ثورات التحرر العربي وإدارة الاختلاف

الحبيب الإمام الصادق المهدي في الندوة الفكرية بتونس التي نظمتها الجمعية القرآنية بسليمان يوم السبت 15 يونيو 2013 بقاعة جاجا روايال حول الثورات العربية وإدارة الإختلاف وذلك بحضور العديد من الشخصيات

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ندوة فكرية تحت عنوان: وحدة الأمة الإسلامية

 

مداخلة بعنوان:

ثورات التحرر العربي وإدارة الاختلاف

 

 

تقديم: الإمام الصادق المهدي

 

15 يونيو 2013

 

مقدمة:

 

أشكركم على دعوتي للحديث عن هذا الموضوع الجوهري: (ثورات الربيع العربي وإدارة الاختلاف) وأفضل تسمية الظاهرة ثورات التحرر العربي أو ثورات الاستقلال الثاني العربي.

النبوة هي التي وضعت العرب في صدارة التاريخ وإقامة الدولة. كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورجل دولة.

بعد الفترة الأولى كان مؤسس الدولة الإسلامية الثاني معاوية، ولكنها كانت نسخة من الحكم السلطاني المعروف، والسبب: الفتنة الكبرى، ونصيحة المغيرة بن شعبة لمعاوية: “لقد رأيت ما كان من سفك دماء واختلاف بعد عثمان. وفي يزيد منك خلف فاعقد له فإن حدث بك حادث كان كهفاً للناس وخلفاً منك. فلا تسفك دماء ولا تكون فتنة”! وعقدت البيعة في مجلس معاوية بالتهديد: (من أبى فهذا، أي السيف) والنتيجة تناسل الحكم على أساس التغلب.

قال الشهرستاني: ما سل سيف في الإسلام مثلما سل في الإمامة. ومهما تكاثر التنظير عملياً فإن الواقع حكمته مقولة ابن حجر العسقلاني: لقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة المتغلب والقتال معه. هذا مع أن من مبادئ الإٍسلام أن الاستبداد لا يجوز حتى لنبي: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) [1].

فيما يلي أقدم أطروحتي عبر النقاط التالية:

النقطة الأولى: نظام الحكم شرق الأوسطي

الاستبداد ونظيره الذي صنعه التقليد كونا: حالة الاستعداد للاحتلال، وقد كان، ما أخضع بلدان المسلمين للاحتلال. وبعد جلاء الاحتلال صار نظام الحكم في البلدان العربية: نظم لبرالية هشة أو نظم تمارس السلطان التقليدي.

البلدان المستقلة من الاحتلال كان تماسكها السياسي يعتمد على دولة مركزية وأجهزة أمنية وعسكرية إلى جانب النظم التقليدية القائمة على التوارث والوصاية.

هشاشة اللبرالية ووجهت بحركات ثورية قومية أو اشتراكية أطاحت بالحكم فيها واتبعت النظام المستمد من التطبيق البيروقراطي للشيوعية أو النظام الفاشستي، والنتيجة بنية النظام الشرق أوسطي ومعالمه:

– فرض أيديولوجية أحادية.

– حزب حاكم شمولي.

– أمن مطلق اليد.

– اقتصادٌ محابٍ.

– إعلام زائفٌ.

– علاقات خارجية مسخرة لصالح النظام لا الوطن.

ومع أن العالم شهد أربع موجات للتحول الديمقراطي في أجزاء العالم المختلفة، وشهد تمدد منظومة حقوق الإنسان الأممية على الوسط الدولي، فقد صار العالم العربي بعد أن حدث التحول الديمقراطي في أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، ومعظم العالم الإسلامي غير العربي في ذيل الدنيا من ناحية حقوق الإنسان، والحكم الديمقراطي ما وصف بـ: الاستثنائية العربية.

نما التطلع لوضع حد لهذه الاستثنائية: تقرير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة 2002م، إعلان الاستقلال الثاني بواسطة جمعيات طوعية عربية 2004م إعلان البحر الميت 2008م، إلخ. ولكن القبضة الحديدية استمرت.

نظم الحكم العربية دجنت وأرهبت ومزقت القوى المعارضة لها، ولكن بعض الحركات الإسلامية تخندقت في أنشطة دينية واجتماعية وبدا كأن المنطقة اشترت استقرارها على حساب الحرية، والعدالة، والكرامة، وسائر حقوق الإنسان.

