النيل.. وحدة مائية تتطلب تكاملاً تنموياً بقلم الحبيب الإمام الصادق المهدي

الإمام الصادق المهدي

 

الإمام الصادق المهدي

العالم اليوم يواجه ضموراً فى الفكر الاستراتيجى وانشغالاً بالتحديات الأمنية. هذا الفقر الاستراتيجى يظهر بأوضح صورة فى الدول العربية حتى صارت فى أكثرها متخندقة فى أجندات أمنجية.

كتبت كثيراً أن التطرف والإرهاب المقترن به أعراض لأمراض ما لم تطبب تلك الأمراض فإن الأعراض حتى إذا أزيلت مظاهرها تظهر بصورة أخرى من جديد، فالقاعدة التى كانت محصورة فى الحدود الأفغانية- الباكستانية صارت بعد 16 سنة شبكة من عشرات الفروع.

والخلافة المزعومة إذ تستعد لنهاية وجودها الظاهر شرعت فى خطة وجود شبكى خفى.

سوف أتناول موضوع هذا المقال من الزوايا الاستراتيجية فأقول:

أولاً: هنالك سبع أبجديات لحوض النيل مسلم بها هى: السيادة على مياه النيل مشتركة. الاتفاقيات الموروثة منذ 1902م راعت واقع تلك الظروف واحتكرتها لدولة المصب. الآن يحمد لدول الحوض الأخرى أنها تتطلع لجعلها مشتركة خلافاً لما عليه الحال فى حوض الرافدين وفى حوض الأردن، فإن مصلحة دولتى المجرى والمصب الحرص على موقف السيادة المشتركة.
نهر النيل وهو أطول أنهار العالم، تهطل فى منابعه ومجراه أمطار تزيد على ألفى مليار متر مكعب.
ولكن دفق مياهه كما يقاس فى أسوان يبلغ 84 مليار متر مكعب فى المتوسط. هذه النسبة الضئيلة «4.2%» تتطلب إجراءات لحصاد المياه وتجفيف المستنقعات لزيادة دفق مياه النيل.
دولة المصب هى الأكثر اعتماداً على مياه النيل، والأكثف سكاناً فى الحوض، والتى نشأت حضارتها اعتماداً على مياه النيل. عوامل تؤهلها لاستحقاق النصيب الأكبر من مياه النيل. وإن كان ٥٥٫٥ مليار متر مكعب كافياً لثلاثين مليون نسمة فعدد السكان تضاعف مرتين. هذا يتطلب زيادة الحصة، واتخاذ وسائل أخرى فى زيادة العرض من مصادر أخرى، وترشيد الطلب.
دول المنابع فى الهضبة الإثيوبية والهضبة الاستوائية ولأسباب مناخية وطبوغرافية مؤهلة للإنتاج الكهرومائى بكميات أكبر وبتكاليف أقل.
دولتا السودان تملكان حوالى ثلثى الأراضى الصالحة للزراعة بشقيها النباتى والحيوانى فى حوض النيل. ما يجعل تلك الأراضى الأكثر صلاحية للاستثمار الزراعى الغذائى والنقدى قطرياً وعن طريق المزارعة للآخرين خاصة لمصر وإثيوبيا.
حوض النيل هو الواصل لما فصلته الصحراء الكبرى بين شقى أفريقيا. هذا يحمل عوامل استقطاب جيوسياسى قابل لاستغلاله عدائياً. هذا يتطلب تشخيص عوامل هذا الاستقطاب والعمل على إزالته.
السودان هو الجار المشترك لبعض دول المنابع، ودولة المصب. ويلزمه موقعه الجغرافى بدور توفيق جيوسياسى بينها. هذا دور السودان عندما يسترد نفسه من وضعه الطارئ الذى يجعله يتنقل من موقف إلى ضده بلا بوصلة.

ثانياً: الوضع القانونى الراهن فى حوض النيل تأسس فى ظروف توازن قوى تجاوزتها الأيام. هذا ينطبق على اتفاقية 1902م وما بعدها. إنها ظروف انطلقت من أن مياه النيل مصلحة لمصر حصرياً. واتفاقية 1959م انطلقت من أن مياه النيل مصلحة لمصر والسودان. دول حوض النيل الأخرى نفضت يدها من ذلك الوضع القانونى ما يتطلب مراجعته بالتراضى بين دول حوض النيل كافة.

فى 1997م أجازت الأمم المتحدة اتفاقية استخدامات المجارى المائية فى الأغراض غير الملاحية. نصوص الاتفاقية عامة ولكن دول حوض النيل لم تجمع على توقيعها. يرجى أن تجمع على ذلك لإدخال البعد الدولى فى مصير حوض النيل.

