خطبة الجمعة 7 ديسمبر 2012م التي القاها الإمام الصادق المهدي بمسجد ودنوباوي

الحبيب الإمام الصادق المهدي إمام أنصار الله

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد-

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز

أحييكم تحية طيبة بعد غيبة ثلاثة أسابيع. ولكن بعضنا مقيم في السودان وبعضنا السودان مقيم فيه، فإن غاب جغرافياً حضر بعقله وقلبه.

قال تعالى مبيناً تكليف الأمة بإحياء الدين (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)[1]، وقال: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَـٰؤُلاۤءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ[2]) وقال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم “يَرِثُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَحْرِيفَ الْغَالِينَ”[3].

إحياء الدين يستوجب أمرين مهمين: المحافظة على الثوابت، والاجتهاد المستمر في أمر المعاملات.

الثوابت هي: الإيمان والتوحيد بالله، والنبوة، والمعاد، والأركان الخمسة، ومكارم الأخلاق. هذه الشرائع مطبقة لدى كافة أهل القبلة طوعا. والخطأ في شعار تطبيق الشريعة أنه يوهم بأن تطبيق هذه الثوابت لا يعني تطبيق الشريعة مع أنه يعني ذلك.

الجانب الثاني لإحياء الدين متعلق بنظام الحكم، والاقتصاد، والعلاقات الدولية، وتطبيق الأحكام القضائية والتنفيذية.

هذا الجانب مفتوح للاجتهاد. فالأحكام الجنائية لا يمكن تطبيقها إلا بعد توفير الضرورات كما أوضحت في كتابي “العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي الإسلامي” وذلك لأن الضرورات تبيح المحظورات. وكذلك الاجتهاد مطلوب في أمر الزكاة من حيث المال الذي يزكى، والتنسيق مع الضرائب، وغيرها. لذلك أخرج ابن أبي شيبة أن عمر رضي الله عنه أفتى في بعض أمور الفرائض، ثم أفتى بعد حين بغيره، فقيل له: يا أمير المؤمنين، كنت قد قلت كذا وكذا، قال: ذلك ما قضينا به، وهذا ما نقضي به.

والاجتهاد في هذه المسائل واجب، والتقليد باطل، لذلك رفض الإمام مالك أن يفرض أبو جعفر المنصور كتابه “الموطأ” على الكافة، وقال الإمام أبو حنيفة: كلامنا هذا رأي، فمن كان عنده أحسن منه فليأت به. وقال الإمام أحمد بن حنبل: لا تقلدني ولا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذنا منه.

وقال الجوزي: في التقليد إبطال لمنفعة العقل لأنه إنما خلق للتدبر والتأمل، وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلام.

وحمل الإمام ابن القيم حملة هائلة على الذين يقولون بتطبيق فقه الثوابت من عقائد وشعائر على فقه المعاملات، وقال في كتابه “الطرق الحكمية في السياسة الشرعية” عن المطلوب في السياسة الشرعية وتقصير الفقهاء في أمرها أن هؤلاء:

– قصروا في فهم الشريعة التي لا تحبس في النصوص ولكن الاهتمام بالمقاصد.

– وتقصيرهم في معرفة الواقع.

– وضرورة التزاوج بينهما.

هذا الفهم يقودنا للمشاكل التي تواجه بلدان الفجر العربي الجديد المسمى الربيع العربي.

في هذه البلدان وقع استقطاب حاد بين قوى ترفع الشعار الإسلامي، وهي مهتمة بالواجب، وقوى ترفع الشعار المدني وهي مهتمة بالواقع.

الواقع المعاصر تحكمه خمسة مطالب:

فكرياً: العقلانية والتعددية والمجتمع المدني.

سياسياً: دولة المواطنة ونظام الحكم الديمقراطي.

اقتصادياً: اقتصاد التنمية كما يتطلبها علم الاقتصاد الحديث.

أمنياً: نظام مهني للقوات المسلحة للدفاع، ونظام شرطي للأمن الداخلي، ونظام أمن للمراقبة والمتابعة الأمنية.

دولياً: نظام للعلاقات الدولية يقوم على نظام دولي، ويلتزم بمنظومة حقوق الإنسان.

المشهد الحالي في بلدان الفجر العربي الجديد هو انقسام حاد بين دعاة التوجه الإسلامي، ودعاة التوجه المدني.

نحن نقول بضرورة فهم الواجب الإسلامي اجتهاداً، وفهم الواقع المدني إحاطةً، والتزاوج بينهما، وقد قدمنا في ذلك اجتهادات يمكن أن تصير أساساً للتوفيق بين المطلبين: الأصل، والعصر. وسوف نسعى بكل ما نستطيع لنشر هذه الدعوة وهذا التوجه.

في عام 1998م قال لي أحد كبار الساسة في مصر، يا أخي: إن في مجتمعنا صداماً متوقعاً بين تيارين: إسلامي وعلماني، وإن فكركم يقدم توفيقاً لطيفاً، فأرجوك تعال وكون منبراً في مصر لإيجاد مخرج لمجتمعنا، فمصيرنا مشترك، والصدام في مصر سوف يجر السودان وسائر المنطقة للتهلكة. للأسف المشهد الآن في بلاد الربيع العربي استقطابي حاد، وإذا لم يعالج فسوف يفجر كل الحزازات الموروثة، ويفتح باب التدخل الأجنبي، وكما حدث في الماضي فإن الفتنة تفتح الباب للاستسلام للمتغلب أي صاحب الشوكة.

