خطبة عيد الأضحى المبارك (عيد الضيم) 22 مايو 1993م

بسم الله الرحمن الرحيم

عيد الضيم

الخطبة التي ألقاها السيد الصادق المهدي بعد احتلال النظام السوداني لمجمع بيت الإمام المهدي

في 10 ذو الحجة 1413هـ/ 22 مايو 1993م

 

الحمد لله (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)[1] والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده” وبعد-

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وأبارك لكم العيد الذي حوله التعصب الحزبي الحاكم في السودان عيد ضيم لأكبر جماعة إسلامية في السودان كان لها الدور الإسلامي الأول في إقامة الدين، والدور الوطني الأول في استقلال البلاد، وكان لها ولمن معها في الرأي الرقم الانتخابي الأول في كل انتخابات حرة عرفها السودان.

لقد أرسل التعصب الحزبي الحاكم في السودان جماعة مسلحة في فجر يوم السبت أول ذي الحجة الموافق 22 مايو الجاري إلى مجمع مسجد وقبة وبيت الإمام المهدي في الشهر الحرام، مهدرين حق المسلم على المسلم وحقوق المواطن فانقضت الجماعة المسلحة على المنشآت واعتقلت من فيها من حراس وضيوف ومصلين،، لقد أعماهم التعصب الحزبي فأهدروا حق المسلم والمواطن تماما كما أضل التعصب الهندوسي من أهدروا حق المسلم المواطن في أبوديا، وأضل التعصب الصهيوني أهله فأهدروا حق المسلم والمواطن في فلسطين، وأضل التعصب المسيحي ذويه فاعتدوا على حقوق المسلمين والمواطنين في أرض البوسنة.

إن مجمع بيت المهدي مكون من أربعة مرافق هي:

  1. مسجد كان في المهدية زاوية للخليفة على ود حلو، وعندما استرد الإمام عبد الرحمن الموقع من الاستعمار في 1946م أحياها وجعلها مسجدا للجمعة والجماعة، مسجدا هدمه الطغيان في 1970م ثم بنى في موضعه المسجد الحالي، المسجد مشيد على أرض مملوكة ملكا حرا للإمام عبد الرحمن، والمساجد لله، وأئمة المساجد في السودان تقنن هذه الحقيقة وتجعل الإشراف على شئون المسجد الإدارية مسئولية لجنة ينتخبها المصلون.. هذا ما كان عليه هذا المسجد، وكان منبره صوتا إسلاميا حرا يلتزم بالعفة والموضوعية وإسداء النصح وإبداء الرأي الإسلامي الصحيح.
  2. قبة الإمام المهدي التي بناها في المهدية خليفة المهدي، وهدمها المستعمر كتشنر، وأعادها الإمام عبد الرحمن المهدي بعد أن استردها في عام 1946م، وصرف عليها من حر ماله، وشاركه في دفع التكاليف الأنصار رجالا ونساءا كل حسب قدرته.. والقبة تضم ضريح الإمام المهدي وابنه الإمام عبد الرحمن وخليفتيه الإمامين الصديق والهادي، وعلى طول عهدها يزورها الأنصار ترحما وتبركا، ويزورها غيرهم استطلاعا وتقديرا وعرفانا.
  3. مسكن الإمام المهدي العتيق وهو صرح تاريخي تحميه قوانين الآثار في السودان ومواثيق حماية الآثار الدولية من أن يحول لأي غرض آخر. القبة وهذا المنزل الأثرى ضما لهيئة الآثار السودانية في عهد النظام المايوي واستمرا كذلك عندما أعيدت الأملاك الموروثة لأصحابها لأن الورثة خاصة، والأنصار عامة كانوا بصدد الاتفاق على صيغة قانونية تجعل مجمع بيت المهدي وقفا يرعاه مجلس أمناء يرضاه جميع المعنيين، إن المجمع كله قائم على أرض مملوكة للإمام عبد الرحمن، ورغبة الورثة أن يكون المجمع وقفا لمصلحة أنصار الله، ولا يمكن تغيير ذلك إلا غصبا لا تجيزه الشريعة ولا القانون.
  4. المرفق الرابع عبارة عن مبان جديدة وميادين فسيحة استلمها الأنصار بعد استرداد البيت للمرة الثانية في عام 1980م ومنذ استلامه صاروا يمارسون فيه نشاطهم الديني، والثقافي، والاجتماعي، ويقيمون فيه أفراحهم وأتراحهم ويحيون فيه المناسبات الدينية والوطنية ويستقبلون فيه ضيوف السودان.. وكان المرفق مكاتب هيئة شئون الأنصار- المؤسسة التي تدير كيان الأنصار.

