الدروس المستفادة من التجارب المعاصرة لتطبيق الشريعة الإسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم

الدروس المستفادة من التجارب المعاصرة لتطبيق الشريعة الإسلامية

المحاضرة التي قدمها السيد الصادق المهدي رئيس وزراء السودان السابق بكادونا-نيجيريا  بوم السبت 30 يونيو 2001م تحت رعاية جمعية المسلمين في نيجيريا

 

الأخ الرئيس

الأخوة والأخوات .. السلام عليكم

لقد دعيت لتقديم محاضرتين، الأولى ذات طبيعة عامة ألقيتها بلاغوس، وهذه المحاضرة ستكون مخصصة للإسلام وتطبيق الشريعة.

المسرح السياسي الداخلي في كثير من البلاد الإسلامية يشغله موضوع تطبيق الشريعة الإسلامية. وهو موضوع مشحون لأن الإسلام في نظر البعض يرتبط بانتهاك حقوق الإنسان واضطهاد الأقليات والتمييز ضد المرأة والتأهب للجوء للعنف، إنهم يصورونه بيتا للأشباح وغرفة الرعب .

وخارجيا تحصر كثير من الدوائر الإسلام في صور نمطية محددة: الإرهاب، الاستبداد، الظلم والتعصب وتذكر بعض المواضيع برهانا على ذلك .

لقد تحدثت- أنا وغيري- وكتبنا بغزارة لتوضيح حقيقة الإسلام كدين وكنظام اجتماعي. ولكن حينما يتم تناول الموضوع سياسيا في الداخل / أو في العلاقات الدولية فإنه يولد نارا أكثر مما يولد نورا.

وعلى الرغم من الانحياز والتحامل والتعصب فسأستمر في تجنب الجدل الحاد المنفعل وأنقل النقاش إلى المستوى المطلوب من العقلانية والاعتدال.

( لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) المائدة 8.

أأمل أن يتحلي النقاش بالعقلانية والاتزان لأن البديل داخليا وعالميا سيكون مخيفا، لأنه سيصعد النزاع الداخلي والمواجهة الدولية وسيقود إلى حقبة مظلمة.

سأبين حججي في سبع نقاط: –

 

النقطة الأولى :

حينما شارف القرن العشرون على نهايته، صار هناك دليل قوي بأن كل الأديان العالمية تشهد صحوة دينية. والنتيجة الحتمية لذلك هي درجة عالية من إثبات الذات ودرجة أكبر من الالتزام الديني لدى أصحاب تلك الأديان تحقيقا للذات.

هذه الظاهرة أقوى لدى المسلمين لأن اختلال ميزان القوى جعلهم يحسون بالاضطهاد والتهميش من قبل الغرب المتغطرس والذي تهدد ثقافته هويتهم. لقد صارت بلادهم مسرحا لكثير من المذاهب الغازية وأحبطهم أداء النخبة السياسية ونظروا للسياسة على أنها فساد ولا أخلاقية وظلم. و شعروا بالرغبة العارمة في الاحتجاج. بل وأخذوا المبادرة في ممارسة سلطة الجماهير. في ظل الدكتاتورية تظل المشاعر تغلي تحت السطح ولكن مع أول فرصة ينفجر ذلك الاحتجاج ويطفو فوق السطح.

إن موجة التطلع لتطبيق الشريعة الإسلامية حقيقة ويمكن ربطها بالتجارب الصادقة السابقة للسلف الصالح . ونسبة لأن تطبيق الشريعة يصادف هوى ورغبة شعبية أصبح من الممكن استغلاله لأغراض مشبوهة وقد تم ذلك بالفعل في كثير من البلاد من قبل الانتهازيين.

هناك العديد من تجارب تطبيق الشريعة في عدد من  البلدان وقد ارتبطت تلك التجارب بالدكتاتورية التي تفتقد الشرعية وتستغل الإسلام لتغطية اغتصابها للسلطة.

موضوع تطبيق الشريعة في نيجيريا تتم مخاطبته بآلية ديمقراطية فلا غرو أن يثمر النقاش أدبا غزيرا  ونقاشا واسعا أكثر مما أثارته التجارب الأخرى الأكثر طموحا. فالدكتاتورية تتخذ الصمت والإسكات منهجا والديمقراطية يعلو فيها الكلام والنقاش.  أنا معجب ومقدر لعمق وغنى النقاش الدائر حول التجربة النيجيرية وآمل ألا يفقد أحد الفرقاء حلمه ويتجه لحلول جراحية لأنها تورث حمامات من الدماء ولن تجدي فتيلا.سأناقش هنا احتمالات الاتفاق ولكن قبل ذلك هناك ثلاثة أشياء أرجو من أخواني النيجيريين أن يراعوها بقلوبهم وعقولهم وأعصابهم وهي: –

 

الشيء الأول:الوحدة النيجيرية: –

أنا لا أقصد أن تكون الوحدة صنما. فأسس الوحدة يمكن مناقشتها بوسائل ديمقراطية متى ما كانت هناك مرارات مبررة أو اختلال ظاهر في التوازن. ولكن الوحدة نفسها يجب الحفاظ عليها لمصلحة جميع المواطنين بنيجيريا.

