المرحلة الثانية 1958- 1964م

المرحلة الثانية: (58- 1964):

الدكتاتورية الأولى

استولى الفريق إبراهيم عبود على السلطة بالشكل الذي رآه ناقضا لاتفاقه مع رئيس الوزراء، وأذاع البيان الأول وفيه أوامر نفذت فورا وهي:

  • حل جميع الأحزاب السياسية.
  • منع التجمعات والمواكب والمظاهرات في كل مديريات السودان.
  • وقف الصحف حتى صدور أمر آخر من وزير الداخلية.

كما صدرت أوامر دستورية هي:

  • قيام مجلس أعلى للقوات المسلحة.
  • إعلان حالة الطوارئ في جميع أنحاء السودان بموجب المادة الثانية من قانون دفاع السودان.
  • وقف العمل بالدستور المؤقت وحل البرلمان ابتداء من 17/11/1958م.

تكون المجلس الأعلى الأول للقوات المسلحة وقد ركز في يد قائد الانقلاب السلطات الآتية:

  • السلطة الدستورية العليا في السودان.
  • جميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
  • القيادة العليا للقوات المسلحة.

المجلس الثاني للقوات المسلحة:

بعد قيام ما سمي بالحركة التصحيحية في 2 و4 مارس 1959م  صدر الأمر الدستوري رقم (5) الذي ركز في أيدي  الفريق عبود السلطات الآتية:

  • تعيين أي عضو في المجلس الأعلى وإقالته.
  • تعيين الوزراء وإقالتهم.
  • نقض أي قرار للمجلس الأعلى.
  • نقض أي قرار لمجلس الوزراء.

وفي 3/12/1958م أصدر مجلس الوزراء قرارا بتعطيل النقابات والاتحادات.

وفي أول مؤتمر صحفي لوزير الداخلية وهو ثاني مؤتمر صحفي عقد بعد السماح للصحف بالصدور أعلن عن انه لن يتوان عن قفل أي جريدة ومحاكمة محرريها إذا أثارت الشكوك حول أهداف الحكومة ومراميها (الرأي العام في 12/12/1958م)، وصدر بيان يوضح ما يجوز نشره وما لا يجوز!.

معارضة الحزب لحكومة عبود:

قاد حزب الأمة برئاسة الإمام الصديق المعارضة للنظام الانقلابي الجديد- لا سيما بعد أن أصبح رئيس الحزب منذ انتقال الإمام  عبد الرحمن في مارس 1959م إماما للأنصار. أدى تصدي حزب الأمة لمعارضة الدكتاتورية إلى اهتمام بالقوى الحديثة والتحالف معها إلى أساليب تعبوية ساهمت في بث روح جديدة في الحزب.

في الفترة 1959م- 1961

بعد الانقلاب بقليل بادر الحزب بتكوين الجبهة الوطنية المتحدة لمعارضة نظام عبود والجهاد من أجل إعادة الديمقراطية، وكانت برئاسة السيد الصديق المهدي، واشترك فيها حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي والجبهة المعادية للاستعمار، والإخوان المسلمون، شخصيات سياسية  شمالية كالسيد ميرغني حمزة وجنوبية، وانتظم فيها من قيادة حزب الأمة عبد الله بك خليل.

المذكرة الأولى:

مضى الحكم العسكري في إجراءاته القمعية من حجر للصحف والأحزاب. وفي 21 أكتوبر 1959م أرسل الإمام الصديق المهدي مذكرة للفريق عبود فيها المطالب التالية:

1/ أن تنتهي مهمة الجيش في مباشرة شئون الحكم مشكوراً علي ما أدى فيما يختص بالدفاع عن البلاد متجنبا الدخول في شئون الحكم.

2/ أن يتكون مجلس رأس أعلى من خمسة أعضاء برئاسة، ويتولي هذا المجلس رئاسة الدولة والإشراف على شئون الحكم مؤقتاً.

3/ أن تتألف حكومة من المدنيين لحمل أعباء الحكم في البلاد.

4/ أن يوضع دستور للبلاد.

5/ أن يتم انتخاب هيئة لإقرار الدستور وانتخاب رئيس الجمهورية.

6/ أن يتم انتخاب هيئة لإقرار الدستور وانتخاب رئيس الجمهورية في فترة وجيزة لا تزيد عن الزمن الذي يتطلبه إعداد الدستور.

(نص المذكرة الكامل)

المذكرة الثانية:

شهد العام 1959م صراعا عنيفا من أجل السلطة داخل القوات المسلحة وسلسلة متصلة من محاولات الانقلاب. وفي 17/11/1959م أعلن عبود في خطاب الاحتفال تكوين لجنة ذات اختصاصات غير محدودة برئاسة رئيس القضاء لتقديم توصيات عن أمثل الطرق التي تكفل اشتراك المواطنين في أداة الحكم.

وفي أغسطس 1959م عين عبود لجنة تنسيق العلاقات بين الحكومة المركزية والحكومة المحلية برئاسة السيد محمد احمد أبو رنات رئيس القضاء حينها (وكان في نفس الوقت مستشارا للنظام والرجل الثاني بعد الفريق عبود) قدمت توصيات على ضوئها أصدر قانون إدارة المديريات لسنة 1960م، والذي أنشيء بمقتضاه نظام مجالس المديريات.

وفي أواخر عام 1959م استطاع المجلس الأعلى أن يقضى على آخر محاولة انقلاب قادها المرحوم البكباشي علي حامد و قد كان الضباط الذين أعدموا على أثر تلك المحاولة أول ضحايا الحكم العسكري. اتصل رئيس الحزب بالفريق إبراهيم عبود طالباً عدم تنفيذ الإعدام على الضباط الخمسة حتى تصان البلاد من الأحقاد فاستبعد طلبه وتم تنفيذ الإعدام.

بعد هذه الإجراءات تضخمت قائمة السجناء من العسكريين وهدأت أحوال الجيش وظنت الحكومة العسكرية أن حكمها قد استقر من ناحية الجيش وشرعت تحـاول في إيجـاد سند لها من بعض زعماء الطوائف وبعض زعماء القبائل وتستميل إليها بعض الصحف لتجد تأييداً من القارئ السوداني معتمدة في ذلك علي مهاجمة الأحزاب منددة بالنظام البرلماني.

وفي نفس هذه الفترة أعلن جميع عمال السكك الحديدة بالخرطوم الإضراب من لعمل لأجل غير مسمى حتى تجاب مطالبهم ويفرج عن المعتقلين النقابيين الذين قدموا مذكرة للمجلس العلى للقوات المسلحة في 1/11/1959م، ولكن الإضراب لم ينجح وقامت الحكومة بفصل 288 من العمال. وقام الطلبة بالإضراب عن الدراسة في 13/11/1959م تضامنا مع العمال وانتفاضة صغار الجيش.

تخوف الناس من هذه الاتجاهات وأدركوا أن الحكم العسكري يسعى في التمكين لنفسه بالاعتماد على عناصر تنساق وراء مصالحها ضد المصلحة الوطنية.

في هذه الفترة حدث التفاف الأحزاب والقيادات المعارضة خلف قيادة الإمام الصديق، وفي أوائل عام 1960م ذهب قادة الحزب الوطني الاتحادي وجماهيره لأداء صلاة عيد الفطر المبارك مع جماهير الأنصار في دارهم، وكان لهذا اللقاء مغزى سياسي هام أزعج العسكريين.

وقد عقدت اجتماعات متتالية لنقاش كيفية التحرك تخللتها زيارة الرئيس جمال عبد  الناصر للسودان، وحينما سمحت الحكومة للسيد علي الميرغني مع صلته الوثيقة بها وعدم معاداته للحكومة باستقبال الرئيس بعد الناصر “كان من غير المستساغ منع زعيم الأنصار” (حاج موسى، ص 262)، وكان ذلك  الاستقبال مناسبة لإظهار قوة قادة المعارضة وتأييد الشعب لهم. وقد ألقى الإمام الصديق خطابا، وكذلك ممثلي الأحزاب، والطلبة خطابات. (نص خطابا لإمام الصديق هنا).

