الحريات في الإسلام،، النظرية والتطبيق

الإمام الصادق المهدي
سماحة دولة الحبيب الإمام الصادق المهدي حفظه الله ورعاه رئيس حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله ورئيس الوزراء الشرعي والمنتخب للسودان وعضو مجلس التنسيق الرئاسي لقوى نداء السودان ورئيس المنتدى العالمي للوسطية والفائز بجائزة قوسي للسلام لعام 2013 وعضو المنظمة العربية لحقوق الإنسان وعضو اللجنة التنفيذية لنادي مدريد للحكماء والرؤساء السابقين المنتخبين ديمقراطياً والمفكر السياسي والإسلامي

 

 

بقلم الحبيب الامام الصادق المهدي

 

أطروحتي التي أقدمها فيما يلي هي أن الحرية هي التي تثبت خيرية الإنسان إذ يختار مكارم الأخلاق.

والحرية هي التي تفتح الباب لعطاء الإنسان وتنمية مواهبه. وإن الحرية وسائر جذور حقوق الإنسان وهي بالإضافة للحرية، الكرامة، والعدالة، والمساواة، والسلام منصوص عليها في دفاتر الوحي الإسلامي، ولكن تجربة المسلمين التاريخية غيبت تلك الحرية فقهيا بالركون للمنطق الصوري في استنباط الأحكام، وفكريا بتغييب العقل البرهاني، وسياسيا بإعطاء شرعية لحكومة المتغلب.

وإن الحضارة الغربية انطلقت من غيبة الحرية وسائر حقوق الإنسان، فالعهد القديم (التوراة) سفر يجعل بني إسرائيل رعايا لرب الجنود الذي يفرض عليهم ثيوقراطية صارمة. والملوك الذين امتثلوا لهم مثل داود وسليمان مارسا حسب نصوص التوراة ملكا عضودا مطلقا، كما أن التوراة أسست للفكر العنصري بما قسمت الخلق على أساس عنصري لذرية سام، وحام، ويافث. كما اسست لفكر ذكوري بما حمّلت حواء مسئولية الطرد من الجنة ودونيتها الإنسانية. أما العهد الجديد (الانجيل) فهو خال من أية رسالة اجتماعية، ولكن الكنيسة أقامت سلطانا ثيوقراطياً مطلقا جعل البابوية معصومة من الخطأ ومتحكمة في المجتمع تحكماً مطلقاً وفي هذا النطاق نشأ الحق الإلهي للملوك فمارسوا حكماً مطلقاً.

من هذه الجذور الظلامية تحرر الفكر الأوربي عبر صراعات معلومة فأدى ذلك عبر ثورات تاريخية لإقامة منظمومة حقوق الإنسان العالمية وعلى رأسها الحريات العامة وهي: حرية العقيدة، والرأي، والتنقل، والنشر، والتنظيم.

مصادرنا نصت على الحرية وسائر حقوق الإنسان ولكن التجربة التاريخية التي خاضها المسلمون غيبت تلك الحقوق. ومصادرهم غيبت الحرية وسائر حقوق الإنسان ولكن التجربة التاريخية التي خاضتها الحضارة الغربية بلورت منظومة حقوق الإنسان وعلى رأسها الحريات.

 

وإليكم تفاصيل هذه الأطروحة ومستنداتها:

 

1. الإسلام دين واحد هو التوحيد لله والعمل الصالح: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) والإسلام هو دين كافة المرسلين: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) ولكن رسالة محمد (ص) امتازت بأمرين هما: أنها ختام الرسالات وأنها للناس كافة: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) .

التنوع سنة الحياة البشرية مكانا وزمانا: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) رسالات المرسلين المختلفة كانت لأقوامهم فهي محصورة زمانا ومكانا، وكانت تراعي الاختلافات في غير ثوابت الدين. الرسالة المحمدية مكونة من قسمين: العقائد والعبادات وهي ثوابت؛ والمعاملات وهي متحركة توجب مراعاة التنوع في المسائل الاجتماعية.

أول سؤال ونحن في معرض الحديث عن الحريات هو سؤال تأصيلي: هل الإنسان مسير أم مخير؟

القرآن حمال أوجه وفيه ما يدل على أن الإنسان مسير: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) وفيه ما يدل على أن الإنسان مخير: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) .

كتاب الله بموجب نصه فيه آيات محكمات وأخر متشابهات: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) ، فبأي وسيلة تعرف الآيات المحكمات والمتشابهات؟

إن للشريعة مقاصد ومن مقاصدها الدعوة لمكارم الأخلاق: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) وقال النبي (ص): ” إنّما بُعِثتُ لأُتَمِمَ مَكارِمَ الأَخلاَقِ” . لا مكان لمكارم الأخلاق إذا كان الإنسان مسيرا فهو حينئذ يفعل ما يفعل دون إرادته. ولكن إذا كان الإنسان حراً فإنه يثاب على مكارم الأخلاق. إذن آيات الاختيار هي المحكمة وآيات الجبر هي المتشابهة.

