العلاقات السودانية المصرية: ما بين التجاذبات الإعلامية والدبلوماسية والمتغيرات الإقليمية والدولية بقلم الحبيب الإمام الصادق المهدي

الإمام الصادق المهدي
الحبيب الإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله

 

بسم الله الرحمن الرحيم

حزب الأمة القومي

الأمانة العامة

ورشة عمل بعنوان: العلاقات السودانية المصرية:

ما بين التجاذبات الإعلامية والدبلوماسية والمتغيرات الإقليمية والدولية

الإمام الصادق المهدي

29/4/2017م – دار الأمة

1. في التاريخ القديم عهد الفراعنة حكم وادي النيل موحداً فراعنة مصريون وسودانيون مثل بعنخي وتهارقا.

وفي مرحلة لاحقة تعاقب على حكم مصر غزاة من الشمال والشرق استعصى عليهم احتلال السودان الذي انتقلت عاصمة حكمه من كرمة إلى مروي جنوباً في فترة بزغت فيها الحضارة الكوشية ذات اللغة والديانة المختلفة. بينما تعرضت مصر لتلك الغزوات شهد السودان الكوشي وجوداً مستقلاً استمر ألف عام. ولكن بعد ذلك حكمت السودان ممالك تابعة للديانة الارثوذكسية المشتركة بين مصر والسودان وأثيوبيا.

مصر القبطية تعرضت للفتح الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص. ولكن جيوش الفتح الإسلامي واجهت مقاومة المملكة السودانية الشمالية فانتهى الأمر لإبرام اتفاقية البقط بين مصر الإسلامية ودولة السودان المسيحية.

وفي ظل اتفاقية البقط هذه تمدد الإسلام سلمياً فقامت في السودان ممالك أهمها مملكة الفور في غرب السودان ومملكة الفونج في وسط وشمال السودان وكانتا إسلاميتين.

كانت مصر ودول الشرق العربي خاضعة للسلطنة العثمانية. وفي مصر استقل محمد علي باشا بحكم مصر مع أنه كان اسمياً تابعاً للعثمانيين.
اثناء حكم محمد علي باشا كان السلطان والطبقة الحاكمة دخيلة على البلاد ما غذى حركة وطنية مصرية عبرت عنها الثورة العرابية.
محمد علي باشا قرر لأسباب رآها احتلال إقليم مملكة الفونج السودانية. وبعد فترة من الوقت تمدد هذا السلطان الخديوي العثماني فضم مملكة الفور في 1875م.
التطلعات الإسلامية والمظالم العثمانية الخديوية ساهمت في نجاح الثورة المهدية في السودان.

القوى السياسية المصرية الوطنية بقيادة العرابيين والإسلامية بقيادة الشيخين جمال الدين ومحمد عبده رحبت بالثورة المهدية تطلعا لها للتحرير من الامبريالية البريطانية التي بعد هزيمة أحمد عرابي باشا في 1882م احتلت مصر. بمناسبة احتفالنا في القاهرة في 26/1/1998م في القاهرة القيت محاضرة شهدها عدد من أخوتنا المصريين وقام المؤرخ المصري يونان لبيب رزق ليقول أمام الجمع الحاشد: “إن التيارين السياسيين البارزين في مصر التيار الإسلامي بقيادة الشيخين، والتيار الوطني بقيادة العرابيين كانا يرحبان بانتصارات الثورة المهدية في السودان”.

وفي ظل هذا الاحتلال تحركت قوة الاحتلال لمواجهة الدولة المهدية في السودان التي حكمت البلاد منذ 1885- 1898م. هذه القوى الامبريالية المسيطرة على مصر كانت تابعة في القرار السياسي والقيادة لبريطانيا. ولكن لإعطاء هذا الاحتلال شرعية تواجه أطماع القوى الامبريالية الأوربية الأخرى سمت بريطانيا احتلال السودان احتلالاً ثنائياً بريطانياً مصرياً مع أن الدور المصري كان اسمياً ومصر نفسها تحت الاحتلال البريطاني.