تتالت الاجتماعات بين الأحزاب بعدها ورأوا أن يتقدم زعماء السودان بمذكرة موحدة يحددون فيها موقفهم من الحكم العسكري، ووصلوا للمذكرة التي وقع فيها عدد من القادة السياسيين، ورفعت  لرئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة وأعضاء المجلس وذلك في 29 نوفمبر سنة 1960 م. وكانت فيها المطالب الآتية:

(1)  أن يتفرغ الجيش لمهمته الوطنية وهي حماية البلاد .

(2) تتولى الحكم هيئة قومية انتقالية لتحقق الآتي:

أ- تمارس سلطات الحكومة في فترة الانتقال.

ب- تضع التخطيط السليم والأسس الواضحة الديمقراطية في السودان على ضوء تجارب الماضي.

ج- تضع قانون انتخابات عادل وتجري الانتخابات لإيجاد ممثلي الشعب الذين سيتولون الحكم في صورته النهائية ويضعون الدستور.

(3) رفع حالة الطوارئ فوراً وكفالة حريات المواطنين وضمان حرية الصحافة ليستطيع الشعب أن يعبر عن آرائه في حرية ولتستطيع الحكومة القومية تحسس رغباته والتجاوب مع اتجاهاته.

(نص المذكرة الكامل هنا)

تعبئة الأقاليم

رأى الحزب ضرورة تعبئة الأقاليم وتوضيح الأهداف الوطنية العامة ليلتقي الناس حولها، فأرسل الوفود لجهات السودان المختلفة مع تركيز خاص علي مديريتي كردفان ودارفور، إذ أرسل وفداً برئاسة السيد الصادق المهدي لكردفان ووفداً برئاسة السيد أحمد المهدي لدارفور وأعطى تلك الوفود تعليمات بأن تقيم في الأقاليم إلى أجل غير مسمى حتى ينجلي موقف  الوطـن. وكانت تلك الوفود تحمل معها منشورا توجيهيا من الإمام  كتب في نفس يوم تقديم المذكرة، فيه سرد لما دار منذ قيام الانقلاب، والمذكرتين اللذين قدما لقادته والمطالب الشعبية التي اجتمعوا عليها ووردت في المذكرة الثانية. (النص الكامل للمنشور هنا)

خطاب العيد الخامس للاستقلال

في نهاية عام 1960م وصلت المعارضة للحكم العسكري، أوجاً من الإقدام والجرأة والتضامن، وتبلورت مشاعر السودانيين في اتحاد صلب وراء قيادة الإمام الصديق وكان الاحتفال بالعيد الخامس لاستقلال السودان دليلاً على تلك المشاعر والتصميم الذي دفع بها. فاحتشدت جماهير السودانيين في بيت الأمة بأمد رمان وألقى الإمام الصديق على جمعهم خطابا  فيه تلخيص للموقف الوطني والمطالب الشعبية المتمثلة في عودة الديمقراطية. (نص الخطاب هنا).

وفي أوائل عام 1961م تقدم قادة الأحزاب بمذكرة أخرى بينوا فيها أخطاء الحكومة ومحاربتها لبعض فئات منا لمواطنين في أرزاقهم وخيراتهم وحملوا الحكومة نتيجة هذه التصرفات (حاجد موسى ص 263)

المفاوضات مع النظام العسكري

تلك الضربات القوية وما صحبها من إجماع شعبي أزعجت الحكومة العسكرية فرأت أن تفاوض زعيم المعارضة فاشترط الإمام الصديق أن تكون المفاوضات رسمية وأن يكون من يحضرها من جهة الحكومة مفوضين للوصول لاتفاق فاستجيب لتلك الشروط، وانتدبت الحكومة اللواء محمد طلعت فريد والأميرلاي مقبول الأمين الحاج للتفاوض مع الإمام الصديق، دارت فيها ثلاث جلسات بين الإمام الصديق والسيدين طلعت فريد والطاهر المقبول، وقد دون محاضرها الإمام الصديق بتفاصيلها ونشرت في كتاب (مطلب الأمة: جهاد في شبيل الديمقراطية) (نصوص محاضر الجلسات هنا).

نهاية المفاوضات

بعد الجلسة الثالثة بتاريخ 12/3/1961م سافر أعضاء الجانب الحكومي مع الفريق إبراهيم عبود في زيارة للمديرية الشمالية فتوقفت المفاوضات. وفي الشمالية بهرت أعضاء الوفد الاستقبالات الشعبية وأنستهم المفاوضات والتنبيهات العديدة التي وردت أثناءها عن خطورة الموقف فصرحوا لمراسل جريدة الديلي تلغراف بأن 85% من الشعب السوداني يؤيد حكومتهم. وربما كانت هذه المشاعر هي التي حدت بهم للسكوت عن مسألة المفاوضات عند عودتهم للخرطوم وإغفالهم للأمر كله كأنه لم يكن.

وقام نفس المراسل بتسجيل حديث مع الإمام الصديق وسأله عن ادعاء الحكومة ذلك، فقال له: إن كانت هذه القولة صحيحة فلماذا تحجم الحكومة عن مسألة إجراء انتخابات عامة؟، وقال: إنني أستطيع إشعال حرب تحريرية في السودان ولا يمنعني من ذلك إلا الإشفاق على البلاد من الخراب. ثم أكد أن أعمال الحكومة ومشروعاتها معزولة عن الرأي العام ومتخبطة في فراغ سياسي فأثبت المراسل تلك التصريحات ونشرها في جريدته.

عودة الوفود

في مرحلة ما من المفاوضات المذكورة رأي الإمام الصديق أن يستدعى الوفود التي بالأقاليم بعد أربعة أشهر من غيبتها لإطلاع رجالها على نتائج المفاوضات والتفاكر حول سير العمل الوطني.

بعد عودة الوفود اتصل السيدان أحمد عبد الله أبارو وزيادة ساتي بالسيدين أحمد والصادق المهدي وأبلغاهما أن وزير الداخلية قد بلغه أنهما قد قاما بعمل يهدد أمن البلاد ولذا فقد أمر بتحديد إقامتهما في العاصمة فرفضا الانصياع لذلك الأمر.

وفي مايو 1961 توفي لرحمة مولاه الناظر عبد القادر هبانى والسيد على أبو سن فأوفد الإمام الصديق السيد الصادق المهدي لرفاعة والسيد أحمد المهدي لنعيمة للعزاء في الفقيدين، فقيد الشكرية وفقيد الحسانية فذهبا وعندما عادا من تلك المهمة همت الحكومة العسكرية باعتقالهما استناداً على أمر تحديد الإقامة فردا بأنهما لم يعترفا بذلك الأمر وأنهما لن يرضخا لمسألة الاعتقال ولا مانع لديهما من المثول أمام محكمة للدفاع عن أفعالها على أن تكون محكمة قانون مدنية، وأما الاعتقال ظلماً فلا.

فلما بلغت هذه الإجراءات للإمام الصديق أرسل برقية استنكار للسيد الفريق ابر أهيم عبود في 28/5/1961م قال فيها: (يؤسفني أن أضطر لأحتج لديكم على الضغط والعنت الذي تلقاه مجموعة الأنصار وحدها فإنهم منعوا مثلاً من رفع أعلامهم التقليدية في دارفور وحددت إقامة السادة أبناء المهدي أحمد والصادق بغير حق، وقد أوفدا مني لمديريتي كردفان ودارفور في زيارات تقليدية ومهام دينية اجتماعية تختص بالأنصار وحدهم في الغرب وأن في هذا ما فيه من التعدي على الحريات الشخصية والمقدسات والعقائد الدينية والعلاقات والمساواة الاجتماعية، حتى لقد وصل الأمر أن تعتبر التعزية في الفقيدين الناظر عبد القادر هباني والسيد علي أبو سن خروجاً على القانون). مذكرا له بان الدكتاتورية كنظام حكم لا تناسب شعبنا وضرورة الاستجابة للمطالب المتكررة التي قدمت له في المذكرات المتتالية ومحملا له المسئولية إزاء العنت الذي يقابله الأنصار.  (نص البرقية الكامل هنا)

بعد تلك الإجراءات هبت جموع الأنصار الجهات المختلفة إلى العاصمة للمشاركة في المحنة التي تتعرض إليها قيادتهم. فتوافدوا إلى أم درمان في أعداد كبيرة وأقاموا فيها في هجرة مستمرة مشمرين لمواجهة كل الاحتمالات التي قد تصدر من الحكومة العسكرية.

