الطريق الثالث في مسألة الجنائية الدولية

بسم الله الرحمن الرحيم

الطريق الثالث في مسألة الجنائية الدولية

6 أكتوبر 2008م

بقلم: الإمام الصادق المهدي

قيام محكمة جناية دولية أمنية للشعوب المغلوبة على أمرها والتي تتعرض لبطش الطغاة. ولكن بمقاييس الحقانية والعدالة فإن تجربة المحكمة الجنائية الدولية الحالية أظهرت سبعة عيوب تطعن في أهليتها لتحقيق المقاصد العدالية المنشودة.

  • الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ينصان على حق كل إنسان على قدم المساواة في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة وعلنية، ولكن المادتين 13 و16 من النظام الأساسي تمنحان مجلس الأمن وهو سلطة سياسية صلاحيات للتدخل في أعمال المحكمة.

فالمادة (13)-ب تمنح مجلس الأمن سلطة إحالة قضايا بموجب الفصل السابع ولا يشترط أن تكون الحالة قد وقعت في دولة طرف في النظام الأساسي. هذا توسيع لصلاحيات مجلس الأمن بموجب الفصل السابع دون معقب عليه مما يتيح فرص التعسف من مجلس الأمن في الظروف الدولية الراهنة. وهو يتناقض مع  المادة (34) من اتفاق فيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969م التي تنص على أنه لا ترتب المعاهدة أية التزامات على دولة ثالثة.

والمادة (16) تجيز لمجلس الأمن تجميد إجراءات المحكمة لمدة عام قابلة للتجديد. والنتيجة هي أن المحكمة غير مستقلة وخاضعة للتدخل من جهة سياسية هي مجلس الأمن.

  • القرار (1593) الذي بموجبه أحيلت جرائم دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية يقوم على معايير مزدوجة تطعن في عدالته لأنه يحيل دولة غير طرف في النظام الأساسي للمحكمة – السودان- بينما يمنح الحصانة القضائية للأفراد التابعين لدول غير أطراف في النظام الأساسي في القضية نفسها التي أحالها مجلس الأمن.
  • المدعي العام للمحكمة كذلك مطعون في ازدواجية معاييره لأنه رفض النظر في شكاوي كثيرة عن انتهاكات لحقوق الإنسان وقعت في العراق منذ احتلاله مع أنها تتعلق بجرائم معاقب عليها بموجب النظام الأساسي للمحكمة.
  • المدعي العام للمحكمة في مذكرة توقيف رأس الدولة السوداني تجاوز تقرير اللجنة الدولية التي حققت في الجرائم واستبعدت الإبادة الجماعية وإن أثبتت جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
  • توقيف رأس الدولة إجراء يغير طبيعة المساءلة ويجعلها وسيلة لتغيير النظام، وينتظر من رأس الدولة ونظامه أن يقاوموا الإجراء فما هي القوة المعدة لمواجهة هذه المقاومة؟ الإجراء إما إثارة لا معنى لها أو حرب جديدة.
  • منذ مذكرة توقيف رأس الدولة تحول الموضوع من مساءلة قانونية إلى مساومات سياسية بحيث تقول الدول المسيطرة على مجلس الأمن إنها مستعدة لتجميد الأمر مقابل إجراءات معينة يتخذها النظام السوداني.
  • السودان وضع أمام موقف حرج للغاية: أن يقبل إجراءات محملة بالغرض السياسي وبازدواجية المعايير أو أن يواجه عقوبات.

إذا كان موقف المحكمة الجنائية مثقلا بالعيوب فكذلك موقف النظام السوداني:

  • سوء إدارة أزمة دارفور نقلها من مشكلة محلية قابلة للحل في إطار محدود إلى مشكلة قومية ثم إلى مشكلة دولية. ففي يونيو 2002م دعونا كافة أبناء وبنات دارفور في المجتمع السياسي والمدني للاتفاق على حل قومي للمشكلة بلا جدوى. وفي مايو 2004م وقعنا اتفاقا مع المؤتمر الوطني لحل المشكلة قوميا بلا جدوى. وفي أوائل 2006م نصحنا المفاوض باسم الحكومة المرحوم مجذوب الخليفة بضرورة حل جذري يستجيب للمطالب المشروعة فرفض، والنتيجة اتفاقية أبوجا المولودة ميتة في مايو 2006م.
  • وسوء إدارة التعامل مع ملف الجرائم في دارفور. فبعد زيارتنا لدارفور في يونيو 2004م أعلنا أن هناك جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والمطلوب قيام لجنة محايدة لتقصي الحقائق ومحاكمة الجناة وإنصاف الضحايا. وقلنا ما لم يحدث هذا فإن الأسرة الدولية سوف تتحرك ولم يحدث شيئا. وقد كان التحرك الدولي.
  • في يناير 2005م عينت لجنة بصلاحيات خاطئة وتكوين غير محايد، سميت لجنة تقصي الحقائق حول ادعاءات بانتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة بواسطة المجموعات المسلحة بولايات دارفور. أي أنها لم تكلف بالتحقيق فيما جرى على أيدي المسئولين الحكوميين.
  • عندما صدر القرار (1593) في مارس 2005م لم يعامل بالمستوى المطلوب من الجدية. وكذلك عندما أصدر المدعي العام أمرا باعتقال شخصين في عام 2007م أي بعد عامين من القرار عومل الموضوع باستخفاف كأن هذه القرارات الدولية أصوات عبثية لا يترتب على إهمالها شيء.