• إن نصوص الوحي تؤكد أنه حتى في أمور العقائد والعبادات أي الثوابت فالإنسان حر: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) . وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟)

والنص القرآني: (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ) تعني أنهم أحرار لأنه لا معنى للشورى إذا لم يكن الناس أحراراً. وفي كل الأمور لا يحق حتى لنبي أن يفرض إرادته على الناس: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِر) . والنبي نفسه عليه أن يحترم التعددية في المجتمع ولا يصب الناس في قالب واحد. لذلك أصدر النبي في المدينة صحيفة المدينة التي اعترفت بالتعددية الدينية والمالية لمجتمع المدينة.

حقوق الإنسان قديما وحديثا كلها تعود لخمسة أصول هي: الكرامة – والحرية- والعدالة- والمساواة- والسلام. وهي كلها منصوص عليها في دفاتر الوحي:

الكرامة: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)

العدالة: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

الحرية: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)

المساواة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)

السلام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) . والتزام الإسلام بالسلام ينص على أنه لا مشروعية لغزو لفرض عقيدة أو نحلة بل لا مشروعية في الإسلام لقتال إلا دفاعا عن حرية العقيدة لأن إجبار الإنسان على نبذ عقيدته أشد من القتل. (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) .

كذلك مشروعية القتال ردا للعدوان. قال تعالى: (أذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) . وقوله: (فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) .

هذه العقائد والمبادئ هي السلفية الحقيقية التي تعود للصدر الأول قبل نشأة المذاهب. أما التسمي المعاصر بالسلفية فهو يعني التخلي عن المذاهب والتمذهب بمذهب ظاهري وللدقة ينبغي أن نسمي هؤلاء أنصار المذهب الظاهري.

2. واقع تجربة المسلمين التاريخية غيب حقوق الإنسان كما ذكرناها هنا وعلى رأسها غيب الحرية في أهم مجالين: المجال الأول الفقهي لأن جمهور الأمة التزم بالقياس والإجماع في استنباط الأحكام وهما يعتمدان منطقاً صورياً بمعنى أن الاستنباطات على أساسهما لا تضيف شيئا للاجتهاد وفهم النصوص على ضوء المستجدات، بل تستنج منهما. هذا المنطق الصوري وضع حداً معرفياً (أبستمولوجياً) للفقه فقد أكمل السلف الاستنباطات الفقهية ولم يبق للخلف إلا التقليد كما جاء في جوهرة التوحيد:

ومالك وسائر الأئمة وأبو القاسم هداة الأمة

فواجب تقليد حبر منهم كذا قضى القوم بقول يفهم

ومقولة:

العلم ما قال هذا حدثنا ما سوى ذاك وسواس الشياطين

وإلى جانب هذا الجمود فإن الأمة الإسلامية منذ الفيلسوف الفارابي و الكندي وابن طفيل وابن سينا وابن رشد قد مارسوا حيوية عقلية خصبة جعلت الحضارة الإسلامية على حد تعبير العالم البريطاني منتجمري واط تستصحب كافة حضارات الإنسان بصورة معجزة. إنه نشاط عقلي شجعته النصوص القرآنية التي تحث على العقل ومناشطه في التفكير والتدبر. ولكن شحذ العقل البرهاني هذا مُنِيَ بهزيمة كبيرة على يد الغزالي الذي اعتمده الجمهور: حجة الإسلام.

• وفي المجال السياسي خشى المسلمون من الفتنة لا سيما الفتنة الكبرى التي فيها شهدوا الصحابة يقتتلون على ولاية الأمر حتى آل بيت النبي (ص) وصفوة الصحابة. لذلك نصح المغيرة بن شعبة معاوية أن يأخذ البيعة لابنه يزيد. وفي مجلس البيعة ليزيد قام ابن المقفع وقال: أمير المؤمنين هذا وأشار لمعاوية، فإن هلك فهذا وأشار ليزيد ومن أبى فهذا وأشار لسيفه. فقال له معاوية: اجلس فإنك سيد الخطباء. أي بلغة عصرنا ثناه.

منذ ذلك الحين صارت الولاية تقوم على القوة والوراثة. لذلك استصحب العهد الأموي أساليب الحكم القيصري كما ساد في الشام. وبعد ذلك أي في العهد العباسي استصحبت ولاية الأمر أساليب الحكم الكسروي كما كان في العراق. هذه الممارسات الوافدة على المسلمين صارت لها شرعية عبر عنها ابن حجر العسقلاني بقوله: وقد أجمع الجمهور على طاعة المتغلب والقتال معه.

هكذا، في التقليد الفقهي، والجمود الفكري، والاستبداد السياسي غيبت تجربة الأمة الإسلامية التاريخية حقوق الإنسان وعلى رأسها الحريات.

3. التجربة الأوربية إذا نظرنا للكتاب المقدس تقول: العهد القديم (أي التوراة) فيه دليل على أن بني إسرائيل كانوا يخضعون لتوجيهات رب الجنود ما يعني سلطة ثيوقراطية ولملوك كما في عهدي داود وسليمان، يحكمون بصورة مطلقة ويتوارثون الحكم. وتعاليم العهد القديم أسست للعنصرية فأبناء نوح: سام وحام ويافث نسلت منهم ذريات ذوات مكانات إنسانية واجتماعية متفاوتة بحكم الانتماء العرقي. كما أسست تلك التعاليم للذكورية مؤكدة دونية المرأة وأنها أساس خطيئة الطرد من الجنة.