ومنذ استلم الإمام عبد الرحمن مجمع بيت المهدي سماه بيت الأمة، وجعله مكانا لأنشطة دينية واجتماعية كثيرة، ومع أن البيت بيته وكان هو راعيا لحزب الأمة فإنه اختار أن يكون النشاط الحزبي في مكان آخر هو دار الأمة.

وعندما استلمنا مجمع بيت المهدي للمرة الثانية جعلناه مكانا للأنشطة الدينية والثقافية والاجتماعية تحت إدارة هيئة شئون الأنصار، وعندما حدثت انتفاضة رجب/ أبريل 1985م قررنا بحسم ألا يقوم نشاط حزب الأمة في مجمع بيت المهدي لذلك استأجرنا دارا للحزب في منطقة الملازمين، واستمر نشاط الحزب بعيدا من بيت المهدي.

صحيح أن الإسلام دين ودولة وعقيدة وشريعة، ولكن التحضر الإسلامي والعرف الأنصاري قسم الأجهزة وخصص المجالات بوضوح تام، ولم يقع أبدا أي خلط في هذه الأمور.. بل حافظت هيئة شئون الأنصار على أغراضها كما حددها الدليل التأسيسي، هذا طبعا لا يمنع أن يكون لأمانة الدعوة والإرشاد رأيا في قضايا البلاد العامة.. رأيا ناصحا ناضجا موضوعيا. ولكن الأنشطة الحزبية أبعدت تماما من مجمع بيت المهدي.. أما ما زعم آخر المسئولين غصبا على المجمع من أنه كان القائمون على إدارة المجمع يعلمون تماما مهامه ولا يسمحون بخلط الأمور. إن المسئولين الجدد هم أصحاب نظرة حزبية ضيقة ويريدون إخضاع مساجد السودان ومراكز الإرشاد في السودان كلها لسياساتهم الحزبية الفوقية الضيقة مثلما أخضعوا لها أجهزة الإعلام الرسمية ففقدت مصداقيتها تماما.

إن كيان الأنصار وورثة الإمام عبد الرحمن وكل ملتزم بالشريعة أو مدرك للقانون يعلمون هذه الحقائق، وسوف يعملون لإبطال التعدي على مجمع بيت المهدي وعلى وظائفه المذكورة.. وسوف يستردون المجمع لوظائفه ويبطلون الغصب كما حدث مرتين قبل ذلك في الماضي القريب، إذ وقع الغصب في عام 1899م واسترد في عام 1946م، ووقع مرة ثانية في 1970م واسترد في عام 1980م .

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز:

إن المسلم الواعي يدرك تماما اليوم كيف أن تدبيرا كبيرا معاديا يؤلب المسلمين ويوظف التعصب الحزبي باختلاف شعاراته لإغراق الأمة الإسلامية في الفتن والاضطرابات وإزهاق الأرواح لكي يقال أن الإسلام هم مصدر التعصب والإرهاب، ولكي يقال أن الإسلام هو العقبة في سبيل نهضة المسلمين واستقرار التوجه الحضاري في العالم.

إن المتعصبين الحزبيين يقومون بهذه المهمة الضارة بالإسلام سواء كانوا واعين لذلك أم غير واعين.. إنهم يندفعون في تصرفات ضيقة الأفق ولا يهمهم إن كانت تمهد للتمزق الداخلي أو تفتح بابا للتدخل الأجنبي. وكلما ناشدناهم السعي الحثيث لمنع أسباب الفتن الداخلية، وقفل أبواب التدخلات الأجنبية أعرضوا وأصروا واستكبروا استكبارا، بل ولفقوا لنا التهم بأننا ندير مؤامرات لاغتيالات وتخريب للمنشآت.. كل هذه لا تسمح أن نقبل الدخول في مثل ما رمونا به. إننا ننفي نفيا صادقا أكيدا أن يكون بيت المهدي مخزنا للسلاح أو مكانا لأعمال تتعارض مع الدليل التأسيسي لهيئة شئون الأنصار. ونؤكد أن ما رمينا به من تهم تلفيقات لا يصدقها حتى المروجون لها.