أما بالنسبة لاخواني المسلمين فإني أطلب منهم أن يتفكروا في نتائج قيام دولة باكستان وفي ظروف أكثر مواتاة لمثل هذا النوع من التجارب. لقد خلقت تلك العملية الجراحية قبل نصف قرن من الزمان دولتين متعاديتين ولم يستفد منها المسلمون في باكستان وخلقت ضغوطا على المسلمين الذين بقوا في الهند وغذت الأصولية الهندوسية ووضعت البلدين في مجرى التدمير النووي المتبادل ولا أعتقد أن الآباء المؤسسين قد وضعوا هذا في حسبانهم.

 

الشيء الثاني : الديمقراطية النيجيرية:-

الظاهرة الأهم في تطبيق الشريعة الإسلامية تتعلق بالديمقراطية. تسعى الدكتاتورية باستمرار لقمع أي توجه للإشباع الثقافي ، ذلك أن المستبدين يكرهون التنوع في أي صورة جاء . إنهم يحبون المركزية وحمل الجميع على نموذج واحد.  الديمقراطية هي الضمان الوحيد بأن يصل الباحثون عن العدالة إليها في الوقت المناسب.  ولكن للمحافظة على الديمقراطية يجب على كل أطراف الحوار الابتعاد عن التطرف. إن أعداء الديمقراطية لا يحبون شيئا مثل النزاع حتى الرمق الأخير و الذي يمنحهم فرصة ذهبية لتجربة دوائهم القاتل .

الشيء الثالث : التعلم من تجارب الآخرين:

على قدر المستطاع تجنبوا تكرار أخطاء الآخرين فقد فشلت كثير من التجارب المعاصرة لتطبيق الشريعة في الوفاء بوعودها وآذت بلادها وزودت أعداء الإسلام بذخيرة ليزدادوا استهدافا له وهذا ينقلني للنقطة الثانية في حديثي:

 

النقطة الثانية :

أولا السودان :

تجربة تطبيق الشريعة الأولى في السودان الحديث بدأها نظام نميري في سبتمبر 1983م.  كان الديكتاتور نميري في مأزق فقد كان يواجه معارضة سياسية واسعة وإضرابات نقابية.  ولإرباكه قدم القضاة استقالات جماعية لذلك لجأ نميري للشريعة الإسلامية كأداة تمنح نظامه شرعية يفتقدها ولإرباك خصومه وإرهابهم بالإسلام كمؤسسة عقابية.  لقد فاجأ نميري الجميع بإصداره قانون العقوبات الجنائية الإسلامية بمرسوم في سبتمبر 1983م . وتبعته سلسلة من القوانين في الأمور المدنية والزكاة وغيرها. وأعلن أنه بتطبيقه للشريعة فقد صارت سلطته مقدسة ومن الآن فصاعدا : ( إن الذين يطيعونني إنما يطيعون الله والذين يخالفونني إنما يخالفون الله ).

أدخل نميري قانون أمن الدولة الوحشي في القانون الجنائي. لقد تمت صياغة القانون بعجلة شديدة وتمت إجازته بمرسوم بالرغم من وجود برلمان يبصم على كل ما يريده.

لقد استهل نميري تطبيق الشريعة بالقانون الجنائي وأسرف في تقطيع الأيادي حتى بلغت مئتي حالة في ستة أشهر في عام 83-1984م حينما كان السودان يمر بمجاعة.

قال الشيخ حسن البنا:

( لا يجب قطع الأيدي حتى توفر للشخص حقوقه في الصحة والتعليم والمسكن والملبس وأن توفى ديونه إن كان مدينا). ( دستورنا ص 11 ).

لقد ألغت تشريعات نميري الفوائد على الديون ولكن لأنه لم يسن نظاما بديلا فقد سمح باستثناءات خاصة في التعامل مع البنوك الأجنبية. وسن قانونا للزكاة يطبق على المسلم كزكاة وعلى غير المسلم كضريبة اجتماعية.

لقد ألغى قانون الزكاة كل الضرائب المباشرة واستبدلها بالزكاة. وكما لم يتقيد بالضوابط الإسلامية الخاصة بتحصيل الزكاة، لم يتقيد أيضا بتلك الضوابط في صرفها.

وفي سبتمبر عام 1984م احتفل بمرور عام على تطبيق الشريعة ودعا ضيوفا من أنحاء العالم الإسلامية المختلفة. لقد هنأ هؤلاء الضيوف نميري على إنجازه ولكن بعد سقوط نظامه دعوت في فبراير 1987م علماء ومفكرين من كل أنحاء العالم الإسلامي- وأحدهم بالمناسبة من نيجيريا- ليأتوا ويراجعوا مغامرة نميري الإسلامية. وبعد أن درسوها قالوا إنها معيبة في جوهرها وصياغتها وتطبيقها.

التجربة الثانية لتطبيق الشريعة كانت في عهد حكومتي الديمقراطية.لقد وضعنا أربعة مبادئ هادية لمداولاتنا: –

المبدأ الأول: أن يكون التشريع بوسائل ديمقراطية.

