النزاعات داخل الأحزاب- حالة حزب الأمة، دكتور الفاتح عبد الله عبد السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

 

النزاعات داخل الأحزاب: حالة حزب الأمة

 

بحث كتبه:د. الفاتح عبد الله عبد السلام

 

ترجمة: د. عبد الرحمن الغالي

 

شهد حزب الأمة بين عامي 1950 و1969 ثلاثة نزاعات داخله شقت وحدة صفوفه. الغرض من هذا البحث هو تشريح كل من تلك النزاعات،وإلقاء الضوء على خلفيتها التاريخية وتطورها وتشعباتها ومآلاتها.وسنأخذ هذه النزاعات حسب الترتيب الزمني،ذلك أن النزاعين الثاني والثالث- على الأقل-يمكن ردهما لأسباب متشابهة.

النزاع الأول: بروز الحزب الجمهوري الاشتراكي 1951:

في عام 1950 التقى محمد صلاح الدين وزير الخارجية المصري بايرنست بيفن رئيس الوزراء البريطاني بلندن وبدءا مباحثات لتسوية نزاعاتهما بما في ذلك المسألة السودانية.

ولدت الذكريات المرة لبروتوكول صدقي- بيفن 1946 هواجس لدى قيادة حزب الأمة فأوجست خيفة من المحادثات المصرية البريطانية بلندن.خشي السيد عبد الرحمن المهدي راعي الحزب من قرب توقيع اتفاق شبيه ببروتوكول صدقي-بيفن.ومن منظور حزب الأمة فان لمثل هذا الاحتمال -إذا تحقق- أثرا مدمرا على القوى الاستقلالية التي يشكل الحزب جزءا لا يتجزأ منها.

ونتيجة لذلك سارت قيادة حزب الأمة والإدارة البريطانية على طريق الصدام بعد أن كانا يعتبران حليفين حميمين.

قدم نواب الحزب في الجمعية التشريعية اقتراحا في أواخر عام 1950 يطالبون فيه بمنح السودان الحكم الذاتي.[1] وكما هو متوقع فقد سبب الاقتراح الذي قدمه حزب الأمة انزعاجا شديدا داخل دوائر سلطات الحكم الثنائي.شعرت القاهرة بأن ذلك الاقتراح لو استطاع الحصول على أصوات كافية داخل الجمعية فانه سيضر بوقف مصر في السودان والقائم على وحدة وادي النيل.وكخطوة أولى طلب رئيس الوزراء المصري مصطفى النحاس من الحاكم العام البريطاني في السودان منع الجمعية التشريعية من مناقشة الاقتراح وفي نفس الوقت أبرق محمد صلاح الدين في لندن لممارسة الضغط على الحكومة البريطانية لإجهاض احتمال أتعلان استقلال السودان من طرف واحد.

كان للحكومة البريطانية أسبابها الخاصة للنظر لاقتراح حزب الأمة كاقتراح خاطئ،ونتيجة لذلك وجه الحاكم العام في الخرطوم بألا تجيز الجمعية التشريعية الاقتراح.

تبنت الإدارة البريطانية هذه السياسة للأسباب الآتية:

1)         لبريطانيا مصالح سياسية واستراتيجية حيوية في مصر وقد شعرت بريطانيا بأن أية خطوة تضر بالمصالح المصرية في السودان ستصيب المصالح البريطانية بالضرر لا سيما التسهيلات العسكرية في منطقة السويس.

2)         شعرت الحكومة البريطانية أن السودان لم يكن مستعدا للحكم الذاتي.

3)         شعرت الحكومة البريطانية بالإساءة من اقتراح حزب الأمة لأنه قدم باستعجال دون تشاور مسبق مع الإدارة البريطانية.

4)         قدرت الإدارة البريطانية محقة أن الجمعية التشريعية –بالرغم من أنها صنعتها- لا تمثل كل الشعب السوداني لأن الأمم المتحدة قاطعتها.@.

أعقب ذلك صراع مرير داخل الجمعية التشريعية بين الأعضاء البريطانيين ونواب حزب الأمة.كان الفريق الأول يحاول إثناء الفريق الثاني عن تأييد الاقتراح،ونتيجة لذلك بلغت العلاقة بين الأمة والبريطانيين الحضيض.

في أثناء المناكفة طلب السير ج.روبرسون –السكرتير الإداري- مهلة للجمعية كسبا للوقت حتى تهدأ العواطف ،ولكن ذلك الأسلوب لم ينجح فكان لابد من نهج مباشر لإحباط خطط حزب الأمة،فقدم يوسف العجب الزعيم القبلي من منطقة الدندر اقتراحا مضادا لاقتراح حزب الأمة.[2] سبب الاقتراح والاقتراح المضاد شرخا عميقا بين حزب الأمة والإدارة البريطانية.فبالنسبة للبريطانيين لم يعد حزب الأمة حليفا يعتمد عليه.بلغ ذلك التصعيد ذروته حينما حاز اقتراح حزب الأمة على أغلبية ضئيلة بلغت 39 مقابل 38 صوتا.

لما اكتشفت الإدارة البريطانية أن حزب الأمة لم يعد من الممكن شكمه شجعت-بكتمان- إنشاء حزب جديد موال للخط البريطاني ومعاد لميول حزب الأمة.تكون الحزب الجديد-الذي حمل اسم الحزب الجمهوري الاشتراكي- بصورة أساسية من زعماء القبائل في الجمعية التشريعية وعدد من كبار موظفي الخدمة المدنية.ومما شجع على استقطاب الفئتين تخوفهما من هيمنة أبناء المهدية.

اختار الحزب الجمهوري الاشتراكي إبراهيم بدري كأول رئيس له،وكان من أبرز قياداته، القادة القبليون:يوسف العجب،إبراهيم موسى مادبو،أبو سن.كانت أصداء إنشاء الحزب السياسي الجديد وسط الأحزاب الأخرى مدهشة:فإذا رأى حزب الأمة والمجموعات الاتحادية أي موضوع يستحق النظر فهو اعتقادهم الراسخ بأن الحزب الجمهوري الاشتراكي تم إنشاؤه بتحريض من الإدارة البريطانية.

