الماركسية: قراءة جديدة

ألمانيا الآن يحكمها حزب يُدعى الديمقراطي المسيحي، وهي دولة رأسمالية باقتصاد هو الأنجح في الغرب، حتى أن الميزان التجاري بينه وبين الولايات المتحدة يميل لصالحه. وتقود ألمانيا سيدة: انجلا ميركل، دون مسحة اشتراكية، وهي أفضل قادة الغرب.
ألمانيا بهذه الخلفية احتفلت بمرور قرنين على ميلاد كارل ماركس في مدينة ترير جنوب غرب البلاد.
في كثير من بلداننا إذا ذكر اسم كارل ماركس تعوذ كثيرون من شيطان رجيم.
أقول:
1. كارل ماركس عاش في مناخ الرأسمالية الأولى التي بلغ الظلم الاجتماعي فيها غايته، ما صورته روايات تشارلس دكنز، وبعده روايات برنارد شو الساخرة.
في ذلك الوقت كانت الرأسمالية تبطش بالطبقات العاملة في بلادها، وتمارس امبريالية تبطش بشعوب العالم، وتمارس استعباداً لم يشهد العالم له مثيلاً، وتكاد تمحو الشعوب الأصلية في كثير من بقاع العالم كما كان نصيب الجنس الأحمر في الأمريكتين.
لمس ماركس أهمية المادة في المعاملات بين الناس، ولمس أهمية الانتماء الطبقي في تحديد مواقفهم السياسية، ولمس الصلة القوية بين الطبقة الاجتماعية والسلطة السياسية، والصلة القوية بين السلطة الرأسمالية والغزو الإمبريالي. وفي عالم فيه السلطة الدينية مجسدة في مؤسسة كالبابوية شهد دعم السلطة الدينية للاستغلال الرأسمالي والغزو الإمبريالي، وكيف أنها خدرتهم بالوعود لكي يحتملوا شقاءهم. تأكد لماركس أن ما متعت به الطبقات العليا مقترن تماماً بما حرمت منه الطبقات الدنيا.
وكانت الثورة العلمية التي صحبت اكتشافات داروين في البيولوجيا، ونيوتن في الفيزياء، وغيرهما؛ قد أعطت أساساً علمياً لنفي كثير من المقولات في العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل).
نظرية كارل ماركس ردة فعل نافرة من الاستغلال الرأسمالي، والاحتلال الامبريالي، والدعم الكنسي لهما.
كان ماركس يصف نظريته بالعلمية، أي أنها تسلط الفهم العقلي على مفردات الواقع. فماذا يقول إذا تغيرت معطيات الواقع؟
بعد انتصارات الثورة المهدية على قوى امبريالية قيل أن ماركس علق على الأحداث في السودان بقوله: إن الأخبار التي تأتينا من السودان في هذه الأيام مثيرة للفكر، وسوف تدفع بنا أن نراجع النظر في مجمل بنية المذهب الشيوعي لكي نراجع مقولة أن الدين هو مجرد إفراز للوضع الطبقي فإن الدين الإسلامي بهذه الصيغة المهدوية في السودان أصبح رافداً للثورة العالمية ضد الإمبريالية. أي أن النهج العلمي لا يضع قيداً أيديولوجياً يحجب معطيات الواقع.
ولهذا نجد أن بعض الماركسيين السودانيين استطاعوا تلمس الثورية والتقدمية في سياسة المهدية الاقتصادية وفي شخص المهدي كثائر كما فعل المرحوم محمد سعيد القدال.
2. الإمبريالية الروسية كانت تعاني من استبداد قيصري وحرمان إقطاعي، وزجت بالبلاد في الحرب الأطلسية الامبريالية الأولى (1914-1918م). الحزب البلشفي كان يقود الثورة ضد النظام القيصري مستمداً فكره من الماركسية. بموجب هذا التوجه قاد لينين الثورة البلشفية حتى النصر وبناء الاتحاد السوفيتي. ظنت الثورة بمفاهيم ماركسية حتمية ثورة عالمية. ولكن الظروف حصرتها في دولة واحدة. والدولة الواحدة واجهت ثورة مضادة عنيفة ما نقل التجربة من الصورة الماركسية العالمية، إلى الصيغة اللينينية، ثم إلى الصيغة الستالينية. أطوار حكمتها الظروف الاجتماعية والدولية لا المعطيات الأيديولوجية.
3. كانت الصين تعاني من نظام إمبراطوري متخلف وخاضع لقهر طبقي إقطاعي وتحكم امبريالي. بمرجعية ماركسية لينينية صاغ ماو تسي تونج وحزبه فكراً صينياً للثورة، وبه واجه النظام القائم وانتصر. ومنذئذٍ تمارس الصين نظاماً ذا أطوار مختلفة حتى انتهى الآن لخلطة استصحبت الرأسمالية.