ومنذ عام 1922م استقلت مصر من بريطانيا ونشأ نزاع بين مصر المستقلة وبريطانيا حول مستقبل السودان.
ومع أن للسودان خصوصية كما تدل على ذلك وقائع التاريخ ومع أن السيادة في العهد الخديوي كانت على مصر والسودان وفي النهاية عثمانية وفي عهد الحكم الثنائي إلى ما قبل استقلال مصر كانت السيادة على البلدين لبريطانيا فإن الخديوية المصرية أسست علاقتها مع السودان على دعوى السيادة على السودان.

هذه الدعوى أيدها سودانيون بدافع موالاة الحركة الوطنية في مصر وبالتالي الاستنصار بمصر على الحكم البريطاني. وعارضها سودانيون احتجاجاً بالخصوصية السودانية فاحتدم الصراع السياسي بين مقولة “السيادة على السودان لمصر والتاج المصري تاج على البلدين”. ومقولة “السودان للسودانيين”. وفي المرحلة ما بعد الحرب الأطلسية الثانية (1939-1945م) انتقل النزاع إلى ساحة مجلس الأمن.

ساوم البريطانيون الحكم المصري باعتبار مصير السودان إلى سيادة التاج المصري مقابل كفالة مصالح بريطانيا في قناة السويس. ولكن هذه الصفقة باسم “بروتوكول صدقي بيفن” هزمت هزمتها الحركة الاستقلالية في السودان والحركة الوطنية في مصر التي وإن رحبت بضم السودان لم تقبل التنازل عن قناة السويس.

هذه الخلفية التاريخية كرست في الوجدان الوطني المصري تبعية السيادة على السودان لمصر. ونفس هذه الخلفية كرست في الوجدان الوطني السوداني أن دعوى السيادة باطلة وأن البلدين في العهد العثماني والبريطاني كانا تحت سيادة أجنبية وأنه مثلما استقلت مصر للمصريين استقل السودان للسودانيين.
المطلوب إعادة قراءة التاريخ للتخلص من العقد التي كرستها مسألة السيادة على السودان للتخلص من ردود الفعل المرتبطة بها وبناء العلاقات بين البلدين على أساس حتميات الجوار. والمصالح المشتركة، والأمن المشترك، وبالتالي التكامل بين جارين على أساس الندية.

2. الجغرافيا والطبقرافيا تتطلبان كذلك قراءة موضوعية جديدة. أهم ما فيها

(‌أ) مصر أكبر مستهلك لمياه النيل نتيجة لكثافة السكان ولعدم وجود موارد مائية أخرى.

(‌ب) النيل يتكون في السودان إذ يقترن النيل الأزرق بالنيل الأبيض في الخرطوم وأطول مسافة لسريان النيل في الأرض السودانية. وللسودان موارد مائية أخرى. بالإضافة إلى النيل. ومن ناحية حجم الأراضي الصالحة للزراعة فإن السودان يضم أكثر من ثلثي الأراضي الصالحة للزراعة في حوض النيل.

(‌ج) الهضبة الأثيوبية تساهم في مياه النيل بنسبة 86% بينما الهضبة الاستوائية تساهم بنسبة 14% وهذه النسبة يمكن زيادتها إذا نفذت مشروعات جنقلي الأولى والثانية والثالثة بما يضيف 20 مليار متر مكعب.

(‌د) دول أعالي حوض النيل تحظى بنسبة عالية من هطول الأمطار ولكن التكنولوجيا. وضغط الزيادة السكانية وبالتالي المطالب التنموية غذت مشروعات الإنتاج الكهرومائي.

(‌ه) النيل نهر عابر للحدود القطرية وينبغي النظر إليه على أن السيادة عليه مشتركة وينبغي اعتباره وحدة مائية.

