المدافع البارز عن حقوق الانسان د. أمين مكي مدني : فليتداعي جميع الشرفاء للالتفاف حول اعلان باريس لتشكيل أوسع تحالف من اجل التغيير

الدكتور أمين مكي مدني
الدكتور أمين مكي مدني

بيان باريس في سياق الأزمة السودانية

 د. أمين مكي مدني

 لم يكن موقف المؤتمر الوطني المتوقع من “إعلان باريس” المبرم بين حزب الأمة والجبهة الثورية بتاريخ 8/8/2014 سوي نتاج حتمي للفشل الذريع لآلية الحوار السياسي أولاً، ثم المجتمعي ثانياُ، بسبب انعدام أو ضبابية أي مستهدفات أو غايات وطنية للحوار، وبسبب التمثيل الجائر (7 + 7)، والذي يستأثر فيه المؤتمر الوطني بنصيب الأسد تاركاً الفتات لكل القوي الأخرى التي قبلت بهذه القسمة الضيزى، وكذلك بسبب استمرار هذا المؤتمر الوطني في الإمساك بمفاتيح القضايا الوطنية والعبث بها، فهو الحزب الحاكم الذي يعقد الأمور وحده، ثم يدعي وحده معرفة سبل معالجتها، وذلك في إطار دولة منهارة يتشبث هو بجميع مقاليدها الاقتصادية الخربة، والإدارية الفاسدة، والأمنية الظالمة، حيث تنعدم فرص العيش الكريم، ويتشريد الملايين، فتهاجر أعداد هائلة منهم إلى العاصمة والمدن الكبيرة، ويهاجر آخرون إلى المغتربات والمنافي، دولة قضت كوادر هذا الحزب على الأخضر واليابس فيها من مقومات التنمية، وإمكانيات التلبية لاحتياجات المواطنين، من خلال السيطرة على جميع مؤسسات المال، والأعمال، والخدمة العامة، والأمن الوطني، والقوات المسلحة، والعدالة، والشرطة، ناهيك عن قوات الدعم السريع منعدمة الأساس الدستوري والقانوني، والتي يسلطها النظام، بسلطات غير محدودة، على كل من اضطره العسف إلى رفع السلاح، أو اتهم اتهاماً برفعه، في ربوع البلاد المختلفة، وسوقهم إلى مصائر جائرة، مظلمة، من قتل، واعتقال، وتعذيب، واغتصاب، وما إلى ذلك من جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية التي يتباهون بارتكابها تحت حماية وإشادة واستحسان المسؤولين عن إدارة الدولة!

رغم ذلك فإن المحزن حقاً، والمثير للأسى فعلاً، هو أن بعضنا، في الخرطوم بالذات، يستسلمون للإعلام الرسمي يستلب وعيهم، وعندما يجلسون في الأمسيات، وسط كل هذا الخضم، ليتابعوا في أجهزة التلفاز ما بلغته النزاعات المسلحة في سوريا والعراق وليبيا واليمن وغيرها، لا ينتبهون بسبب غفلتهم إلى أن لدى نظامنا الحاكم أيضاً ما يحاول إخفاءه عنا بالتركيز على ما يجري في الخارج، وأن القدر من عوامل الظلم والقهر وإنكار حقوق المواطنة في بلادنا كفيل هو الآخر بتفجير مثل تلك المآسي وأكثر، بل وقد لا يخطر ببال هؤلاء الغافلين أن ما يسمعون عن حدوثه في بعض أقاليمنا لا يقل اشتعال نيرانه ضراوة عما يشاهدون في التلفاز من نزاعات مندلعة في تلك البلدان وغيرها، فتلك “كتابة على الجدران” كما يقول المثل الإنجليزي، لكنهم، بوعيهم المستلب هذا، يصدقون أن ما يحدث لدينا هو “انتصار وطني” على فلول “خونة وعملاء” في النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور، بل وتضعف ذاكرتهم إزاء الأسباب التي أدت لانفصال الجنوب، لأنهم ظلوا يتوهمون أن الأمر، كما تقول لهم الدعاية الرسمية طوال اليوم، شأن أمني يستهدف الوطن، وتمرد غير مشروع تديره أيادي أجنبيه، فالتصدي له بقوة السلاح واجب، والقضاء على “التمرد” الذي تدعمه تلك القوي الأجنبية عمل جليل.