النقطة الثانية: ثورتا تونس ومصر وما بعدهما

ولكن نسبة الشباب الكبيرة في السكان، ونسبة البطالة في أوساطهم، ونسبة الاحتقان العام حفز فصائل من الشباب عبر وسائل الاتصال الاجتماعي للقيام بتحرك احتجاجي بدأ منفعلاً بأحداث مأسوية كاستقتال الشهيد محمد البوعزيزي في سيدي بوزيد واغتيال خالد سعيد في الإسكندرية.

ومن بدايات محدودة انفجر تجاوب شعبي مليوني في تونس أولاً ثم في مصر.

كان الشباب الحركي خارج رادار أجهزة الأمن، ففوجئ النظام التونسي ثم المصري بالطوفان الشعبي، وفي الحالين أدت مهنية القوات المسلحة إلى دورين رجحا كفة التغيير، وهرب الرئيس التونسي وتخلى الرئيس المصري.

عفوية الثورتين فاجأت الحكومتين، وفاجأت القوى السياسية المنظمة، ونجاحهما فاجأ الثوار أنفسهم.

الثورة بالمعنى الكامل لها تعني الاطاحة بنظام مستبد فاسد وإقامة الثوار لنظام بديل.

هذا الجزء لم يحدث لذلك ملأ الفراغ في تونس فئة من الطبقة السياسية المعهودة، وفي مصر القوات المسلحة. حكام ما بعد الثورة لم يكونوا بأية صفة ثوار بل رتبوا آليات الخلافة على أساس الدستورين الموجودين، وبسطا الحريات ونظما انتخابات عامة حرة، خطوات لم يكن منها بد في غياب كادر وبرنامج ثوري ما أدى لمفارقة ما بين الانتقال الدستوري السلس والتطلع الثوري الذي ما زال يلهب حماسة الشباب غير المنظم.

الشباب المنظم وأحزابهم خاضوا الانتخابات وحققوا ما حققوا، وكان للقوى السياسية الإسلامية الغلبة الانتخابية لأن أحزابهم نالت النصيب الأوفر من البلاء، ولأن شبكة اتصالاتهم احتفظت بوجود في مجالات دينية واجتماعية وعلاقات فوق قطرية.

الثورتان في تونس وفي مصر كسرتا حاجز الخوف، وابتدعتا وسائل حركية جديدة واكتسبتا ترويجاً هائلاً عن طريق بعض الفضائيات ووجدتا تعاطفاً دولياً واسعاً.

ظروف الاحتقان بين الحكام والشعوب العربية متشابهة، وبين الشعوب وحدة وجدانية جعلت للثورة في تونس ومصر شعبية عريضة، فبدا كأن ما شكت منه الشعوب (آفة الشرق حاكم معبود وشعوب تذلهن قيود) إلى زوال.

ولكن الطغاة في بلدان الموجة الثانية للثورة انتبهوا واستعدوا ما أدى إلى ثلاثة عومل هي: غياب عنصر المفاجأة وبالتالي مقاومة التحرك الثوري، ودخول عامل خارجي إقليمي أو دولي بحيث جعل عناد الطغاة الغزاة قضاة.

الثورة في تونس ومصر لم تلهب الحماسة للتعبير الحركي غير التقليدي في العالم العربي وحده، بل حتى في الدول الديمقراطية العريقة، إذ اعتبر شبابها سيما في أمريكا، وبريطانيا، وغيرها أن الفوارق الاجتماعية زيفت الإرادة الديمقراطية فهم يتطلعون لديمقراطية اجتماعية.

أما في المجال العربي فإن البلدان التي شهدت تحركات ثورية بعد تونس ومصر أي: اليمن، وليبيا، والبحرين، وسوريا، واجهت تعقيدات كثيرة، لن أخوض فيها هنا، ولكنني اعتقد أن مستقبل حركة الاستقلال الثاني أو التحرير الشعبي سوف يرتبط بما سوف تحقق الثورتان التونسية والمصرية.

الدول ذات النظم الوراثية شهدت تحركات شعبية وإجراءات رسمية تعكس شعوراً بأهمية الشعارات الجديدة وارتفع نداء التطلع لنظم دستورية توفق بين العرش والمشاركة الشعبية.

النقطة الثالثة: تقدم التجربة التونسية على المصرية

ومع اشتراك التجربتين في هذا الدور الرائد، فإن التجربة التونسية متقدمة على المصرية في مجال إدارة الاختلافات للأسباب الآتية:

أولاً: في النظام التونسي السابق على الثورة كانت القوات المسلحة بعيدة من ممارسة دور سياسي، بينما في مصر كانت أقرب لذلك الدور، ما جعلها تمارس شراكة حقيقية في التغيير وتدير المرحلة الانتقالية وتكتسب دوراً أكبر في التطورات السياسية.