(‌و) في عام 1959م الحكومتان المصرية والسودانية انفردتا بتوزيع مياه النيل بينهما دون اعتبار لرأي أو مصلحة دول منابع النيل ما أدى لاتحاد دول المنابع التي لا يجمع بينها مجرى مائي مشترك فالنيل الأزرق يخص الهضبة الأثيوبية والنيل الأبيض يخص الهضبة الاستوائية ولا يتلقيان إلا في الخرطوم ليكونا النيل الذي يعبر أراضي السودان ومصر ليصب في البحر الأبيض المتوسط.

(‌ز) في الماضي كانت الاتفاقيات المعنية بمياه النيل تعتبر النيل شأناً مصرياً. وهذا مضمون اتفاقية 1902م واتفاقية 1929م.
والبريطانيون عندما فرضوا حصة 4 مليار متر مكعب للسودان فعلوا ذلك من باب العقاب لمصر نتيجة لحادث اغتيال الحاكم العام البريطاني السير لي إستاك في عام 1924م

(‌ح) الترتيبات لبناء السد العالي في مصر جعلت الحكومتين في مصر والسودان تجعلان مياه النيل شأنا ثنائياً بينهما. ولم تتجاوب الحكومتان مع مطالب دول المنابع بحق المشاركة في توزيع مياه النيل. نتيجة لهذا المحور الثنائي كونت دول المنابع محوراً جماعياً مضاداً.

مبادرة حوض النيل التي انطلقت في 1999م وهدفها الانتقال من الاستقطاب بين المحورين إلى اتفاق جماعي تعثرت حول أمرين مهمين:

· الإبقاء على الاتفاقيات المورثة كما هي أم تعديلها؟
· في مفوضية حوض النيل التي تضم الدول الـ 12 هل تتخذ القرارات بالأغلبية أم بالإجماع؟

(‌ط) غياب اتفاق جامع وملزم بين دول حوض النيل وسابقة التصرف الانفرادي خلقت ظرفاً ملغوماً وفي 1997م التقيت المرحوم رئيس وزراء أثيوبيا قال لي: “أنتم في الشمال تفرضون علينا الآمر الواقع ولا تتجاوبون مع طلبنا أن نبحث مصير مياه النيل لإبرام اتفاق جديد ملزم. سيأتي يوم نتصرف نحن كذلك انفرادياً”.
أزعجني هذا الموقف وبعد أسبوع التقيت الرئيس المصري السباق حسني مبارك وذكرت له ما سمعت ما يوجب تحركاً سريعاً لسد هذه الثغرة. رد بأن “من يمد يده للنيل سوف نقطعها”.
تخوفاً من هذه المواجهة المحتملة الفت ونشرت كتابي “مياه النيل الوعد والوعيد”. خلاصة الكتاب اعتبار النيل وحدة مائية وضرورة إبرام اتفاق شامل للدول المتشاطئة فيه ما يحقق الوعد والكسب للجميع. وبالعدم سوف تحدث تصرفات عدائية تحقق الوعيد والخسران للجميع. هذا الكتاب طبعته الأهرام المصرية ونشرته في حلقات ولكن بالنسبة لمتخذي القرار كان مجرد صيحة في واد.

(‌ي) التفكير في سد النهضة الأثيوبي قديم ولكن تم إحياؤه منذ 2010م وتسارعت الخطى بعد ذلك.
لهذا السد منافع للسودان أكثر من مصر. وله مضار لمصر أكثر من السودان.
أهم المنافع للسودان أنه يحجز نصيبه من المياه جنوباً وأنه ينظم فيضان النيل الأزرق فلا يندفع كالمعتاد في ثلاثة شهور وأنه يقلل الإطماء خلف خزانات السودان وانه يتيح للسودان استيراد كهرباء بتكلفة أقل. وأن تخزين المياه في طقس أثيوبيا الرطب يقلل نسبة تبخرها إلى 2 مليار متر مكعب من 10 مليار متر مكعب في بحيرة السد العالي. ولكن من الضرر حجز الطمي المخصب ومخاطر الزلزال وأن تخزين المياه في أراض أثيوبية وإذا انفردت أثيوبيا بإدارة السد فإن ذلك يضع في يد أثيوبيا رافعاً سياسياً إذا أرادت استخدامه في ظروف الخلاف.
أما منافع السد لمصر فإنه: إذا يخزن المياه في منطقة أثيوبيا الرطبة يقلل تبخر مياه النيل إلى ملياري متر مكعب بدل 10 في بحيرة السد العالي. ويوفر كهرباء للاستيراد بتكلفة أقل من كهرباء السد العالي. ويقلل الاطماء جنوب السد العالي.