وتتضح حقيقة أن الحزب الجديد كان يهدف لتحطيم المكاسب السياسية للسيد عبد الرحمن المهدي من اسمه،:الاشتراكي:لإحراج المهدي بتصويره كلورد إقطاعي تعمل في مؤسساته الاقتصادية جماهير الأنصار بدون أجر.والجمهوري: لمعارضة الفكرة الشائعة في ذلك الوقت بأن حزب الأمة يسعى لتتويج راعيه ملكا على السودان عقب استقلاله.ومن السخرية أننا نلاحظ أن مؤسسي الحزب الجمهوري الاشتراكي- وهم في غالبيتهم إما زعماء قبائل أو من كبار الموظفين البيروقراطيين-ليست لهم اتجاهات اشتراكية ولا جمهورية.

كان طبيعيا أن يتعرض الحزب الجديد لستار كثيف من الدعاية من قبل حزب الأمة لأن قاعدة الولاء السياسي لأعضائه كانت في الغالب من حزب الأمة الذين تم استقطابهم تحت ترغيب وضغط السلطات البريطانية للالتحاق بالحزب الجديد.وهناك مثال توضيحي لذلك وهو حالة بابو نمر ناظر قبيلة المسيرية بكردفان،فقد كان أنصاريا راسخا وكان متزوجا من حفيدة السيد عبد الرحمن المهدي.كانت نظارته مكونة من ثلاث وحدات: الزرق،الفلايتة والعجايرة.لعب البريطانيون بمهارة على هذا الخلل وذلك بتهديدهم بإعطاء المسيرية الزرق والفلايتة وضعا مستقلا يتم به تفتيت نظارة نمر إذا لم يذعن وينضم لصفوف الحزب الجمهوري الاشتراكي. واجه نمر خيارين صعبين ولكن السيد عبد الرحمن أنقذه من الحرج حينما نصحه بالانضمام للحزب الجمهوري الاشتراكي ليحفظ وحدة نظارته.

كذلك وقع السيد عبد الجبار حسين زاكي الدين ناظر قبيلة البديرية بكردفان تحت نفس الضغوط من قبل حاكم كردفان ومعتمد المحلية.ولكن وضع زاكي الدين لم يكن مهددا كوضع نمر.نجح زاكي الدين في مقاومة الضغوط البريطانية لإلحاقه بالحزب الجمهوري الاشتراكي.[3]

لم يتصل البريطانيون الرسميون مباشرة بالأمين علي عيسى ناظر قبيلة الأجانق بالدلنج في جنوب كردفان كما هو الحال في المثالين السابقين(نمر وزاكي الدين)،بدلا عن ذلك اتصل به النظار: أبو سن ومحمد تمساح وبابو نمر وأوضحوا له أهداف الحزب الجمهوري الاشتراكي وهي بصورة أساسية منع السيد عبد الرحمن المهدي من أن يصبح ملكا على السودان.بعد أن انخرط الناظر عيسى في الحزب الجمهوري الاشتراكي تمت مكافأته بمنحه رتبة “سير” في الإمبراطورية البريطانية.وعلى كل فقد رجع إلى حزب الأمة بعد الانتخابات البرلمانية في عام 1953.[4]

وعكسا للآمال العراض للإدارة البريطانية بأن يخرج الحزب الجمهوري الاشتراكي منتصرا من انتخابات 1953 فقد مني الحزب بهزيمة صاعقة:إذ كسب فقط ثلاثة مقاعد في مجلس النواب ولم يكسب أي مقعد في مجلس الشيوخ.كان ثلاثة الفائزين بلا استثناء زعماء قبائل[5].هذه الحقيقة تعطي دليلا ماديا على أنهم إنما فازوا نتيجة للولاء القبلي أكثر من الولاء للحزب.

بعد هذا الأداء الضعيف تقلص الحزب واختار كثير من أعضائه الرجوع لقواعدهم الأصلية مرة أخرى.

أما بالنسبة لتأثير إنشاء الحزب الجمهوري الاشتراكي على حزب الأمة فإننا نعتقد بأنه تأثير ضعيف.وفي الحقيقة فان اثنين من المقاعد الثلاثة التي كسبها الحزب لم تكن مناطق نفوذ تقليدي لحزب الأمة.[6] الخسارة الكبيرة لحزب الأمة في انتخابات 1953 يمكن عزوها لعوامل مختلفة تماما ولا علاقة لها بظهور الحزب الجمهوري الاشتراكي.وفي حقيقة الأمر يمكننا أن نجرؤ ونقول بأن محاولة البريطانيين “لتأديب” حزب الأمة قد جاءت بنتيجة عكسية تماما حيث قوت صفوف الحزب الذي أحست قيادته بضرورة مقاومة محاولات التفتيت بل والقضاء التام.

النزاع الثاني:حزب التحرير الوطني1957:

 

هذا النزاع كان أصغر حجما من الأول.وكسابقه فقد تمت هندسته بواسطة قوة أجنبية هذه المرة كانت مصر.

حدث هذا النزاع بعد أشهر قليلة من لقاء السيدين التاريخي:السيد عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني في1956.نتج عن تخفيف التوتر بين الأنصار والختمية إزاحة الحزب الوطني الاتحادي بقيادة الأزهري من الحكومة وتكوين ائتلاف جديد بين حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي.

وتعزى الطبيعة المحدودة لهذا النزاع لحقيقة أن المحرضين عليه هم عدد من أسرة الخليفة عبد الله يساندهم جزء صغير أقربائهم من قبيلة التعايشة.

ترجع جذور هذا الانشقاق للقرن التاسع عشر.فقد خلفت الوفاة المفاجئة لمحمد أحمد المهدي في 1885 توترا بين الخليفة عبد الله وتحالف قبائل غرب السودان من جهة،والأشراف أو أقرباء المهدي والعناصر النيلية من جهة أخرى.فقد الأشراف -الذين يطالبون بمكانة مميزة- مواقعهم للبدو من أهل الغرب.لقد شكك الأشراف في شرعية حكم الخليفة عبد الله من الناحية الدينية على أساس أن بركة المهدي تنتقل فقط عبر ذريته.قاد الخليفة شريف-قريب المهدي الشاب- التمرد ضد سلطة الخليفة عبد الله.كان نتيجة هذه المكائد والمكائد المضادة انتصار حاسم للخليفة عبد الله وحلفائه من قبائل الغرب.