وفى فبراير 1999م انطلقت مبادرة حوض النيل التى أثمرت توافقاً حول قضايا كثيرة بشأن مياه النيل، والنتيجة اتفاقية إطارية لحوض النيل ومفوضية مشتركة لدوله. ولكن بعض النقاط الخلافية حالت دون الإجماع على هذه المعاهدة أهمها: الإبقاء على الواقع الحالى فى حوض النيل باعتباره مكتسباً أم تعديله باعتباره مغيباً لمصالح دول أخرى فى الحوض.
والنقطة الثانية المهمة حول كيفية اتخاذ القرارات فى المفوضية بالأغلبية أم بالإجماع.
هذا الاختلاف أدى لاستقطاب حاد فى حوض النيل، وهو استقطاب يغذى حرباً باردة مضرة لأطرافها.

هنالك إمكانية لتجاوز هذه الخلافات:

أن يقبل مبدأ تعديل الواقع الحالى بشرط ألا يؤدى التعديل إلى فقر مائى لأى دولة من دول الحوض، الفقر المائى يعرف بالاصطلاح الدولى.
أما التصويت للقرارات فى المفوضية فسيعطى لكل 10 ملايين من السكان صوتاً واحداً، على أن تجاز التوصيات العادية بالأغلبية والمهمة بأغلبية الثلثين.
توجه الدعوة لمؤتمر قمة لدول حوض النيل لإجازة الاتفاقية الإطارية، كذلك لاعتماد تكوين المفوضية، وتصدر من مؤتمر القمة معاهدة لحوض النيل تودع لدى الاتحاد الأفريقى، والجامعة العربية، والأمم المتحدة.
أولى مهام مؤتمر القمة هذا بعد إجازة المعاهدة تكوين لجنة فنية عليا مكلفة بتقديم مشروع تنموى تكاملى فى حوض النيل.

ثالثاً: قبل الدعوة لمؤتمر القمة هذا هنالك حاجة لإجراءات بناء الثقة، وإزالة الملاسنة التى سببتها الآراء المذاعة دون قصد فى مصر فى عام 2013م بشأن سد النهضة ما أعطى صدقية للاتهامات الإثيوبية.. التحدى أمام الدبلوماسية المصرية هو العمل على إزالة آثار تلك التصريحات وما أعقبها من اتهامات.

المناخ السلبى الذى أفرزه الخلاف حول سد النهضة يتطلب إدراك أن للسد منافع ومضار يرجى التعرف على المنافع واحتواء المضار:

بالنسبة للسودان فإن السد يحقق نفس المنافع التى حققها السد العالى لمصر من حيث الحماية من الفيضانات، وتنظيم انسياب المياه، والإنتاج الكهرومائى، واحتواء الإطماء، وتقليل نسبة تبخر المياه فى المناخ الإثيوبى بدل نسبته فى منطقة أسوان.
ولكن تخزين المياه فى بحيرة السد يحرم مصر من تخزين المياه الزائد على متوسط الدفق، وكذلك يهبط بالإنتاج الكهرومائى فى السد بنسبة 25%.
وبالنسبة للسودان ومصر هناك ضرران محتملان هما احتمال حدوث اضطرابات جيولوجية. هذا احتمال وارد فى أمر كل السدود. والاحتمال الثانى هو فى حالة حدوث خلافات سياسية واستخدام المياه كسلاح سياسى. هذا وارد حتى من غير السد والسبيل الوحيد لمواجهته هو أن يتفق على معاهدة «حوض النيل»، وأن تودع لدى الأمم المتحدة بالتزام دول الحوض بها، على أن يعامل أى إخلال بها كتعدٍ على الأمن القومى للدولة المتضررة وحقها فى الدفاع عن نفسها بتأييد دولى.
على أساس هذه المفاهيم يرجى أن تتفق دول مجرى ومصب النيل الأزرق على ثلاثة أمور هى: قبول توصيات الهيئة الفنية، واتفاق على طول فترة ملء السد، واتفاق على ضوابط لإدارة السد بالصورة التى تأخذ فى الحسبان مصالح دولتى المجرى والمصب.

رابعاً: التفكير فى سد النهضة يعود لعام 1964م وظروف الحرب الباردة. واتخذ القرار ببنائه فى عام 2009م. ومنذ عام 1999م فى كتابى عن «مياه النيل: الوعد والوعيد» نبهت بصفة محددة إلى احتمال صدام مصرى- إثيوبى. ولكن كل تلك المؤشرات لم تثمر تحركاً إيجابياً لمواجهة الاحتمالات، فكان ما كان.
إن الخلاف حول سد النهضة جعل التصدى لمشاكل حوض النيل أكثر إلحاحاً.
تسوية الخلاف حول سد النهضة يتعلق بنصف مياه النيل ما يتطلب أن تشمل التسوية النصف الآخر. كذلك فإن هذه التسوية تتعلق بثلاث من دول الحوض والمطلوب أن يشمل الأمر بقية دول الحوض.
المطلوب ألا ينظر للأمر من زاوية سد النهضة وحده والمياه المتعلقة به ولا بالاتفاق بين الدول الثلاث، بل تناول كل مياه النيل ومشاركة كل دول الحوض.