الاحتفال بعيد الهجرة 1381هـ

مع العام الهجري الجديد كان عمال السودان قد دخلوا في أول إضراب عام لعمال السكة حديد، وسجن وشرد جرائه عددا منهم، وكانت المعارضة للديكتاتورية العسكرية قد بلغت أوجها،  قد أضربوا عن العمل إضراباً يندر مثيله تحت ظل الحكومات العسكرية. وحينما انتهى الإضراب ترك عبرة مفيدة في مقاومة الحكم العسكري ومثلا في التضحية في سبيل الوطن. في ذلك الوقت نظم الأنصار احتفالا بالهجرة النبوية خاطبه الإمام الصديق المهدي وتحدث عن عبر وعظات السيرة والتاريخ الإسلامي والوطني، وسرد مسار المفاوضات مع النظام والمطالب الوطنية التي قدمت له من القادة السياسيين، وكيف انهارت المفاوضات، ثم تعرض لأزمة منع قيادات الأنصار من السفر للأقاليم، وتعرض بعد ذلك لأزمة الإضراب قائلا:

(هذا ما كان من أمر الحكومة بيننا وما كان له أسوأ الأثر على الأنصار وعلى أبناء هذا الشعب وما كادت تلك الحادثة تنطوي حتى لاح خلاف بين الحكومة ونقابة السكة حديد فعولج بنفس المستوى من اللامبالاة وعدم تقدير رأي الناس والخلاف، حتى قرر عمال السكة حديد أن يضربوا ومع حداثة عهد النقابة وخضوعها لقوانين العمل الجديد ارتفعت الحكومة بحرارة الأزمة عندما أمرت بحل النقابة فحدث الإضراب وزاد الإشكال وتفاقم الحال وما هذا إلا نتيجة لاتجاهات هذا الوضع الغير طبيعي في معاملة الناس وتصريف شئون البلاد ولم يخطر ببال أحد من المسئولين أن في جميع تلك الأحوال مظالم واجب إزالتها بل استمر تكميم الأفواه الناصحة وأصمتت الصحافة الحرة وترك المجال واسعاً لصحف وزارة الاستعلامات    للسب والشتم والنيل من حريات الناس متردية بذلك في نهج ما عفت عنه إذاعة البلاد الرسمية فابتذلت كرامة الأفراد والجماعات وهم مساقون إلى مصير لا يعلمه إلا اله.) وكرر مطالب الشعب بإعادة الديمقراطية وإجراء إصلاحات على الحكم. (نص الخطاب هنا)

تلغراف الساسة:

وفي يونيو 1961م وبمدينة الأبيض تقدم أحد المحامين للدفاع عن مواطن متهم بالمعارضة للحكومة، فاعتقل وعذّب بشكل بشع، وبعد أن تجمعت للجبهة الوطنية كل المعلومات عقدت اجتماعا طارئا في منزل الإمام الصديق المهدي حضره السادة عبد الله خليل وعبد الله نقد الله ومحمد احمد محجوب وعبد الله ميرغني وأمين التوم عن حزب الأمة، وإسماعيل الأزهري ومبارك زروق ومحمد أحمد المرضي وإبراهيم جبريل عن الحزب الوطني الاتحادي، وعبد الخالق محجوب واحمد سليمان عن الحزب الشيوعي، وحضره السيد ميرغني حمزة وآخرون. (أمين ص 193).

عرض الإمام الصديق على الاجتماع أن يتقدم زعماء السودان بمذكرة موحدة يحددون فيها موقفهم من الحكم العسكري وأسفر الاجتماع عن تقديم تلغراف بتاريخ 7/7/1961م وقعه عن الجبهة الوطنية المتحدة السيدان إسماعيل الأزهري وعبد الله خليل، عدد التلغراف الانتهاكات المريعة للحكومة وأكد: (إن كل ضمير حي ليثور من أعماقه لهذه الأعمال الوحشية التي لن يسكت عليها الشعب الذي اصطكت مسامعه واهتز وجدانه لهذه الأنباء وهو قادر لأن يضع حداً لهذا العهد البغيض الذي قام على إرادة حفنة صغيرة تدفعها الضغائن وتحركها الأحقاد ونحن بوصفنا ممثلين لهذا الشعب ننذركم بأننا سنكشف كلما يدور للرأي العام العالمي والمحلي ونحملكم قضية هذه الأعمال التي أرجعتم بها البلاد إلى عهود الظلام والبدائية المتوحشة.) (نص التلغراف هنا)

 

مع تلك الأحداث وصل الشعور العام ذروة من السخط والاستخفاف بالحكم العسكري، وبدلا عن الاستسلام للإرادة الشعبية، اختاروا أن يبطشوا بقيادة الرأي العام السوداني فقاموا بالإجراءات التالية:

  • اعتقال كل الزعماء الذين شاركوا في الاجتماع الذي صاغ التلغراف ما عدا الإمام الصديق المهدي والسيد ميرغني حمزة. وأرسلوا في الصباح الباكر ليوم 12/7/1961م على طائرة خاصة لجوبا.
  • المزيد من التضييق على الأنصار، وأرسل النظام العسكري خطابا وقع عليه الأمير ألاي أز ح. المقبول الأمين الحاج وذلك في 11/7/1961م فيه  (لفت نظر) للإمام الصديق لكيلا يقوم (بما يخالف القانون مستقبلاً). (نص الخطاب هنا)
  • هجمة إعلامية مكثفة عبر المذياع والصحف على الساسة والأحزاب بسبهم وإنذارهم بالويل والثبور وتكرار التعليمات الخاصة بمنع شعارات الأنصار وأناشيدهم وأزيائهم المميزة وأعلامهم ووعد من يخالف تلك التعليمات بأصرم العقوبات.

رد المعارضة

جمع الإمام الصديق مجلسه وأطلعه على التطورات، وتقرر أن تتم مناشدة التجار والهيئات لكي تضرب تمهيداً للقيام بعمل جماعي، وأن يتحاشى الأنصار العمل منفردين.

كما سرب خطابات سرية للمعتقلين بجوبا مفادها الآتي: إن الجبهة الوطنية قد أعدت عدتها كاملة لمواجهة الموقف وستبدأ فورا بطلب لقاء مع المجلس العسكري تطالبه فيه بالتنحي الفوري عن السلطة وتسليمها للشعب.. وفي حالة الرفض فإن الثورة الشعبية قد اعد لها إعدادا كاملا ولن تقدر حكومة العسكريين على مواجهتها لأكثر من أيام قليلة.   وأن الرسالة طالبتهم بدراسة مفصلة لوضع انتقالي يعقب حكومة العساكر ويعد لقيام حكم ديمقراطي دائم وبذل أقصى الجهد لاتفاق كل المعتقلين على الخطة المقترحة. (أمين، ص 197م).

ثم أرسل الإمام الصديق للسيد الفريق إبراهيم عبود ردا على خطابهم في نفس اليوم (11/7) وجاء فيه: (أؤكد لكم في هذا الخطاب أننا لا نقبل أي تعد على كيان الأنصار بمفهوماته وشعائره المعروفة. إن الجيش الثنائي الذي انبري لكيان الأنصار بقوته وجبروته فأعمل فيه الضرب والهدم والتحريق ما لبث أن وجد أشلاء ذلك الكيان تتجمع مستمدة قوتها من عقيدتها الثورية التي تنطح كل عائق فرأى رجال الحكم الثنائي نشأة الكيان الشهيد مرة أخرى بقيادة الإمام عبد الرحمن الذي دفع بالحكمة والتي هي أحسن حتى أصبحت تلك القوة المعنوية الكامنة سبب الدفع نحو استقلال البلاد والذود عنه. إنني لا أذكر هذا للمفاخرة وإنما أذكره للتأسف على الظروف التي جعلت حكماً وطنياً يعالج الأمور بأساليب الجيش الثنائي، إن نشاط الأنصار وحريتهم لأداء شعائرهم الدينية حقوق وليست منح وأنا ومن معي أمناؤها وحراسها بالمال والنفس والولد.) ورجاهم أين ينظروا في عواقب أعمالهم ويعدلوا. (نص الخطاب الكامل هنا).