ومهما يكن من أمر فمع بروز المهدية الجديدة المبتدئة في العشرينيات (من القرن العشرين) برز السيد عبد الرحمن ساطعا قويا بلا منافس وبجموع الأنصار موحدة ومسلمة بقيادته.أبعد أبناء الخليفة النافذون في السابق إلى الخلف. وكان الكبار منهم (مثل عمر) قد تلقوا تعليمهم بمصر وتأثروا عميقا بالأفكار السياسية المصرية بما فيها تلك المتعلقة بوحدة وادي النيل.نجح عمر في استمالة بعض إخوانه وأقربائه من المعسكر الاستقلالي الذي يقوده السيد عبد الرحمن المهدي.لم يضيع البريطانيون هذه الفرصة فقد شجعوا اتجاه تفتيت الحركة المهدية بتشجيعهم انقسامها لعدة معسكرات.شعر أبناء الخليفة بمرارة شديدة ذلك أن السيد عبد الرحمن بدأ يحيط نفسه بمعاونين ومستشارين ليسوا من خلفيات أنصارية.ولد هذا الأمر أزمة ثقة بين بيوت القيادات الأنصارية.فقد شعر أبناء الخليفة بأن “العناصر الدخيلة” أزاحتهم من مواقعهم ” الطبيعية” في قيادة حركة المهدية الجديدة.[7] اعتقد أبناء الخليفة بأن دورهم في فترة المهدية الجديدة يجب أن يتناسب مع دور الخليفة أثناء المهدية.لما تم تكوين حزب الأمة في منتصف الأربعينيات قاطعه بعض أبناء الخليفة ورفضوا الانضمام إلى صفوفه.وفي انتخابات 1953 سمى حزب الأمة بعض أعضائه القياديين لخوض الانتخابات في مناطق كردفان ودارفور الريفية.علق أحد أحفاد الخليفة(محمد داؤود):

(اعترضنا على اتجاه استيراد النواب من الخرطوم فحينما يحملهم رجالنا المخلصون إلى البرلمان ينسون ذلك التفويض وينسون مسؤولياتهم تجاه دوائرهم الانتخابية.)[8]

شعر الفصيل المتمرد من أسرة الخليفة بواجبه في تحرير مواطنيهم في غرب السودان من ربقة تسلط المهدية ولذلك جاء اسم حزبهم الجديد:”حزب التحرير الوطني”.ولإظهار علاقة الحاضر بالماضي استخدموا الراية الزرقاء:راية الخليفة شعارا لهم.وأشار بعضهم لحزبهم الجديد باسم “حزب الأمة الحق”بمعنى الأصلي أو الحقيقي،ربما في إشارة لأن حزب التحرير هو الممثل الحقيقي للأنصار.

استقال محمد داؤود الخليفة وعبد الله الأمير إسماعيل من وظائفهما الحكومية ووجها جهودهما لسكرتارية الحزب الجديد.اتصل بهما السيد عبد الرحمن (روى محمد داؤود):

(تداولنا معه لشرح أهداف حزبنا ولكنه لم يقتنع وطلب منا حل الحزب وتوحيد الجهود مع حزب الأمة فوصلنا لطريق مسدود)[9].وفي محاولة للحفاظ على وحدة حزب الأمة استخدم السيد عبد الرحمن سياسة الجزرة والعصا.والقصة التالية مثال على هذا النهج(روى محمد داؤود):

(استدعى السيد عبد الرحمن ابن أخته السيد محمد الخليفة عبد الله للجزيرة أبا.وقد رافقته إلى أبا للتفاكر مع الإمام.استقبلنا الإمام بحفاوة ولم يضيع زمنا في مخاطبة ابن أخته:يابني إذا كنت تريد مالا فسأعطيك ما تحتاجه،وإذا كنت تريد وظيفة جيدة فسأجدها لك بشرط واحد ألا تنشق عن حزب الأمة ولكن السيد محمد رفض كل عروض خاله)[10]

ولما لم تثمر أساليب الإقناع هذه اتجه السيد عبد الرحمن لحلول أكثر عملية للحفاظ على حزبه من التفتت.ولما أصبح معلوما أن محمد الخليفة عبد الله سيخوض الانتخابات في دائرة كوستي الجنوبية تحت مظلة حزب التحرير الوطني،أمر السيد عبد الرحمن ابنه الهادي بمنافسة محمد في نفس الدائرة.نجح الهادي في إحراز نصر زلزالي على ابن عمته.كما عانى كل مرشحي حزب التحرير الوطني من نفس الهزائم الساحقة في انتخابات57/1958 فاقدين حتى أقاصي أقاليم الغرب وسط أهليهم.صوت أعضاء قبيلة التعايشة بأغلبية ساحقة لمرشحي السيد عبد الرحمن لارتباطهم معه بالبيعة.بالإضافة للبيعة أصدر السيد عبد الرحمن إعلانا في عام 1958 فضح فيه العناصر التي خرجت من حزب الأمة ووصمهم بالخيانة لفشلهم في الوفاء ببيعتهم.[11]

بعد لقاء السيدين وائتلاف حزب الشعب الديمقراطي وحزب الأمة وجد الحزب الوطني الاتحادي في حزب التحرير الوطني وفي الجبهة المعادية للاستعمار حلفاء ممتازين.

علق أحد التنفيذيين في حزب التحرير الوطني قائلا:

(في أثناء الانتخابات العامة نسقنا مع حسين الشريف الهندي-من الوطني الاتحادي- وأحمد سليمان من الجبهة المعادية للاستعمار.[12]

كان لكثير من قيادات حزب الأمة اعتقاد راسخ بأن حزب التحرير الوطني تكون بتحريض من مصر لتفتيت وحدة حزب الأمة وأن مصر دعمت الحزب ماديا ومعنويا.[13]كسبت هذه التهمة رواجا لأن زعيم الحزب:عمر الخليفة تلقى تعليمه في مصر وكان مخلصا في دعمه لمبادئ وحدة وادي النيل.

