السيرة النبوية ودورها في اندماج الإنسانية

بسم الله الرحمن الرحيم

مؤتمر دولي حول: دور الوسطية والاعتدال في الحد من التطرف الديني

28/ 3/ 2014م- المغرب (فاس)

ورقة بعنوان

السيرة النبوية ودورها في اندماج الإنسانية

الإمام الصادق المهدي

 

الغلو والعنف العشوائي المترتب عليه ظاهرة موجودة في كل الثقافات – مثلاً- ايتا في أسبانيا، والجيش الجمهوري في آيرلندا، والجيش الأحمر في اليابان، وبادرماينهوف في ألمانيا. وحتى أساليب الاستقتال موجودة في كل الثقافات. ولكن الغلو في عالمنا الإسلامي والعنف المصاحب له لفت الأنظار إليه منذ حوادث 11/9/2001م في نيويورك وواشنطن، وبعد ذلك في مدريد ولندن.

هذه الظاهرة ليست دينية وإن استخدمت غطاءاً إسلامياً.

إنها احتجاجات سياسية على مظالم داخلية وخارجية تتطلب تشخيصاً لتلك المظالم لأنها هي التي تعطي الغلاة حجة وتمكنهم من تجنيد الشباب. حتى الآن تركز البرامج الموجهة ضد الغلو ومغامراته على إجراءات أمنية تخاطب الأعراض لا الأسباب. ولذلك منذ 2001م فإن الغلو وأدواته الإرهابية في زيادة مستمرة.

ومع أن الظاهرة ربطت بالإسلام فإن للسياسات الدولية دوراً مهماً في غرسها وتوظيفها لأغراضها. ومن المؤسف أن رواد هذه الظاهرة يلحقونها بالجهاد، ويتخذون صورة مشوهة لنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم كرائد لهم عكساً لحقيقة دوره الإرشادي التنويري الحضاري العظيم.

في هذه الورقة سوف استعرض محطات مهمة من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأطرق نهجاً جديداً في ذلك، فالتجديد من أهم آفاق المعرفة. يقولون إذا شاخ المرء فقد قدرته على التجديد. أقول أنه لا يشيخ المرء إلا إذا فقد قدرته على التجديد.

العالم اليوم بفضل تقدم التكنولوجيا، وثورة المعلومات، والاتصالات، والسوق التبادلي العالمي الواحد، متجه نحو اندماج، ولكن ثقافة العولمة نفسها استفزت الانتماءات الدينية والثقافية فانطلقت منذ الربع الأخير من القرن العشرين تيارات أصولية في كل الأديان، كما أن العولمة نفسها زادت من فجوة الثروة بين الناس.

ما الدور الذي سوف تقوم به الأديان في عالمنا؟ هل سوف تتجه لإشعال المواجهات بين أتباعها أم سوف تقوم بدور آخر يواكب اتجاه العالم نحو الاندماج ويمنح ذلك الاتجاه بعداً خلقياً وروحياً. وفي الحالين: دور الصدام ودور الوئام، فإن  سيرة مؤسسي الأديان العالمية ستلعب دوراً مفتاحياً، لا سيما بالنسبة للإسلام وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

أتى حين من الدهر في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ساد العالم المعمور فيه فكر علماني تصور رواده أن التطور العلمي والتكنولوجي سوف يقضي على الانتماءات الدينية على النحو الذي تصوره أوغست كومت الفيلسوف الفرنسي، قال: الإنسان في البداية ذهب إلى عقائد سحرية، ثم إلى عقائد دينية، ومصيره أن يتجاوزها تماماً مستظلاً بالمعرفة العلمية الحديثة. هذه الرؤية تجاوب معها كثيرون وهي الرؤية التي تبنتها رواية “أولاد حارتنا” للأستاذ نجيب محفوظ.

ولكن قبل نهاية القرن العشرين شهدت الديانات يقظة أصولية عامة زحفت على حساب التيارات العلمانية.

قال أحد المفكرين الغربيين – جورج ويغل- “إن انحسار العلمانية في العالم هي الظاهرة الاجتماعية الأبرز في عالم أواخر القرن العشرين”.

نعم إن المادية والعقلانية لهما دور مهم للغاية في حياة الإنسان. ولكن للإيمان وظائف أثبت تاريخ الإنسانية أن الإنسان لا يستغنى عنها، أهمها:

  • الإنسان مشغول بمعنى الوجود ومآلاته.
  • الحتميات العملية والمقصود بها أمور لا تدركها الحواس ولكنها تؤثر في واقع الحياة سماها الفيلسوف الألماني عمانويل كانط: الحتميات العملية.
  • إشباع الإيمان للحاجة للغائية ومن شأنه أن يشحذ الهمة ويضاعف القدرات.
  • والإيمان يمثل عمقاً حصيناً للأخلاق.
  • والإيمان يعد بجزاء للعمل الصالح.
  • إشباع الإيمان لحاجة الإنسان للانتماء.

ما الدور الذي ستقوم به الأديان في مصير الإنسانية؟ هل سوف تعود بالناس للماضي الصدامي وفي الأديان الإبراهيمية الثلاثة قوم يتطلعون لمواجهات فاصلة ينتصرون فيها، أي أن المصير إلى حروب إبادة للآخر. أم أن هناك مصير آخر تقوم فيه الأديان بدور مستنير لاندماج البشرية؟ أعتقد أن الإسلام مؤهل للقيام بهذا الدور، وأن سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالقراءة الواعية لها تجعله من حيث تلبية متطلبات الإنسانية المعاصرة كأنه بعث للقيام بهذا الدور.

وسوف ألخص حجتي لإثبات ذلك في النقاط التالية:

  1. مراحل الأديان حتى الإسلام

إن لديوان الإنسان الديني سبع مراحل هي:

الأولى: يبدأ ديوان الإنسان الديني في المرجعية الإبراهيمية بآدم وحواء عليهما السلام فهو قد عُلم الأسماء، ونفخ الله فيه من روحه وأوتى فطرة إيمانية: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا)[1].

الثانية: صار نوح عليه السلام آدم الثاني وأقترن عهده بالعقاب على الكفر وبالتمييز العرقي لذريته.