خامساً: التطورات الإيجابية المنشودة فى حوض النيل لا تجرى بمعزل عن العلاقات العربية الأفريقية.

هذه العلاقات ذات استراتيجية كبرى للتنمية فى العالمين العربى والإفريقى ولكن تشوبها الآن ثلاثة عوامل مهمة هى:

العامل الأول: علاقات الإمبريالية الجديدة مع دول العالمين العربى والأفريقى جعلت مصائر تلك البلدان مرتبطة مباشرة بها ما يضع حدوداً على حرية قرارات دولها.

العامل الثاني: خلفية علاقات الرق والشعور الإفريقى بوجود استعلاء إثنى عربى نحو إنسان أفريقيا جنوب الصحراء ما جعل قيادات أفريقية مهمة تربط بين الانتماء الإفريقى والإثنية الزنجية لدرجة إنكار انتماء شعوب شمال الصحراء لأفريقيا.

العامل الثالث: عدم وجود مشروع نهضوى عربى مؤهل للتعامل الاستراتيجى ما بين الدول العربية نفسها وما بينها وبين إفريقيا جنوب الصحراء.

وفى هذا المجال فهناك حقائق موضوعية مساعدة:
التكوين الطبوغرافى والجيوسياسى لحوض النيل كوحدة مائية إذا أدى لمعاهدة ملزمة لدول الحوض فإن العوامل المذكورة سابقاً تجعل الاتفاق التنموى التكاملى بين دول الحوض لازماً.
كذلك البحر الأحمر أخدود بين شاطئيه الغربى والشرقى مقومات تكامل تنموى يمليه ما فى شرقه من مخزون للطاقة والإمكانات المالية، وما فى غربه من موارد طبيعية.
والصحراء الكبرى نفسها قد كانت على طول تاريخها واصلاً لا فاصلاً بين شطريها، واصلاً بين شمال إفريقيا وغربها، وغرب آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء فمعظم العرب أفارقة، ومعظم الأفارقة «إثنياً» جنوب الصحراء مسلمون.

من شأن مشروع نهضوى عربى أن يطور العلاقات العربية الإفريقية فى اتجاهات:
تكامل تنموى فى مواقع جدواه.
تعاون لإنجاح أهداف التنمية المستدامة «SDGS».
تعاون لإلزام الدول الملوثة للبيئة بدفع ما عليها للعدالة المناخية وتعاون فى كيفية إنفاق التعويضات.
تعاون للعمل من أجل نظام اقتصادى عالمى أعدل وأفضل.
تعاون لإصلاح نظام الأمم المتحدة.

سادساً: هذا ما يجب أن يكون وهو متناقض تماماً مع ما هو كائن.
عربياً الحالة انتقلت الآن من تطلعات لوحدة عربية إلى حالات انهيار الدولة الوطنية. انهيار يرفده سياسياً: توتر بين الحكام والشعوب، واجتماعياً: استقطاب بين ثراء فاحش وفقر مدقع، وفكرياً: نزاع بين تقليد لماضٍ لا مستقبل له وتقليد لوافد لا وفاء له. ودينياً: نزاع طائفى يستنسخ واقعة صفين ومراراتها.
هذه العوامل تنخر فى جسم الدولة الوطنية وتفتح المجال لمزيد من جر المنطقة إلى الوراء خارج التاريخ، أو لأحضان الوصاية الأجنبية خارج الإرادة الوطنية أو القومية أو الإسلامية.

سابعاً وأخيراً: الجامعة العربية المنبر المشترك للدول العربية مرآة صادقة لهذا الهوان. فى حديث مع الأمين العام السابق للجامعة العربية قال معترفاً إن الجامعة العربية خارج ميزان الفاعلية. آية ابتعاد الأمة العربية عن أى مشروع نهضوى يجسده تصاعد التوتر بين الحكومات والشعوب فى أغلب الدول، واتباع تنمية توسع الشقة بين الطبقات فيها وزيادة الاعتماد على الهيمنة الدولية.

إن التحدى الذى يواجه الرؤى المذكورة حول حوض النيل، وحول حوض البحر الأحمر، وحول مستقبل ضفتى الصحراء الكبرى هو أن تنهض الأمة العربية من كبوتها الراهنة وتتوافق على مشروع نهضوى أحد بنوده المهمة العلاقة الاستراتيجية العربية الإفريقية. وفى غيابها نجتر الآلام مع الحكيم: أيها الطارق المستبين طريقاً.. فاقد الشىء هيهات أن يعطيه

سد النهضة له تأثيرات سلبية على مصر تتمثل فى أن تخزين
المياه فى بحيرة السد يحرم مصر من تخزين المياه الزائد على متوسط الدفق، وكذلك يهبط بالإنتاج الكهرومائى فى السد بنسبة 25%

 

نُشر في الدستور