وحينما نسترجع الماضي يمكننا أن ندرك أن هناك عاملين ساهما في إضعاف حزب التحرير الوطني،الأول:أن الأنصار كانوا مربوطين ببيعة لإمامهم لا تنكث.وحينما ووجه بعضهم بأن يختاروا بين التصويت للإمام عبد الرحمن أو لأسرة الخليفة فانهم لم يترددوا في منح أصواتهم للإمام.العامل الثاني: لم ينضم كل أبناء الخليفة لحزب التحرير الوطني وفي الحقيقة فان نسبة مقدرة من الأسرة تحت قيادة محمد المهدي الخليفة بقيت على ولائها للسيد عبد الرحمن.

لم يعمر حزب التحرير طويلا فقد وضعت انتخابات 57/1958 حدا لأهدافه ومقاصده.

وبعد وفاة السيد عبد الرحمن في1959 خلفه ابنه الأكبر الصديق إماما.وفي مواجهة الطغمة العسكرية القاسية رفع الإمام الجديد راية المصالحة فاستجاب ابن الخليفة للنداء ورجع والتحق بحزب الأمة.

النزاع الثالث:نزاع الإمام-الصادق:

 

كانت لهذا النزاع من حيث الاتساع ومن حيث المدى الزمني آثار أعمق من النزاعين السابقين،ومن حيث تشعباته السياسية فقد كان أكثر ضررا منهما.وبالالتزام الصارم بالتسلسل الزمني يمكن أن نتتبع بداياته منذ مطلع الستينيات، تحديدا منذ وفاة الإمام الصديق المهدي في أكتوبر1961.يجب أن نذكر أن الصديق كوالده جمع بين الصلاحيات الدينية والسياسية.وقبل وفاته عين الصديق لجنة خماسية سماها “مجلس الوصية”.[14]كان الهدف من هذا الجسم –وهو ترتيب مؤقت- هو إعطاء قيادة جماعية لإدارة الشؤون السياسية والدينية للطائفة حتى يتم انتخاب قائد جديد.حدث الانقسام الأول مباشرة بعد دفن الإمام الصديق المهدي حينما برز عبد الله الفاضل المهدي ليخبر المشيعين بأن مجلس الوصية اختار بالإجماع الهادي المهدي إماما جديدا للأنصار.[15]

لم يكن أمام أعضاء المجلس خيار سوى إقرار ذلك الترشيح على الأقل لأن الوقت لم يكن ملائما لأي خلاف.كان بعض الناس يعتقدون أن الإمامة يجب أن تكون للصادق المهدي لأنه أكبر أبناء الإمام الراحل.ولإنصافه فان الصادق لم يضع ذلك الأمر أبدا كأحد عوامل صراعه اللاحق مع عمه الإمام الهادي المهدي.

وحد الحزب الوطني الاتحادي وحزب الأمة وجبهة الميثاق الإسلامي والحزب الشيوعي السوداني والمستقلون جهودهم في معارضة دكتاتورية إبراهيم عبود العسكرية تحت قيادة الصادق المهدي.التقت هذه الجبهة الموحدة مع الإمام الجديد الذي وعد باتباع خط سلفه.ومع اقتراب الذكرى السادسة للاستقلال قرر الجمع تضييق الخناق على نظام عبود،وكجزء من تلك الاستراتيجية اتفق على أن يلقي الإمام الهادي خطابا قويا في حشد عام تنظمه المعارضة.تم تسمية لجنة فرعية لإعداد مسودة الخطاب.[16]وسلمت نسخة من المسودة للإمام الهادي بنهاية ديسمبر 1961.وفي اليوم الموعود أصيب الجمع الغفير بخيبة أمل حينما غير الإمام الهادي كلمات الخطاب وقرأ بدلا عنها خطابا مختلفا كليا ذا نبرة تصالحية.وبمثلما ولد خطاب الاستقلال ارتياحا في الدوائر الحاكمة،سبب غضبا في معسكر المعارضة وحرجا للصادق المهدي.وفي نفس المساء اجتمع قادة المعارضة في منزل ميرغني حمزة وطلبوا من الصادق تبريرا لتصرف الإمام،لم يستطع الصادق تبرير مسلك عمه.

تركت حادثة الاستقلال أثرين بعيدي المدى:

1-   فقد دشنت بداية تفكك المعارضة وهي العملية التي بلغت حضيضها في عامي 1962و1963.

2-   وفيما يتعلق بحزب الأمة فقد بلورت الحادثة الخلاف بين الصادق والهادي.وبالرغم من أن الشرخ بقي صامتا وخلف الكواليس إلا انه كان يضطرم تحت السطح.

ولاحتواء أية تطورات مستقبلية للانقسام تمت الدعوة لاجتماع كبار عائلة المهدي.انعقد الاجتماع برئاسة الإمام.وصل الاجتماع لمعادلة كان جزءا منها إنشاء مجلس عال ليكون أعلى سلطة في الحركة المهدية.[17]رفض الإمام تلك المعادلة ربما لأن المجلس العالي المقترح سيقتطع من صلاحياته.أصبح واضحا أن الإمام لا يحتمل أي منافسين.شكل هذا الموضوع الخلفية لجولة جديدة من الصراع بين المعسكرين.

وعلى الرغم من خلافاتهما اتفق الإمام والصادق على عدد من القضايا الأساسية،على سبيل المثال:اتفقا على دعم فكرة عقد مؤتمر بالجزيرة أبا يحضره كل أعيان الأنصار لبحث طرق ووسائل مقاطعة انتخابات المجلس المركزي الذي اقترحه نظام عبود في 1963 بحثا عن الشرعية.انعقد الاجتماع وبعد ثلاثة أيام من المداولات أجاز بروتوكولا من 14 نقطة تم اعلانه في 26 أغسطس 1964.[18]كان الانطباع الأول الذي يخرج به المرء من اعلان أبا أنه مثل ثورة حقيقية في تاريخ الحزب:خطوة الحزب التدريجية نحو علمنة ودمقرطة عملية اتخاذ القرار داخل أجهزة الحزب.