الثالثة: الإنسانية شهدت أنبياء كثيرين ومللاً كثيرة لا تدخل في الدوحة الإبراهيمية، ولكن إبراهيم عليه السلام صار داعية التوحيد لله وأبرم الله معه عهداً هو وابنيه إسماعيل واسحق.

الرابعة: اتصل العهد الإلهي بإسحق وورثه يعقوب (إسرائيل).

الخامسة: النبي المؤسس لليهودية هو موسى عليه السلام.

السادسة: اليهودية ظهرت فيها انحرافات تصدى لها عيسى عليه السلام. وتأسيساً على تعاليمه أنشأ القديس بولص المسيحية كما نعرفها اليوم.

السابعة: إسماعيل عليه السلام هو صاحب العهد الآخر مع والده إبراهيم عليه السلام وهو الجد الأعلى لمحمد عليه السلام.

أتت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الفرع الإسماعيلي من الدوحة الإبراهيمية برسالة أحدثت ثورة في سبعة جوانب هي:

  • التوحيد لله رب العالمين إذ العقيدة اليهودية تجعله إله بني إسرائيل.
  • وحدة الجنس البشري إذ كانت صورة البشرية مفرقة عرقياً.
  • الرسالة المحمدية شهدت بوحدة الدين الإلهي في الثوابت وهي: التوحيد لله، والنبوة، والمعاد، والعمل الصالح.
  • كان الرسل يبعثون لقومهم ولكنه بعث للناس كافة.
  • كانت نبوة الدوحة الإبراهيمية تتناسل في بني اسحق والرسالة المحمدية في بني إسماعيل.
  • مخاطبة البشرية بعد أن بلغت الرشد فصار خطابها بالبرهان لا بالمعجزات.
  • رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة فلا نبي بعده، ولكن الرسالة قابلة للوحي المتجدد من داخلها.
  1. الدين وحاجات الإنسان وتحدياته

في يوليو من عام 1976م دعيت لمؤتمر الأديان العالمية في مدينة كانتربري ببريطانيا وقدمت في المؤتمر ورقة عن الإسلام، قلت للحاضرين: دعونا نتفق ما هي حاجات الإنسانية المعاصرة ثم أتناول كيفية استجابة الإسلام لتلك الحاجات:

  • الإنسان محتاج لعقيدة دينية تشبع تطلعاته الروحية.
  • الإنسان محتاج لإشباع مطالبه المادية عبر نظام اقتصادي.
  • الإنسان يتطلع للعدالة الاجتماعية.
  • الإنسان يتطلع لنظام يكفل حريته العقلية.
  • الاعتراف بالتعددية الدينية والتعايش الديني.
  • سلامة البيئة مطلوبة لاستدامة الحياة.
  • قيام العلاقات الدولية على السلام والعدالة والتعاون.

ثم وفي القسم الثاني من الورقة فصلت استجابة الإسلام من نصوصه القطعية لهذه الحاجات.

بعد فراغي من تقديم الورقة قال رئيس الجلسة وهو قس مسيحي: هذه مرافعة مقنعة، وأرجو أن نوافق على تشخيص حاجات الإنسان كما جاء في القسم الأول من الورقة، وأن يقدم كل من الحاضرين مرافعة عن دينه ومدى استجابته لتلك الحاجات. ومع هذا التحدي لم يستطع الحاضرون الاستجابة لطلب رئيس الجلسة.

وفي نوفمبر 2012م طلب مني اتحاد طلاب جامعة أكسفورد أن أقدم محاضرة عن حوار الأديان وحوار الحضارات. قلت في المحاضرة: حوار الأديان لن يتجاوز الشكليات لأنها في مجال الحوار الثنائي سوف تمنع المحافظة على معتقداتها المرونة المطلوبة، وقلت إن الحضارات ليست لديها قيادات موحدة تستطيع التحدث باسمها، ولكن أقترح أن يطلب من الأديان والحضارات أن تتصالح مع منظومة حقوق الإنسان الدولية فإن فعلت ذلك فإنه سيؤدي لتقارب تلقائي بينها، وقلت إن منظومة حقوق الإنسان كلها تتفرع من خمسة أصول هي: الكرامة، الحرية، العدالة، المساواة، والسلام. وقدمت مرافعة تثبت استجابة الإسلام لهذه الأصول.

وفي العام الماضي ألفت كتابا بعنوان (أيها الجيل) تطرقت فيه لحقيقة أن الإنسان في كل زمان ومكان تلح عليه عشر ضرورات هي: روحية، ومادية، وعقلية، وأخلاقية، وعاطفية، وجمالية، واجتماعية، ورياضية، وترفيهية، وبيئية.

وفي الكتاب مرافعة لإثبات حقيقة تلك الضرورات من معرفتي بالناس ثم سقت الدلائل من مصادر الإسلام أن الإسلام يكفل تحقيقها.

  • هنالك حاجة ملحة للاعتراف بكرامة للإنسان كإنسان بصرف النظر عن انتمائه.
  • ومع ظاهرة الحماسة للأصوليات الدينية توجد لدى كثيرين لا سيما الطبقات المثقفة تساؤلات حول تناقضات بين النصوص المقدسة والعلوم ما أدى لظاهرة الجوع الروحي.
  • وهنالك رخاء مادي موزع بطريقة غير عادلة ما يؤدي لحنق شديد.
  • وهنالك جوع عاطفي بسبب انحسار علاقات المحبة لصالح العلاقات النفعية.
  • العولمة من ناحية موضوعية حلقة جديدة من التنمية البشرية ولكن عدد من العوامل أبرزت مضارها.
  • وهنالك مسألة تلوث البيئة والاحتباس الحراري.
  • وخطورة أسلحة الدمار الشامل وصعوبة احتوائها بسياسة ازدواجيه المعايير.
  • والعالم يواجه تمدداً في حركات الإرهاب التي زادتها أساليب المكافحة الحالية.

تلك مشاكل عامة تحول دون الاندماج الإنساني. وفي منطقتنا تتعرض المنطقة إلى تقاطعات توشك أن تفككها تقاطعات أهمها:

  • المفاصلة الإسلامية العلمانية.
  • المفاصلة السنية الشيعية.
  • المفاصلة داخل الجسم الإسلامي الحركي بين الأخوان والسلفيين والجهاديين.
  • المفاصلة الاجتماعية بين قلة ثرية وأكثرية فقيرة وعاطلة عن العمل.
  • المفاصلة القومية بين العروبة والقوميات الأخرى.

