الطريق الثالث في المسألة الوطنية

بسم الله الرحمن الرحيم

الطريق الثالث في  المسألة الوطنية

7 أكتوبر 2008م

 

بقلم: الإمام الصادق المهدي

 

كل الأديان العالمية شهدت صحوة أصولية في الثلث الأخير من القرن العشرين. هذه الحقيقة وثقتها بدراسة وافية، في ست مجلدات، جامعة شيكاغو في 1988م.

كنا في السودان نستبشر بمستقبل زاهر للإسلام وانحسار الفكر العلماني والاشتراكي  والقومي، واتفقنا أن نكون منبرا جامعا لكافة القوى القائلة بمرجعية إسلامية فكْوّنا جماعة الفكر والثقافة الإسلامية.

دستور الجماعة وضح أن التوجه الإسلامي هذا ينبغي أن تصحبه ضوابط محددة: أن يكون قوميا لا حزبيا، وأن يكون ديمقراطيا لا انقلابيا، وأن يكون اجتهاديا لا تقليديا،  وأن يراعي حقوق غير المسلمين في الوطن فلا يكون إقصائيا.

ولكن لظروف تناولناها في مقام آخر قررت الجبهة الإسلامية القومية الاستيلاء على السلطة، وفي الظروف الداخلية والدولية المحيطة بالإجراء تبنت نهجا فكريا إقصائيا للآخرين إسلامويا عروبيا سموه التوجه الحضاري. هذا التوجه خلق استقطابا في الشمال، وعمق الشرخ مع الجنوب، واستعدى دول الجوار والقوى المهيمنة دوليا.

كونت القوى السياسية التي استعداها النظام جبهة معارضة هي التجمع الوطني الديمقراطي الذي حظي بدعم إقليمي ودولي في موقفه هذا.

كنا في حزب الأمة حريصين على أن تكون المعارضة جامعة لذلك التقطنا حبل الوصل مع الحركة الشعبية الذي كاد أن يثمر في أواخر أيام الديمقراطية الثالثة مؤتمرا قوميا دستوريا في 18/9/1989م لإبرام اتفاقية سلام عادل شامل. وتطورت العلاقة مع الحركة الشعبية عبر أربعة حلقات.

الأولى: اتفاق صلح وتعايش بين قبائل مناطق التماس في 1990م. والثانية: اتفاق لحل مسألة الدين والدولة على أساس اعتماد المواطنة أساسا للحقوق والواجبات الدستورية أثمر إعلان نيروبي في 1993م. والثالثة: اتفاق شقدوم حول تقرير المصير في 1994م. والرابعة: مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية في يونيو 1995م. أهم المبادئ التي قررها هذا المؤتمر هي:

  • أن الأزمة السودانية لا توصف بأنها شمالية/ جنوبية بل قومية.
  • أنه فيما يتعلق باقتسام السلطة والثروة والحكم اللامركزي وقومية مؤسسات الدولة وحقوق الإنسان فإن أقاليم السودان تنادي بمطالب مشتركة وينبغي تلبيتها على أسس موضوعية.
  • أن هناك عوامل موضوعية توجب أن يكون للجنوب حق تقرير المصير أساسا للوحدة الطوعية.
  • أن هذه الحلول ينبغي أن تصدر من مؤتمر قومي دستوري.

هذا التشخيص للمسألة السودانية وحلها لم يكن مقبولا لوسطاء الإيقاد ولا لشركائهم من الأسرة الدولية. هؤلاء ركزوا على أن المشكلة هي شمالية/ جنوبية وأن الحزب الحاكم يمثل الشمال، والحركة الشعبية تمثل الجنوب وأن تفاوضهما ثم اتفاقهما يحقق السلام الشامل في السودان.

لم يكن لدينا اعتراض على ثنائية التفاوض هذه ولكن طالبنا أن يعرض ما يتفقان عليه لملتقى جامع لتحويله من ثنائي إلى قومي.