سكتت الحكومة على هذا الخطاب وتحفظت في التعرض للأنصار ولكن الدعوة للإضراب لم تنجح إلا في حيز ضيق كما قامت مظاهرات قليلة تحتج على صنيع الحكومة وهذا الموقف لم يكف للتمهيد لعمل إجماعي كبير.

في تلك الظروف كتب الإمام الصديق للأنصار منشورا موجهاً لهم يؤكد فيها أن العنت الذي لاقاه الأنصار على يدي المستعمر من قبل لم يفلح في اجتثاثهم، وأن العنت  الذي يلاقونه اليوم لن يفت من عضدهم. ويوصيهم بالحفاظ على العقيدة والراتب وتنظيم شباب الأنصار(نص المنشور الكامل هنا).

أحداث المولد 21 أغسطس 1961م

صعدت الحكومة من مواجهة الأنصار لاجتثاث المعارضة لها. واستهدفتهم في الاحتفال بالمولد النبوي للعام الهجري 1381هـ ، وكانت لهم خيمتهم المخصصة داخل ميدان مسجد الخليفة أسوة ببقية الطرق والتنظيمات الدينية.  فوضعت خطة لإحاطة قوات الشرطة المسلحة بجماعة الأنصار أثناء تجمعهم في مولد الرسول عليه الصلاة والسلام.

وحالما طوقت الشرطة الجمع، أنذرته بالتفرق ولكن لم تمهله لحظة بل شرعت تصب عليهم وابل الرصاص. فما لاذ الأنصار بالفرار بل واجهوا الرصاص ببسالة وانقضوا على البوليس بما صادفوا من الأخشاب وقواعد المقاعد والسكاكين وقتلوا منهم ثمانية واستشهد من الأنصار اثنا عشر رجلاً وجرح من الطرفين عدد كبير. ثبت الأنصار غير مبالين بعدوهم الذي فاقهم نظاماً وسلاحاً فاجبروه للهروب تاركاً لهم الميدان وتاركاً وراءه ضحاياه وعدداً من الأسلحة النارية فستر الأنصار الضحايا وجمعوا السلاح وسلموه لقيادتهم. وقد شوهد الإمام الصديق في تلك اللحظة وقد هب للمكان وهو يحاول إنقاذ من يمكن إنقاذه من ضحايا الرصاص الغادر.

وفي اليوم التالي اجتمعت جماهير لا حصر لها في بيت الإمام المهدي لتشييع الشهداء فسار وراء نعشهم موكب حاشد قوي متحفز للانتقام. ومرة أخرى رأى الإمام الصديق ألا يطلق للموقف العنان وألا يخوض حرباً أهلية في السودان فأصدر بيانا يؤكد فيه أنهم ماضين للتقاضي في الجريمة قال: (صالحين نشكر الشعب السوداني أجمع لتضامنه معنا في المحنة وعزائه لنا في المصيبة. وإننا نتهم من أمر بتلك المجزرة بالقتل العمد ولدينا الشهود والبينات على كل الحوادث التي ذكرناها ولسنا قضاة فنقرر الحكم في الأمر ولكننا مظاليم وسنقدم شكوانا ودلائلنا للقضاء الذي نأمل أن يوفقه الله لمعرفة الحقيقة ولأخذ الحق لأهله ولعقوبة الظالم بذنبه فلولا القضاء النزيه يكون كل فريق خصماً وحكماً ويضيع العدل وتسود الفوضى. أيها الأحباب كفكفوا دموعكم وضمضموا جراحكم اصبروا وصابروا وأعلموا أن الظلم زاهق وأن العدل لا شك سائد). (نص البيان هنا).

وفاة الإمام الصديق المهدي

كان الإمام الصديق يعلم أن سبل النصح والتفاهم قد وصلت حدودها وأن الحكام قد لعب الغرور بعقولهم فلا يسمعون إلا المنافق ولا يحفلون إلا بعبارات التأييد الزائفة. وكان يدرك أنه والأنصار وراءه متحفزون للانقضاض وسائر السودانيين وراءه علي استعداد للتضحية كان يعلم أنه وتلك الحال في مفترق طرق: إما أن يعلنها ثورة حمراء غايتها النصر وإما أن يلجم المشاعر الثائرة ويكبح جماح المعارضة ابقاءاً على سلامة البلاد ويصبر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وبينما هو يقلب تلك الاحتمالات ويضيق بأمرها صدره ويتدبر أمره ليتخذ الخطوة التي سيتأثر بها مستقبل السودان أجيالاً ـ بينما هو كذلك أصابته ذبحة صدرية في يوم السبت 30/9/1961م توفي إثرها في عصر الاثنين 2/10/1961م.

وأمام الأطباء وكبار الأنصار وقيادات حزب الأمة الموجودين أملى وصيته على السيد الصادق المهدي مركزا فيها على أن مطلب الأمة هو الديمقراطية وإعادة الحريات للبلاد. (نص الوصية هنا).

مواصلة المسيرة : ما بعد أكتوبر 1961م

شكلت وفاة الإمام الصديق كبوة في مسيرة المعارضة لحين من الزمان، ولمواصلة المعارضة بنفس القوة التي قاد بها الجبهة الوطنية المتحدة وتطويرا للشكل التنظيمي اتخذ الحزب عدة تدابير منها:

حسم مسألة القيادة في الكيان

تم الاتفاق على أن يكون السيد الهادي المهدي خليفة الإمام الصديق في خلافة الإمام عبد الرحمن المهدي وأن يكون رئيساً لمجلس للشورى تتكون عضويته من السادة الذين قدموه للبيعة وأن يجري التعامل بين الجميع بأسلوب الشورى وأن توزع الاختصاصات في مجالات العمل المختلفة ليتمكن القائمون بالأمر من حسم قضايا الرأي جماعياً عن طريق الشورى وليتمكنوا من تصريف الشئون المختلفة حسب الاختصاصات المتفق عليها وقد وضعت تلك المبادئ في اتفاقية هي أولى الاتفاقيات بعد وفاة الإمام الصديق.

إطلاق سراح الساسة المعتقلين

في ديسمبر 1961م كان معظم القادة السياسيين (المعتقلين في 11/7/1961م) قد أصيبوا بعلل وأمراض، وقرروا أن يصعدوا المعارضة بالدخول في إضراب عن الطعام، وقد انتهى بإطلاق سراحهم في 28/1/1962م، وحاولت الأحزابالمعارضة الاحتفال بهم ولكن الحكومة منعت الحفل فانصاعوا لها، ذلك أنه وكما قال الدكتور حاج موسى فإن وفاة الإمام الصديق الذي كان يتزعم بحق المعارضة كانت (خسارة فادحة أصابتها بهزة عنيفة أصابتها بهزة عنيفة لازمتها حتى قيام ثورة أكتوبر الخالدة).