والتساؤل المهم هو إلى أي مدى تستطيع الأديان العالمية والمنظومات الفكرية إسعاف الإنسانية بعوامل تنقذ البشرية من مواجهات حتمية وتمهد لها الطريق لتعايش بناء؟

  1. الفكرويات الوضعية والأديان ومطالب الاندماج

أولا: الفكرويات الوضعية

الفكرويات الوضعية التي سيطرت على القرن الماضي لا تصلح لتلبية مطالب الإنسانية: العلمانية، واللبرالية، والشيوعية، والقومية.

العلمانية: كان روادها يرون أنها الشرط اللازم للديمقراطية. ولكن مارست نظم علمانية أفظع أنواع الدكتاتورية: الستالينية والفاشستية والنازية. لذلك قال بيتر بيرقر أحد رواد العلمانية: شرط الديمقراطية هو التعددية وليس العلمانية. نعم هي ترفض بحق اللاهوت السياسي، ونعم هي تدعم بحق المساواة في المواطنة، ولكن صارت على لسان كثيرين – مثلاً- شارلس تيلور تقبل التعددية وهذا يعني قبول أن الدين لا يحصر في المجال الخاص ولأصحابه الحق في استخدام لغة دينية ما داموا لا ينكرون حقوق الآخرين ولا ينكرون المساواة في المواطنة.

اللبرالية: إن للبرالية حقاً في الانتصار لحرمة المسائل الشخصية، والملكية الفردية، وحرية السوق ولكن اتضح أن حرية السوق المطلقة تأتي بأضرار جسيمة وتهدد النسيج الاجتماعي ما يوجب اتخاذ ضوابط للبرالية.

الشيوعية: النظام الرأسمالي تطور بصورة مكنت الطبقات العاملة، والديمقراطية لم تصر كما وصفها ماركس آلية للقهر الطبقي، والدين لم يكن دائماً أفيون الشعوب فكثير من الحركات الدينية تقدمية اجتماعياً ولاهوت التحرير وجه من تلك الوجوه، والولاء الطبقي لم يحل محل الولاء الوطني.

القومية: علة القومية العربية مثلاً أن هنالك قوميات أخرى تتطلع للمساواة في حقوق المواطنة وحتى الآن صحب تطبيقها دكتاتورية نافية للآخر الديني، والفكري، والقومي.

ثانياً: الأديان الإبراهيمية

أما الأديان التي سوف استعرض مواقفها فهي الإبراهيمية الثلاثة:

اليهودية: علة اليهودية أنها لا تعترف بالمسيحية ولا بالإسلام وتطرح الربوبية بصورة انتقائية، كأن الله ربهم وحدهم، وتعاليم اليهودية عنصرية لأنها تؤسس لدونية المرأة ولدونية الأجناس غير السامية.

المسيحية: الإنسان في نظر المسيحية ملوث بالخطيئة الأولى، ولا إنسانية إلا إذا ولدت مولداً ثانياً عن طريق التسليم بفداء السيد المسيح عليه السلام، وهي إلى ذلك لا تعترف بالأديان الأخرى لا سيما الإسلام.

  1. الإسلام واستحقاقات الاندماج الإنساني

ما هي استحقاقات الاندماج الإنساني الأساسية؟

مهما تطور الوعي، والفكر الإنساني، فالاستحقاقات الآتي بيانها مطلوبة للاندماج الإنساني في هذه المرحلة من تاريخ الإنسانية، وهي:

  • الاعتراف بالإنسان كإنسان دون تمييز.
  • الالتزام بحقوق الإنسان المتفرعة من الأصول الخمسة: الكرامة، الحرية، العدالة، المساواة، والسلام.
  • توافر أساس موضوعي للأخلاق.
  • وسائل المعرفة: الوحي، الإلهام، العقل، والتجربة.
  • كفالة التعايش السلمي في ظل التعددية الدينية والثقافية.
  • التنمية الاقتصادية التي توفر للناس وسائل المعيشة.
  • العدالة الاجتماعية.
  • سلامة البيئة.
  • الأمن والسلام الدوليين بما في ذلك ملفي أسلحة الدمار الشامل والإرهاب.

هذه الاستحقاقات تستجيب لها مقاصد الوحي الإسلامي.

  • الإسلام يقر بكرامة الإنسان من حيث أنه إنسان (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)[2].
  • النصوص الإسلامية تكفل حقوق الإنسان المتفرعة من الأصول الخمسة كما بينا ذلك في كتاب: (الإنسان بنيان الله).
  • ويقر الإسلام أساساً موضوعياً للأخلاق: الإيثار- والمعروف والمنكر – والمماثلة.
  • ويقر الإسلام وسائل المعرفة الأربع: الوحي- الإلهام- العقل- التجربة.
  • ويعترف الإسلام بالتعددية الدينية والثقافية، قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة)[3] وقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)[4].
  • والإسلام كفل حقوق الملكية الخاصة وحث على الاستثمار (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)[5] أي جعلكم عمارها.
  • ومقاصد الإسلام تحث على العدالة الاجتماعية: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ* وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)[6]. بل قال ولفرد سميث: كانت الدعوة الإسلامية أكبر محاولة في التاريخ لإقامة العدل الاجتماعي.
  • سلامة البيئة الطبيعية هدف مهم في تعاليم الإسلام، فالوجود الطبيعي ليس موجودات صماء بل جزء من مقاصد الله في الكون: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)[7]. والوجود الحيواني من خطة الله للكون: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم)[8]. مسؤولية الإنسان عن سلامة البيئة الطبيعية مقدسة.
  • أسلحة الدمار الشامل أسلحة لا أخلاقية في نظر الإسلام لأنه في حالة الحرب يستثني غير المحاربين والعمران، وأسلحة الدمار الشامل أسلحة تدمير بلا تمييز، ومنعها واجب إسلامي وواجب إنساني.

الإرهاب ليس ظاهرة إسلامية، فقد ظهر على يد ايتا في إسبانيا، والجيش الجمهوري في آيرلندا، والجيش الأحمر في اليابان، وبادرماينهوف في ألمانيا. وهو تعبير بوسائل العنف العشوائي عن احتجاجات سياسية.