ومضار السد لمصر:

· أنه يحجز كمية المياه المخصصة للسودان بموجب اتفاقية 1959م ولا يستهلكها السودان.
· أنه يقلل المياه المخزنة في بحيرة السد العالي وبالتالي يقلل الإنتاج الكهرومائي في السد العالي بنسب 25%.
· تخزين المياه في أثيوبيا وولاية أثيوبيا على إدارة السد وتنظيم تدفق المياه إلى أسفل النيل يضع في يد أثيوبيا رافعاً سياسياً إذا شاءت استخدامه.

وبالنسبة للسودان ومصر فهنالك خطران يؤدي حجم المياه المخزنة في بحيرة سد النهضة إلى زلزال يدمر السد كسد مأرب وما يعقب ذلك من فيضان مدمر.

ما العمل؟

هنالك تفكير في بعض الأوساط المصرية أنه إذا استمرت أثيوبيا في بناء السد فإنه يهدد الأمن القومي المصري ما يوجب عملاً عسكرياً مضاداً ما يجعل مصر تستعد عسكرياً وتكون التحالف المناسب لدعم هذا الخيار.
إذا حدث ذلك فالمتوقع أن تتضامن دول المنابع الأخرى مع أثيوبيا وسوف يكون لأثيوبيا حلفاء فضلاً عن أن هذا سوف يستفز الشعب الأثيوبي لموقف مقاومة مضاد.
الخيار العسكري وارد كتهديد ولكنه عملياً سوف يأتي بنتائج عكسية إذا وقع فعلاً.

الخيار الآخر هو الخيار الوفاقي وبيانه:

· الاتفاق بالالتزام بتوصيات الهيئة الفنية المكلفة بذلك.
· الاتفاق على فترة لملء بحيرة السد مناسبة الطول.
· الاتفاق على آلية تشاور حول إدارة السد.
· مراعاة حاجة مصر والسودان للمياه والنصيب الأكبر لمصر لان حاجتها أكبر وحجم سكانها أكبر وتضمين ذلك في اتفاق.
· إبرام اتفاق حوض النيل الإطاري مع ضبط أية تغييرات بعدم إحداث أذى جسيماً لدولتي المجرى والمصب.
· والاتفاق أن يكون التصويت داخل مفوضية حوض النيل في القضايا المهمة بالأغلبية الثلثين ان يودع هذا الاتفاق لدى الإتحاد الأفريقي ولدى الأمم المتحدة.

ولكن يتوقع أن يوجد خلاف حول مياه النيل بين أكبر منتج (أثيوبيا) وأكبر مستهلك (مصر).
السودان اتخذ موقفاً محورياً مع مصر ثم انتقل لموقف محوري مع أثيوبيا إذ أعلنت حكومة السودان في شهر أبريل تكاملاً تنموياً وسياسياً وأمنياً مع أثيوبيا.
الموقف الصحيح للسودان تجنب المحورية الثنائية وباعتباره الجار لمصر ولأثيوبيا فواجبه أن يقوم باستمرار بدور الشراكة الثلاثية.
هذا الموقف السوداني يمليه واجب الجوار المشترك. وتميله حتميات الجغرافيا، ويمليه مزاج التسامح السوداني الذي جعله رسول سلام بين المملكة العربية السعودية ومصر حول خلافهما على اليمن في الستينيات.
والقيام بدور رائد في مؤتمر اللااءت في الخرطوم. والقيام بدور توفيقي بين الحكومة الأردنية وحركة التحرير الفلسطينية. ليس تكوين المحاور ما يناسب مصالح ومزاج وموقع السودان بل الحرص على تخطي المحاور وتوفيق المواقف. وهذا الدور المناسب للسودان في حرب اليمن الحالية فواجبه أن يضع تصوراً لحل توفيقي عادل ويستعين بسلطنة عُمان وربما الكويت والأردن وقطر وغيرها لوقف حرب اليمن التي لن ينتصر فيها أحد بل تحقق تدميراً لكل المشتركين فيها. وللسودان حوافز يمكن تقديمها لجارتيه بإتاحة مزارعة على أراضيه الزراعية باتفاقيات كسبية في ظل اتفاقية شاملة لحوض النيل. كما يمكن للسودان أن يقوم بدور مهم في الاتفاق مع دولة الجنوب لتنفيذ مشروعات جنقلي وتنفيذ مشاريع أخرى لحصاد المياه على طول نهر النيل.