خطاب الاستقلال 1962

بعد وفاة الإمام الصديق اتفق الجميع على أن يسيروا في الخط الذي سار فيه واجتمع المجلس الذي يمثل جميع الاتجاهات السياسية وهي: الوطني الاتحادي، الأخوان المسلمون، الشيوعيون، المستقلون، اجتمعوا بالسيد الإمام الهادي وأعضاء مجلس الشورى وهم السادة: عبد الله الفاضل المهدي – يحي المهدي – أحمد المهدي والصادق المهدي. وتدارسوا الأمر وقرروا أن يسير الخط السياسي في اتجاهه دون التواء وكان الاحتفال بالعيد السادس لاستقلال السودان على الأبواب فتقرر أن تحتفل المعارضة احتفالاً كبيراً بذلك العيد وأن يلقي السيد الإمام الهادي خطاباً جامعاً قوياً يؤكد فيه صلابة موقف المعارضة وإدانتها للحكم القائم إدانة شاملة كاملة وناقش المجتمعون الخطوط العريضة للخطاب ثم كونوا لجنة من السادة: محجوب محمد صالح،عثمان خالد ونصر الدين السيد والصادق المهدي لتضع نص الخطاب واجتمع هؤلاء ووضعوا النص للسيد الإمام الهادي في نهاية ديسمبر ليقرأه مساء أول يناير 1962 في احتفال المعارضة بالاستقلال. وفي الاحتفال كان خطاب الإمام الهادي مخفف في معناه ومعارضته، وكان هذا أول الظهور لاختلاف في درجة معارضة النظام العسكري داخل كيان الحزب. بعدها اتضح أن هنالك عدد من كبار الشخصيات في الحزب والكيان ترى تهدئة نفس المعارضة للنظام، في مقابل قسم آخر كان يرى ضرورة الضغط والتصعيد للمعارضة. وقد كان حادث خطاب الاستقلال سبب إضعاف لموقف الجبهة الوطنية في حينها، مما جعل الكثيرين يعتقدون أن وفاة الإمام الصديق شكلت كبوة كبيرة في مسيرة معارضة نظام عبود.

مجلس الإمام الموسع

ولتسوية الخلاف حول الخط السياسي الأفضل اتفق الجميع على أن يتكون مجلس من كبار الأنصار والأصدقاء وأن يكون ذلك المجلس برئاسة الإمام وأن يحسم القضايا الهامة برأي الأغلبية إن اختلفت الآراء وتم تكوين مجلس من السادة الآتية أسماؤهم:

 

  • 1 السيد الإمام الهادي: رئيساً
  • 2 السيد أحمد المهدي.
  • 3 السيد عبد الله نقد الله.
  • 4 السيد النفراوي عثمان.
  • 5 السيد عبد الله ميرغني.
  • 6 السيد حلو موسى.
  • 7 السيد عبد الله المهدي.
  • 8 السيد الصادق المهدي.
  • 9 السيد محمد أحمد محجوب.
  • 10 السيد محمد عبد الرحمن نقد الله.
  • 11 السيد عبد الرحمن النور.
  • 12 السيد كمال عباس.
  • 13 السيد يحي المهدي.
  • 14 السيد الطيب الحلو.
  • 15 السيد أمين التوم.
  • 16 السيد حسن داؤد.
  • 17 السيد زين العابدين حسين.

وتقرر أن يحضر اجتماعات هذا المجلس متى ما حضر للعاصمة زعماء الأنصار في الأقاليم أمثال مصطفى قسم الباري وجيلاني قوته وميرغني حسين زاكي الدين وأحمد محي الدين وغيرهم من الصف الأول من زعماء الأنصار بالأقاليم.

وبعد الاتفاق على كل الموضوعات الهامة دعي الإمام الهادي الأعضاء المذكورين أعلاه إلى اجتماع في بيت المهدي وذلك في سبتمبر 1962م وشرح لهم الفكرة فناقشوها وأيدوها وبعد ذلك اقترح لهم أن يؤدوا القسم على الإلتزام بها والمحافظة على السرية فأدوا جميعاً القسم مرةً واحدة..

هذا المجلس لم تستمر أعماله طويلا. وإن كان عقد عدة اجتماعات سرية للعمل على إحكام الاتصال بجماهير الأنصار والحزب ووضعهم على استعداد لاتصال رفضهم الحكم العسكري، وتنظيم الاتصال ودعمه بعناصر الطلبة والعمال والمزارعين والموظفين والفئات الأخرى للتعبير عن رفض الحكم العسكري، والتنسيق مع الأحزاب السياسية داخل وخارج الجبهة الوطنية المتحدة لمعارضة الدكتاتورية. وقد جابه هذا المجلس معضلة التفرقة بين اختصاصات حزب الأمة وكيان الأنصار، وحدود صلاحيات الإمام في القرارات الحزبية.

مؤتمر الوكلاء بالجزيرة أبا

(مقاطعة انتخابات المجالس المحلية والاتفاق على برنامج المستقبل):

في 18/12/1961م صدر قرارا من المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتكوين لجنة التطورات الدستورية (12 عضوا: 3 من أساتذة الجامعة، ومحام، وصحفي، وجنوبي، وضابط كبير، ورجال الخدمة المدنية الحاليين والسابقين) وقد بدأت أعمالها في 6/1/1962م وقدمت توصياتها التي أدت إلى إجراء تعديلات على قانون الحكومة المحلية لسنة 1951م وصدور قانون المجلس المركزي لسنة 1962م، وقد ضم المجلس المركزي 86 عضوا منهم 14 وزيرا أعضاء بحكم مناصبهم، و54 منخبين بواسطة مجالس المديريات، و18 عضوا معينا. ولكن من بين الأعضاء الـ54، 33 فقط هم الذين اكتسبوا عضوية المجلس بالانتخاب.

عندما أعلن الحكم القائم اتجاهه لإقامة نظام المجلس المركزي وانتخابات المجالس المحلية استطاع قادة المعارضة أن يتفقوا على المقاطعة (ما عدا الحزب الشيوعي الذي قبل خوض تلك الانتخابات). وكتب الإمام الهادي مذكرة قدمها للحكم العسكري نيابة عن الجبهة الوطنية (لقاء صحفي مع السيد الصادق المهدي أجراه محمد المشرف خليفة).

دعى السيد الصادق المهدي إلى مؤتمر عام للوكلاء بالجزيرة أبا بموافقة السيد الإمام الهادي الذي حضر ذلك المؤتمر وافتتحه، وكان مقرر المؤتمر السيد أمين التوم. نظم المؤتمر المقاطعة بعد أن أقر مبدأها ثم بحث مشروع برنامج سياسي يتفق عليه الناس إذا أزالوا الحكم القائم، وبعد مناقشات أجمعوا على برنامج مكون من 14 بند فرأى منظمو المؤتمر أن ذلك البرنامج ذو أهمية قصوى في تجميع المعارضين للنظام القائم حول اتجاهات محددة، ورأوا تقوية قرارات المؤتمر بأن يجتمع الصف الأول للأنصار في الخرطوم وأن يوقعوا عليه كوثيقة تاريخية وكأداة تعبئة. فتم التوقيع في 26 /9/ 1964م. (نص الوثيقة)

الاحتفال بالاستقلال 1964

قررت الجبهة الوطنية أن تحتفل بالاستقلال في أول يناير 1964م كوسيلة للتعبئة ضد النظام. وفي مساء يوم 31/12/1963م أرسلت السلطات خطابا منعت فيه حفل الاستقبال ببيت المهدي بسبب توزيع بطاقات دعوة كما منعت في خطاب سابق أي خطب. اجتمع عدد من قادة الكيان في منتصف ليل ذلك اليوم ورأوا أن يبيت الإمام الهادي خارج بيت المهدي وأن يدعي ممثلو الأنصار صباح يوم 1 يناير وتكون الخطة كالتالي:

  • يحصل تجمع الأنصار في الصباح ويبلغوا بالخطوات التي تمت.
  • يطلب من جميع المدعوين الحضور لمنطقة بودنوباوي.
  • عند حشد الناس إذا اجتمعت جموع كبيرة من الأنصار وغيرهم يذهب الجمع لبيت المهدي وإلا تلقى على الحاضرين كلمة.
  • تتخذ الإجراءات للقيام بالاحتفال في وقت آخر وبأسلوب آخر.

ولكن لم تسر الخطة كما يجب، بل فشل الاحتفال وكل الإجراءات البديلة، وتقرر أن يتخذ الخط المقاوم طابعا آخر، ويسير الخط السياسي في شكل سري. وكتب السيد الصادق المهدي في مذكرة لذلك اليوم (إننا أمام أحد مسلكين غما الموت الأدبي أو العمل الثوري).

وفي هذا الوقت بدأ التنسيق مع العمال والمزارعين والطلبة، وقد كان لكل منهم ملفات ساخنة مع النظام الحاكم.