الإرهاب الذي يمارس حالياً ويرفع شعارات إسلامية احتجاج على مظالم داخلية وخارجية والنهج الصحيح للتخلص منه يوجب إزالة أسبابه. أسبابه الحقيقية هي دعم القوى الدولية للطغاة، وتغريب الثروة، وغرس إسرائيل على حساب أهل الأرض. وداخلياً الاستبداد والفساد والعطالة وسوء قسمة موارد الدولة ما أدى لإفقار الغالبية الساحقة لصالح قلة محظية.

الغلو في الدين الذي يعتبر الاختلاف في العقيدة علة للقتال وأنه يبرر استباحة دمائهم وأموالهم مخالف لتعاليم الإسلام، والقتال في الإسلام مقيد بضوابط تحرم قتل غير المحاربين.

  1. إذن مقاصد الإسلام أسس واضحة للاندماج الإنساني. قال أفلاطون: إذا عرف الناس الحق لاتبعوه. ولكن تلميذه أرسطو قال: لا يكفي أن يعرف الناس الحق بل ينبغي أن تتوافر الإرادة لإحقاق الحق.

النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء برسالة الحق وطبقها في أرض الواقع بالصورة التي بهرت كثيرين من غير المسلمين فأبدوا إعجابهم بسيرته كما فعل:

  • توماس كارليل في كتابه: البطل الرسول.
  • لا مارتين في كتابه: نبي الإسلام.
  • مايكل هارت: الأول بين أهم مائة شخص في التاريخ.
  • مونتجمري واط: محمد رجل دولة ونبي.

وآخرون مثل آن ماري باشميل، وجوناسون نلسون، ومارشال هوجسون، وكارن أرمسترنق.

محورية شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم في التاريخ جعلت أوربيين، لا سيما في القرون الوسطى وبعدها، على يد بعض المستشرقين، يجعلون همهم اغتيال شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأن الكيان الإسلامي في القرون الوسطى كان عبر إسبانيا وصقلية الخطر المهدد لهم. ركزت حملتهم هذه على أربعة معانٍ في سيرة النبي محمد صلى الله عليه  وسلم: إنه غير عقلاني، وأنه شهواني، وأنه دموي، وأن عقوبات شريعته قاسية.

وباستعراضنا للسيرة النبوية سوف نجد أن كل ما شوهت به سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مستمد من تفاصيل ذكرها كتاب السيرة والأحاديث النبوية.

كتب السيرة النبوية في القديم كثيرون مثل ابن اسحق، والواقدي، والطبري، وابن كثير وآخرون وفي العصر الحديث بلغت الكتب عن السيرة مئات من المؤلفات.

هنالك نهجان لتناول السيرة، نهج خارقي، ونهج عقلاني، النهج الخارقي ينتزع الإعجاب بصاحب السيرة كحدث وقع مرة واحدة في التاريخ والنهج العقلاني يجعل من سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مدرسة لجيله ولسائر الأجيال بعد ذلك.

  1. السيرة النبوية بوصلة للنجاة

فيما يلي أتناول عشرين محطة في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأحدد القراءة الصحيحة لمفرداتها، وهي القراءة التي تجعل السيرة بوصلة لنجاة الإنسانية وطوق نجاة للأمة الإسلامية في محنتها.

  • أبدا بمقولة هي أن نسبة أية حدث غير عادي للنبي محمد صلى الله عليه وسلم من مولده ثم طفولته ثم صباه خوارق تتعارض مع ما جاء في القرآن إذ أنه ولد ميلاداً عادياً ونشأ نشأة عادية وشب في صباه شباباً عادياً، اللهم إلا ما كان في سلوكه من استقامة. كان محمد محل ثقة الناس وأمانتهم لا يأتمنه أحد على وديعة من الودائع إلا أداها، ولا يأتمنه أحد على سرٍ أو كلامٍ إلا وجده عند حسن الظن لذلك سموه الأمين. وعندما فاجأه الوحي عزته السيدة خديجة لصفاته البشرية الفاضلة، قالت له: “ما كان الله ليخزيك أبداً، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف، وتحمل الكل. وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق”.

ولكن لا خوارق بل هذه الخوارق صاغتها المحبة والناس إن أحبوا أو كرهوا بالغوا في الأوصاف، وبالنسبة لنا كمسلمين فإن الخوارق التي نسبت لمحمد صلى الله عليه وسلم كانت مجاراة لسيرة عيسى عليه السلام لدى المسيحيين لأن هذا من مقتضيات التنافس بين الملتين، ولكن سيرة عيسى خارقة وهذا جزء من إرادة الله في أمره. إرادة الله في أمر محمد هي أن يكون شخصاً عادياً تتغير شخصيته بعد أن يأتيه الوحي، وعندما جاءه الوحي أول مرة ارتاع وذهب إلى داره يرتجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع وانطلقت به خديجة إلى ابن عمها مسيحي العقيدة فقص محمد عليه أمره، فقال له ورقة بن نوفل: هذا هو الناموس الذي نزله الله على موسى، وأخبره بما سيجد من قومه من عنت وأذى وأنهم سيخرجونه .. إلخ، وهي حالة الرفض المعتاد لكل دعوة تخالف ما إعتاده الناس. ولقد شهد بهذه الحالة العادية القرآن: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّه مَا تَلَوْته عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِه)[9]، وقال تعالى: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ؟)[10] وقالوا: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ)[11] ومحمد نفسه فوجئ بالوحي واعترته حالة إلى أن فسرت له الحادثة.

أما تلك المفردات الخارقة فتخالف صورة الإنسان العادي المطلوبة لإثبات أن الوحي قد جاءه من خارجه كبشر مثلنا. فحادثة شق الصدر وتنظيف القلب حادثة تجسيدية تطابق فعل جراح بشري، والله إن أراد مثل هذا الفعل فوسائله مختلفة (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[12].