4. في ذكرى مولد ماركس ينبغي أن نقرأ رؤية ماركس، ولينين، وماو في إطار الواقع الفكري الاجتماعي المحيط بهم. إنها بناءات استصحبت ظروفاً موضوعية وذاتية يستفاد من دروسها ولا تصلح كقميص حديد أيديولوجي يوجه الإنسانية في كل زمان ومكان. الرئيس الألماني الراهن فرانك فالتر شتاينماير قال بمناسبة الاحتفال بذكرى ميلاد كارل ماركس قبل قرنين: “لقد اهتم ماركس بالتغلب على البؤس المجتمعي من أجل تحرير الناس من الفقر والوصاية ومن اليد الحديدية للدولة العلية”.
5. في تاريخ أمتنا ممارسات ظلم سياسي واقتصادي واجتماعي، وقيادات فقهية أعطت هذا الظلم قدسية على نحو ما قال ابن حجر العسقلاني: “أجمع الفقهاء على طاعة المتغلب والقتال معه”. هذه فتوى تقدس القوة بصرف النظر عن الحق. ومقولة في الظلم الاجتماعي لأمير المؤمنين على: “ما جاع فقير إ لا بما متع به غنى”.
6. الفهم الصحيح للإسلام: عالمان من جامعة واشنطن هما حسين عسكري وشهرزاد رحمان طرحا السؤال: ما مدى إسلام الدول الإسلامية؟
قالا نعم هم مسلمون في أداء الشعائر، ولكنهما وضعا 13 مقياساً من الالتزام الأخلاقي كالصدق والوفاء بالوعد، والمعاملات كالرعاية الاجتماعية، والعدالة؛ وطبقاها على حوالي 200 دولة في العالم، ما ظهر أنه بموجب هذه المقاييس العدالية فإن دولاً غير مسلمة هي التي تنطبق عليها هذه المقاييس. ما يقود لمقولة برنارد شو الساخرة: الإسلام أفضل دين والمسلون أسوأ أتباع له.
وهناك كتاب صدر عام 2015م في أمريكا بقلم عالم الأديان المقارنة روبرت شدنقر. الكتاب بعنوان: هل كان المسيح مسلماً؟ قال: المسيحية التقليدية فيها أن العطاء الإنساني على حساب الملة. ولكن في الإسلام فإن العطاء الإنساني كالعقلانية والحقوق المدنية هو جزء من الملة.
قال: المسيح كان كيهودي من الموحدين، وكان ثائراً على الظلم الاجتماعي الذي يمارسه الرومان والأحبار في البلاد، كان ثائراً على هذه الممارسات الظالمة ولذلك اعتقلوه. هذه الصفات التي اتسم بها المسيح تجعله مسلماً.
7. عندما قام نظام الحكم الحالي في السودان اعتقل القوى السياسية، ما أتاح لنا فرصة حوار مفتوح. قلت للمرحوم محمد إبراهيم نقد وزملائه في السجن: نحن نتفهم ما أنتم عليه في ظروفه، ولكنها ظروف متغيرة (كان هذا في نوفمبر 1989م)، وهناك معطيات ينبغي أن تؤخذ لديكم في الحسبان وهي: ليس الدين أداة في يد الرجعية، لا سيما الإسلام، وحتى ثيولوجيا التحرير. والديمقراطية ليست دائماً سلم الطبقة العليا للسلطة فقد حكمت بها قوى عمالية، والرأسمالية مهمة للإنتاج والاستثمار ولكن عيبها سوء التوزيع. فلماذا لا تراجعوا الموقف من هذه المعطيات ونحن نقرأ الماركسية موضوعياً؟
لم يتجاوبوا مع هذه الفكرة ولكن بعد فترة من الزمن اعتذر لي المرحوم نقد عن تلك السلبية. لقد آن الأوان أن نخرج من القيود الأيديولوجية النافية للآخر.
النظام الذي جاء باسم أيديولوجية إسلاموية نافية للآخر قضى نحبه. وهذه ليست مناسبة للشماتة فالذين قادوا التجربة مع أنها فشلت فشلاً مدوياً فهم سوف يوجدون في الساحة الوطنية، ولا مصلحة للوطن أن نصنع منهم ألغاماً في مشروع بناء السلام والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في السودان. هذا استعداد كل عاقل وكل وطني في السودان، ولكن:
من ليس يفتح للضياء عيونه​ هيهات يوماً واحداً أن يبصرا.

5/5/2018م