خطبة عيد الأضحى المبارك 27 نوفمبر 2009م

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة عيد الأضحى المبارك 

10 ذو الحجة 1430هـ الموافق 27 نوفمبر 2009م

الخطبة الأولى

اللهُ أكبرُ.. اللهُ أكبرُ.. اللهُ أكبرُ

 

الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ وآلِهِ وصحبِهِ ومنْ والاهُ، وبَعد-

أَحْبَابِي فِي اللهِ وأخوانِي فِي الوَطَنِ العَزيزِ،

بالأمس وقف الحُجَّاجُ فِي عرفاتٍ مؤدّينَ أهمَّ شعائرَ الحجِّ. الحجُّ رحلةٌ عباديةٌ لبيتِ اللهِ الحرامِ في مكةَ. وهدفه هو جمع العقول والقلوب على عقيدة التوحيد وحشد الموحدين حول بيت الله، إنه بيت رمزي كما أن شعائر الحج ترمز للمساواة بين المسلمين أمام الله، وترمز لإحياء قصة إبراهيم عليه السلام وزوجه هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام وما في القصة من عبر وعظات محملة بالمعاني والمعاناة امتثالا لأمر الله.

ومنذ بداية الإسلام صار الوقوف بعرفة قمة شعائر الحج، وصار يومنا هذا عيدا لكل أهل القبلة، وسنت فيه الأضحية قربانا (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)[1]. لذلك يجب خلو الأضاحي من العيوب إمتثالا لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)[2]  وفي يوم العيد يتنادى المسلمون لصلاة محضورة، صلاة جامعة في مكان غير معتاد كمظاهرة إيمانية. والعيد مناسبة لتجديد العلاقات الإجتماعية بالتزاور، والتعافي، وتبادل الهدايا، وإدخال السرور على الأطفال في بهجة تعم كل الأجيال.

أحبابي في الله وأخواني في الوطني العزيز،

من يتأمل حال وفود المسلمين للحج يدرك أنهم جميعا يقدسون القرآن تقديسا لا يماثله تقديس أية ملة أخرى لكتابها، وهم جميعا يحبون النبي محمد (ص) بحميمية منقطعة النظير بين أية جماعة وقدوتها. وهم يرتبطون بمرجعية أخلاقية واحدة ويمارسون شعائر عبادية متطابقة.. عوامل أورثتهم وجدانا مشتركا.

هذا التوجه المتحد كون في الماضي كيانا سياسيا، وأمنيا، واقتصاديا واحدا ثم بعوامل التردي الذاتي، وعوامل الغزو الأجنبي تمزق الكيان السياسي فصار دولا توالى تفرقها حتى صارت اليوم أكثر من خمسين دولة.

المسلم المعاصر تتقاسم ولاءه عدة دوائر منفردة ومتداخلة هي: دائرة قطرية تدير أمر الحكم والاقتصاد، ودائرة مذهبية تتحلق حولها الولاءات الدينية، ودائرة قومية تقوم على التراث القومي للشعوب، ودائرة قارية أفريقية، وآسيوية، وأوربية، وأمريكية، ودائرة عالمية تهيمن عليها ظاهرة العولمة.

المفكرون المجددون الإسلاميون لا يرضون هذا التمزق ويسعون لبعث إسلامي يوحد المسلمين، ويحررهم من الهيمنة الأجنبية.

البعث الإسلامي المنشود يتخذ اليوم أشكالا عديدة أهمها إثنان: بعث هو بمثابة طفرة للوراء لإحياء أنماط قديمة في الحكم والتشريع. وبعث هو بمثابة طفرة للأمام لإقامة أنماط في الحكم والتشريع توفق بين التأصيل والتحديث.

ولكن البعث الإسلامي المتطلع للماضي، أو المتطلع للمستقبل يحرصان على تحرير المنطقة من الهيمنة الدولية ويسعيان لاستقلال الإرادة في إدارة الشأن الداخلي والخارجي. ولكن إقليم العالم الإسلامي يقع في منطقة ذات أهمية جيوسياسية خاصة وذات أهمية بتروسياسية بما يملك من مخزون للنفط في العالم.

لقد كانت السيطرة على العالم العربي – أحد أركان الأمة الإسلامية- أحد أهم أسباب غرس إسرائيل كيانا متناقضا دينيا، وقوميا، وثقافيا، مع دول المنطقة لتقوم بدور استراتيجي في تحجيم أية نهضة وطنية، أو قومية، أو إسلامية في المنطقة.