  • وفي مكة بعد أن جاءه الوحي واجه إعراضاً كبيراً من القرشيين وعذبوه هو واتباعه القليلين وقاطعوا بني هاشم إذ أن كبيرهم أبو طالب بسط عليه حماية مع أنه هو نفسه لم يؤمن بدعوة ابن أخيه، وفي مكة التزم النبي والقليل من المسلمين الحيطة: (كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ)[13]، وفي حالة شدة الضيق لجأ للهجرة إلى الحبشة قال النبي لجماعة المسلمين: “لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها مَلِكًا لا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أحدٌ، وهي أرضُ صِدْقٍ، حتى يجعلَ اللهُ لكم فَرَجًا مما أنتم فيه”[14]. تلبية لهذا التوجيه خرج نفر من المسلمين إلى الحبشة في العام الخامس من البعثة، وعندما سمعوا أن أمر الاضطهاد قد خف عادوا لمكة ولكن وجدوا الحال أسوأ مما كان فهاجروا للحبشة للمرة الثانية في العام السادس من البعثة. الهجرة اتقاء بطش الأعداء أسلوب بشري معتاد فإن فيها وفي الصمود في وجه البطش درس لدعاة الحق وتأكيد أن من يأت بجديد في طريق الحق يواجه معارضة شرسة كلما كان ما جاء به مناقضاً لرؤية ومصالح المجتمع:

على قدر فضل المرء تأتي خُطُوبُه         ويُحمد منه الصبر فيما يُصِيبُه

فمَنْ قَلَّ فيما يَلتَّقِيه اصْطِبــــــَـاره           فقد قَـلَّ فيما يَرْتَجِيـه نَصِيبُـه

  • وضاقت الأرض بالنبي في مكة فلجأ إلى الطائف المدينة الثانية في العمران بعد مكة وقد ذهب إليها عساها تستجيب للدعوة بعد أن مات عمه، وفقد ما كان يحظى به من رعاية بل آلت رئاسة بني هاشم لعم آخر كان من أشد الناس عداوة لدعوة ابن أخيه – أبو لهب. وفي الطائف واجه النبي إعراضاً أكبر من إعراض أهل مكة، بل وإهانة جعلته يشكو حاله لرب العالمين في صورة من أقوى صور الضراعة التي يلجأ إليها الناس عندما يصيبهم الإحباط وتقفل أمامهم السبل: “اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك”[15].
  • وبعد تجربة الطائف المرة عاد النبي إلى مكة بعد أن طلب من المطعم بن عدي وقد كان مشركاً ولكنه محسن، طلب منه أن يجيره فأجاره فيما كان بإمكانه أن يعود لمكة دون حماية وفرها له المطعم، وفي السيرة ظروف كثيرة تدل على مشروعية الاستعانة بشخص مخالف في عقيدته لأداء واجب وهذا أساس قاعدة شرعية: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
  • في ظروف الضيق والإعراض هذه جاءت حادثة الإسراء والمعراج. قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[16]. هذه الإشارة للإسراء، وقال تعالى: (وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى* ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى* فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)[17]. الفهم التجسيدي الخارقي للقصة أن النبي بجسده وعلى ظهر دابة أسرى به إلى المسجد الأقصى ثم عرج على نفس الدابة للعرش. ولكن من الصحابة من قال إن الإسراء والمعراج كان بالروح وفي المنام، وأن جسد النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يفقد ورؤيا الأنبياء وحي. قال هذا السيدة عائشة (رض) والحسن البصري وابن اسحق وغيرهم.  هذا الفهم يؤيده القرآن، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)[18] أي وحي يقذف في القلب، أو صوت يسمعونه، أو رسول يرسل إليهم. وفي هذا الصدد المعراج نوع من الوحي (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)[19].  وعلى كثرة طلب المشركين أن يأتي النبي لهم بمعجزة جاء في القرآن: (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ)[20]. وهنالك حجة قرآنية قوية أن الإتيان بمعجزة يبطل الامتحان إذ قال تعالى: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ)[21].

ههنا محطة أخرى في الكشف عن صورة الإنسان.  كثير من الناس يظنون أن النبوة مفارقة تماماً للحالة الإنسانية، وهذا ليس صحيحاً فسيرة النبي تذكر أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤية الصالحة في النوم. وفي أحاديثه إشارة إلى وجود المبشرات، والمحدثين، والرؤيا الصالحة وأنها جزء من النبوة. هذه التجارب معروفة والنبوءة على نهجها وزيادة ومعرفة مفردات التجارب الروحية من باب: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ[22] لذلك قال الغزالي مشيراً لهذه التجارب: “فمن لم يرزق منها شيء من الذوق فليس يدرك من حقيقة النبوة إلا الاسم”. الإلهام وهو الوحي الأصغر وسائر القدرات غير الحسية باب من أبواب التمكين الروحي للبشر ومع أن هذا الباب يطرقه كثير من الدجالين والمشعوذين فإن الفتوحات الروحية تجد تأييداً من القرآن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ)[23]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث قدسي عن أبي هريرة رواه البخاري: “إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: (لا يَزَالُ عَبْدِيْ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِيْ يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِيْ يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِيْ بِهَا. وَلَئِنْ سَأَلَنِيْ لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِيْ لأُعِيْذَنَّهُ)[24]. والحقيقة أنه ما دام في الإنسان قبس من روح الله فإن التجارب فوق الشعورية جزء لا يتجزأ من الحالة الإنسانية وكثير من البشر حكوا عن تجارب مماثلة والشاهد على ذلك في القرآن رؤيا فرعون.