3. بصرف النظر عن الرواسب التاريخية ومآلاتها في الحاضر، ومياه النيل وآثارها على الواقع فإن لمصر في السودان تأثيراً مهماً في كثير من المجالات أهمها:

· لمصر دور قيادي إسلامي وعربي وأفريقي.
· وكثير من الطرق الصوفية تمددت من مراكز مصرية.
· وحركات سودانية مهمة انطلقت من مصر: الحركة الاتحادية الموحدة ولدت في القاهرة. وكذلك الحركة الأخوانية والحركة الشيوعية وهي حركات ذات وزن مهم في تكوين الفكر والرأي العام السياسي السوداني.

هذه الحقائق جرت معها خطرين الأول: أن دوائر كثيرة في مصر خاصة الحاكمة افترضت وجود ولاء لمصر دون مراعاة لمصالح سودانية. هذه الحقيقة خلقت مواجهة بين تلك الدوائر المصرية والدوائر الاستقلالية في السودان.

الخطر الثاني: هو وجود تحالف بين قوى سياسية مصرية وأخرى سودانية ما أدى مؤخراً إلى تعاون جهات رسمية سودانية مع فئات مصرية وأفرز ذلك دعم محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق في 1995م. هذا الحدث هو الذي جعل الحكومة المصرية تضع يدها على حلايب باعتبارها مصرية ولكن قبل عام 1995م كانت تحت سيطرة سودانية. السلطات السودانية سكتت على هذا الإجراء بفعل عقدة الذنب.

ولكن سوء العلاقة الحالية بين الحكومتين سببه الأهم هو أن النظام السوداني بتكوينه المعروف وتحالفاته لا سيما مع تركيا وقطر صديق للأخوان المسلمين وأن هؤلاء معتبرين في مصر إرهابيين. الآن الاتهامات المتبادلة بين الحكومتين كثيرة ولكنها تعود إلى جذر واحد هو الاختلاف حول الموقف من الأخوان المسلمين.

في الوقت الحالي فإن درجة التقارب أو التطابق بين النظام السوداني والأخوانية مقياس لدرجة التباعد بن الحكومتين.

4. حزب الأمة قاد حركة المواجهة للمشروعات المصرية في السودان. هذه المواجهة بلغت ذروتها عندما قادت الجبهة الاستقلالية بقيادة حزب الأمة استقلال السودان في 1956م. ثم زادت درجة العداء في 1958م حول حلايب. ولكن بعد ذلك رتب لي الملحق العسكري المصري يومئذ زيارة لمصر مباشرة بعد تخرجي من الجامعة. وبعد عودتي قدمت محاضرة في دار الأمة نادت بضرورة فتح صفحة جديدة في العلاقة بين حزب الأمة ومصر. وفي رئاستي للوزارة الأولى حرصت على زيارة مصر الرسمية والشعبية وقد سمحت بذلك الحكومة المصرية. وكان معي في الزيارة حلفائي من الحزب الاتحادي وكانت الزيارة ناجحة. وفي الرئاسة الثانية زرت مصر وكانت الحكومة المصرية حريصة على استمرار اتفاقية التكامل المبرمة مع النظام العسكري المايوي المباد. واعتبرنا ذلك التكامل دعماً للدكتاتورية وطرحنا بديلاً مشروع الاخاء. كما أننا اعتبرنا اتفاقية الدفاع المشترك خرقاً للحياد وانتماء للحلف الغربي لذلك طرحنا مشروع التعاون الأمني. ولكن الحكومة المصرية لم ترحب بهذه التعديلات رغم أنها أتت من ائتلاف فيه الاتحاديون. لذلك تعاملت الحكومة المصرية ببرود مع الديمقراطية الثالثة في السودان ولذلك رحبت بانقلاب 1989م غافلة عن اتجاهاته الحقيقة التي عندما ظهرت وصلت بالعداء بين البلدين إلى ذروة غير مسبوقة. وتحول موقف الحكومة المصرية من دعم للنظام الانقلابي في السودان إلى العداء.