أما العهد الجديد (الانجيل) فهو عار عن تعاليم اجتماعية، هذا الفراغ ملأته تعاليم القديس بولص فصارت مؤسسة الكنيسة هي الوصية على المسيحيين في كل شئون الحياة وصارت البابوية تمارس سلطة روحية وعقلية وسياسية مطلقة والبابا معصوم وطاعته واجب ديني. ومن هذه الخلفية فإن تعميده للملوك يمنحهم حقا إلهيا.

الحضارة الغربية ثارت على هذه المفاهيم بموجب حلقات وعي إنساني: حركة الإصلاح، وحركة البعث، وحركة التنوير. وهي حركات أعلت من مكان الإنسان والعقل والحرية على حساب السلطان الكنسي. الحضارة الأوربية وعلى يد قادة الفكر والسياسة فيها شهدت ثلاث ثورات: ثورة سياسية انطلقت من أمريكا وفرنسا وحررت الشعب من الوصاية، وثورة اقتصادية انطلقت من بريطانيا طورت عوامل الانتاج وسخرت قوى الطبيعة لخدمة الإنسان، وثورة ثقافية حققت حرية البحث العلمي والتكنولوجي.

إن حركات التنوير التي انطلقت في أوربا انطلقت متأثرة بحيوية الحضارة الإسلامية ولكنها تقدمت بموجب الثورات الثلاث المذكورة ما جعل الحضارة الغربية تتقدم في مجال حقوق الإنسان حتى وصلت أوجها بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومنظومة حقوق الإنسان التي أبرمتها الأمم المتحدة بقيادة غربية.

صحيح أن الحضارة الغربية ارتكبت أبشع الجرائم في حق الإنسانية في تجاربها الامبريالية، وفي تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، وفي إبادة الشعوب الأصلية مثل الهنود الحمر؛ ولكن هذا كله لا ينفي عدولهم عن تلك التجارب وتطويرهم لمنظومة حقوق الإنسان وعلى رأسها: الحريات.

إن الحرية هي التي مكنت الحضارة الغربية من تطوير العلوم التكنولوجية ونظام الحكم الذي أتاح للشعوب المشاركة وفرض على الحكام: المساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون.

على عكس ما حدث لأمتنا تماما فإن الحضارة الغربية انطلقت من أصول ظلامية كما أوضحنا ولكن عبر نضالات فكرية، وسياسية. عرجوا نحو مراقي حقوق الإنسان وعلى رأسها الحرية.

توافر الحرية هو الذي يفسر إقدام الغرب على بناء حضارة قوية صارت لها الغلبة في العالم وجعلت الشعوب الأخرى خاضعة لسلطانها.

وفي السبعينيات أصدر أندريه سخاروف أبو العلم النووي السوفيتي كتابا بعنوان: (بلادي والعالم). قال فيه: إننا عملنا إصلاحات في التعليم وفي تمكين الفكر العقلاني بصورة متفوقة على الغرب. ومع ذلك فإن كل الاكتشافات والاخترعات الحديثة أتت من الغرب وفي كل المجالات: في الفيزياء، والكيمياء، والبيولوجيا، والفضاء وفي الفارمكولجي (علم الدواء)، وفي الطب. وتساءل لماذا هذا؟ وأجاب: إن توافر الحرية هو السبب في تقدمهم وغياب الحرية هو السبب في تخلفنا!

4. نعم خضعت بلداننا لاحتلال أوربا لها بسبب ركودها وما عبر عنه مالك بن نبي: حالة القابلية للاحتلال. وبعد فترة من الزمان نالت تلك البلدان استقلالها وأقامت دولاً مستقلة تحكمها نظم مستمدة من دول الاحتلال الأم. تلك النظم لم تقو على الاستدامة لأن نظم الحكم فيها لم تجر على النظم الوافدة إليها أقلمة ثقافية واجتماعية. ولذلك تهاوت النظم البرلمانية في البلدان العربية الإسلامية على أيدي انقلابات عسكرية. نظم رفعت شعارات مختلفة قومية (كما في سوريا والعراق)، أو اشتراكية قومية (كما في مصر)، أو إسلامية (كما في السودان)، أو شيوعية (كما في اليمن الجنوبي) وعلى اختلاف الشعارات التي رفعتها تلك الدول فإنها اتفقت على حرمان شعوبها من الحريات الخمس (حرية العقيدة- حرية التنقل – حرية الرأي- وحرية النشر- وحرية التنظيم).

وكل هذه النظم الاستبدادية أقامت نظام حكم على نمط نظام الحكم شرق الأوسطي الذي اتسم في كل الأحوال بالصفات الآتية:

• الاستيلاء على الحكم بالانقلاب العسكري، والانقلاب العسكري بطبيعته يستولى على السلطة خلسة ويمثل عدوان هيئة مسلحة على مدنيين ولا مكان فيما يتخذ من إجراءات لمشاركة الشعب أو لدعم استحقاقاته.