  • فتح المدينة بالقرآن كما قالت السيدة عائشة (رض) دليل على جدوى القوة الناعمة فقد فتحت المدينة وأقيم فيها النظام الإسلامي الأول بوسيلة سلمية لم يدخلها أي عنف. القوة الناعمة التي مورست بصورة كبيرة في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم استخدمت بنجاح في أهم منجزات السيرة: فقد كان النبي والصحابة عازمين على أداء العمرة أثناء حالة العداء بينهم وبين مشركي قريش ومع أن المسلمين أكدوا أن عمرتهم سلمية فإن القرشيين منعوهم وقبل النبي صلى الله عليه وسلم أوامر قريش وأبرم معهم صلح الحديبية الذي استنكره كثير من الصحابة قائلين كيف نعطي الدنية في ديننا؟ ولكن تصرف النبي المسالم وإبرام صلح الحديبية فتح للإسلام فرصة تعبئة غير مسبوقة فدخل في الإسلام أثناء عامي صلح الحديبية أضعاف من كانوا مسلمين، أي استميلت قبائل الجزيرة العربية بالتعبئة السلمية. وبعد خرق قريش للصلح فتح المسلمون مكة بصورة موكب أشبه ما يكون بمظاهرة مسلحة دون قتال فتحت مكة بالهيبة. وفي العصر الحديث ثبتت جدوى القوة الناعمة كما حدث في استقلال الهند، وانتصار الديمقراطية في بولندا، وهزيمة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وغيرها من المشاهد الدالة على جدوى القوة الناعمة.
  • والهجرة للمدينة كانت من دلائل العبقرية العسكرية. رواها بعض كتاب السيرة على النمط الخارقي الذي لا قدوة فيه إذ أن النبي كما قالوا خرج عياناً بياناً من منزله وقالوا أن الآية: (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ)[25] دليل على ذلك. والحقيقة أن الهجرة كانت عملية تدبير متقن:
  • نام على بن أبي طالب (رض) في فراشه ليحسبوه النبي.
  • خرج من خلف الدار إذ طأطأت له خادمته الرباب فصعد وخرج من خلف الدار.
  • وذهب لدار أبو بكر متقنعاً.
  • وخرجا هو وأبو بكر من خوخة في الدار.
  • اختفيا في غار مؤقتاً.
  • ومن الغار صحبهما خبير بطريق للمدينة غير معتاد إلى أنه وصلا.

العبرة في هذا كله هي ضرورة الأخذ بالأسباب على نحو ما سأله سائل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْقِلُ ناقتي وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: “اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ”[26] أي الأخذ بالأسباب ضروري ثم التوكل بعد ذلك.

  • وأشتد العداء بين مكة والمدينة ووقعت الحروب الباردة والساخنة بينهما ولكن الحرب لم تكن هي الحاسمة بل كانت كما قال أبو سفيان سجالاً إذ انتصر المسلمون في بدر الكبرى وانهزموا في أحد وكان من أسباب النصر في بدر أنهم أخذوا بالأسباب فعندما نزلوا منزلة سأل الحباب بن المنذر النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ، وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ”[27] فاقترح منزلاً آخر جعل مورد المياه تحت سيطرة المسلمين وحرم منه المشركين.
  • وقبل واقعة أحد تشاور المسلمون هل يبقوا في المدينة أم يخرجوا لمنازلة العدو؟ وكان رأي النبي البقاء في المدينة ولكن رأى الآخرون الخروج إلى أحد، فقبل النبي رأي الجماعة وفي المعركة خالف الرماة الأخذ بالأسباب فكانت الهزيمة. الدرس المستفاد من هذه الحادثة هي أن الشورى ملزمة وأن الأخذ بالأسباب مفتاح النجاح.
  • وأثناء الإقامة في المدينة تعرض النبي لمؤامرة من يهود خيبر إذ أطعموه ذراع شاة مسموم. الرواية الخارقية قالت إن النبي قال: هذا الذراع يخبرني أنه مسموم، ولكن قالت السيدة عائشة كما روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: “يَا عَائِشَةُ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِى أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِى مِنْ ذَلِكَ السَّمّ”.
  • كثير من أحكام الإسلام مرتبطة بسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهي أحكام ما كانت لتنزل إذا كان النبي مستغنياً عن الأخذ بالأسباب كسائر البشر.
  • روى انس أنهم في بعض الأسفار التمسوا الماء للوضوء فلم يجدوه فجئ بإناء ونبع الماء من أصابع النبي، ولكن روت السيدة عائشة (رض) أنهم في بعض الأسفار وبات الناس من غير ماء فنزلت آية التيمم.
  • وكذلك عندما خافوا هجوم العدو أثناء الصلاة شرعت صلاة الخوف، ويسهو النبي في الصلاة فيشرع سجود السهو، ويمتحن المسلمون بحديث الأفك ويقع الشك البشري حتى لدى النبي محمد صلى الله عليه وسلم نفسه ويشاور أصحابه فيما ينبغي عمله؟ ولم يذهب الشك إلا بعد أن نزلت آية الإفك ببراءة أم المؤمنين.
  • وشعر المشركون بخطورة المدينة وأقاموا تحالفاً قبلياً كبيراً لغزو المدينة وفي مرحلة هم النبي أن يفرق كلمتهم بإعطاء هوازن نصف ثمار المدينة ولكن الأنصار أي أهل المدينة رأوا غير ذلك فوافقهم النبي على الصمود، واقترح الصحابي سلمان خطة لم تعرفها العرب من قبل وحفر خندق حول المدينة يحصنها من الغزاة، هذا الخندق مع المناوشة فوقه استنزف الغزاة فتفرقوا.

سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تؤكد لنا شرعية استصحاب التجارب النافعة وشرعية الأخذ بالأسباب لمواجهة الظروف. وعندما نهي النبي عن تأبير النخيل وامتثل أصحاب النخيل لتوجيهه ففسدت ثمارهم اعترف بعدم خبرته في الأمر وقال: “أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ”[28]. وهذا دليل على أنه في عالم الشهادة توجد قوانين هي سنة الله في الكون واتباعها هو آلية تسخيرها للإنسان.

  • كانت تصرفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم عقلانية في كل الأمور التي يدركها العقل وتكتشف سننها التجربة فكل النصائح المعقولة التي قدمت له تقبلها بلا تردد، لذلك قال الشاطبي مؤكداً هذه العقلانية: كل ما أمر به الشرع أمر به العقل.
  • مجاراة لما روت التوراة من فتوحات بني إسرائيل بتوجيه رب الجنود حرص بعض كتاب السيرة أن يظهروا سيرة النبي باعتباره غازياً مستمراً حتى سمى الواقدي كتابه عن السيرة “المغازي”. وتأسيساً على هذه النزعة قال مسلمون إن الإسلام قد انتشر بحد السيف حتى أن عالماً مسلماً – علي العلواني- قال من قال إن الإسلام لم ينتشر بحد السيف كافر لأنه ينكر فضيلة الجهاد.