إن الدولة حين تطلق أبواقها تلك فإنما تنطلق زوراً وبهتاناً، من “علوية” الثقافة العربية الإسلامية على غيرها من الثقافات في الوطن. ولأنها بذلك تخاطبنا وتحرض مشاعرنا نحن أغلبية من رضعوا خير هذه البلاد مادياً ومعرفياً، فإن بعضنا، للأسف، ينخدع بذلك، فيجد تبريراً لسياسات الاستعلاء العرقي والثقافي والديني، باسمنا نحن سادة هذه الأرض وحكامها وأولياء أمورها، أولاد “المصارين البيض” وسلالة “المثلث” الشهير، أما “المتمردون” فليسوا سوى حفنة من العملاء والمجرمين وقطاع الطرق الذين لا هم لهم سوى هدم هذه الثقافة والحضارة التي تجعلهم غرباء ومواطنين من الدرجة الثالثة فيحقدون عليها وعلينا!

أما “المارقون” الذين يشكلون القوى السياسية والمجتمعية الديموقراطية المستنيرة من أبناء “المثلث” العرب المسلمين أنفسهم، والذين لديهم رأى مخالف لسياسة الاستعلاء الرسمية هذه، فأمرهم سهل، وربما لا يرقى إلى الاحتياج لمؤسسة الجنجويد، بل تكفى لقهرهم قوات الأمن والشرطة العادية، وإعمال ترسانة قوانين الأمن، والصحافة، والنقابات، والجمعيات، وغيرها من التشريعات الاستثنائية، وإن دعا الأمر فالعنف المادي بانتظارهم، كالرصاص، والاعتقال، والتعذيب، والسجن، وأحياناً دفعهم إلى الاغتراب أو الهجرة. وأما المواطن البسيط فمقدور عليه بإغراقه في هموم الجري، ليل نهار، وراء لقمة العيش، والسكن، والعلاج، والتعليم .. الخ.

هكذا ظل المؤتمر الوطني يحكمنا طوال ربع قرن، وها هو اليوم يحاول إعادة إنتاج ذاته، ربما لربع قرن آخر، بخديعة “الحوار السياسي”، ثم “الحوار المجتمعي”، تحت نفس القوانين والمؤسسات سيئة الذكر، والعجيب أنهم يهرعون كلما دعاهم إلى حواره هذا دون حتى أن يعرفوا إلى أين هم مساقون! يحدث هذا في نفس الوقت الذي أتم فيه حزب السلطة إجازة قانون الانتخابات، وحدد موعدها في أبريل القادم، وكون مفوضيتها ( كسابقتها تماماً!)، فأعلنت أنها بصدد تقسيم الدوائر وكشوفات الناخبين في وقت قريب، وسط أقوال عن ترشيح البشير لدورة أخرى!

أما قضية الحرب والسلام، والتي ينبغي أن تكون أهم أولويات الوطن والمواطن والحاكم، فلا يدرى المهرولون لتلبية دعوات الحوار ماذا سيكون وضعها داخل أجندته، خاصة والمسموع في الأنباء أنها ستجري تحت رعاية السيد أمبيكي المعروف بتاريخه في بلده وفي الشؤون الأفريقية عامة، بعد أن انعقدت وانفضت تحت رعايته أيضاً المفاوضات المزعومة في أديس أبابا، حين قفز ليمسك بملف النزاعات في جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان، وكان قد تحول قبلها من ملف دارفور إلي ملف الجنوب، كل ذلك دون أن يحقق في أي من هذه الملفات شيئاً ملموساً. كما أن الوفود الحكومية الرسمية ظلت من جانبها في رحلات مكوكية بين العواصم المختلفة دون أن تحرز أى تقدم في أي عاصمة.

ننتقل لنقول إن كان لنافع وغندور، بصفتهما ممثلين عن الحكومة أو المؤتمر الوطني، حق مقابلة عقار وعرمان وغيرهما من الحركة الشعبية شمال، أو الجبهة الثورية، فلم يحرم قيادي في المعارضة، بل رئيس أكبر حزب سوداني من الالتقاء بهم؟ ألا يكفى ما حدث في نيفاشا عندما حرم جميع قادة التجمع الوطني المعارض من الالتقاء بالحركة الشعبية، وانفرد نفس هذا المؤتمر الوطني بالتفاوض معها نيابة عن كل شعب السودان؟ ألا يعلم الجميع تبعات ذلك وما لحقه من ألاعيب وممارسات معيبة في تطبيق اتفاقية السلام الشامل، وماذا كانت نتيجتها الحتمية؟وإذن فمتى نتعلم من دروس التاريخ؟