مسألة الطلبة

دخل الطلبة بجامعة الخرطوم وكذلك جامعة القاهرة فرع الخرطوم في مواجهات مع نظام نوفمبر منذ مذكرتهم في سبتمبر 1959م، وتعرضوا للاعتقالات جراء ذلك، وأضربوا عدة مرات كاحتجاج على الاعتقالات أو بالتضامن مع عمال السكك الحديدية. وفي فبراير 1961م سعى نظام عبود لتعيل قانون الجامعة للقضاء على استقلالها. وفي 8 فبراير 1961م أضرب الطلبة عن الدراسة لمدة يومين رفضا لذلك القانون. ورفع أساتذة الجامعة السودانيين مذكرة للحكومة وأعلن الأساتذة الأجانب كذلك استنكارهم. وكانت الضربة القاضية لاستقلال الجامعة بإصدار مجلس الوزراء في 5/11/1963م قرار بضم الجامعة لوزارة المعارف أسوة بالسابقة المعمول بها بالجمهورية العربية المتحدة حينها. فاحتج الطلبة بمذكرة تاريخية في 8/11/1963م وطالبوا بإنهاء الحكم العسكري، ثم دخلوا في إضراب مفتوج وأطلت انقسامات من بينهم ورجع بعضهم للدراسة. وتقدم مدير الجامعة والأساتذة السودانينون باستقالات مشروطة بحسب قرار الضم، ولم يسحيوها إلا بعد أن توصلت لجنة الوساطة إلى وعد من الحكومة بمراجعة القرار.

وعلى خلفية هذه المنازلات استخدم الطلبة سلاح مهاجمة الحكام وكشف أعمالهم أثناءا لندوات

قيادة الحزب والطلبة

كان بعض قادة الحزب وعلى رأسهم السيد الصادق المهدي على متابعة لصيقة بمراحل مسألة الطلبة، وتصاعد الأحداث داخل الجامعة جراء قرار ضم الجامعة لوزارة المعارف. وبعد قيام الإضراب والانقسامات وسط الطلاب حوله كان رأي الحزب هو ضرورة الحفاظ على وحدة الطلبة فبذلوا مجهودا موحدا منهم ومن قيادة الحزب الشيوعي وقيادة الأخوان المسلمون للعمل على عودة الطلبة، وكذلك ضمان تصرف الإدارة بشكل لا يستفز الطلبة، مع الشروع في ضمان استقلالية الجامعة وقيام مؤتمر وطني لحماية حرية التعليم العالي.  (مذكرة: مراحل مسألة الطلبة).

مسألة المزارعين

أدى سوءا الأحوال الاقتصادية الذي اجتاح منطقة خور القاش في 1960م لتقدم المزارعين بعريضة يطالبون بعديل الشراكة ورفع الحظر عن اتحاد المزارعين وأضربوا لعدم استجابة النظام ثم فاوضتهم وزارة الزراعة وأجابت بعض مطالبهم. أما مزارعي مشروع الجزيرة والمناقل فقد دخلوا في عدة إضرابات كان أنجحها إضراب ديسمبر 1963م وحصلوا على مكاسب شملت مزارعي القطن في جميع أنحاء البلاد بفضل تضامن اتحاد مزارعي القاش ومزارعي جبال النوبة وطوكر معهم.

العمال

تعرضنا آنفا لبعض المواجهات بين الحكم العسكري ونقابة عمال السكة حديد حتى إضرابهم في يوليو 1961م. بعد حوالي عامين قدرت الحكومة أن تستفيد من الخلافات داخل العمال جراء قبول الشيوعيين خوض انتخابات المجلس المركزي لعام 1962م، فدعت إلى مؤتمر عمالي عام يعقد في الخرطوم في يوم الجمعة 16/8/1963م، ولكن العمال تجاوزوا خلافاتهم وأصدروا قرارات جعلت الحكومة تتراجع فأصدرت في نوفمبر 1963م قرارات توافق على إعادة نقابة عمال السكك الحديدية وقيام اتحاد عام للنقابات وتعديل قانون العمل والعمال لسنة 1960م. وتم التمهيد لإجراء انتخابات لنقابة عمال السكة حديد والاتحاد العام.

الجبهة الوطنية والطلبة

في أواخر 1963 وأوائل 1964م جرت عدة اجتماعات للتنسيق بين طلبة جامعة الخرطوم  وبين الجبهة الوطنية (وكان يمثل حزب الأمة فيها السيد الصادق المهدي) وذلك مع عدد من الهيئات، حيث نوقشت قضيتهم، وتم تكوين لجنة لتنسيق مؤتمر للطلبة.  ووضعت لنفسها برنامجا فيه القرارات التالية:

  • تأييد ما تم بالنسبة للطلبة والاشتراك في مؤتمر حماية استقلال الجامعة مع محاولة أن يكسب المؤتمر طابعا ذي رأي وعمل في الحالة العامة.
  • العمل على السيطرة على اتحاد المزارعين وتكوين لجنة اختصاص لدراسة مشاكل المزارعين وتحديد الرأي فيها.
  • بالنسبة للعمال ينظر الأمر الذي يأتون به حسب المعلومات.
  • جمع معلومات عن الحالة المالية وعمل حشد فيها.

كان الاجتماع الثاني للجنة تنسيق مؤتمر طلبة جامعة الخرطوم بتاريخ 29/12/1963م، وفيه تقرر الآتي:

  • مساندة المؤتمر للطلبة في مواقفهم المتعددة من قضية الجامعة
  • جمع المال اللازم لمواجهة التزامات الاتحاد
  • اعتبار قضية الجامعة جزءا من القضية العامة
  • يطلب من كل هيئة التقدم بمقترحات للخطوات التي ترى اتخاذها
  • تكوين لجنة تتولى أعمال المؤتمر
  • تكوين جهاز نشر عاجل يتولى الطلبة والهيئات توزيع نشراته
  • مهمة المؤتمر توسيع القضية إلى ابعد الحدود والعمل على نشرها وتوضيح حقيقة المشكلة لجميع طبقات الشعب
  • دراسة مشروع كتيب بصفة عاجلة يشرح القضية شرحا وافيا
  • دعوة الهيئات ذات الصبغة الرسمية (الأطباء- المحامين- المهندسين- العمال- المزارعين- الخريجين..الخ) لمناقشة الموضوع في جمعياتهم العمومية واتخاذ قرار في الأمر.
  • إصدار بيان من المؤتمر عن القضية ويستمر المؤتمر يعمل بصفة سرية فيا يختص باجتماعاته وأشخاصه على أن تعلن أعماله.
  • ضم الهيئات التي لم تضم للمؤتمر.
  • توجيه نداء من الهيئات لأولياء أمور الطلبة يؤيد موقفهم.

(نقلا عن مذكرات داخلية للسيد الصادق المهدي في أجندة عام 1964م)

لاحقا وفي 26/5/1964م أعلنت نتيجة انتخابات عمال السكة حديد بشكل جعل العمال يرتابوا من حدوث تزوير. كما تم تكوين لجنة تأسيسية أعلنت عن عقد مؤتمر عام للاتحاد العام لنقابات العمال في 15 أغسطس 1964م، ولكن قبل يومين من التاريخ المحدد أصدر وزير الاستعلامات والعمل قرارات توقف المؤتمر وتحل اللجنة التأسيسية للاتحاد وتفيد باستمرار النقابات العمالية القائمة حتى نهاية عام 1965م، وفي نفس اليوم (13/8) اعتقل عدد من قادة العمال. (حاج موسى ص 248- 250).