المبدأ الثاني :  أن يراعي التشريع الإسلامي الظروف المتغيرة في العصر الحديث وأن يستصحب اجتهادا جديدا.

المبدأ الثالث :  ألا تقام العلاقات الخارجية على تلك الأسس التي صاغها الفقهاء في الماضي والتي نقسم العالم إلى معسكرين: دار الإسلام ودار المحاربين .

نحن نسعى لتأسيس العلاقات الخارجية على قاعدة ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم أ، تبروهم وتقسطوا إليهم) الممتحنة 8.

المبدأ الرابع :  مناقشة الأسس الدستورية مع المواطنين غير المسلمين والضمانات المطلوبة لتطمينهم على حقوقهم الدينية المدنية,

ولكن قبل الانتهاء من هذه المهمة اغتصب انقلاب عسكري السلطة في السودان في يونيو 1989م . لقد كان نقدهم الأساسي هو استبطاء برنامجنا في التطبيق الإسلامي

 

 

وهي تمثل التعبير الأكثر جدية والأكثر أصالة والأكثر وضوحا للقوة الشعبية من بين التجارب الإسلامية المعاصرة ولكن الفشل في استيعاب الآخر قاد لتواصل جولات العنف .

القيد الآخر الذي كبح التجربة من الانطلاق هو التزام النظام العميق بالقيد المذهبي إذ التزم بمذهب شيعي محدد . ويواجه النظام تناقضات معينة مثل التناقض بين الملالي وأصحاب التعليم المدني، وبين المحافظين والإصلاحيين ولكن بصورة خاصة بين ولاية رجال الدين وولاية الجمهور. والقوة الشعبية الغالبية التي ساندت الخميني حتى النصر  تقف الآن خلف خاتمي والذي يقف برنامجه إلى جانب الحريات المدنية وحرية الصحافة وحكم القانون والعدالة الاجتماعية والشفافية والانفتاح على العالم وحوار الحضارات.

يمكن حل النزاع القائم فقط بالقبول بولاية الجمهور وإعطاء ولاية الفقيه وصفا رمزيا

 

النقطة الثالثة :

الدروس المستفادة من هذه التجارب: –

  1. تطبيق الشريعة ملزم شرعيا للمسلم.
  2. تطبيق الشريعة في النطاق الخاص والشخصي أمر يتعلق بالمجتمع المتدين.
  3. ولكن في النطاق العام هناك جوانب يجب مراعاتها مثل : تغير الزمان والمكان- حقوق غير المسلمين-أحوال المجتمع الدولي وغيرها. وعلى المسلم أن يعي بأنه في مثل هذه الأمور فإن هامش التطبيق واسع يجعل بعض الالتزامات ضرورية في حالات معينة وبعضها أقل ضرورة وأخرى غير ضرورية لأنها قد تضر بمقاصد الشريعة النهائية .

أن نص الإسلام الموحى ( القرآن ) يسمح للمسلم في بعض الأحيان بالتصريح بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وفي أحيان أخرى يتوقع منه اتباع كل المبادئ والتعاليم والقرآن يشير إلى تقوى الله م استطعنا.

 

  1. مسالة الشريعة: مسألة هامة للغاية وخطيرة ويجب الشروع فيها بعد جهد مكثف لوضع البرنامج الذي يمكن تحقيقه والأولويات التي يجب اتخاذها والتطمينات المطلوبة.
  2. استغلال الإسلام لخدمة الطموحات السلطوية إساءة بالغة للإسلام .
  3. لا وصاية لأي شخص أو حزب لفرض برنامجه على الآخرين ولكن يجب أن يحصل على ذلك التفويض من الشعب ويسعى للتغيير المطلوب بالوسائل الديمقراطية .

هذه التجارب حبلى بالدروس فهناك جهات عديدة داخليا وخارجيا ينبغي تطمينها وهناك مصالح كثيرة ثابتة يجب أن توضع في الحسبان، لقد اقترحت على عدد من المؤتمرات العالمية الإسلامية عقد مؤتمر خاص يبحث الدروس المستفادة من تجارب تطبيق الشريعة المعاصرة وليضع تحليلا موضوعيا للتجارب ويصدر إعلانا ليكون موجها للعالم الإسلامي قاطبة ,.أتوقع أن يعقد مثل هذا المؤتمر في المستقبل القريب.

النقطة الرابعة:

لماذا نيجيريا وما هي المشاكل؟:

الإجابة على السؤال الأول بسيطة فالدكتاتوريات حاولت إخفاء الاختلافات حول القضايا الحساسة تحت البساطة ولكن الاختلافات القائمة على أسس حقيقية لا تزول بإهمالها، و إنما يمكن حلها فقط إذا تمت مخاطبتها.

إذا أمكن إثبات أن موضوع تطبيق الشريعة يفرضه على الشعب سياسيون ماكرون ويفرضه معهم أو بدونهم تآمر أجنبي لزعزعة استقرار نيجيريا، عندها يمكن أن يعامل كمسألة أمنية ويتم سحقه.