إننا إذ ننفي هذه التهم نؤكد موقفنا المبدئي وهو الصمود على مبادئنا والالتزام بوسائل الجهاد المدني والحرص على عدم فتح أبواب الدماء في البلاد باختيارها.

وعندما اعتدى النظام واستعدانا في هذا الشهر الحرام استلهمنا موقف النبي (ص) في الحديبية، وكظمنا غيظنا، ورجحنا الموقف الآتي:

صلاة العيد سنة عين مؤكدة لكل من يؤمر بالصلاة، بمعنى أنه يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، وتسن جماعة لغير الحاج، وتؤدى الصلاة في موقع فلاة- أو صحراء- فسيح، ويندب أن يمشى المصلي إليها ماشيا مكبرا باستمرار حتى وصول الإمام، وأن يحضرها الناس في جماعة حاشدة، حتى الحائضات من النساء يحضرن الخير ودعاء المسلمين ويسمعن الخطبة وإن كن لا يصلين.

كل سنن ومندوبات صلاة العيد تؤكد أن من مقاصده إظهار الفرحة والبشاشة وإظهار عزة الإسلام والمسلمين.. هذه المقاصد تتنافى مع الحصار والإكراه والإرهاب الرسمي على أنصار الله ونفيهم عن مصلاهم المعتاد.

ب. إن ما أقدمت عليه السلطة في السودان من منع أنصار الله بقوة السلاح من الصلاة في مسجد خليفة المهدي استدراج للأنصار لفتنة في يوم العيد وفي الشهر الحرام.. الواجب الديني والوطني يلزمانا ألا نستجيب لهذا الاستدراج.

ج. لذلك قررنا رفع صلاة عيد الأضحى المبارك (10 ذي الحجة 1413هـ) في أم درمان حتى يأذن الله بالفرج، (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ)[2]

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز:

(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ)[3].

استلهاما لهذه الهداية الربانية إننا نعلن رأيا واضحا، رأيا قوميا ننشد فيه مصلحة الدين والوطن.. رأيا نجهر به داخل السودان. ونلتزم الجهاد المدني وسيلة لتحقيقه. إن هذا الموقف الصريح الذي نتخذه، والأسلوب المدني الذي نلتزم به هو المناسب للإسلام وللسودان في هذا الظرف الصعب الذي تمر به أمتنا ويمر به وطننا.. إنه موقف تنتمي إليه كل التطلعات الإيجابية:

  1. من تطلع للإسلام نظاما اجتماعيا عادلا وبديلا حضاريا ممتازا يدرك الآن أن ذلك لا يكون بنهج حزبي فوقي قهري، بل يجب أن يكون بصحوة إسلامية، روحية، خلقية، اجتماعية، ونهج فيه احترام لحقوق الإنسان ولحرياته الأساسية، وللشورى، والعدالة، والرحمة.. الإسلام هو السبيل الأفضل لهذه القيم والمبادئ ولا يعقل أن يكون داعية إسلاميا من يحرض الناس جهرة على القتل والله يقول: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا )[4]
  2. المتطلع للسلام في السودان يدرك الآن أن السلام لن يتحقق نتيجة إملاء رأي حزبي معين.. بل لا يحققه إلا وفاق قومي شامل.
  3. المتطلع لعلاقات دولية إيجابية يدرك الآن أن ذلك لن يكون إلا باحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وكرامته.

الالتزام بالنهج الديمقراطي هو سبيل تأكيد أسبقية الإسلام كأول نظام اجتماعي قال بالشورى والعدل أساسا للحكم. والالتزام بالنهج الديمقراطي هو سبيل إتاحة المجال للحركات الشعبية الإسلامية لتعلن عن رأيها وتعمل له.. والالتزام بالنهج الديمقراطي بحق وصدق وجدية هو البديل الوحيد لتعرية الذين يحاولون سلب الحركات الإسلامية من حقوقها السياسية باسم الحفاظ على الديمقراطية. والالتزام بالنهج الديمقراطي هو السبيل الوحيد لتبرئة الإسلام من تهمة الاستبداد في الحكم والإرهاب في المعارضة. إن الالتزام بالنهج الديمقراطي الآن واجب إسلامي وواجب وطني.. بل إن التجارب العربية، والأفريقية، والدولية المعاصرة تؤكد أن التوجه الديمقراطي أمر حتمي:

  • ففي البلاد الأفريقية الناطقة بالفرنسية حدثت مواجهات بين حكام يبقون على نظام الاستبداد وشعوب تنادي بالديمقراطية، وبعد حصار داخلي وخارجي تقهقر الاستبداد واتفق على عقد مؤتمرات قومية لوضع برنامج التوجه الديمقراطي.. هذا الطريق فتحته تجربة جمهورية بنين.
  • وفي البلاد الأفريقية الناطقة بالإنجليزية حدث توتر بين نظام الحزب الواحد وتطلعات الشعوب للديمقراطية. وبعد حصار داخلي وخارجي تزحزح الاستبداد وخطط النظام لانتخابات عامة حرة.. هذا الطريق فتحته تجربة زامبيا.
  • وفي كثير من البلاد الإسلامية ركز المفكرون والدعاة على المطلب الديمقراطي، باكستان هي الرائد في هذا المجال، ومع التعثر فإن قرار المحكمة الدستورية الأخير يؤكد استقلال القضاء ويؤمن مسيرة الديمقراطية.
  • وفي كثير من البلاد العربية تتزايد مؤشرات التوجه الديمقراطي وهي التيار الصاعد رغم النكسات.. وفي هذا الصدد طوبى لأهل اليمن تجربتهم الديمقراطية.. حقا إن الحكمة يمانية.

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز:

إن النظام الحالي في السودان قد اتبع سياسات خاطئة حاصرته بمشاكل لا قبل له بحلها، وأمام هذا الطريق المسدود فإن بعض الناس يتطلع لإنقاذ أجنبي، وآخرون يتأهبون لمنازلات دموية، إننا نخالف تلك الاتجاهات ونرى أن الجهاد المدني المعتمد على قدرات أهل السودان الذاتية هو السبيل الأفضل لإنقاذ السودان.

أن قضايا السودان الأساسية خمس هي: التأصيل، والشرعية، والتنمية، والسلام، والعلاقات الدولية.

هذه القضايا لا يجدي معها فرض برنامج حزبي قهري. بل لا يجدي معها إلا التخلي عن ذلك البرنامج الحزبي والسعي لحلها قوميا وديمقراطيا.

إننا كسائر أهل السودان نتطلع لتأصيل يبعث الإسلام ويكفل حقوق الآخرين ولشرعية تقوم على نيابة الحكم ومساءلته أمام الشعب، وإلى تنمية تدفع بالاستثمار والإنتاج وتحقق عدالة التوزيع بين الأقاليم والفئات، وإلى سلام عادل يعطي كل ذي حق حقه في وطن واحد. وإلى علاقات دولية تكفل حرية القرار الوطني وترعى السلام العادل والتعاون الدولي.

أما في نطاق الأنصار الخاص فإننا نسعى لتحرير كيان الأنصار ورفع الضيم عنهم واسترداد مجمع بيت المهدي لوظائفه المشروعة.

إن هيئة شئون الأنصار هيئة يحكمها الدليل التأسيسي وهي ملتزمة بما في ذلك الدليل ولا تقبل تدخلا في شئونها أو حجرا لحرية عملها بموجب ذلك الدليل، إن هذا القدر المعلوم من الحرية والكرامة شرط لموصلة الهيئة عملها العلني المشروع وإلا أوقفت الهيئة أعمالها وأعلنت عن استحالة عملها داخل السودان واضطرت للهجرة إلى مراكز الأنصار الأخرى خارج السودان..  (قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا)[5] .. إن لأنصار الله وجودا في عشر دول في العالم.

اللهم يارب، يا مجيب دعوة المضطرين أجب دعاءنا وقابل كسرنا وفناءنا برحمتك وبقيتك يا أرحم الراحمين.

[1]  سورة النحل الآية 127.

[2]  سورة الأعراف الآية 89.

[3]  سورة يوسف الآية 108.

[4]  سورة المائدة الآية 32.

[5]  سورة النساء الآية 97.