السودان .. تجربة الانقاذ ذهبت عكس مقاصدها

الإمام الصادق المهدي
الحبيب الإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله

 

 

بقلم: الحبيب الإمام الصادق المهدي

بسم الله الرحمن الرحيم

وسط استقطاب غربي مضاد ومديح مفخخ

2010-04-01

 في السبعينات من القرن الماضي، تداولت أجهزة الاستخبارات في بعض الدول الغربية، ظاهرة البعث الإسلامي وأثرها في مصالحها، لاسيما أنها كانت تعتبرها حليفاً لها ضد القومية العلمانية والشيوعية. وقد تراجعتا ـ أي القومية والشيوعية ـ في الشارع العربي الإسلامي، وصارت تيارات البعث الإسلامي هي التي تتبنى قضايا المطالبة بالإصلاح الداخلي، والتحرير من الهيمنة الخارجية.

اتفق كثير من المحللين الأمنيين على أن أية محاولة للتصدي للظاهرة الإسلامية من الخارج لن تجدي، بل ستزيد دعاتها حماسة وتمسكاً بمواقفهم. وذكر كثير من المحللين أن ثمة وسيلتين لاحتواء الظاهرة الإسلامية: أ ـ وسيلة اختراق القيادات الإسلامية ذات الوزن، عن طريق عملاء مقربين لهم. ب ـ السماح للحركات الإسلامية ذات الطموح السياسي، بالاستيلاء على السلطة باسم النهج الإسلامي. حركات يسوقها حماسها للسلطة دون برامج فاعلة، ودون كوادر مدربة، ودون إلمام كامل بالظروف الدولية، ما سيؤدي حتماً لفشل أصحابها التام، فتلحق التجربة بالتجربة القومية، وتسقط حجتهم التي كررها كثير منهم: لقد جربت بلداننا الخيارات الأخرى: الليبرالية والقومية والاشتراكية ففشلت، ولم يبق إلا الحل الإسلامي. السيناريو الثاني هذا، لا يعني أن قوى الهيمنة الدولية هي التي سوف تضع دعاة الحل الإسلامي في السلطة مباشرة، فهذا غير وارد. ولكن الاعتماد على أن حماستهم وطموحهم سوف يدفعان بهم نحو المغامرة. ما حدث في السودان منذ انقلاب يونيو 1989 يطابق هذا السيناريو. والنتيجة أن الشعار الإسلامي تمزق ومزق معه البلاد، وجعل تجربتها مضرب المثل لحركة حققت عكس مقاصدها تماماً.

استقطاب مضاد… منذ بداية نظام الانقلاب حتى منتصف التسعينات، جرّب النظام السوداني إقامة نظام سياسي واقتصادي واجتماعي، والتصدي للحرب الأهلية باجتهاداته الذاتية. ولكن كل تلك الاجتهادات أخفقت تماماً، بل أقامت ضدها بردة الفعل استقطاباً معادياً عريضاً داخلياً، وإقليمياً، ودولياً. هذا الاستقطاب المضاد للنظام، وجد دعماً قوياً غربياً، لاسيما من أميركا التي اتبعت في عهد الرئيس كلينتون، سياسية احتواء بهدف إسقاط النظام السوداني. ولكن حدث أمران متزامنان، هما:

أ ـ استعداد النظام السوداني للتراجع عن مواقفه الأيديولوجية، كما ثبت من قبوله لإعلان مبادئ الإيغاد وتوقيع اتفاقيات السلام من الداخل في عام 1997.

ب ـ مراجعة أميركا لسياساتها نحو النظام، بموجب توصيات مجلس السياسات الدولية والاستراتيجية (CSIS)، وهي توصيات اكتملت في أواخر التسعينات وتبنتها الإدارة الأميركية الجديدة، إدارة بوش الابن المنتخبة عام 2000.