إن للشعب السوداني قاطبة، بكل مؤسساته السياسية والمجتمعية، الحق المشروع في تناول وتداول قضاياه المصيرية كافة، والسعي لحسمها في أي مكان. فكيف يجرم الصادق المهدى إذا فعل ذلك في باريس؟ ولم اعتقلت مريم عند عودتها إلى الخرطوم؟ فإذا لم تستطع السلطة، ولن تستطيع، أن تتهمها بأنها كانت تتخابر مع الأجنبي ضد السودان، فبموجب أى نص في القانون، إذن، تجرم أو يحقق معها هي أو والدها؟! هل بموجب جريمة جديدة شرعت بليل اسمها التفاكر مع إخوة المواطنة لإيجاد حلول ومخارج للوطن من أزماته المتكاثرة؟ هل التقى الصادق ومريم وتواثقا مع مواطنين أم مع أعداء للوطن؟

إن النظام بإجراءاته التعسفية هذه يحاول الهروب من مواجهة مضمون ما جرى في باريس، وما شمله الإعلان الموقع بين الصادق وعقار، وهو الأمر الأكثر أهمية من دعاوى عدم مشروعية اللقاء أو عدم علم حكومة المؤتمر الوطني وحلفائها القدامى و”الجدد” به، أو حتى بقية القوى السياسية، خاصة في غياب أي بدائل، أو أي مشروعات أخرى جادة تصلح كخارطة طريق للخروج من المأزق الراهن، ومآلات انهيار الدولة بشكل كامل، حسب “المكتوب على الحيطان”، على رأى البلاغة الإنجليزية، كما سلف القول.

فالإعلان تصدره وبحق توصيف لواقع تفكك الدولة وهيبتها الأمر الذي يحتم وضع نهاية لسلطة النظام الحاكم، ولجميع مشاريعه السياسية والاقتصادية، والإقرار بفشل كل تلك التجارب، والتطلع لبناء دولة المؤسسات، ولمستقبل ينهي الحرب، وجرائم الحرب، والاستبداد، والتسلط، والفساد، وتغييب إرادة الجماهير، مستقبل يعد بصياغة الوحدة الوطنية، وإحقاق السلام، والتحول الديموقراطي، وتوحيد قوى التغيير كافة، والعناية بوقف نزيف الدم، والقتل، والاغتصاب، ونهب المواشي والممتلكات، وهدم البيوت على ساكنيها، وترتيب ظروف جديدة تسمح بالعودة الطوعية للنازحين واللاجئين، بالإضافة إلى استثمار مبادرة الجبهة الثورية بوقف العمليات في جميع مناطق النزاع من طرف واحد لمدة شهرين، وإقرار مبدأ المحاسبة، وسيادة حكم القانون، وعدم الإفلات من العقاب، ورد الحقوق، وإنصاف الضحايا، واحترام حقوق الإنسان، وأمن المواطن، والمساءلة عن الانهيار الاقتصادي الشامل، والفساد، والتمييز العرقي والديني والثقافي واللغوي، وعن انفصال الجنوب، وعما خلفته النزاعات المسلحة من مآسي، وغير ذلك من الأسس الواردة في “إعلان باريس”، هي كلها مسائل لا يمكن الاختلاف عليها، فليس هنالك أكثر صواباً من تداعي جميع أبناء الوطن الشرفاء، بكل فصائلهم وكل قواهم الحية السياسية والمدنية العاملة من أجل التغيير، للالتفاف والائتلاف حولها بغية تشكيل أوسع تحالف لتحقيق هذه الغايات النبيلة دون استثناء لأحد.

تتبقي في رأيي مسألة أخيرة هي الشك الذي يبديه البعض في نوايا السيد الصادق المهدى، الأمر الذي لا يفضي سوى إلى التشكيك في الإعلان نفسه، بما يشمل حتماً مالك عقار وصحبه. فهل هم بذلك القدر من البساطة والسذاجة وعدم الوعي للدخول في إعلان كهذا دون أن يعوا ما هم فاعلون، ومع من يبرمون اتفاقاتهم؟ ثم من حق الناس، أيضاً، أن يسألوا رافضي الإعلان عما بأيديهم من سبل أخرى أفضل للخلاص، فإن كانت لديهم مثل هذه السبل فليعلنوها لنتبناها، ونبنى عليها، ونصرف النظر تماماً عن كلا حوار المؤتمر الوطني وإعلان باريس معاً. أما إذا لم تكن هنالك مثل هكذا مشاريع أوبدائل أو منافذ أو خيارات أخرى، فلنكف إذن عن المزايدات، والونسات، و”طق الحنك”، ولنتمسك بما يطرحه “إعلان باريس” كفرصة حقيقية للحل السياسي السلمي ينبغي ألا تضيع، وأن يتكاتف الجميع في الإنضمـام إليهـا لأجـل اسـتثمارهـا لبـلوغ الغـايـات الوطـنية المنشـودة، والله ولي التوفـيق لرفعـة وطننا المكلوم.

أمين مكى مدنى

أغسطس 2014م