حمل الإعلان بصمات الصادق المهدي وأعضاء آخرون داعون لعلمنة الحزب الذين شكلوا كتلة صماء خلفه.ومع ذلك لم تهدأ حدة النزاعات الداخلية في الطائفة فقد زادها اعلان أبا وقودا.وبنهاية سبتمبر 1964 دعا عبد الله الفاضل المهدي لاجتماع مصالحة.أرسل اجتماع أعيان أسرة المهدي مذكرة للإمام بتاريخ 6 أكتوبر 1964.شددت “مذكرة أكتوبر” وهو الاسم الذي أصبحت تعرف به، على فصل الأبعاد السياسية والدينية في الطائفة حفاظا على قداسة وطهارة الإمامة فوق مشاحنات الساحة السياسية السودانية،[19]* ولكن الإمام رفض المذكرة بلا مبالاة واعتبرها تزييفا أجوف ورفض الرد عليها.

احتفظ الصادق بهدوئه ووجه طاقاته نحو القضايا القومية الملحة فعلى سبيل المثال:كتب في أبريل 1964 كتاب ” مسألة جنوب السودان”دعا فيه لحل سلمي سياسي للمشكلة،وفي نفس الاتجاه وثق علاقاته مع اتحاد طلاب جامعة الخرطوم ومع قطاعات المثقفين الذين ناصبوا النظام العسكري العداء.وحينما تفجر الوضع عشية 21 أكتوبر 1964 أصدر الصادق خطابه الشهير”رسالة للمواطن السوداني” والذي دعا فيه الأمة للثورة على الحكومة العسكرية.أصبحت “رسالة للمواطن” مثار خلاف بين الدوائر الأكثر محافظة في الطائفة بقيادة الإمام والعناصر الأكثر ليبرالية بقيادة الصادق.اعترض الأول عليها بحجة أنها استفزاز لا داعي له للسلطات.رفض الأخير ذلك المنطق واختار المشاركة في الانتفاضة الشعبية التي أجبرت الطغمة على التنحي بعد أربعة أيام.

 

 

فترة ما بعد ثورة أكتوبر وتزايد الخلاف:

في أعقاب ثورة أكتوبر أنعش الصادق اعلان أبا لا سيما النص الذي يدعو الأحزاب والمجموعات السودانية للتوحد في جبهة عريضة لحكم البلاد.وعل كل حال فقد رفضت تلك المجموعات المقترح وفضلت عليه النظام الحزبي التعددي الذي كان سائدا قبل نوفمبر1958. بعد ذلك شرع الصادق ” في إصلاح حزبنا حينما فشلنا في إقناع الآخرين في إجراء إصلاح قومي عام”.[20]

نادت الإصلاحات المقترحة في حزب الأمة بليبرالية وديمقراطية الأجهزة ودعت ضمن أشياء أخرى إلى تغيير اسم الحزب وتنظيمه وبرامجه واستراتيجياته لتتماشى مع فترة ما بعد ثورة أكتوبر والتي جلبت معها تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية عنيفة.عبر هذه الوسائل المقترحة أراد الصادق جذب وجوه وقوى جديدة لحزب الأمة. وكما كان متوقعا فقد اعترض متشددو الحركة الذين يقفون خلف الإمام على هذه الإجراءات.قبل الصادق عدم تغيير الاسم ولكنه أصر على المواضيع الأساسية:”اللبرلة والدمقرطة”.ولإجازة مقترحات الصادق دعا الإمام قادة الطائفة لحضور اجتماع أصر فيه على أن منصب رئيس الحزب والأمين العام يجب أن يحددهما راعي الحزب أي الإمام.أصر الصادق وأغلبية الذين حضروا الاجتماع على أن مناصب الحزب القيادية بالإضافة للمكتب السياسي يجب اختيارها ديمقراطيا بواسطة أجهزة الحزب العليا:الجمعية العامة.ازداد التوتر حول هذه المسألة ولكن في اللحظات الأخيرة تم التوصل لاتفاق يتم بموجبه كتابة دستور جديد للحزب وأن ينتخب المجلس التأسيسي القيادات العليا للحزب.هذا الاتفاق فسر بصورة عامة كانتصار للعناصر الإصلاحية في الحزب.اجتمع المجلس التأسيسي  في 4نوفمبر 1964 وكانت أجندته الرئيسية هي انتخاب المناصب القيادية.انتخب الصادق رئيسا للحزب بأغلبية ساحقة وانتخب حليفه المقرب عبد الله عبد الرحمن نقد الله أمينا عاما وبالنسبة للمكتب السياسي كسب مؤيدو الصادق أغلبية المقاعد.[21]

انسحب الإمام من الاجتماع قبل نهايته، ولكنه كراعي  صادق على التعيينات.كان واضحا أنه يحاول كسب الزمن لإعادة ترتيب أوراقه.اجتمعت بعض المجموعات الساخطة حوله.ويمكن تصنيف تلك المجموعات على النحو التالي:

  1. المجموعات التي تعاونت مع النظام العسكري والتي تم استبعادها بسبب ذلك من المناصب القيادية،أصدق مثال على هذه الفئة حسن محجوب مصطفى الذي كان عضوا في المجلس المركزي في نظام عبود.وحينما أصبح الانشقاق معلنا تم اختياره أمينا عاما لجناح الإمام.
  2.  مجموعة من أعيان الطائفة والحزب فشلت في دخول المكتب السياسي عبر الإجراءات الديمقراطية مثل عبد الله الفاضل،صلاح عبد السلام الخليفة،محمد داؤود الخليفة،محمد مختار الأصم.
  3. مجموعة المتشددين في الحزب والذين يعارضون بإخلاص أي إصلاح داخل الحزب ويعتقدون بأن أمور الحزب يجب أن تسير كما كانت في الماضي.هذه العناصر اعتقدت بأن الصادق انسحر “بالشيوعيين” و”العناصر الهدامة”الأخرى.يتكون قلب هذه الفئة من ممثلي الإمام بين الجماهير(الوكلاء) والأنصار ذوي الولاء في منطقة النيل الأبيض .