كان النظام السوداني، بعد أن سيطرت عليه ذهنية المراجعة، قد طلب من دول الإيغاد (دول القرن الإفريقي) التوسط لإنهاء الحرب الأهلية. فبدأت هذه الوساطة منذ عام 1994، ولكنها لم تحقق تقدماً يذكر إلا بعد أن غيرت أميركا موقفها مع الإدارة الجديدة، وبعد أن قبل النظام إعلان المبادئ عام 1997.

وساطة دول الإيغاد دعمتها شراكة دولية، كانت في الحقيقة مصدر التفكير والتمويل للعملية. هذه الوساطة بالرعاية الدولية أو الوصاية الدولية، أنتجت بعد مفاوضات شاقة، اتفاقية «السلام الشامل» الموقعة في يناير 2005.

اتفاقية السلام فرضت على نظام «الإنقاذ» أشياء مخالفة لطبيعته، ولكنه قبلها مضطراً، أهمها: الشراكة في كل مفاصل السلطة، والتحول الديمقراطي. لذلك حاول أن يجعل الشراكة اسمية لا فعلية، خاصة بعد وفاة د. جون قرنق.

وحاول كذلك أن يجعل التحول الديمقراطي لفظياً، ساعدته على ذلك غفلة الحركة الشعبية التي وافقت على استمرار قوانين وأجهزة الشمولية كما هي إلى حين استبدالها، فحرص المؤتمر الوطني على الإبقاء عليها كما هي، فبقيت حتى الآن.

وفي السنوات الخمس منذ إبرام الاتفاقية، حققت الاتفاقية بعض مقاصدها، ولكنها حتى الآن أخفقت تماماً في تحقيق أهم مقصدين لها، وهما: جعل الوحدة جاذبة، وتحقيق التحول الديمقراطي.

ومنذ عام 2002 اندلعت أزمة دارفور. مشكلات دارفور التقليدية أربع، هي: فجوة التنمية والخدمات ـ الصراع على الموارد بين قبائل فلاحية وأخرى رعوية في غرب ووسط دارفور ـ النزاعات القبلية ـ والنهب المسلح.

ولكن نتيجة لمحاولات النظام تغيير النسيج السياسي والاجتماعي في دارفور، ولاتهامه بالمحاباة، ونتيجة لظهور مقاومة مسلحة للنظام، ظهرت أربع مشكلات جديدة منذ عام 2002، هي: الإثنية المسيّسة ـ الأحزاب المسلحة لمقاومة السلطة ـ المأساة الإنسانية ـ التدويل الذي جسده 24 قراراً دولياً بموجب الفصل السابع، ووجود قوات اليوناميد.

من الناحية السطحية، يبدو الآن أن مشكلة التنافس على السلطة في البلاد تم حسمها بالانتخابات العامة المرتقبة، وأن اتفاقية السلام مع الحركة الشعبية سوف تكتمل بإجراء الاستفتاء المزمع في عام 2011، وأن سلام دارفور سوف يتحقق عبر الوساطات الجارية حالياً. ولكن هذا باب عكس الآية: «بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ».

الدور الإسرائيلي

هنالك اهتمام بالشأن السوداني في إسرائيل لسببين: الأول: أنه عمق استراتيجي لمصر.

والثاني: لأنه ملتقى دول حوض النيل. وقد قال ديفيد بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل الأسبق: «نحن شعب صغير وإمكانياتنا ومواردنا محدودة، ولا بد من اختزال هذه المحدودية في مواجهة أعدائنا من الدول العربية، من خلال معرفة وتشخيص نقاط الضعف لديها، وخاصة العلاقات القائمة بين الجماعات والأقليات الإثنية والطائفية، حتى نضخم ونعظم هذه النقاط إلى درجة تحويلها لمعضلة يصعب حلها أو احتواؤها».

في هذا الاتجاه قال بن غوريون: «إن الجهد الإسرائيلي لإضعاف الدول العربية لا يجب أن يحشد على خطوط المواجهة فقط مع دول المواجهة، بل يجب أن ينتشر ليصل إلى قلب الدول العربية التي يمكن أن تصبح دول دعم وإسناد». وقصد بهذا الجهد الوصول إلى الجماعات غير العربية، التي تعيش على التخوم؛ شمال العراق، وجنوب السودان، وجنوب لبنان.