ثانياً: حركة النهضة في تونس ارتبطت مع قوى مدنية واشتراكية بوثيقة لاستشراف المستقبل قبل الثورة، في مصر إبرام اتفاق مماثل بعد الثورة لم يصمد طويلاً.

ثالثاً: اتخاذ القرار في مجال حركة النهضة أكثر شفافية منه في مصر بسبب الثنائية بين قيادة الحركة الإخوانية وحزب الحرية والعدالة.

رابعاً: دخلت حركة النهضة في إدارة السلطة في ائتلاف منهجي مع قوى سياسية أخرى نتيجته معادلة الترويكا التي لا مثيل لها في مصر.

خامساً: المسيحية المصرية كيان وطني عريق ذو وزن في الشأن العام داخلي وخارجي، وتقوده بابوية ذات دور مؤثر لا مثيل له في تونس.

سادساً: لمصر اتفاقية سلام مع إسرائيل وتمثيل دبلوماسي إسرائيلي في مصر، هذا ذو أهمية خاصة في إدارة الحكم في مصر.

سابعاً: اعتبار أهمية الدور المصري إقليمياً ودولياً جعل للولايات المتحدة والدول الكبرى اهتماماً أكبر ومتابعة ألصق لما يحدث في مصر. وشعور بلدان عربية أخرى ذات قدرات بتأُثير ما يحدث في مصر على مستقبلها جعلها أكثر حرصاً على التأثير فيه.

لهذه العوامل السبعة فإن التجربة الإسلامية في مصر أعقد منها في تونس، والتجربة التونسية فيما يتعلق بإدارة الاختلافات متقدمة بمراحل على المصرية.

لقد أشفقنا من مصير التجربة المصرية، وفي مارس 2013 قدمنا في منتدى الوسطية العالمية (نداء الكنانة) لتجاوز الاحتقان المصري الذي ينذر بالويل والثبور، ثم خاطبت المشهد المصري في مايو 2013م بمقال (مصرنا ومصيرنا) لتجنب المشهد الاستقطابي الماثل، وكلنا رجاء أن يستجيب الفرقاء المصريون عاجلاً لهذه النداءات التي تتطلب تنازلات متبادلة من أجل الوطن، وتلافي وقوع الفوضى أو الاستبداد من جديد.

النقطة الرابعة: تحديات الحكم بمرجعية إسلامية

الإدارة الإسلامية الجديدة في تونس ومصر فوجئت بمدى نجاحها الانتخابي كما فوجئت كل القوى السياسية المنظمة ووجدت نفسها أمام تحديات هائلة:

أولاً: أن في مرحلة المعارضة كانت الشعارات العامة مثل (الإسلام هو الحل) كافية ولكن في مرحلة السلطة فالحاجة لرجال ونساء دولة وبرامج مجدية.

ثانياً: نعم كما قال محمد أسد: الإسلام هو أعظم مستنهض للهمم عرفه البشر، ولكن النجاح الإسلامي التاريخي تحقق بالفهم الاجتهادي للنصوص واستصحاب الواقع، ما أدى لمقولة ابن القيم إن الفقيه النابه هو الذي يدرك الواجب اجتهاداً ويحيط بالواقع ويزاوج بينهما، ههنا المطلوب على الصعيد الفكري التوفيق بين التأصيل والتحديث. إن مجتمع الدولة الحديثة مجتمع تعددي فكرياً، وثقافياً، ودينياً فكيف التوفيق بين هذا التنوع والمرجعية الإٍسلامية أي بين الإسلام والمساواة في المواطنة؟

ثالثاً: وصلوا للسلطة عبر عملية انتخابية نزيهة فكيف تكون إدارة الحكم بالأسلوب الديمقراطي وما يوجب ذلك من كفالة حقوق الإنسان والتناوب السلمي على السلطة؟

رابعاً: لا استقرار لحكم ما لم يحقق الأمن وأسباب المعيشة في إطار يحقق التنمية والعدالة الاجتماعية.