هذه الفئات الثلاث كونت العمود الفقري للسند الذي يطلبه الإمام لمحاربة المجموعة الداعية للعلمنة داخل الحزب.اختار الإمام توقيتا مناسبا للمنازلة،تحديدا الانتخابات البرلمانية العامة المجدولة في أبريل 1965.ذهب الصادق –والذي لم يكن من الممكن أن يخاطر بوحدة الحزب- ذهب بعيدا في إرضاء عمه.وهذا ما تضمنته اتفاقية تم التوصل إليها في 23 ديسمبر 1964.تعرض برنامج الصادق لضربة قاسية ومكنت الاتفاقية الإمام من استعادة أراضي كثيرة افتقدها[22]

كان ثمن تراجع الصادق التكتيكي خروج الحزب منتصرا في الانتخابات العامة رغما عن أن الحزب لم يحصل على التفويض الكافي لتشكيل الحكومة منفردا.كان على الحزب الائتلاف مع الحزب الوطني الاتحادي لتشكيل الحكومة.تجمعت العواصف التي ستشق فيما بعد وحدة الحزب الهشة حول موضوع مرشح الحزب لرئاسة الوزارة.اختار الإمام ومناصروه محمد أحمد محجوب بينما اقترحت بعض العناصر في معسكر الصادق محمد إبراهيم خليل.لم يكن الصادق نفسه قد تجاوز الثلاثين وهي السن التي تؤهل للمنافسة على المنصب وإلا لكانت فرصته كبيرة.وفي محاولة للحفاظ على وحدة الحزب أقرت كتلة الحزب البرلمانية اختيار الإمام.ومنذ البداية ابتليت وزارة المحجوب بالتنافر.انتقلت خلافات حزب الأمة الداخلية لمجلس الوزراء وتشاجر المحجوب عدة مرات مع زملائه في الوزارة:عبد الرحمن النور،أحمد المهدي،د.أحمد بخاري،محمد إبراهيم خليل،كان أخطرها النزاع الذي نشب بينه وبين عبد الرحمن النور والذي أصر فيه المحجوب على استقالة الوزير.أخبر الصادق بصفته رئيس الحزب المحجوب بأن الإجراء الصحيح هو عرض القضية على المكتب السياسي ليقرر فيها وليس التصرف فرديا.كان هناك شعور عام بخيبة الأمل من أداء الحكومة.لعب المحجوب بمهارة على ورقة(سقوط محجوب سقوط الإمام).اعتقد المحجوب بأن التنافر في الوزارة “يحركه حزب الأمة ويحرضه –بكل تأكيد-الصادق)[23]

لعب الحزب الوطني الاتحادي دورا هاما في توسيع شقة الخلاف بين معسكري حزب الأمة بتوظيف طرف ضد الآخر في لعبة الائتلاف،وهذا يذكرنا بالتكتيكات التي استعملها حزب الأمة في 1956 لشق وحدة الحزب الوطني الاتحادي وذلك بالتحالف مع حزب الشعب الديمقراطي في حكومة عبد الله خليل الائتلافية.[24]

حل الحزب الوطني الاتحادي تحالفه مع جناح الإمام وكون حكومة جديدة مع معسكر الصادق.تركز سبب فض الشراكة حول قضية من يقود وفد السودان لاجتماع القمة العربية المنعقد  بالمغرب. فبينما رأى المحجوب أنه كرئيس للوزراء يجب أن يقود الوفد رأى الأزهري كرئيس لمجلس الدولة أن يقود الوفد.تكرر نفس الوضع بعد أشهر قليلة حول من يمثل السودان في قمة منظمة الوحدة الأفريقية في أكرا،وحول هذا الموضوع انفض ائتلاف الحزب الوطني الاتحادي/الإمام.

كون الصادق –رئيس الوزراء الجديد- حكومته من عناصر مقتدرة ونزيهة.وذهب إلى حد الاستعانة بخبراء فنيين من خارج حزب الأمة.[25]وبالرغم من شعبيته فقد حولت سياسات الصادق بعض العناصر في حزب الأمة وفي الطائفة وقادتهم للالتحاق بقوى المعسكر الآخر.وكأمثلة على تلك السياسات نذكر الآتي:

أ‌.           اقترح الصادق خطة للإصلاح الزراعي دعا فيها لإنهاء الرخص وتعويض الملاك ونقل الملكية لجمعيات المزارعين التعاونية.حولت هذه السياسات بعض ملاك مشاريع الطلمبات الخاصة وقادتهم للمعسكر الآخر.

ب‌.       وفي سعيه لتحطيم النفوذ الطائفي والقبلي كون الصادق  لجنة وزارية لبحث جدوى حل مؤسسات الإدارة الأهلية و/أو اقتراح سبل تطويرها في المناطق الريفية الأقل نموا.هذه السياسات تعارضت مع بعض الأعيان المحليين وقادتهم للالتحاق بالمعسكر المعارض.

هذه العوامل مع غيرها شجعت الإمام الذي أصدر توجيها في 4 سبتمبر 1966 للأنصار سمى فيه جناح الصادق بالمنشقين بكل ما يحمله التعبير من مضامين دينية للأنصاري البسيط.وأكثر من ذلك، شدد الإمام على أن المهدية كانت دائما وستظل دين ودولة ومشددا على أن المجالين لا ينفصلان.[26]

في 15 مايو خسر الصادق تصويتا بسحب الثقة من حكومته بأغلبية ضئيلة وقدم استقالته وخلفه المحجوب.خلقت الحرب الكلامية مع الحماسة المتطرفة في الأنشطة الحزبية وعدم احتمال القيادات للرأي الآخر-لا سيما قيادات فصيل الإمام- خلقت استياءا عميقا خشي معه أن يقود لعنف مادي.تحققت تلك المخاوف في أمسية 5 يوليو 1967 حينما عقدت رابطة المرأة بحزب الأمة-فصيل الصادق- اجتماعا حاشدا في ساحة ودنوباوي.خاطب الاجتماع الصادق ونقد الله وبينما كان الأخير يخاطب الاجتماع انطفأت الأنوار وهاجمت مجموعات من مليشيا الإمام المكان.أصيب نقد الله بجرح في رأسه بينما أصيبت بنتان من بنات السيد عبد الرحمن المهدي إصابات خفيفة من جراء الاعتداء.اتسع الخلاف داخل الحزب حينما قررت بعض العناصر التي كونت حزب التحرير الوطني في 1957 الانضمام لفصيل الإمام.