5-  وعندما صدر الاتهام الثاني في يوليو 2008م صار واضحا أن التعبئة الداخلية والخارجية يمكن أن تفيد كحملة علاقات عامة ولكن من الناحية العملية هنالك موقفان فقط يصلحان لمواجهة الموقف: الأول: قانوني يحقق صلاحية القضاء الوطني في محاكمة الجرائم المعنية بما يبطل الحاجة للمحاكمة أمام المحكمة الدولية. والثاني: سياسي يقنع مجلس الأمن بضرورة تجميد الإجراءات الاتهامية.

ولكن حتى الآن لم يؤخذ موضوع المحاكمة البديلة بالجدية المطلوبة.  أما التحرك السياسي فما زال يراوح مكانه في خانة الشعارات.

6-    البطء في التحرك سمح لمسألة المحكمة الجنائية الدولية أن تفتح شهية عناصر داخلية وخارجية فتندفع في طريق أجندات خاصة توظف مسألة المحكمة لتحقيقيها.

7-    خطورة الاحتمالات مع الانسداد السياسي المقيدّ للحركة الفاعلة حوّل البلاد إلى سوبر ماركت مبادرات حافلة بحسن النوايا ولكنها لا تطحن.

ختاماً أقول:

نعم المحكمة الجنائية غير مستقلة، ونعم هناك تآمر داخلي وخارجي تدفع به أجندات سياسية، ونعم نحن نرفض محاكمة رأس الدولة أمام المحكمة الجنائية الدولية.

ولكن حشد التأييد الدولي لموقفنا وحده لا يجدينا والحديث عن الحصانة لا يجدينا فالقانون الدولي نفسه تطور في اتجاه نفي الحصانات.

والاحتجاج بالسيادة لا يجدينا فالقانون الدولي في قضايا حقوق الإنسان فوق السيادة. ولا نستطيع أن نرفض ولاية المحكمة الجنائية الدولية دون أن نقدم البديل المجدي الذي يحقق عدم الإفلات من العقوبة لمن ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

ولا نستطيع أن نقنع مجلس الأمن بجدوى موقفنا ما لم نقدم على حل حاسم وعادل لأزمة دارفور التي مازالت حتى الآن تشكل خطرا على الأمن والسلم الدوليين.

لذلك نقول بالطريق الثالث الذي يقوم على ركيزتين.

الأولى قانونية: وهدفها عدم الإفلات من العقوبة وتقديم بديل حقاني مقنع على حد تعبير القاعدة (51) من قواعد المحكمة المتعلقة بالمادة (17) من النظام الأساسي التي تتلخص في أن تفيد الدولة بأن محاكمها تستوفي القواعد والمعايير المعترف بها دوليا لإجراء ملاحقة قضائية مستقلة.

هذه المقاصد يمكن تحقيقها بتكوين محكمة خاصة يشارك فيها مع قضاة سودانيين مشهود لهم بالنزاهة قضاة آخرون (عرب وأفارقة). تتكون هذه المحكمة بقانون خاص يجيز لها أن تطبق القانون الجنائي الدولي لأخذ جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في الحسبان وهي غير واردة في القانون الجنائي السوداني الحالي، ولإسقاط مسألة الحصانة للمسئولين السودانيين وهي منصوص عليها في القوانين السودانية الحالية.

الثانية سياسية: وهي تركز على حل أزمة دارفور في إطار يستجيب للمطالب المشروعة للإقليم فوق سقوف نيفاشا وأبوجا.

هذه هي القضية المطلوب حسمها في الملتقى الدارفوري الجامع.

قضية دارفور جزء من مسألة السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الكامل وهي أهداف مطلوب تحقيقها لكل السودان عن طريق الملتقى القومي الجامع.

ما لم نتحرك بسرعة في هذين الاتجاهين القانوني والسياسي فإننا سنجد أنفسنا أمام تعقيدات داخلية وخارجية خاسرة.