وفي كل حالة حدث فيها الاستيلاء على السلطة بحجة تطبيق برنامج أيديولوجي معين فإن الانقلابيين بعد الانقضاض على السلطة والبطش بالقوى السياسية والاعتماد على حزب سياسي بعينه كالبعث في سوريا والعراق، وكالجبهة الإسلامية القومية في السودان. فإن الانقلابين يمارسون في البلدان التي يحكمونها نمطاً واحداً تقف وراءه طائفية عسكرية. ذكر منيف الرزاز كيف أنهم كبعثيين في سوريا رحبوا بالبطش بالأحزاب الأخرى. ولكن الانقلابيين بعد أن يستتب لهم الأمر يبطشون باليد التي ساعدتهم وقد سجل هذه السياسة القمعية في كتاب بعنوان (التجربة المرة).

حقا كما قال المتنبي:

ومن يجعل الضرغام بازا لصيده تصيده الضرغام فيما تصيدا

وأنا نظمت بيتاً في هذه الظاهرة:

من تمطى باسماً ظهر النمر حتما سيأكله ويبتسم النمر!

إن الأب السياسي لهذه النظم هو النهج الستاليني والنهج الفاشيستي ومع اختلاف تعابيرهما فإن الفاشستية هي استالينية اليمين. والستالينية هي فاشستية اليسار. مفردات هذا النظام الشرق أوسطي المغيب للحريات ولسائر حقوق الإنسان هي:

‌أ. الانقلاب العسكري الذي قال عنه الشيخ الالباني إنه باطل ومخالف لنهج الإسلام.

‌ب. تمكين حزب واحد على السلطة.

‌ج. التزام إعلام طبال للسلطة الانقلابية.

‌د. تكوين أجهزة استخبارات وأمن لحماية النظام.

‌ه. تسييس مؤسسات الدولة لصالح الحزب الحاكم.

‌و. تسخير الاقتصاد لدعم السلطة القائمة فهو اقتصاد محاباة وتجريد القوى السياسية الأخرى من مصالحها المادية.

‌ز. إقامة العلاقات الخارجية على أساس انتقائي محوري.

هذا النظام شرق الأوسطي يغيب الحريات وسائر حقوق الإنسان وهو مستمد من النظم الشمولية الغربية تماما كما حدث في الماضي واستمدت الدول التي أقامها المسلمون من القيصرية والكسروية، ومثلها أقامت نظم الحكم الأحادية هذه نظما فاشستية على حساب استحقاقات الشعوب والحريات فيها. هكذا غيبت النظم الحاكمة في بلداننا الحريات مثلما فعلت دول الأمويين والعباسيين والعثمانين تاريخيا.

فيما يتعلق بغياب الحرية تساوت النظم القديمة التي أسسها الأمويون والعباسيون والعثمانيون وغيرهم، مع النظم الحديثة التي أسسها الانقلابيون الطغاة.

قال دعبل الخزاعي يصف النظم القديمة:

خليفة مات لم يحزن له أحد وآخر قام لم يحفل به أحد

فمات هذا وراح الشؤم يتبعه وقام هذا فقام الشؤم والنكد

قال أمل دنقل يصف النظم الجديدة:

لا تحلموا بعالم سعيد

فخلف كل قيصر يموت

قيصر جديد،

وخلف كل ثائر يموت

أحزان بلا جدوى ودمعه سدى!

وقال:

تحدث عن الطقس إن شئت

فانت آمن

أو عن حبوب منع الحمل

فانت آمن

هذا هو القانون في مزرعة البهائم.

تجربة بلداننا التاريخية حول غياب الحريات بل سائر حقوق الإنسان تدنت من بداية تقدس نصوصها تلك الحقوق، إلى واقع غيبها لدرجة أن كتابا ومفكرين غربيين صاروا يتحدثون عن أن في الإسلام نفسه عوامل تمنع الحرية والحكم الراشد الذي تحققه الديمقراطية. وبعد أن اتجهت بعض الدول الإسلامية نحو الديمقراطية صاروا يتحدثون بأن العلة في العروبة فتحدثوا عن الاستثنائية العربية. أي أن العالم في الغالب عمته التحولات الديمقراطية في موجاتها الأربع ما عدا العالم العربي.

5. شهد العالم الغربي تجربة قاسية للغاية وعندما كانت نظم الحكم عندهم تقوم على التغلب والتوارث ما رسوا تسلطا أشد مما كان في الممالك الإسلامية واشتعلت بين طوائفهم ودولهم حروب أكثر بطشا ودموية.

وفي القرن العشرين في أوربا نشأ نظامان شموليان للحكم. مارسا قهراً ممنهجاً للإنسان غير مسبوق في دفاتر الإنسانية.

هذه الخلفية الدموية حركت الأفكار والضمائر في الغرب فاتجهوا في النصف الثاني من القرن العشرين إلى توثيق أو تقنين حقوق الإنسان أمام الحكومات في حالة السلم ووجوب حمايتها في حالة الحرب.