وهناك تطور جديد جلب الأمور لنقطة اللاعودة بين المعسكرين حدث في 7 يوليو1967 حينما أصدر الصادق وبعد سنوات من الصمت (بيان العقيدة والسياسة)الشهير.في هذا العمل الهجومي حاول الصادق هز قواعد إمامة الهادي.فعل ذلك بتفنيد حجة الهادي القائلة بتولية المنصب بغض النظر عن الكفاءة.احتج الصادق بأن والده الصديق لم يصبح إماما بسبب عمره كأكبر أبناء السيد عبد الرحمن الأحياء ولكنه أصبح إماما بصفة أساسية لكفاءته،وفي إشارة واضحة لعمه واصل الصادق :

(بعض الناس يشوهون عقيدتنا المهدية بمزاعم قداسة روحية متوهمة لا وجود لها بعد وفاة الإمام عبد الرحمن خاتم الإمامة المهدية الحقيقي.حالة البركة التي يزعمون لا وجود لها في عقيدتنا.فهم يستخدمونها لإرهاب الأنصار حتى يضمنوا ولاءهم الدائم.لا مجال للإرهاب في تراثنا فالإمام عبد الرحمن سمى بيعته بيعة الرضا)[27]

كانت تلك المرة الأولى التي يهاجم فيها الصادق الإمام.بعد ذلك اتجه لتقوية المعارضة داخل الجمعية التاسيسية بتكوين تحالف عريض للمجموعات السياسية.كانت النتيجة تكوين “مؤتمر القوى الجديدة” التي تكونت من نواب فصيل الصادق،حزب سانو فصيل وليم دينق،وبعض أعضاء الحزب الوطني الاتحادي الذين اعترضوا على دمج الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي بالإضافة إلى بعض المجموعات الإقليمية.

ذهبت الخلافات داخل حزب الأمة إلى الحد الذي عصفت فيه  بوحدة بعض الأسر الأنصارية والتي عالج فيها الأزواج الذين وقفوا مواقف مختلفة،عالجوا اختلافاتهم السياسية بالطلاق.وهناك مثلان في هذا السياق يكفيا لتوضيح ذلك:

(قاطعني كبار عائلتي لأنني انضممت لجناح الصادق.عانت زوجتي وأطفالي من هذا ،لقد عاشوا في حالة حصار اجتماعي وفرضت عليهم عزلة من الأسر المجاورة التي تنتمي لجناح الإمام)

حكى نفس الراوي مثالا مدهشا آخر:

(محمدين محمد ورجل آخر وكلاهما ناصرا الصادق تم رميهما بالحجارة ذات مساء من قبل أعضاء المعسكر الآخر بعد دمغهما ب”الشياطين”.أجهضت زوجة الأول بسبب الحادث)[28]

لم ينحصر الخلاف داخل حزب الأمة على مستوى الأسر بل شق وحدة بعض القبائل الأنصارية الراسخة.والمثال الكلاسيكي كان قبيلة الحسانية في منطقة النيل الأبيض.تركز الخلاف على منصب الناظر،حيث نافس عمر إدريس هباني المساند للصادق جده المحافظ يوسف هباني المساند للإمام على نظارة القبيلة.كان عمر أكبر الأبناء الأحياء للناظر الراحل إدريس عبد القادر هباني والذي عمل تحته يوسف كوكيل ناظر.ولكن يوسف لم يكن ليقبل نفس المنصب مع عمر.عمقت الميول السياسية للرجلين الخلاف بينهما.حكم حسن محجوب الأمين العام لفصيل الإمام ووزير الحكومات المحلية بأن يقرر المنصب بواسطة العمد بينما أصر عمر على أن تقرر كل القبيلة أي الرجلين يكون زعيما للقبيلة في انتخابات حرة.

انتخابات 1968 العامة وتوحيد الحزب:

كان لانتخابات 1968 العامة جانبان:

الأول: التنافس العام بين المجموعات السياسية المختلفة على الأصوات.

والثاني: المعركة بين جناحي حزب الأمة. لم يكن النصر بالنسبة للمعسكرين يعني هزيمة خصومهما التقليديين في الحزب الاتحادي الديمقراطي ولكن كان يعني هزيمة المعسكر الآخر في حزب الأمة.وقد وضع أحد التنفيذيين في فصيل الإمام ذلك بجلافة:

(أولويتنا الانتخابية كانت واضحة وبسيطة:هزيمة ساحقة لقيادة الصادق حتى يذهب ممثلوه للبرلمان جسما بلا رأس)[29]

نتج عن الخلاف في حزب الأمة تعدد المرشحين في الدوائر.وهناك تطور مثير هو أن حوالي 44 مرشحا فضلوا دخول الانتخابات تحت اسم حزب الأمة بدون الانتساب لأي من المعسكرين.

نسق الصادق مع عناصر مؤتمر القوى الجديدة بينما نسق الإمام مع الحزب الاتحادي الديمقراطي.تركزت خطة الصادق السياسية حول برنامج بعنوان (إصلاح وتجديد) أكد فيه خططه الإصلاحية.لم تختلف روح هذا البرنامج عن برنامج انتخابات 1965 المعنون(نحو آفاق جديدة)

سبب الخلاف في الحزب جروحا عميقة في العلاقات الأسرية،فعلى سبيل المثال :في دائرة الحلاويين:الدائرة 70 محافظة النيل الأزرق نافس مرشح الإمام أحمد عبد الدافع محمد إمام ابن عمه إمام دفع الله محمد إمام الذي نزل مرشحا للصادق.وفي الدائرة 203 شرق كردفان- الحمر خاض مرشح الإمام بكري أحمد عديل الانتخابات ضد أخيه عبد الرحمن أحمد عديل مرشح الصادق.

أظهرت نتائج الانتخابات الأثر الكارثي للخلاف.لم يكن هناك منتصر بين المعسكرين:فقد كسب الصادق 36 مقعدا بينما حصل الإمام على 30 مقعدا،ورفض 6 من مرشحي حزب الأمة الفائزين الانتساب لأي من الفصيلين.خسر حزب الأمة 24 دائرة أغلبها للاتحادي الديمقراطي بسبب تعدد المرشحين.سببت نتائج الانتخابات صدمة في معسكري حزب الأمة.أدركت القيادات في الطرفين أن الجهة الوحيدة المستفيدة من خلاف حزب الأمة كانت الحزب الاتحادي الديمقراطي.وعلى هذه الخلفية وثوابا للعقل بدأ هؤلاء القادة مراجعة مواقفهم والتفكير في المصالحة.