خامساً: هنالك ثلاثة عوامل متجذرة في الواقع ترعرعت في مناخ غير إسلامي هي: مؤسسات الدولة الحديثة العسكرية والأمنية، والمجتمع المدني بكل تنوعاته، والمجتمع الدولي بنظمه ومعاهداته، فكيف يكون التعامل معها؟

سادساً: وصف الرئيس الأمريكي منطقتنا هذه بأنها أهم قطعة أرض في العالم، وفيها بالإضافة للموقع الإستراتيجي موارد طبيعية كالبترول، والغاز، والجسم الغريب المغروس فيها أي إسرائيل، وحركات الاحتجاج العنيف المنتشرة بوسائلها التي تستخدم العنف بوسائل غير مرتبطة بقانون الحرب الشرعي أو الوضعي، فما العمل مع ملف السلام؟

بالنسبة للقوى الإسلامية الحاكمة هذه فرصة الدهر لإثبات جدارة المرجعية الإٍسلامية بإشباع الوجدان الإيماني وحل المشكلات الدنيوية، ولنفس السبب فإن القوى التي ترى ضرورة إبعاد الإسلام من الشأن العام لا سيما إدارة الدولة فإن هذه فرصة الدهر لإثبات أطروحتهم.

كثير من هؤلاء يرون أن السلطة هي الشرك الذي وقع فيه الإسلاميون لإثبات عدم جدوى شعاراتهم.

هنالك عوامل قد تساعدهم في إثبات فشل هذه التجارب باعتبار أن القوى الإسلامية إنما تغرد خارج سرب العصر فيما يتعلق بحل مشاكل المجتمع الدنيوية.

فإن نجحوا في ذلك وهم خارج الوجدان الشعبي فإن القوى الإسلامية الأجدر في المعارضة جديرة بإفشال تجربتهم للمرة الثانية.

هذه المعادلة الصفرية ستجعل عناصر الثورة المضادة تتطلع لعودة النظم المبادة وإن في شكل استبدادي جديد.

هذه الردة مع وجود أساليب الحركة المبتكرة من اعتصامات، وتوقيعات، وتواصل اجتماعي، وإعلام كاشف، ومنظومة حقوق الإنسان الدولية، سوف يجعل أية نظم استبدادية جديدة محاصرة من اليوم الأول.

الحل الوحيد الصحيح هو أن تستعد القوى الإسلامية من منطلق الشرعية الديمقراطية لتتصدى لمواجهة التحديات المذكورة.

النقطة الخامسة: التجارب الحديثة ودروسها

في إطار إدارة الاختلاف هنالك في الساحة الإسلامية عدد كبير من التجارب الحديثة التي يمكن الاستفادة منها سواء بالتجنب أو القدوة، وسف أختار ثلاث تجارب حسب التسلسل التاريخي: الإيرانية، والسودانية، والتركية.

التجربة الإيرانية:

الثورة الإسلامية في إيران نقضت الاستلاب الذي أسسه نظام الشاه ووالده وأثبتت قوة الإسلام في تعبئة الجماهير والإصلاح، وباجتهاد إسلامي أقامت دولة قوية وأثبتت أن الاستبداد الداخلي مهما كان محصناً ضعيف أمام الإرادة الشعبية، وأثبتت أن الهيمنة الدولية مهما قويت عاجزة عن حماية حلفائها.

الثورة الإسلامية في إيران أيقظت مشاعر المسلمين وأثبتت أن الإسلام هو الحائز على رأس المال الاجتماعي الأكبر في بلاد المسلمين.

ولكن التجربة منذ احتجاز الرهائن الأمريكان، إلى التعامل مع الملف النووي، دخلت في مواجهة دولية أرهقتها بصورة كان ينبغي تجنبها، ومقولة المقاومة الاقتصادية مرهقة فوق طاقة البلاد وغير مأمونة العواقب؛ المسألة ليست أن الطرف الآخر على حق ولكن مواجهة هذا الاصطفاف الدولي غير صحيحة، وينبغي لأية تجربة إسلامية تجنبها.

الموضوع الآخر هو مسألة ولاية الفقيه. إن ولاية الفقيه في المسائل الشعائرية معقولة وممكنة، أما في القضايا السياسية والاقتصادية فالصحيح هو ولاية الأمة.

الانتخابات الجارية حاليا متوقع أن تكون نزيهة، والمناظرة بين الستة الباقين من المرشحين فيها درجة عالية من الشفافية والصراحة، فجميع المرشحين يعترفون بتأزم الحالة الاقتصادية، وخمسة منهم يعزون ذلك للعقوبات الاقتصادية، بل ولايتي انتقد جليلي بأنه خلال المفاوضات الأخيرة قدمت مجموعة الـ5+1 اقتراحات من شأنها أن تساعد إيران على التقدم، والحقيقة أن هنالك مرونة أكثر في الجانب الألماني لم تشجع. وروحاني اعترف بأهمية التفاهم مع أمريكا، لا سيما وأوباما يحاول إرسال إشارات مخالفة لسلفه بوش. انطباعي أن غالبية المرشحين أقرب للواقع من الأماني.