هذه اليقظة في الضمير والفكر الإنساني ظاهرة حقيقية ولها دوافع ملموسة وما أثمرته من نظم ومعاهدات كفارات حقيقية عن جرائم الماضي ومكاسب حقيقية للإنسانية الجريحة المعذبة.

من هذه المنطلقات كتب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) ثم العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966) والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966) ويتبع لهذه المواثيق والمعاهدات معاهدات كثيرة حول حقوق فئات معينة من البشر وقد صارت تمثل منظومة كاملة لحقوق الإنسان وحرياته تمثل حوكمة أممية جديدة راعية لحقوق الإنسان ما شجع على تمدد النظم الديمقراطية عبر موجات أربع حتى عمت الجزء الأكبر من المعمورة.

ولكن أثيرت حول منظومة حقوقها الإنسان العالمية هذه شبهات أهمها شبهتان:

الأولى: أن الدول الكبيرة تتعامل مع منظومة حقوق الإنسان بازدواجية إذ تستخدمها وسائل للتدخل في شئون الدول الممانعة لها. بينما تغفلها تماما في التعامل مع دول أخرى تربطها بهم مصالح. نعم هذه حقيقة تقدح في سياسات تلك الدول وتعيبها ولكنها لا تقدح في منظومة حقوق الإنسان، وقديما قال الإمام على: إنك لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله.

الشبهة الثانية: هي أن هذه المواثيق والمعاهدات تمثل غزواً فكرياً وثقافياً وتخترق خصوصيتنا الثقافية. ولكنني في عام 2004 نشرت كتاباً عن الإعلان العالمي من منظور إسلامي أو ضحت فيه تطابق نصوص الإعلان مع النصوص الإسلامية. ثم نشرت فيما بعد كتابي: الإنسان بنيان الله في عام 2009م لإثبات أن المبادئ والأسس التي انطلقت منها منظومة حقوق الإنسان العالمية لا سيما الحريات تتجاوب مع ما في الدفاتر الإسلامية من نصوص.

حقيقة قال عنها شاعر النيل (حافظ إبراهيم) قديما:

أي شيء في الغرب قد بهر الناس جمالا لم يكن منه عندي؟

الدول البوليسية التي تحكم بلداننا قبل الثورات العربية الديمقراطية الحالية اعترضت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمعاهدات الأخرى لأنها توجب تصفية النظام البوليسي فتمنع الاعتقال التعسفي، وتوجب محاكمة المتهمين أمام محاكم مستقلة، وتمنع اختراق خصوصية الأفراد، وتوجب حرية التنقل، وتوجب حرية الرأي والتعبير، وتوجب حرية التنظيم السياسي والنقابي، وهلم جرا.

6. شهدت بلداننا على الصعيد الإسلامي تيارات كثيرة أهمها:

• التيار السلفي وأساس مبدئه هو التخلي عن التمذهب والالتزام بالكتاب والسنة هذا ما كان عليه نهج الوهابية في الجزيرة العربية. وهذا ما كان عليه نهج المهدية في السودان وغيرهما من حركات الإحياء الإسلامي.

• التيار التوفيقي وهو سلفي من حيث التخلي عن التمذهب ولكنه يتطلع لتوفيق بين التأصيل والتحديث. هذا ما دعا إليه الشيخان جمال الدين ومحمد عبده.

• تيار حركي متأثر بالسلفية وبالتوفيقية ولكنه اتخذ نهجا تنيظيما وحركيا جسدته حركة الأخوان المسلمون.

هذه الحركية الإسلامية دخلت في مناورات مع النظم الانقلابية كما حدث في مصر ولكنها في نهاية المطاف واجهت من تلك النظم الانقلابية بطشا هائلا على يد الناصرية والبعثية.

التيار الحركي الإسلامي مهما واجه من عقبات تمدد مجتمعيا في كثير من بلداننا لأنه: خاطب أشواقا حقيقية في نفوس وثقافة الناس أشواق إسلامية. ولأن دعاته واجهوا قمعاً مراً على أيدي نظم الطغيان المتحكمة. نظم اتسمت بالاستبداد، والفساد، والتبعية للخارج، فحصد خصومها تأييداً شعبياً واسعاً. ولأن الحركية الإسلامية هذه حظيت بالصمود والتضحية والتنظيم الدقيق والتمدد في ظروف القهر في المجالات المسجدية والأنشطة الاجتماعية.

ولكن مهما كانت حدة القمع فإن الدلائل قبل ثورات “الربيع العربي” كانت تشير إلى أن انفجاراً اجتماعياً ما في الطريق. والدليل على ذلك:

• بعد طواف على ست دول عربية في بحر عامين من 2006 إلى 2008م عقد ممثلو نادي مدريد وهو تجمع يمثل 90 من رؤساء الدول والحكومات السابقين عقدوا ملتقى شاركت فيه وفود من 19 دولة عربية وبعد التداول أصدروا نداء البحر الميت في يناير 2008م وجاء فيه: إن البلدان العربية تعاني من احتقان حول الحريات ما يوجب حوارا جادا بين الحكام والمعارضين للاتفاق على برنامج إصلاح سياسي حقيقي وإلا فالاحتقان يبشر بانفجار قادم.