كان الطريق لتوحيد الحزب عملية مضنية فقد بدأت المفاوضات في النصف الثاني من عام 1968،وفي 11 أبريل1969 أعلن الفصيلان رسميا توحيد حزب الأمة.وفي اليوم التالي تمت الاحتفالات في أمد رمان وقرأ الإمام للجمهور أسس إعادة التوحيد.[30]

حاولت تلك الأسس إيجاد توازن بين طموحات الصادق وبرنامجه الإصلاحي وبين محافظة الإمام.تم إلغاء منصب رئيس الحزب واستبدل “بزعيم الحزب” والذي يملأه الإمام بالإضافة لأن يكون الإمام مرشح الحزب للانتخابات الرئاسية.سمي الصادق أمين عام الحزب ومرشح الحزب الوحيد لرئاسة الوزارة.

وعلى كل حال فبعد أقل من شهرين أطاح انقلاب عسكري بالنظام الحزبي التعددي في السودان.لم تكن تلك الفترة القصيرة بين إعادة التوحيد والانقلاب كافية لاختبار قابليته للاستمرار أو هشاشته.

إذا أردنا تلخيص هذه الدراسة فقد حاولت أن تعطي خلفية تاريخية عن الخلافات داخل حزب الأمة بمتابعة جذورها وتطورها وانعكاساتها. كشفت الدراسة أن النزاع الأخير كان أطولها عمرا وأكبرها ضررا من حيث الأثر السياسي.ويمكن أن نجرؤ على القول بأن تلك الانعكاسات باقية حتى اللحظة*.

 

@ يبدو أن هناك جملة ساقطة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1] للحصول عل النص الكامل للمذكرة أنظر لمداولات الجمعية التشريعية الجلسة الثانية 13 ديسمبر 1950 ص 593.

[2] مصدر سابق ص 608

[3] روى القصتين للكاتب السيد زاكي الدين في مقابلة معه بالأبيض في 29 مايو 1976

[4] مقابلة مع الناظر علي الأمين عيسى بالدلنج 20 مايو 1976

[5]  هم :مادبو:محافظة كردفان،أبو سن ويوسف العجب محافظة النيل الأزرق.

[6] هما دائرتا الناظر أبي سن والعجب

[7] الدخلاء:هو المصطلح الذي استعمل ليصف تلك العناصر أمثال:محمد صالح الشنقيطي،إبراهيم أحمد،عبد الله خليل.هذه المعلومة أخذت أثناء مقابلة مع السيد محمد داؤود الخليفة في أمدرمان 21 مارس 1977.

[8]  سابق

[9]  سابق

[10] هذه القصة رواها أحد شيوخ التعايشة اسمه عبد الله حبيب محمد أبو قرين في مقابلة مع الكاتب في قرية أبو ضلوع قرب الجبلين جنوب كوستي في 30 يونيو1979.

[11] تم إعادة طبع هذا الإعلان في صحيفة الأمة اليومية في 2يونيو1967.

[12]  مقابلة مع السيد محمد داؤود الخليفة مصدر سابق.

[13] السيد أمين التوم نائب الأمين العام لحزب الأمة في مقابلة مع الكاتب في أمدرمان 20يوليو1978.

[14]  تكون مجلس الوصية من :عبد الله الفاضل رئيسا،الهادي المهدي،أحمد المهدي،يحيى المهدي والصادق المهدي كأعضاء.

[15]  روى القصة للكاتب عبد الله عبد الرحمن نقد الله الذي كان يعتقد أن عبد الله الفاضل المهدي له مصلحة ثابتة في اختيار الهادي إماما لأنه صهره.

[16]  تكونت اللجنة الفرعية التي أعدت الخطاب من :محجوب محمد صالح،عثمان خالد، نصر الدين السيد والصادق المهدي.

[17] كان من أبرز الشخصيات في المجلس الأعلى:يحيى المهدي،أحمد المهدي، الصادق المهدي، الحلو، عبد الله عبد الرحمن نقد الله، أمين التوم، حسن داؤد، كمال الدين عباس، محمد أحمد المحجوب.

[18] لنص اعلان أبا الكامل أنظر الملحق رقم 2 ص 293 في:الفاتح عبد الله عبد السلام:حزب الأمة 1945-1954 رسالة ماجستير غير منشورة –جامعة الخرطوم مارس 1979.

[19]  سابق:انظر ملحق رقم 3 ص 294-296.

[20]  مقابلة مع الكاتب في 20يوليو 1978.

[21]  للنص الكامل للأسماء ونتائج الانتخابات انظر :الفاتح عبد السم :سابق –ملحق رقم 4 ص 297-299.

[22]  للنص الكامل للاتفاق انظر المصدر السابق ملحق رقم 5 ص 300-303.

[23]    Mohamed Ahmed  Mahgoub: Democracy on Trial: Reflections on Arab and African Politics,  London :Andre Deutch 1974,p.199

[24]  في يوليو 1975 أخبر عبد الله عبد الرحمن نقد الله الكاتب بأن أحد أهم السيناريوهات لحزب الأمة في إقامة ائتلاف مع حزب الشعب الديمقراطي في 1956 كان عن طريق عقد مصالحة بين الختمية والأزهري وهو ما كان مستحيلا عمليا.

[25]  تم استدعاء ميرغني حمزة من وظيفته بصندوق النقد الدولي لشغل منصب وزير المالية.

[26]  للنص الكامل للتوجيه انظر الفاتح عبد السلام-سابق ملحق رقم 12 ص 323-327.

[27] للنص الكامل لبيان الصادق انظر صحيفة الأمة عدد رقم 3856 بتاريخ 9يوليو 1967.

[28] كلا المثالين حدثا بجزيرة أبا حيث يسود مساندو الإمام، كان محدثي هو الحاج أبكر في مقابلة بتاريخ 4 يوليو 1976.

[29] مقابلة مع محمد داؤود الخليفة مرجع سابق.

[30]  للنص الكامل للاتفاق انظر صحيفة الأمة 13 أبريل 1969.