الجهاد في الإسلام يعني بذل الجهد لإعلاء كلمة الله، ويبدأ بجهاد النفس الذي وصفه النبي محمد بأنه الجهاد الأكبر، ويتناول كل وسائل الدعوة بالمال والفكر ولا يصير قتالاً إلا دفاعاً عن النفس أو حماية لحرية العقيدة. وحتى بعض المنصفين من المستشرقين أكدوا أن الإسلام لم ينتشر بحد السيف كما قال الأستاذ توماس ارنولد في كتابه: “الدعوة للإسلام”.

من أسوأ العقائد الرائجة في التوراة الترتيب العرقي للبشر لإعلاء شأن الساميين. تعاليم الإسلام نقضت هذا الفهم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[29] وسيرة النبي محمد أظهرت كيف أنه شجب أباذر الغفاري عندما تفوه بعبارة عنصرية. وقال عن العنصرية: “دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ”[30] وقال: “كُلُّكُمْ لآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ”[31].. الخ.

ومن أروع ما جاء في السيرة أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم حرر العروبة من أية مفاهيم عرقية وربطها باللسان وهو مكتسب فقال: “لَيْسَتِ الْعَرَبِيَّةُ بِأَحَدِكُمْ مِنْ أَبٍ وَلا أُمٍّ وَإِنَّمَا هِيَ لِسَانٌ، فَمَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ عَرَبِيٌّ”[32]

  • دونية المرأة مسجلة في التراث التوراتي فهي التي أغوت آدم لإخراجه من الجنة وهي مخلوقة من ضلعه الأعوج. الخ. في الإسلام لا توجد هذه المفاهيم وما نسب للنبي من حديث حول الضلع الأعوج يحكم بعدم صحته قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)[33]. وفي سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ما يصحح كافة الأحاديث المنسوبة إليه القائلة بدونية المرأة، بل تدل سيرته على صحة قوله: “إنّما النِّسَاءُ شقائقُ الرِّجَالِّ”[34]. وهو ما تنطق به تعاليم الإسلام: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم)[35]
  • ومن أسوأ حملات الإساءة للنبي أنه شهواني، وللأسف الذين ركزوا على هذه الإساءة من المستشرقين استمدوا حيثياتها من بعض كتاب السيرة وبعض رواة الأحاديث، رووا أنه تزوج بطفلة عمرها تسع سنوات (السيدة عائشة) وروى عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم يطوف على نساءه في ليلة واحدة وله تسع نساء. وروايات أخرى كثيرة تشير إلى هذه الشهوانية. السيدة عائشة كانت مخطوبة قبل النبي وفسخت خطوبتها ثم تزوجها النبي وهي حسب تقدير قمنا به في مقام آخر كانت في سن 18 سنة، وأكبر دليل على نفي الشهوانية أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أمضى زهرة عمره من (25-50 سنة) وهو زوج لسيدة واحدة كانت تكبره سناً هي السيدة خديجة. صحيح تزوج بنساء أخريات بعد ذلك ولكنها كانت زيجات سياسية: كزواج السيدة ميمونة للعلاقة مع العباس، وزواج أم حبيبة للعلاقة مع أبي سفيان وهلم جرا. وزواج زينب لقاعدة نفي مشروعية التبني. ولكن رغم هذه الشبهات فإن الذي لا شك فيه: أن زواج النبي محمد صلى الله عليه وسلم للسيدة خديجة زواج محبة تجلت فيه كل مقاصد الزواج الشرعية: المودة والرحمة والسكون، كانت زيجة كأرقى ما تكون الرابطة الإنسانية، وبعث النبي محمد في حضن خديجة. كذلك زواجه من السيدة عائشة، تجلت فيه نفس تلك المعاني ومات في حضنها. وكان النبي يخدم في منزله وكان فكهاً مع أهله وكان يداعب الأطفال ويصادق بعضهم. وكان يحمل حفيدته أمامة وهو يصلي، كان يعامل الأطفال بصورة غير معهودة في ذلك الزمان، عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: “قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا فَقَالَ الْأَقْرَعُ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَم”[36].
  • وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على سلامة البيئة وأصدر توجيهاً عاماً: “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ”[37]. وكان رحيماً بالحيوان وقال: “فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ”[38] وفي طريق فتح مكة مروا على كلبة وجروها فأمر بحمايتها. وقال: “مَا مِنْ إِنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، إِلا سَأَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ”[39]. وكان لطيفاً بالبيئة النباتية قال: “مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّار”[40]. وقال: “إنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا “[41].
  • وكان يلتزم الرفق في معاملاته. مرت على مجلسه جماعة من اليهود وحرفوا التحية قائلين: السام عليكم فرد عليهم وعليكم. لكن السيدة عائشة تلفظت برد الإساءة. لذلك قال: “إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ”[42]:

من يستعن بالرفق في أمره        يستخرج الحية من وكرها

وقيل إنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم.

  1. الاستقطابات الإسلامية اليوم

المدهش أننا ندرس اندماج الإنسانية على هدى السيرة المحمدية وأمته اليوم مشتبكة في جبهات كثيرة حتى كسر العظام.

امتنا أولى باستلهام السيرة النبوية للخلاص من مواجهاتها الحالية. مواجهات:

  • التوجه الإسلامي والتوجه العلماني.
  • اختلافات أهل السنة والشيعة.
  • اختلافات حركية بين الأخوان والسلفين والجهادويين.
  • اختلاف القوميات.
  • الاصطفاف الاجتماعي بين الثراء والفقر.
  • التعامل مع المحيط الدولي.

هذه الاستقطابات لا يمكن أن تحسم خلافاتها بالقوة فالمواجهات بالقوة سوف تزيدها اشتعالاً وتجعلها منافذ لتدخلات أجنبية تخدم مصالحهم على حساب سلامتنا.

نحن أولى بالاسترشاد بالسيرة النبوية والتراضي على ميثاق جامع لأهل القبلة حتى لا نكون كتاركة بيضها بالعراء وحاضنة بيض أخرى.

  1. سيرة المصطفى بوصلة للإدماج

القراءة المبصرة لسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تبرزها كأنها موجهة لزماننا هذا لتعطيه بوصلة للإدماج وتجعل لهذا الإدماج أساساً أخلاقياً وروحياً، ليكون الإسلام ملاذ الإنسانية ويكون النبي محمد ربان سفينتها.