وفي رأيي أن مكانة إيران الكبيرة داخل الأمة الإسلامية تتطلب العمل الجاد لإيجاد مخرج عادل للأزمة السورية والاختلاف حول الجزر الخليجية، وفي حديثي في الذكرى الـ24 لوفاة الإمام الخميني اقترحت الاحتكام لمجلس حكماء لوضع حد للاستقطاب الحالي الذي يراهن أعداء الأمة على استمراره. هؤلاء الحكماء يتصفون بالتقوى والأهلية وعدم الانتماء لأية حكومة.

التجربة السودانية:

الحقيقة أن السودان منذ استقلاله في عام 1956م شهد تجارب عديدة فيها ليبرالية كاملة الدسم، وتجربة شيوعية، وتجارب عسكرية، وتجارب إسلامية ما جعل سجله السياسي حافلاً بتجارب من حيث النجاح والاخفاق، مهمة جداً لغيره في العالم العربي، والإسلامي، والأفريقي وقد سجلتها في كتاب بعنوان: “ميزان المصير الوطني”. فالتجارب بخيرها وشرها قيل عنها:

ألم تر أن العقل زين لأهله ولكن تمام العقل طول التجارب

وبالنسبة للتجربة الحالية فإن أهم معالمها هو أنها كشفت للأمة بياناً واضحاً فيما ينبغي تجنبه:

‌أ- كانت مجموعة من الحركات الإسلامية ذات المرجعية الإخوانية قد اجتمعت في عام 1989م، ونشر د. عبد الله النفيسي مداولاتها في كتاب بعنوان (مستقبل الحركة الإسلامية: أوراق في النقد الذاتي). قالوا في ذلك الاجتماع بضرورة تجنب العمل عن طريق الانقلابات العسكرية التي قال عنها الشيخ الألباني إنها خلاف النهج الإسلامي. كانت قيادة الحركة الإخوانية السودانية مشاركة في ذلك الاجتماع، ولكن لم تتعظ بدروسه وقامت بالانقلاب في 30 يونيو 1989م.

‌ب- واستخدمت أساليب الخداع المسموح بها في الحرب لا في السياسة، ففيها لا تبرر الغاية الوسيلة.

‌ج- وأقدمت على الاستيلاء على السلطة دون إعداد برنامج لنظام الحكم، فانتهى الأمر إلى إقامة نفس النظام شرق الأوسطي الذي أقامه طغاة الشرق الأوسط. وغياب برنامج اقتصادي أدى به الأمر للامتثال لبرنامج صندوق النقد الدولي. واتباع أيديولوجية أحادية في مجتمع متنوع الولاءات الموروثة والإثنيات، أدى لاستقطابات حادة دينية وإثنية، وفتح الباب لتدخلات أجنبية واسعة، والنتيجة تمزق في البلاد وتدويل شؤونها. ومن الناحية الفكرية اضطرت السلطة لنهج براجماتي في إبرام اتفاقية السلام الشامل، فأثارت ردة فعل قوية على اليمين: تيارات انكفائية إسلاموية تكفيرية تقول إما اتباع مقولاتها أو تخوض الجهاد، وعلى اليسار: تيارات علمانية تتكتل لتفرض برنامجها بالقوة المسلحة، فصارت البلاد أمام مخاطر بلا حدود:

رأيت السيف قد ملك الشعوب ولم أر أنه ملك القلــــــوب

وأي حكومة بالسيف تقضي فإن وراءها يوما عصيبا

في خضم هذه الغابة من المخاطر، أطرح وآخرون الآن خريطة طريق لنظام جديد يوفق بين المساواة في المواطنة والمرجعية الإسلامية، ويحقق التحول الديمقراطي والسلام العادل الشامل بمعادلة كسبية وبأسلوب حركي خالٍ من العنف، ومن الاستنصار بالخارج. ويرجى من كل العناصر الحية في الأمة المساعدة على تحقيق هذه الأهداف، لأن تخلف هذه الخريطة سوف يدفع السودان نحو الهاوية.