لدى منفاي الاختياري الثاني كان ذلك أثناء حكم المرحوم جعفر نميري. أقمت ما بين القاهرة وأسمرة يومئذ بدأت مشوار التعارف العميق مع المجتمع المدني المصري وبالتالي الدعوة لفتح صفحة جديدة بين البلدين وبين الشعبين رغم العداء الحاد بين الحكومتين.

هذه النظرة واصلناها لدى المنفى الاختياري الأخير أي الثالث في القاهرة 2014-2017م قال أحد المفكرين المصريين لأحد وزراء الخارجية السودانيين إن من موجبات الشكر لكم أنكم اضطررتم الصادق للإقامة في القاهرة.

هنالك عدد كبير من الشخصيات والقوى السياسية والمدنية المصرية مبرأة من الرواسب التاريخية ومستعدة لفتح صفحة جديدة حقيقية بين البلدين أمثال أحمد بهاء الدين، وخالد محمد خالد ودكتور ميلاد حنا و دكتور جمال البنا من المرحومين وحسب الله كفراوي ومصطفى الفقي والدكتورة إجلال رأفت والدكتور رفعت لقوشة والدكتور سعد الدين إبراهيم ود. محمد سليم العوا والأستاذة أسماء الحسيني من الأحياء.

هنالك مستحيلان في العلاقة بين البلدين هما: استحالة قيامها على التبعية. واستحالة قيامها على العداء والاستغناء عن بعضنا بعضا.

من الجانب السودانيين القوى ذات المرجعية الاستقلالية وذات الإلمام بحقيقة المجتمع المصري هي المؤهلة لرسم أساس للعلاقة مع مصر باعتبارها لأسباب كثيرة أهم جيران السودان للسودان ومن الجانب المصري فإن العناصر التي لا تعتبر نفسها قيادة لفروع في السودان والتي تفهم وتقدر الخصوصية السودانية داخل الانتماء المشترك هي المؤهلة للتفاهم حول ذلك الأساس المنشود للعلاقة بين البلدين.

5. مع أخذ كل هذه العوامل في الحسبان فالمطلوب هو هندسة علاقة إستراتيجية بين البلدين تحدد المصالح المشتركة الموجبة لتعاون مؤسس وتدرك مواضع الخلافات المشروعة وتضع آلات لتعامل معها.

ختاماً: على ضوء ما تقدم تدرس الورشة الحالية الأمر من جميع جوانبه وتصدر التوصيات المناسبة.

يدعو حزب الأمة القومي لمؤتمر شعبي قومي لدراسة هذه التوصيات ليصدر المؤتمر إستراتيجية العلاقات السودانية المصرية.

على ضوء توصيات المؤتمر الشعبي القومي السوداني ندعو لمؤتمر شعبي لدولتي وادي النيل للاتفاق على ميثاق يحدد الثوابت التي ينبغي الالتزام بها والمتغيرات التي تتعلق بالمسائل المختلف عليها.
يرجى أن يعقب ذلك الدعوة لمؤتمر شعبي لبلاد حوض النيل.
هذه القضايا لا يمكن التعامل الارتجالي معها ولا بد من تناولها بنهج التخطيط لان فيها مصالح الدول وحياة الشعوب.