كل هذه التطورات جعلت الوضع ثائر من جميع جوانبه ومتحفز لدى جميع أطرافه.. في هذا الوقت كان المجتمع السوداني بكل شرائحه برميل بارود متحفز للانفجار مع أول شرارة. وكانت الشرارة متعلقة بالطريقة التي أدارت بها حكومة عبود مسألة الحرب في الجنوب:

مسألة الجنوب

نصت الاتفاقية الأنجلو-مصرية 1953م على إعطاء حق تقرير المصير للسودان على أن يتم عبر الاستفتاء الشعبي. وحينما ناقشت الأحزاب السياسية السودانية إمكانية إعلان الاستقلال بمرسوم برلماني بدلا عن الاستفتاء ساند ممثلو الحزب الليبرالي (حزب الجنوب) هذا التحرك واشترطوا في المقابل أن يعطى الجنوب وضعا فيدراليا في الدستور. وقد تم وعدهم بواسطة حزب الأمة وآخرين باعتبار وضع الجنوب الفدرالي عند كتابة الدستور. ولما وقع انقلاب نوفمبر وضع نهاية لكتابة الدستور ولذلك الوعد، وحل البرلمان وأطاح بالحكومة المنتخبة وحل الأحزاب السياسية، وفي كل هذه المؤسسات كان للجنوب تمثيلا. بعد الانقلاب أسكتت هذه الأصوات.

كذلك كان تكوين المجلس الأعلى للقوات المسلحة –الجسم الحاكم- خاليا من أية مشاركة للجنوبيين الذين اقتصر تمثيلهم على مقعد وزاري واحد–على ضعف المنصب الوزاري في النظم العسكرية- شغله السياسي الجنوبي المخضرم السيد سانتينو دينق.

وفي الجنوب فقد اتخذت سياسة النظام القهرية أبعادا أخرى، حيث قام حاكم الاستوائية (علي بلدو) بتهديد المواطنين بشكل صارخ وعلني، وجرت اعتقالات واسعة منها تلك التي كانت مزمعة في عشية الكريستماس من عام 1960، وهذه السيئة قادت لغيرها، إذ تزايد خروج السياسيين الجنوبيين إلى المنفى وكونوا مع آخرين الاتحاد الوطني السوداني الأفريقي (سانو) اتخذ وسائل سلمية مثل مخاطبة المنظمات الدولية الإقليمية (مثل منظمة الوحدة الأفريقية) والدولية (مثل الأمم المتحدة) بمطالب جنوب السودان، كما تكونت مقاومة مسلحة رفضت الوسائل السلمية هي (أنيانيا). لتبدأ صفحة دامية في صفحات التاريخ السوداني إذ لم يعرف السودان قبلها عنفا بين شطري البلاد إلا تمرد أغسطس 1955م.

في مارس 1963م كان مقررا أن يحضر الجنرال عبود افتتاح منظمة الوحدة الأفريقية بأديس أبابا، وكإجراء لحسن النوايا أعلن العفو عن الفصائل الجنوبية التي كانت في السجن بعد تمرد 1955م، ولم يكن ذلك العفو ضمن سياسة أوسع بل كان حدثا معزولا، إذ اتسمت سياسة النظام تجاه الجنوب بالقمع والحرمان من حقه في التمثيل السياسي، واتخذت سياسة تثاقف متسلطة High-handed acculturation، لذلك لم يكن مستغربا أن تلتحق الفصائل التي أطلق سراحها بأنيانيا، وأن تستعر المقاومة العسكرية.

ومن أخطاء حكم عبود أيضا الموقف الذي اتخذه تجاه التبشير في الجنوب بحيث استبدل اضطهاد الحكم الثنائي للإسلام بالجنوب، باضطهاد مضاد.

لقد اتسم الجنوب بوجود مكثف لبعثات التبشير المسيحية منذ الاستعمار وكان على رأس تلك المؤسسات رجال دين أوربيون، اتهمتهم الطغمة الحاكمة بإغواء ومساعدة المقاومة المسلحة التي تقودها حركة انيانيا فقررت طردهم جماعيا في مارس 1964 م – وحين ازداد الوضع تدهورا لجأت الحكومة لخيارها الوحيد الذي درجت علي اتخاذه : العمل العسكري.

موقف حزب الأمة

قال الدكتور محمد عمر بشير ودوره مشهود في عملية السلام، بعد أن تعرض لرؤى الأحزاب الجنوبية للقضية، قال: ( أما الأحزاب لشمالية فقد كانت تولي اهتمامها وعنايتها لكل ما من شأنه إنهاء الحكم العسكري الديكتاتوري بأكثر من اهتمامها لإيجاد حل سياسي لقضية الجنوب)، ولكنه استثنى الحزب الشيوعي ودعوته لإقامة حكم إقليمي في المديريات الجنوبية، ثم تطرق لمجهودات داخل حزب الأمة، قال: (وعبر الصادق المهدي وهو أحد القادة المرموقين في حزب الأمة، عن رفضه لاستخدام العنف باعتباره الوسيلة الناجعة، مناديا بضرورة الحل السياسي، كما رأى بأنه يجب أن تؤخذ في الاعتبار الفوارق الإقليمية والقبلية بين الجنوب والشمال لدى النظر في تنظيم العلاقة الدستورية بينهما في إطار وحدة القطر).. وأنه (أوصى بالتوسع في تطبيق اللامركزية على جميع مديريات السودان) (بشير، ص 183-184).

وقد أصدر السيد الصادق المهدي آراءه تلك في أبريل 1964 م في كتيب بعنوان ( مسألة جنوب السودان ) أوضح فيه أن المشكلة في جوهرها مشكلة سياسية اقتصادية ثقافية ولا يمكن حلها بأسلوب عسكري، وأنه يجب أن تتم مناقشتها علي نطاق واسع وبحرية تامة لإيجاد حل مناسب لها.

و قد رأت السلطة الحاجة لنقاش واسع للمشكلة و تم تعيين لجنة قومية لتفعل ذلك و سمحوا ببعض إجراءات النقاش الحر حول المشكلة كموضوع قومي.  وكما هو متوقع في مثل هذه الظروف فقد تجاوز النقاش النطاق وعجت الجامعة بتجمعات ومجموعات النقاش وكانت خلاصة الرأي بشأن المشكلة تأييدا لوجهة النظر القائلة باستحالة وخطأ الحل العسكري. واستحالة التوصل إلى حل في غياب الحريات الأساسية.

لقد قادت مشكلة الجنوب إلي النظر إلى المرض لا العرض واتجهت الأبصار إلى المطلب القومي: الديمقراطية.

(نص الكتيب كاملا).

تفجر الثورة

تفاقم الغضب الشعبي ضد نظام عبود وظل الحزب منسقا مع الطلبة والأحزاب الأخرى تجمعهم الجبهة الوطنية، كما مد يده في اللحظة المناسبة لجبهة الهيئات التي كانت تجمع النقابات والتنظيمات اليسارية الثائرة ضد النظام.

تبنى بعض القادة داخل الحزب وعلى رأسهم السيد الصادق المهدي موقف الطلبة المعارض وسعوا للتنسيق معه. وتبنى موقف معارضة القهر والعسف البشع الذي استخدمه النظام لقمع الطلبة.

وخلال العام 1964م نشطت الحركة الفكرية وسط الطلبة وأقيمت في جامعة الخرطوم وحدها 6 ندوات ما بين 10/9 و21/10/1964م، وندوات مماثلة في جامعة القاهرة فرع الخرطوم.

وفي 21 أكتوبر 1964 أقام الطلبة ندوة لمناقشة الأوضاع في الجنوب وكان المتحدث فيها هو الدكتور حسن الترابي وقال فيها رأيا مستمدا من رأي السيد الصادق المهدي بالكتاب المذكور آنفا ومفاده أن مسألة الجنوب لا تحسم بالسلاح، وأنها جزء من قضية الشمال وإشاعة الحريات.

وبالرغم من بعض الخلاف داخل كيان الأنصار بإزاء الثورة والموقف منها إلا أن السيد الصادق المهدي كان حريصا على دعمها وإذكاء فتيلها المشتعل، وفي النهاية أجمع الكل على الموقف الثائر.