التجربة التركية:

لا شك أن مصطفى كمال وزملاؤه قد حاولوا سلخ تركيا من جلدها الإسلامي. ولكن بوسائل مختلفة استجاب الشعب التركي لحركات تأصيل إسلامي بعضها صوفي، وبعضها ثقافي اجتماعي، وبعضها سياسي.

الأحزاب السياسية التي نشأت بقيادة المرحوم نجم الدين أربكان كانت تخوض الانتخابات وتكسبها، ثم تحلها القوات المسلحة الحارسة للنظام العلماني. وفي بداية القرن الميلادي الجديد فكرت جماعة من الإسلاميين أن تراجع نهجها فكونت في عام 2001م حزب العدالة والتنمية الذي خاض انتخابات عامة في عام 2002م واكتسحها، ومنذئذٍ صار هو القوة السياسية الأكبر في تركيا. هذا الحزب لا يصف نفسه بأنه إسلامي، ولكنه أعاد تعريف العلمانية بصورة غير معادية للدين، وحجّم دور القوات المسلحة الحارس لعلمانية مصطفى كمال، واتبع سياسة خارجية أكثر استقلالاً ما صنع بيئة صديقة للصحوة الإسلامية؛ إنه نهج يركز على الإنجاز العملي لا الشعارات، وعلى عمل الممكن، وعلى فقه الأولويات. فالمشوار الذي قطعه مهم والدليل على ذلك أنه مع كل تجنبه للتعابير الإسلامية، فإن فلول علمانية مصطفى كمال حاولوا تضخيم الخلاف حول (ميدان تقسيم) لطبخ ربيع تركي، ومجلة عقلانية مثل الإكونومست كتبت افتتاحية عن أردوقان بعنوان (أردوقان: ديمقراطي أم سلطان؟) ورئيس الكنيسيت الإسرائيلي يقول: نصلي من أجل أن تتواصل المظاهرات في تركيا حتى يسقط أردوقان. ويقول وزير البنى التحتية في إسرائيل: نحن نرحب بأي تطور يخلص تركيا من العثمانيين الجدد. هذه شهادات لصالح إخلاصه. ولكن مع أهمية الاستفادة من نهج حزب العدالة والتنمية، فإن عبارة علمانية التي يستصحبونها محملة بأثقال فلسفية لا تناسبنا، فالمساواة في المواطنة، والعقلانية، وحقوق الإنسان؛ مفاهيم ذات مرابط واضحة في مبادئ الإسلام، أما عبارة علمانية فما يجعلها غير مقبولة هو أنها تنكر الغيب. إنكار الغيب يهدم حقيقة الوحي بل والإلهام كذلك.

العلمانية في عالم الشهادة صاغها ابن خلدون بصورة واضحة في

المقدمة: كل ظاهرة طبيعية أو اجتماعية تخضع لقوانين. وهو قوله تعالى: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [2]. خطأ العلمانية المطلقة هو جرها إلى ما وراء عالم الشهادة.

الأصولية في القطعيات الغيبية كذلك ملزمة. خطأ التفكير الانكفائي هو محاولة جرها إلى عالم الشهادة ما أثار مقولة ابن عقيل: السياسة ما كان فعلاً يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد من الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي. وفي “الطرق الحكمية في السياسة الشرعية” هاجم ابن القيم هذا النهج النصوصي قائلاً إن اصحابه جعلوا الشريعة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة لغيرها.

ختاماً:

ثورات الاستقلال العربي الثاني أمامها الاجتهاد في معرفة الواجب متحررة من التقليد، وأن تحيط بالواقع متحررة من الجهل، لتزاوج بينهما تزاوجاً ناجحاً، مستفيدين من التجارب المعاصرة لتجنب الخطأ والاقتداء بالصواب.

ولن يجد رواد هذه التجربة المخاض سهلاً، فأهل الإفراط سوف يحكمون عليهم بمقاييس خارج التاريخ، وأهل التفريط سوف يحكمون عليهم بمقاييس خارج وجدان الأمة، فإن نجحوا فسوف يوفقون بين التأصيل والتحديث في بناء الوطن، وإلا فسوف تضيع فرصة ذهبية وتحتل الساحة المشاجرة بين الانكفاء والاستلاب، وكلاهما سوف يلجأ للعنف، وكلاهما سوف يستعين بالخارج.

 

والله المستعان.

 

 

_____________________________________________________

 

[1] سورة الكهف الآية رقم (29)

[2] سورة طه الآية رقم (50)

 

الرجاء اضغط هنا لمشاهدة المداخلة في الندوة