• في عام 2009م نشر الكاتب جون برادلي كتابا بالانجليزية بعنوان: من داخل مصر: أرض الفراعنة على حافة ثورة.

• وفي عام 2010م نشر الكاتب المصري محمد سلماوي رواية بعنوان “أجنحة الفراشة” رسم فيه خيالا أحداثا أشبه ما تكون بما حدث فعلا بعد ذلك في ميدان التحرير في القاهرة في بداية عام 2011م.

أكبر نسبة في البلدان العربية لمتسخدمي الانترنت تونس ومصر. وصار الشباب فيها كما في بلدان أخرى يستخدمون وسائل الطفرة الرقمية الحديثة وما صحب ذلك من إمكانية تواصل اجتماعي كبير مثل الفيس بوك والتويتر والسكايبي والهاتف النقال.

في أوخر عام 2011م نظم نادي مدريد مؤتمرا لدراسة آثار الثورة الرقمية على السياسة، والاقتصاد، والدبلوماسية، والإعلام. قدمت في ذلك المؤتمر ورقة بعنوان: الثورة الرقمية وأثرها في الشأن العربي.

وسائل هؤلاء الشباب غير التقليدية وتبنيهم لأحداث مثيرة مثل استقتال محمد البوعزيزي في ت ونس، واغتيال خالد سعيد في مصر مكنتهم من تنظيم احتجاجات بدأت محدودة ولكنها سرعان ما استقطبت الجماهير المحتقنة أصلا بالغضب على المظالم والمفاسد فتحركت وتحركت القوى السياسية والنقابية التي كانت تحت أسر أجهزة القمع. تحركوا بالملايين وساعدهم الإعلام الفضائي لا سيما الجزيرة والبي بي سي لنشر الأحداث. ودعم موقفهم الرأي العام العالمي المسكون بقضية حقوق الإنسان وعوامل أخرى للإطاحة ببعض الطغاة.

هذه الثورات لم تقدها أحزاب معينة وكانت طليعتها أولئك الشبان والشابات كما ذكرنا ما أدى لإقامة نظم ديمقراطية. وفي مناخ الحرية عبرت الشعوب المعنية عن تطلعاتها الإسلامية. الحرية فتحت الطريق لدعوة الشريعة الإسلامية. التحدي الذي يواجه الحكام الجدد هو: نعم لقد صعدوا بسلم الديمقراطية فهل يستطيعون الحكم بوسائل الديمقراطية؟ وأمامهم تحديات كثيرة على نحو ما أوضحنا في كتابنا: “معالم الفجر الجديد” الذي نشر في عام 2011م. أهم تلك التحديات المحافظة على الوحدة الوطنية، وتحقيق التنمية ومحاربة العطالة، والفقر، والفساد، والتعامل المجدي مع ملفات السياسة الخارجية، والسلام، وهي تحديات يمكن للوعي والإرادة إن توافرتا أن تواجهها بنجاح.

والعاقل من اتعظ بغيره. هنالك نماذج من التجارب الإسلامية الحديثة يرجى أن تدركها القوى الإسلامية المقبلة على الحكم.

7. أهم التجارب الحديثة للإسلمة هي:

• تجربة باكستان مع ضياء الحق.

• تجربة إيران والثورة الإسلامية الإيرانية.

• التجارب السودانية.

• تجربة أفغانستان مع طالبان.

• تجارب تركيا مع أربكان واردوغان.

• وهنالك تجارب أخرى في ماليزيا، واندونيسيا، وغزة.

هذا معناه إن الذي يرفع الشعار الإسلامي سوف يستحضر في أذهان الآخرين نتائج تلك التجارب.

• أما تجربة باكستان مع ضياء الحق فقد كانت تشتمل على خداع: نادى بالإسلام لكي يقيم لحكمه الدكتاتوري شرعية إسلامية. ثم استفتى الناس على نفسه وربط بين تأييده وتأييد التوجه الإسلامي. وكانت نتائج التجربة سالبة وكانت خصما على الحرية.

• التجربة الإيرانية عابها أمران الأول: التمذهب والقيد بالمذهب الجعفري، وولاية الفقيه التي تلغي ولاية الأمة لصالح الفقيه الذي يفترض أن علمه لدنيّ وأن قراره معصوم من الخطأ. ومع أنها حققت إنجازات كبيرة في تثبيت هوية إيران الإسلامية وفي مجالات الخدمات الاجتماعية، وفي استقلال القرار الوطني؛ فإن قدوتها محصورة في الإطار الشيعي وحتى في هذا المجال فقد ترددت آراء اصلاحية تحصر ولاية الفقيه في المسائل الحسبية أي الثوابت وتنادي بولاية الأمة في الجوانب الأخرى.

• التجارب السودانية في مجال الأسلمة ثلاث: تجربة نظام مايو التي عملت على توظيف الأحكام الإسلامية في دعم نظام دكتاتوري فاسد. تناولت هذه التجربة في كتابي “الإسلام والتجربة السودانية” الذي أوضحت فيه استخدامها للعقوبات الإسلامية لتثبيت القهر والطغيان لا لتحقيق العدالة، ثم أتبعته بكتاب يخاطبها والتجربة الباكستانية وكافة التجارب التي تبدأ بسن العقوبات وعنوانه “العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي الإسلامي” وعوقبت بالسجن على هذه الرؤية. وخلاصة الحجة في كتاب (العقوبات) أن الأحكام الإسلامية شرعت لحماية نظام إسلامي فاضل وعادل وإلا فهي في غير موضعها.