أورد السيد أمين التوم في مذكراته أنه في الساعة الثالثة من صباح يوم الثورة طرق باب منزله رسول من الصادق المهدي يحمل ورقة له وأوراقا مماثلة لزملاء آخرين قال السيد أمين التوم رحمه الله أن نص الرسالة كان: (لقد بدأت الثورة الدامية هذا المساء ضد نظام الفريق إبراهيم عبود في جامعة الخرطوم. كان الطلبة يتأهبون للخروج في موكب ضد الحكومة في داخليات الجامعة فباغتهم البوليس المسلح بأسلحة نارية ودخل الطلبة في معركة حامية معه بالحجارة فأطلق البوليس النار عليهم فاستشهد من استشهد منهم ونقل الجرحى من الطلبة إلى المستشفيات. واختتمت الرسالة بدعوة عاجلة لنا لاجتماع بمنزل الإمام الهادي المهدي بأم درمان لمواجهة الموقف والإعداد لكل الاحتمالات في الساعة السادسة من ذلك الصباح.) وفي الاجتماع ذكر السيد الصادق المهدي تفاصيل ما يجري وأوضح أن طلبة جامعة الخرطوم وطلبة جامعة القاهرة بالخرطوم في حالة ثورة شعبية جامحة.

موكب الثورة

اشترك قادة الحزب وجماهيره؛ في موكب تشييع جثمان الشهيد القرشي وأم الصادق المهدي المصلين بميدان عبد المنعم، وقد ذكر خال الشهيد القرشي بمناسبة احتفال حزب الأمة بثورة أكتوبر عام 2004م، أن السيد الصادق المهدي زار أسرتهم ليلا وأبلغهم بضرورة تمسكهم بجثمان الشهيد لكيلا يسلم للسلطات العسكرية، ووقف معهم وقفة صلبة نتج عنها تحول أسرة الشهيد القرشي للانتماء لحزب الأمة منذ يومها. وأصدر بيانا يدعو فيه المواطنين لرفض الحكم العسكري. (نص البيان هنا)

بعد الموكب اتفق قادة الحزب على تسليم مذكرة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة وطالبته  بالرجوع إلى الثكنات بعد أن عددت الأخطاء الشنيعة المرتكبة في حق الطلبة وإهدار دمائهم. وتم تسليم المذكرة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة صباح السبت 23 أكتوبر 1964م.  (نص المذكرة هنا). في ذلك الوقت أرسل زعماء حزب الشعب الديمقراطي التابع للختمية مذكرة كرام المواطنين التي وقفت إلى جانب الحكم العسكري.

في صباح السبت 23/10 اتجه موكب مندوبي الإمام للقصر الجمهوري بالسبت، ورفض الفريق عبود استقبالهم في البدء، وبعد مناقشة حامية دخل عليه اثنان من الأعضاء (عبد الكريم محمد وعبد الله نقد الله) وسلماه المذكرة. وفي بيت الأمة بأم درمان وصل مندوبان من جبهة الهيئات هما حسن الترابي وأحمد عبد الحليم ونقلا خبر أن موكب جبهة الهيئات أعلن الإضراب السياسي، فرأت الجبهة الوطنية تأييد هذه الخطوة. ودعموها حتى نجح الإضراب بشكل تام.

اتصل قادة الجبهة الوطنية من بيت الإمام المهدي بجبهة الهيئات (هيئات القضاة والمحامين والأساتذة وغيرهم وكان مقرها جامعة الخرطوم) وهي تعد لتسيير ذلك الموكب وتقديم مذكرة، مطالبين بالتنسيق بين جبهة الهيئات والجبهة الوطنية. ولم يستجب قادة جبهة الهيئات في البداية، حتى اعترف الحكم العسكري بالجبهة الوطنية المتحدة فقط واستعد للتفاوض معها، حينها استجابت جبهة الهيئات لطلب الانضمام للجبهة الوطنية المتحدة في جبهة موحدة.

وفي منتصف نهار الاثنين 26 أكتوبر عقد مجلس الوزراء اجتماعا طويلا استعرض فيه الموقف ولاحظ البيانات المقدمة من جميع المواطنين والهيئات على مختلف اتجاهاتهم: بدءا بمذكرة الإمام الهادي (23 أكتوبر)، فبرقية السيد إسماعيل الأزهري (23 أكتوبر)، وبيان استقالات أساتذة جامعة الخرطوم (23 أكتوبر)، ثم مذكرتهم السياسية (24 أكتوبر)، وبيان السيد علي الميرغني (24 أكتوبر) ومذكرة القضاة والمحامين (24 أكتوبر)، وهكذا.. وقرر الاجتماع أن يستدعي المجلس المركزي للانعقاد. ولكن بعد ذلك أعاد الرئيس عبود والضباط في المجلس الأعلى للقوات المسلحة النظر في المسألة وقرروا حل المجلس الأعلى ومجلس الوزراء وتكوين حكومة انتقالية تشرف على التحول الديمقراطي. وقرروا الاتصال بالجبهة الوطنية للتفاوض حول الأمر.

ظل حزب الأمة ضمن الجبهة الوطنية الديمقراطية يقود المعارضة من بيت المهدي حتى يوم الاثنين 26 أكتوبر، وانضمت إليهم جبهة الهيئات وتكونت الجبهة الموحدة لقيادة المفاوضات مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة.  وقد حضر لبيت المهدي اللواء عوض عبد الرحمن واللواء الطاهر عبد الرحمن كموفدين من قبل الرئيس عبود للتفاوض وكونت الجبهة وفدا من السادة الصادق المهدي ومبارك زروق وحسن الترابي وأحمد السيد حمد وعابدين إسماعيل للتفاوض مع الحكومة في القصر.

وفي صباح الأربعاء 28 أكتوبر توجه وفد التفاوض من الجبهة الموحدة للقصر الجمهوري واجتمعوا مع عبود وقدموا له مسودة الميثاق الوطني ونقلوا له رأي الجبهة وهو تصفية الحكم العسكري فورا وتشكيل حكومة مدنية انتقالية تعمل بمقتضى الدستور المؤقت. طلب الرئيس عبود من المفاوضين أن يعطوه فرصة لمراجعة الدستور المؤقت، فرفعت الجلسة ثم أعقبها تطور مفاجئ بعودة الرصاص مرة أخرى للشارع، واتصل السيد الصادق المهدي فورا باللواء الطاهر عبد الرحمن سائلا له عن هذه الردة فضرب معه موعدا ولكن هذه المرة في رئاسة القوات المسلحة وليس القصر الجمهوري. قررت الجبهة الموحدة أن يذهب في الموعد المضروب وفد التفاوض كله فتم التفاوض هناك على شكل الحكومة الانتقالية، وإجراءات تسليم السلطة للشعب.

خلاصة

لقد راهن الحزب على موكب التشييع الذي كان شرارة الثورة، وكان هو الذي كتب مسودة ميثاق أكتوبر الذي وقعت عليه كافة القوى السياسية. كما كان يقود الجبهة الوطنية المتحدة من دار الأمة وقاد كذلك الجبهة الموحدة بينها وبين جبهة الهيئات. (نص الميثاق الوطني هنا).

هذه الأحداث تؤكد أنه عندما اندلعت ثورة أكتوبر 1964م كان لعناصر جديدة في الحزب دورا هاما فيها. وكانت ثورة أكتوبر 1964م مفصل انتقال القيادة في الشأن العام من الجيل المؤسس للدولة الوطنية المستقلة لجيل جديد.

 

مراجع:

  1. الصادق المهدي: مطلب الأمة: جهاد في سبيل الديمقراطية- 1965م
  2. فيصل عبد الرحمن علي طه الحركة السياسية السودانية والصراع المصري البريطاني 1936-1953م– دار الأمين- القاهرة- 1998م
  3. عبد القادر إسماعيل مشكلة جنوب السودان: دراسة لدور الأحزاب السياسية القاهرة- مطابع الفتح- الدقي- 1992م
  4. د. إبراهيم محمد حاج موسى التجربة الديمقراطية وتطور نظم الحكم في السودان
  5. أمين التوم: ذكريات ومواقف.
  6. محمد عمر بشير: تاريخ الحركة الوطنية في السودان 1900-1969- المطبوعات العربية- 1987م.
  7. محمد عمر بشيرمشكلة جنوب السودان
  8. صحف النيل- الرأي العام- والصحافة في الفترة 21 أكتوبر وحتى ديسمبر 1964، والفترة 21-22 أكتوبر 1965م.