بالأمس قال الرئيس مرسي إنه يدعو المعارضة لحوار غدا السبت ونحن نرحب بهذه الدعوة وأرجوه أن تتبع هذه الدعوة بأنه مستعد لإعادة النظر في الإعلان الدستوري وأنه مستعد لكفالة استقلال القضاء ويقبل وفاقية عملية الدستور على أن تعلن المعارضة أنها تحترم شرعية الرئاسة مع نداء الطرفين للكافة تجنب العنف والاستعداد للوفاق الوطني.

هذه قضية سوف ننطلق فيها التزاما بواجب: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)[4]. ونستجيب لمقولة نبي الرحمة صلى الله عليه ونسلم: (منْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ)[5]. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز.

قال تعالى: (وفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)[6]. وقال: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ)[7].

إن بلادنا في محنة كبيرة. كانت التجربة الديمقراطية تعاني من أنها اهتمت بالحقوق السياسية الليبرالية وأغفلت الديمقراطية الاجتماعية، والثقافية، والجهوية. والمطلوب حقاً: نعم للديمقراطية، ولكن التوازن الذي يشمل الجوانب الأخرى الاجتماعية، والثقافية، والجهوية ضروري لاستدامة وجدوى الديمقراطية.

النظم الدكتاتورية أطاحت بالحرية بهدف تحقيق أهداف أخرى فكانت النتيجة ضياع الحرية. وساقها الانفراد إلى إخفاقات كثيرة ولم تحقق أهدافها المعلنة.

صار واضحاً أن تجربة نظام “الإنقاذ” شوهت الشعار الإسلامي لأنها أهدرت مقاصده في الكرامة والحرية والعدالة والمساواة والسلام. ومزقت البلاد وعممت الفساد.

الآن وبعد ما يقرب من ربع قرن على التجربة نشهد:

مؤتمر الحركة الإسلامية الثامن برهن على أن السند الدعوي للنظام غير راضٍ على سياساته، والمحاولة الإنقلابية الأخيرة أوضحت أن الجناح العسكري والأمني الذي نفذ الإنقلاب ودافع عنه منقسم انقساماً حاداً.

وجدل محاولة البحث عن كبش فداء في إطار الدعوة في شخص د. غازي صلاح الدين، والبحث عن كبش فداء في إطار المنظومة الأمنية في شخص الفريق صلاح قوش، لا يجدي.

طبعاً هذا الكلام في الإطار العام لا يمنع المساءلة القانونية التي نرجو أن تكون عادلة قال سبحانه وتعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ)[8]، حكمتم يعني قضيتم. وأي محاولة لاستخدام كلام منسوب إليّ لتجريم صلاح قوش كلام باطل والشاهد على ذلك الصحفيون الذين جمعهم معي لقاء اجتماعي في القاهرة.

نرجو أن ينظر ولاة الأمر للموقف على ضوء الصورة الواسعة، وفيها:

· سودانيون رفعوا السلاح في شكل جبهة ثورية.

· سودانيون رفعوا السلاح في شكل جبهة تنادي بأهداف إسلامية منكفئة.

· استمرار أزمة دارفور.

· تأزم الموقف الاقتصادي.

· استمرار المواجهة مع الأسرة الدولية.

قال جون كندي: (الذين يجعلون الثورة السلمية مستحيلة يجعلون الثورة العنفية حتمية).

لذلك نحن نقدم مشروعاً لحل استباقي، لو أقدمت عليه قيادة البلاد الحالية لحققت إنجازاً تاريخياً عظيماً، بل لكفرت عن إخفاقات الماضي، وفتحت الباب لسودان قادر على المساهمة في حل كثيرٍ من المشاكل في بلاد الفجر العربي الجديد، وفي النزاع بين أثيوبيا وإريتريا، وفي كثيرمن أزمات أفريقيا.

مشروعنا واضح المعالم، فيه برنامج قومي شامل ونظام قومي انتقالي لا يهيمن عليه أحد ولا يعزل أحداً. وفيه خريطة طريق لسلام عادل شامل وتحول ديمقراطي كامل.

ولكن إذا حال دون ذلك الانفراد والعناد فالخيار الآخر هو توقيع كافة المطالبين بنظام جديد على ميثاق وطني، ودعم موقفهم هذا بحركية واسعة من اعتصامات داخلية وخارجية تتصاعد حتى إضراب سياسي عام من أجل خلاص الوطن.

هذه هي مفردات الواجب الوطني والتي نرجو أن نلتزم بها والله ولي التوفيق.

اللهم يا جليلا ليس في الكون قهر لغيره، ويا كريما ليس في الكون يد لسواه، ولا إله إلا إياه. بحق الطواسين، والحواميمِ، والقافات، والسبع المنجيات، ويس، وخواتيم آل عمران نور قلوبنا أفراداً وكياناً، رجالاً ونساءً، وأغفر ذنوبنا أفراداً، وكياناً، ووفق جهادنا أفراداً وكياناً لبعث هداية الإسلام في الأمة، وحماية الوطن من كل فتنة وغمة. اللهم أنت تعلم أن كياننا قد اتصف بالصمود في وجه الابتلاءات والتصدي للموبقات، فواله بلطفك يا لطيف لنصرة الدين ونجدة الوطن. (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)[9] . (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)[10] . يا مغيث أغثنا ويا نورا بالتقوى نورنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

عباد الله (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله،،

 

____________________________________________________________

 

[1] سورة المائدة الآية 54

[2] سورة الأنعام الآية 89

[3] السنن الكبرى للبيهقي

[4] سورة آل عمران الآية 104

[5] رواه الطبراني- موسوعة الحديث حديث رقم: 7686

[6] سورة الذاريات الآيات 20، 21.

[7] سورة يوسف الآية 111.

[8] سورة النساء الآية 58.

[9] سورة يوسف الآية (110)

[10] سورة الحج الآية (38)