وهنالك مشروع الأسلمة في ظل الديمقراطية الثالثة ومع أنها كانت بطيئة إلا أنها كانت الأجدى ولو ترك لها المجال لحققت أسلمة بالوسائل الديمقراطية وفي ظل حقوق الإنسان ولكنها اجهضت بقيام انقلاب يونيو 1989م.

• تجربة نظام “الإنقاذ” ربطت مشروعها الإسلامي بالولاية الانقلابية العسكرية وباستعارة نظام الحكم شرق الأوسطي بكل تفاصيله الظلامية من استبداد، وفساد، وظلم وسائر المعالم الفاشستية.

• تجربة أفغانستان مع طالبان تقوم على نظام ماضوي أخرجها من العصر الحديث وجعلها خارج التاريخ.

• التجارب التركية تحمل دروسا مفيدة ففي عهد أربكان فاز حزبه بأكثرية ولكنه لم يستطع أن يحكم في وجه قوات مسلحة تتبع علمانية صارمة ومجتمع تركي معطون في الحداثة. هذه العوامل هي التي جعلت أردوغان وزملاءه يكونون حزب العدالة والتنمية الذي نجح في استقطاب اغلبية شعبية لقيادة مسلمين مراعين مطالب المجتمع العلماني.

• التجربة الماليزية قريبة من التركية التزمت باتجاه إسلامي يراعي تعددية المجتمع الثقافية والدينية.

التجربتان التركية بقيادة أردوغان والماليزية بقيادة مهاتير حققتا نجاحا تنمويا باهرا وحافظتا على توجه إسلامي خافت مراعين علمانية المجتمع كما في تركيا، والتعددية الثقافية الشديدة كما في ماليزيا، وفي هاتين التجربتين حافظوا على احترام التعددية والحرية.

ولأهمية التجربة السودانية التي جاء بها نظام الإنقاذ فقد قدمت لها دراسة وافية في كتابي: “ميزان المصير الوطني في السوان”. والخلاصة هي أن تجربة الإنقاذ السودانية قدمت الإسلام في تناقض مع حقوق الإنسان لا سيما الحريات.

وفي نوفمبر 2011م دعينا لمؤتمر عن الصحوة الإسلامية في طهران. وكان اتجاه المنصة هو:

– إن للصحوة الإسلامية مركزاً واحداً هو طهران.

– إن النظم يكفيها أن تعلن توجهها الإسلامي لتكتسب شرعيتها.

– إن ثورات الربيع العربي هي ثورات إسلامية.

ولكنني كمشارك في المؤتمر صححت هذه المفاهيم قائلا:

• إن للصحوة الإسلامية أكثر من مركز في العالم، فهناك مراكز في العالم السني، وعلينا الاعتراف بتعددية مراكز الصحوة الإسلامية لكيلا نعمق الانقسام بين المسلمين.

• إنه لا يكفي أن تعلن النظم انتماءها للإسلام، بل عليها أن تجعل التوجه الإسلامي محققا لتطلعات الشعوب في الكرامة، والحرية، والتنمية، والعدالة؛ فإن هي أخفقت في ذلك فسوف تجلب لنفسها بغض الشعوب.

• وقلت إن الثورات العربية ليست ثورات إسلامية بل هي ثورات ديمقراطية هدفها توافر الكرامة والحرية وسائر مطالب الشعوب. ولكن الشعوب عندما مارست حريتها اختارت التوجهات الإسلامية.

فيما يتعلق بما سيواجه الحكام في البلاد العربية الذين انتخبوا لتطبيق برامج إسلامية، فإن أمامهم أن يحققوا مطالب الشعب المشروعة ببرامج إسلامية فيدخلون التاريخ على أساس أنها تجارب حققت حكما حديثا ونظما حديثة بمرجعية إسلامية. فإن أخفقوا فسوف يجلبون لشعاراتهم العار والدمار. تماما كما حدث لدعاة القومية العربية الذين رفعوا شعارات ولكن تجربتهم أدت إلى نقيضها.

وفي هذا الصدد عليهم الإلمام بدروس التجربة السودانية التي خاضتها كوادر إسلامية وحاولت تطبيق الشريعة، ولكنها وقعت في نفس الأخطاء التي ارتكبتها النظم الأخرى حذوك النعل بالنعل، من استبداد وفساد وظلم وقهر وقمع للحريات.