كان هذا المطلب مرفوضا من الجهات الثلاث أي الحزب الحاكم، والحركة الشعبية، والوسطاء الإقليميين والدوليين. بل صممت الاتفاقية على أساس التمكين الثنائي لطرفيها وعزل أية جهة تتحفظ على ذلك.

تطورات الحالة في دارفور وفي شرق السودان كشفت أن اتفاقية السلام لم تكن شاملة مما أوجب إلحاق اتفاقيات أخرى. ولكن التمسك بتفوق اتفاقية السلام حال دون الاستجابة للمطالب كما كان مقدرا في قرارات مؤتمر اسمرا 1995م، والنتيجة أن اتفاقيتي أبوجا (مايو 2006م) وأسمرا (أكتوبر 2006م) ولدتا تحت ظل اتفاقية نيفاشا (يناير 2005م) متعثرتين.

الحركة الشعبية لم تكن أثناء تفاوضنا معها أثناء العهد الديمقراطي تطالب بتقرير المصير، كان هذا غير مستطاع مع استضافة الحركة في أثيوبيا التي تهزم قضيتها في شمالها إن هي احتضنت حركة انفصالية. ولكن عاملين دفعاها في اتجاه تقرير المصير الأول: “المشروع الحضاري” ومكوناته الأيدلوجية. والثاني: تحول الرعاية من أثيوبيا إلى الولايات المتحدة حيث دعا السناتور هاري جونستون كافة الفصائل الجنوبية لاجتماع في واشنطن (نوفمبر 1993م) فأجمعوا أن الرد الجنوبي على “المشروع الحضاري” هو مطلب تقرير المصير للجنوب.

من أهداف اتفاقية نيفاشا الهامة إقامة حكومة وحدة وطنية انتقالية، وإدارة الشأن السوداني بحيث تكون الوحدة جاذبة تمهيدا لتقرير المصير في عام 2011م.

ولكن منذ إبرام الاتفاقية لم يتحقق السلام العادل الشامل، والحكومة المكونة لم ترق لحكومة وحدة وطنية، ولم تتحقق حالة تجعل الوحدة جاذبة. بل اتسمت السنوات ما بعد إبرام الاتفاقية بحرب باردة وأحيانا ساخنة بين طرفي الاتفاقية إذ اختلفا في تفسير بنود الاتفاقية، وفي تنفيذها، وفي سياسات داخلية وخارجية مختلف عليها بصورة حادة. وفي مناطق كثيرة تبلور موقف الحركة الأيديولوجي في اتجاه علماني أفريقاني (بالمعنى الإثني للعبارة) أي في اتجاه على طرفي نقيض من “المشروع الحضاري”.

والنتيجة أن هذين الموقفين يغذيان عداءا إقصائيا للآخر مثل ما يرد الآن في مواقف القادة ومناهج الصحافة. ومصير هذه المواجهة تدمير وحدة السودان وعندما يقع الانفصال سيكون بين دولتين عدائيتين. لن يكون الأنموذج التشيك والسلوفاك بل أثيوبيا وإريتريا!

الطريق الثالث ينطلق من جمع المسلمين على مفاهيم جماعة الفكر والثقافة الإسلامية النيرة، وجمع السودانيين على مفاهيم مؤتمر أسمرا الجامعة.

الصراع الحالي في السودان ينخر في وحدته ويدفع به نحو التمزق، والأطماع الخارجية، والوصاية الدولية.

والمفاصلة بين مرجعية “التوجه الحضاري” والسودان البديل سوف تفتح المجال واسعا للتشظي الوطني، وللأطماع الخارجية.

إذا أدرك طرفا المفاصلة خطورة الموقف والتفا حول الطريق الثالث فسوف يبهر السودانيون العالم بإرادة وطنية تخلص البلاد من حافة الهاوية، وإلا فلتكن المفاصلة بين الرايات الثلاث ولا شك عندي أن أغلبية أهل السودان إذا أعطيت الفرصة للتعبير عن موقفها سياسيا أو انتخابا سوف تنتصر للطريق الثالث لأن فيه صلاحها وفلاحها ونجاحها.