الأفريقي الأمريكي- وجماعات: حقوق الإنسان، ومحاربة الرق، والحريات الدينية، ومحاربة الإرهاب. بسطت نشاطا فعالا بأجهزة الإعلام وبالكنغرس فأصدر قوانين:  سلام السودان نوفمبر2002م، وسلام السودان الشامل16أكتوبر 2004م، وسلام دارفور5 مايو 2006م؛ تستهدف المؤتمر الوطني كأساس للظلم والقهر والفساد ومهما وقع الاتفاقيات فاللوبيات لا تغير معاملتها وتحتضن الذين وقعوا معه، مما يساهم بتدمير الاتفاقيات.

السياسة الأمريكية لدى بوش الابن متأثرة بالسياسة الإسرائيلية الواضحة منذ عهد بن جريون القائل: “لو تمكنا من السيطرة على مواقع حيوية بالبحر الأحمر فسنتمكن من اختراق سور الحصار العربي بل والانقضاض عليه”. وهو اتجاه زاد حدة منذ تغلب اليمين الإسرائيلي.. إن الحالة السودانية تنم عن مشهد اغتيال!.

لفهم الحقيقة سوف أضرب مثلا بأمر آخر ذي خطر عظيم.

أثناء حكم كلنتون ظهرت جماعة القرن الأمريكي الجديد ليخلص أمريكا من سمات عهد كلنتون الذي شهدت سنواته: “نهجا مفتوحا وفاقيا اعتذاريا في السياسة الخارجية فاق كلما سبق منذ الحرب العالمية الثانية”- كما قال شارلس كروثمر- تايم 18/7/2005. وفي 2000م انتخب بوش الابن رئيسا وصحبه الصقور بأهداف واضحة فتحت حوادث 11/9/2001م الباب لها لتنطلق في تنفيذ برنامجها بصورة جعلت كثيرين يعتبرونها مدبرة الحوادث  -مثلا- كتاب تيري ميسان بعنوان: الخدعة.

قياسا على هذا النمط فإن انقلاب 30 يونيو 1989م أعطى أصحاب الأجندة المعادية للسودان فرصة لتحقيق مقاصدهم بصورة جعلت كثيرين يرون أنهم دبروا الانقلاب.

وبصرف النظر عن نظرية المؤامرة فهنالك حقائق واضحة:

  • كنا ببداية الثمانينيات نذكر نبوءات منسوبة لعلماء (منتجمري واط مثلا) مفادها أن عوامل كثيرة تؤهل السودان لتطبيق إسلامي حديث. لذلك ولإيجاد منبر فكر إسلامي مستنير أقمنا جماعة الفكر والثقافة الإسلامية. ولكن إحدى فصائلنا (الجبهة الإسلامية القومية) شذت بتأييد إسلاموية جعفر نميري الشائهة بسبتمبر 1983م ثم غامرت بالنهج الإسلامي بتدبير انقلاب يونيو 1989م في خطأ تاريخي فادح، متخلية عن نهج القومية والاستنارة وفارضة برنامجها الإسلاموي الحزبي على الكافة بوطن مترامي الأطراف متعدد الأديان، والمذاهب، والأحزاب، والثقافات، والإثنيات، والجارات، فخلقت استقطابا حادا داخل الجسم السياسي الشمالي، وعمقت الفرقة بين الشمال والجنوب، واستعدت الجيران، وفتحت الباب واسعا للتدخلات الأجنبية، وحصدت استقطابا حادا وحصارا للنظام الذي عندما أدرك خطأه لم يتراجع بصورة إستراتيجية تمحو الخطأ وتفتتح أساسا جامعا جديدا للتراضي الوطني بل اتخذ نهجا انتهازيا بثلاث حلقات:

الحلقة الأولى: إبرام اتفاقية سلام بافتراض خاطئ وخطير أن المؤتمر الوطني كل الشمال، والحركة الشعبية كل الجنوب. ومع أن بين طرفي الاتفاق بعد المشرقين لعدم الثقة وفوارق الأيديولوجية، افترضا أن الوجود الدولي المكثف بموجب قرار مجلس الأمن 1590 يكفي لضمان حسن تنفيذ الاتفاقية ويغني عن مشاركة الآخرين وعن توافر الثقة بينهما وهذا خطأ.

الحلقة الثانية: اتفاقية أبوجا مايو 2006م التي كبلتها سقوف اتفاقية نيفاشا ووقع عليها فصيل واحد من ثلاثة بموجب وعود لا يستطيع مقدموها تنفيذها فقبض الريح.

الحلقة الثالثة: اتفاقية أسمرا كصلح بين المؤتمر الوطني وإريتريا وفصيلين لا يمثلان كل الشرق.

  • الخطأ التاريخي الثاني هو أن المؤتمر الوطني المستولي على السلطة بالانقلاب أبرم اتفاقيات سلام ثنائية مع القوى المسلحة تقوم على محاصصة ومساومة لحاملي السلاح وإقصاء كافة عناصر الجسم السياسي والمدني. اتفاقيات فوقية ثنائية مرصعة ببصمات أجنبية تجهل الواقع السياسي السوداني، خلقت سباقا نحو التشرذم الداخلي واستدعت التدويل بأكثر من عشرين قرار دولي يضع المؤتمر الوطني في خانة المراقبة، والمحاسبة، والتجريم.
  • إن الذين استهدفوا وحدة السودان واستقراره حققوا مقاصدهم عبر أخطاء النظام الانقلابي الذي خطط للانفراد بالشأن السوداني فإذا بحزبه الآن ينفرد بالمسؤولية عن ضياع السودان، وهنالك أجندات عدائية كثيرة نفذت وسوف تنفذ عبر الأخطاء الفادحة المرتكبة:

لا يبلغ الأعداء من جاهل              ما يبلغ الجاهل من نفسه

فما العمل؟

السودان موطن حضارة عريقة منذ قبل الإسلام، ومؤهل لدور إسلامي مستنير يستصحب المساواة في المواطنة وحرية الأديان وحقوق الإنسان العالمية. ولدور وصال مزدوج عربي/ أفريقي. ولأن يكون حلقة تفاعل إيجابي بأحواض النيل، والبحر الأحمر، والصحراء الكبرى.

الرسالة السودانية يشترط أداؤها وجود مشروع وطني نهضوى يلتف حوله أهل السودان يدعمه مناخ دولي مواكب. مشروع قادر بآليات الجهاد المدني أن يعمل على تصفية النظام الحالي أو تصفية سياساته واستيعاب عناصره البشرية بنسيج ديمقراطي جديد.  قال الشابي:

إذا التف حول الحق قوم فإنه              يصرم أحداث الزمان ويبرم