هذا لا يعني أن هذه الجماعات غير وطنية، ولكنه يعني أن إسرائيل سوف تستغل ما تتعرض له من مشكلات. وهذا النهج فصله العميد الأمني المتقاعد موشي فرجي، في محاضرة ألقاها في جامعة تل أبيب في عام 2003. ومعلوم أن لإسرائيل عبر اللوبي المعروف، اتصالات قوية بالقوى السياسية الأميركية، لاسيما يمين الحزب الجمهوري.

انقلاب يونيو 1989 وما أعلنه من توجه إسلاموي عروبي، أتاح فرصة ذهبية لمشروع تفكيك السودان. لذلك دعا عضو مجلس الشيوخ الأميركي السابق هاري جونستون، كافة الفصائل الجنوبية لاجتماع في واشنطن، حيث تداولوا أمرهم على ضوء أن السودان أعلن هوية إسلامية عربية، والجنوبيون ليسوا مسلمين ولا عرباً، ولذلك عليهم أن يطالبون بالإجماع بحق تقرير المصير.

في وجه المعارضة والمقاومة العريضة التي واجهت «نظام الإنقاذ»، تراجع النظام بصورة متلاحقة منذ عام 1997، إلى أن أبرم اتفاقية السلام في يناير 2005.

الاتفاقية نصت على جعل الوحدة جاذبة عبر فترة الانتقال، ولكن عوامل في بنية الاتفاقية جعلت الانفصال جاذباً، وهي:

ـ تقسيم البلاد على أساس ديني، ما بين شمال يطبق الشريعة وجنوب علماني.

ـ تقسيم الثروة ركز على بترول الجنوب، ونص على أن 50% من بترول الجنوب للجنوب، ما عزز التوجه الانفصالي ليحتفظ الجنوب بكل بتروله.

ـ اتساع فجوة الثقة بين شريك في الحكم اتجاهه إسلامي عربي، وآخر اتجاهه علماني إفريقاني.

ـ التعامل الغربي، لاسيما الأميركي، بصورة عدائية مع المؤتمر الوطني، وودية مع الحركة الشعبية.

هذه العوامل نفسها، إذا استمرت، سوف ترجح الانفصال وتجعله لدولة جنوبية معادية لدولة الشمال.

قيم تنازلية

كل محاولات حل مشكلة دارفور منذ بدء عمليات سلام دارفور حتى يومنا هذا، باءت بالفشل. آخر ثلاث اتفاقيات سلام وقعت بين الحكومة وحركة تحرير السودان في أبوجا في مايو 2006، ومع حركة العدل والمساواة في الدوحة في يناير 2010، ومع حركة العدل والتحرير في مارس 2010، كلها اتفاقيات اتسمت بقيمة تنازلية؛ فالأولى أكثر أهمية، والثانية أقل منها، والثالثة هي الأقل قيمة.

وهي اتفاقيات ضخمها الوسطاء والإعلام الحكومي السوداني، ولكنها لن تحقق السلام المنشود في دارفور، بل تجعل كل طرف في إحداها غير راض عن الأخرى، بحيث صارت أية خطوة للأمام تتبعها خطوة للوراء.

وأهم حدث جديد، هو أن إجراء انتخابات عامة في السودان في أبريل 2010، دون مشاركة العناصر الدارفورية المسلحة والعناصر المشردة في معسكرات النازحين واللاجئين، سوف يغفل باب مشاركتهم في السلطة ويحافظ على المشكلة مشتعلة.

تفكيك بالاستفتاء

إن الذين يهدفون إلى تفكيك السودان قد وجدوا سبيلًا إلى ذلك، عبر الاستفتاء الذي سيقود حسب الظروف المذكورة لانفصال عدائي.

وهم كذلك يرون أن الظروف جعلت الانتخابات المقبلة في أبريل 2010، سبيلاً لمزيد من تفكيك السودان.