إن رفع شعار أيديولوجي معين كالإسلام في حالة السودان، والإخفاق في ظله كما حدث في السودان يدفع نحو اتجاهين متناقضين، هما:

اتجاه في اليسار يرى إبعاد الدين من السياسة تماما على نحو ما قال مراد وهبة في بيانه لشروط الديمقراطية. قال إن مكونات الديمقراطية أربعة: أولا: العلمانية ومعناها التفكير في الشيء باعتباره نسبيا؛ ثانيا: العقد الاجتماعي ومعناه هدم مبدأ أن الحاكم يستمد سلطته من الله؛ ثالثا: التنوير ومعناه أن لا سلطان على العقل إلا العقل؛ ورابعا: الليبرالية أن سلطة الفرد فوق سلطة المجتمع.

إخفاق التجربة الإسلامية السودانية أدى إلى تيارات علمانية أهمها ما قالت به الجبهة الثورية السودانية.

ونفس الإخفاق أدى إلى تيارات يمينية ذات تطلعات ماضوية ترفض الديمقراطية من أساسها على نحو ما قال يوسف العييري: الديمقراطية هي أخبث إفرازات العلمانية لأنها تناقض قوله تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) وهي تقول الحكم للشعب.

جدير بالنظام السوداني أن يدرك أنه تعرض لكل سلبيات النظام شرق الأوسطي من استبداد وفساد وظلم، وعلى يديه انفصل الجنوب واحترقت دارفور، ودخل الاقتصاد الوطني في أزمة طاحنة، وتعرض للانقسام في صفه، وقيادته ملاحقة دوليا، وهو الآن مستهدف داخليا وخارجيا بقوى كثيرة. فالانقضاض عليه بالقوى الخشنة أو الناعمة وارد، وحصاره دوليا وملاحقة قيادته كذلك ورادة. ويمكنه أن يقرر وقفة مع الذات يصارح نفسه فيها بواقع الحال ثم ينظم ملتقى مع القوى السياسية ليشيروا إليه على نحو ما فعل خوان كارلوس في أسبانيا، وبينوشيه في تشيلي، ودي كلارك في جنوب أفريقيا. هذا النهج سوف يشكل مخرجا جيدا للسودان، وبعدئذ تصير التجربة السودانية بما فيها مما ينبغي تجنبه، وما فيها مما ينبغي الاقتداء به كتجربة ربيع استباقية.

في الثمانينات وبعد أن تأكد لي أن جعفر نميري لن يحقق مطالب المصالحة الوطنية واستأنفنا المعارضة من الداخل زارني المرحوم نميري في البيت ومعه المرحوم فتح الرحمن البشير وعرض عليّ المشاركة معه على أن أكون نائبه وخليفته، قلت له: أيها الأخ الرئيس، القضية ليست من يحكم السودان، بل كيف يحكم السودان؟ فإن أنت وافقت على إصلاح جذري يحقق الديمقراطية ويكفل حقوق الإنسان فأنا مستعد أن أقبل أية مسئولية مهما صغرت. ولكن دون ذلك، أي مع استمرار النظام القمعي فأنا لا أريد ولا حتى منصبك أنت.

وفي عام 1988م في بغداد التقيت المرحوم ميشيل عفلق، وقلت له: على ضوء ما كتب منيف الرزاز في كتاب “التجربة المرة”، ينبغي الاعتراف بأنكم إذ غيبتم الحرية هزمتم كافة أهداف البعث الأخرى. وافقني على هذا الرأي وقال إنه سوف يكتب ما يفيد محورية مبدأ الحرية. ولا أدري إن كتب أم لا، لأنه بعد ذلك توفي وذكرت ذلك في نعيه.

والآن نقول للنظام: لا معنى لإغراء الآخرين بالمناصب، بل المطلوب هو نظام جديد يكفل الحريات وسائر حقوق الإنسان، وينقل البلاد من دولة الحزب لدولة الوطن، وسلمت للرئيس البشيرخطابا مفصلا بذلك في 24 مارس 2011م.

ختام: من كثرة وتعدد تجارب السودان فإنه أشبه بحقل تجارب شهد شعبه كل النظم المعروفة في معجم السياسة. والنظام الحالي إذا استمر على نهجه الحالي فسوف يفتت السودان. وإذا انقضت عليه قوى بأية دوافع فإن المواجهات المتوقعة ستكون في أكثر من جبهة وبأكثر من أجندة واحدة، وهذا أيضا سيناريو تفتيت للسودان.

إذا استوعب أهل السودان هذه الدورس واستطاعوا الاتفاق على خريطة طريق نحو السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الكامل مع الحرص على المرجعية الإسلامية واحترام التعددية الدينية والثقافية فإنهم يستطيعون الاتفاق على خريطة طريق لمستقبل آمن، وستكون التجربة السودانية أعز صادرات السودان إقليميا: عربيا وإفريقيا وإسلاميا بل حتى دوليا، لأن السودان المتجدد هذا سوف تكون لديه المكانة المعنوية ليدعو لإصلاح النظام الدولي الحالي الذي مهما حقق من منجزات فإن فيه عيوبا تتطلب الإصلاح نحو نظام دولي أعدل وأفضل.

تجارب السودان مفيدة للغاية إذا كان من نتائجها انتزاع الدروس منها:

لا تحسب النكبات منقصة قد يستجاد السيف بالفلل

وهو معنى: ما لا يقتلني يقويني.

أمام بلادنا خطر التفكيك وفرصة إعادة التكوين، (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) .