لعل أخطر ما يواجه الإنسانية اليوم أن كثيراً من بلدانها مزودة بأسلحة دمار شامل إذا استخدمت فعلاً دمروا كوكبنا.

وأسوأ ما في جعبة الفكر الديني اليوم أن الأديان الإبراهيمية الثلاثة تتطلع لمستقبل انتصار طائفي يبيد المنتصرون فيه الآخرون على يد مخلص ينتظرونه.

هنالك مداخل لإزالة أسباب التنافر العقدي بين ثالوث الدوحة الإبراهيمية.

  • نحن المسلمين نقول بتحريف التوراة والإنجيل، والدارسات الموضوعية أظهرت أن هذه النصوص سجلها كتاب ما أدخل فيها تناقضات، ولكن مع ذلك فإن فيها حقائق مهمة، فالوصايا العشر الموسوية صحيحة ويشهد على ذلك نصوص مماثلة لها في القرآن. وفي الإناجيل كذلك نصوص صحيحة يشهد على ذلك تطابق المعاني بين أم الكتاب وموعظة الجبل.

وفي التوراة بنصه الحالي بشارة بمحمد، جاء في سفر التثنية: أقيم لهم نبياً من وسط أخوتهم مثلك- أي مثل موسى- وأجعل كلامي في فمه، من وسط أخوتهم أي من أبناء إسماعيل. والتوراة تحدد الجهة التي يأتي منها هذا الشخص المنتظر وهي فاران: أي غفار مكة.

وجاء في التوراة في خطاب إلهي لإبراهيم في سفر التكوين (17: 20) “أما إسماعيل فقد سمعت قولك فيه وها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً جداً وأجعله أمة عظيمة”. وفي أنجيل يوحنا (14:15-17) جاء: “أما المعزي الذي سيبعثه الأب باسمي فهو الذي سيذكركم بكل الذي أقوله لكم”. قيل إن هذا المعزي هو الروح القدس، ولكن هذا ليس صحيحاً فالروح القدس اقنوم إلهي سبق وجود عيسى عليه السلام وهو في اعتقادهم الذي لامس مريم لميلاد عيسى.

وفي نفس ذلك الإنجيل “وأما متى جاء ذلك الروح الحق فهو الذي يرشدكم للحق لأنه لا يتكلم من نفسه (يوحنا 14:16). شخص يأتي بعد عيسى ويزكي عيسى وينطق بالوحي. هذه صفات لا تنطبق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم.

ولولا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون للوعد الإلهي لإبراهيم حول إسماعيل أي معنى.

اليهود يتوقعون مسيحاً لأنهم لا يؤمنون بمسيحية عيسى عليه السلام. والمسيحيون يتوقعون عودة ثانية لعيسى عليه السلام.

وكثير من المسلمين يتنظرون عودة عيسى على أنه سوف يلتزم بتعاليم الرسالة المحمدية.

الإنسانية المعاصرة لن تجمع على أية شخصية معينة طوعاً ولن تخضع لأية شخصية كرهاً.

ولكن الإنسانية يمكن أن تطور إجماعها على حقوق الإنسان العالمية ليصير إجماعاً على مشروع كامل لإدماج البشرية في نظام عالمي جديد. في سيبل هذا المشروع فإن سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقراءة صحيحة وغير طائفية لها يمكن أن تكون خير بوصلة للفجر الإنساني الجديد.

كثير من أتباع الأديان الإبراهيمية يتوقعون مخلصاً بأجندة حربية، الأجندة الحربية في عالم اليوم تعني فناء الإنسانية. التوجه الصحيح أن نلغي المخلص الشخص لنتجه للخلاص الوظيفة، وظيفة الخلاص هذه ينبغي أن تتخذ القوة الناعمة طريقها للخلاص فالإكراه قد منعه الله من نفسه: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)[43]. و(لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[44] ومنعه من أنبيائه: (إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ)[45] وقال: (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ[46]

نعم لفائدة المعرفة، ونعم لجدوى السيرة النبوية في المصير الوئامي ولكن الأمر يتطلب بالإضافة للمعرفة الإيمان بالفجر الجديد وتوافر الإرادة القوية لتحقيقه، (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)[47].

[1] سورة الأعراف الآية (176)

[2] سورة الإسراء الآية (70)

[3] سورة المائدة الآية (48)

[4] سورة الروم الآية (22)

[5] سورة هود الآية (61)

[6] سورة الماعون الآيات (1،2،3)

[7] سورة الإسراء الآية (44)

[8] سورة الأنعام الآية (38)

[9] سورة يونس الآية (10)

[10] سورة يونس الآية (16)

[11] سورة الفرقان الآية (7)

[12] سورة يس الآية (82)

[13] سورة النساء الآية (77)

[14] السلسلة الصحيحة للألباني (7/577 ).

[15] رواه الطبراني

[16]  سورة الإسراء الآية (1)

[17] سورة النجم الآيات (7،8،9، 10)

[18] سورة الشوى الآية (51)

[19] سورة النجم الآيات (7،8،9، 10)

[20] سورة الإسراء الآية (59)

[21] سورة الأنعام الآية (158)

[22] سورة الذاريات الآية (21)

[23] سورة الحديد الآية (28)

[24]  صحيح البخاري

[25] سورة يس الآية (9)

 [26]  سنن الترمذي

[27]  السيرة النبوية لابن هشام

[28]  مسند أحمد بن حنبل

[29]  سورة الحجرات الآية (13)

[30]  صحيح البخاري

[31]  سنن أبي داود

[32]  تاريخ دمشق لابن عساكر

[33]  سورة الأعراف الآية (189)

[34]  مسند أحمد بن حنبل

[35]  سورة التوبة الآية (71)

[36] صحيح البخاري

[37]  سنن ابن ماجة

[38]  صحيح البخاري

[39]  المستدرك على الصحيحين للحاكم

[40]  سنن أبي داود

[41]  مسند أحمد بن حنبل

[42] صحيح مسلم

[43] سورة الكهف الآية (29)

[44] سورة البقرة الآية (256)

[45] سروة الزمر الآية (41)

[46] سورة يونس الآية (99)

[47] سورة هود الآية (117)