لفت نظري لهذه الخطة، أنني لاحظت فجأة أن اليمين الأميركي يروج لضرورة إجراء الانتخابات في السودان في موعدها، وحتمية فوز البشير فيها، كأنهم يتمنون ذلك!

وردت هذه التقديرات والأماني في بعض صحف اليمين الأميركي، وعبر عنها بصورة واضحة «خبراء» في مركز «هريتيج» أي التراث، اليميني الأميركي. هذا ما جاء في تصريح أحد هؤلاء «الخبراء»، رأي وولسار. لماذا هذه الأريحية مع انتخابات السودان مع التشدد في انتخابات إيران؟

الإستراتيجية واحدة، ولكن التكتيك مختلف!

لقد واتت الفرصة لتفكيك السودان بأيدي أهله!

1ـ المؤتمر الوطني ينظر للانتخابات المقبلة، لا باعتبارها وسيلة للتداول السلمي على السلطة، ولكن للمحافظة على السلطة وحماية رأس الدولة من المحكمة الجنائية. ولذلك لن يترك أمرها للصدف، بل سيفعل كل ما في وسعه لكسبها.

والدلائل حتى الآن على استخدامه أساليب غير قانونية وغير مشروعة، واضحة. وسواء انسحب منافسوه من الانتخابات أو أوضحوا مفاسدها وخاضوها، فإنهم سوف يحصلون على براهين كافية على عدم نزاهتها، وبالتالي عدم قبول نتائجها، ما سوف يؤدي لاستمرار أزمة السلطة في البلاد، والحيلولة دون أية فرصة لوحدة وطنية حقيقية.

2ـ في تقدير هؤلاء أن فوز المؤتمر الوطني بهذه الطريقة ومع الظروف المذكورة سابقاً، سيؤدي حتماً لاستفتاء لتقرير المصير ذي نتيجة انفصالية، وقيام دولة جنوبية معادية للشمالية.

3ـ وفي تقديرهم أن هذه الانتخابات سوف تضع حاجزاً لا يمكن تجاوزه، أمام أية محادثات دارفورية تتناول المشاركة في السلطة، فهم لا يقبلون بالتعيين لعدم جدواه والانتخابات فاتتهم.

4ـ ويقدرون أن رأس الدولة السوداني الذي يجهد المؤتمر الوطني نفسه بكل الأساليب لإعادة انتخابه، سوف يكون مشلول الحركة دولياً، وحتى إذا لم يصدر اتهام جديد ضده، كما هو متوقع، بالإبادة الجماعية، فإن هذه الاتهامات الجنائية لن تتبخر بالتقادم، ولا تحول دونها حصانة.

كل النتائج المأساوية المذكورة هنا، يمكن تجنبها بالوعي والإرادة السياسية القوية ولطف العناية. ولكن خلايا تدمير الذات المتخندقة في الجسم السياسي السوداني حالياً، عازمة على الاندفاع نحو الهاوية.

لا يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه!

مصالح دولية

قضية العدالة في دارفور، في أصلها من شأن مجلس الأمن، أي النظام الدولي القائم. ومجلس الأمن هو الذي حولها للمحكمة الجنائية الدولية بموجب القرار 1593. هنالك 110 دول ملتزمة بنظام روما والمحكمة الجنائية التي أسسها، منها 30 دولة إفريقية.

بالإضافة للنشاط الدولي العادي في التعامل مع الأمم المتحدة، ودول العالم، فإن للسودان مصالح دولية ينبغي أن يسعى لتحقيقها، منها:

أ – السعي بموجب حجج مقنعة لإعفاء الدين الخارجي البالغ 34 مليار دولار.

ب – الشراكة الدولية في أهداف الألفية الثانية.

ج – الاستحقاق المطلوب بموجب مبدأ العدالة البيئوية، كما تقرر في مؤتمر كوبنهاغن في ديسمبر 2009.

د – استحقاق السودان بموجب اتفاقية كوتونو بين الاتحاد الأوروبي والدول الإفريقية والكاريبية.