ومنذ حين تعددت محاولات تكريس الهيمنة على المنطقة بإفراغ دولها من أية نهضة قومية أو إسلامية لتصير جزءاً من منظمات بمسميات مثل الشرق الأوسط الجديد، والشرق الأوسط الكبير، واليورومتوسطية وكلها تعني توحيد المنطقة حول مصالح اقتصادية وجيوسياسية تضم دولها وإسرائيل في كيان إقليمي واحد. والمشروع الآخر لتدجين المنطقة هو تفتيت دولها على المستوى القاعدي على أساس إثني ومذهبي.

إن مشروع التفتيت هذا سوف يمضي قدما ويتحقق ما لم تتمكن دول العالم الإسلامي من الاحتكام لقاعدة ديمقراطية في إدارة الحكم، وقاعدة تنمية اقتصادية عادلة، ومعادلة توازن لاحتواء التنوع الملي والمذهبي والإثني والثقافي.

الدلائل اليوم تشير إلى أن الكيان القومي الفارسي في الأمة؛ عبر الثورة الإسلامية الإيرانية وما قد طرأ على المذهب الشيعي من تطور وما يرجى أن يجري في هذا الصدد، قد حرر إرادته ويتجه لبناء نهضة حديثة بمرجعية إسلامية.

كذلك وبعد سبعين عاما من التوغل في أصولية علمانية يتجه الكيان القومي التركي نحو تجربة توفق بين الأصل والعصر.

الحلقة الأضعف اليوم في كيان الأمة الإسلامية هي الكيان القومي العربي وهو الأكثر استهدافا بسبب الجوار الإسرائيلي وبسبب الوفرة النفطية. ولذلك فإنه الأكثر تعرضا لمشروعات التشظي التي ساعدتها السياسيات القطرية الخاطئة في العراق، وفي السودان، وفي الصومال، وفي اليمن، وفي غيرها لبلوغ مقاصدها.

لقد كانت فلسطين ولا زالت رأس الرمح في المشروع الإمبريالي في  المنطقة. وفي العاشر من شهر نوفمبر الماضي عقد في عمان مؤتمر منتدى الوسطية العالمية السادس  للنظر في استمرار مشروع تهويد القدس وخلق واقع سكاني جديد في الأرض المحتلة.

وقد كان خطابنا في ذلك المؤتمر الجامع أن يتحد الموقف العربي على أساس:

أولا: صرف النظر عن عملية السلام العبثية التي لم تحقق سوى تخدير الإرادة العربية وتمكين التوسع الإسرائيلي.

ثانيا: توحيد الصف الفلسطيني حول أجندة من بندين هما: الصمود والمقاومة.

ثالثا: تسخير كل الإمكانات العربية، والإسلامية لدعم الصمود والمقاومة.

رابعا: توحيد الموقف العربي حول خطاب لأمريكا فحواه: أن تختار بوضوح الوقوف مع الحق السليب أو مع العدوان. ولكن هذا النوع من التصميم لا يمكن تحقيقه ما دامت الأمة العربية تعاني من الهشاشة التي كشفت عنها أحداث كثيرة وآخرها المباراة الحربية بين الفريق المصري والجزائري في أم درمان. هذا الحدث يوجب أمرين:

الأول: تحقيق تجريه الجامعة العربية لبيان وتوثيق الحقائق التي طمس معالمها إعلام مضلل.

الثاني: قيام منبر عربي مؤهل لدراسة الأزمات الداخلية والبينية التي جعلت حدثا عاديا-مباراة كرة بعيدة عن كأس العالم- تتحول من حجمها الطبيعي لتصير مباراة حربية يترتب عليها دخول بلدين ممتازين في الأسرة العربية، مصر الشقيقة الكبرى، والجزائر رمز الكفاح الوطني، في حرب باردة. لقد عبر الشاعر فاروق جويدة عن مشاعرنا بقصيدته التي جاء فيها:

شهيد على صدر سيناء يبكي

ويدعو شهيدا بقلب الجزائر

إذا الفجر أصبح طيفا بعيدا

تباع الدماء بسوق الحناجر

لقد جمعتنا دماء القلوب

فكيف افترقنا بهزل القدم؟

 

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز، 

عالمانا الإسلامي والعربي جزء لا يتجزأ من عالم الجنوب الذي يضم الدول الأفقر في العالم، يضم البليون فقيرا وفيه المفارقة أن 80% من سكان العالم يمكلون 20% من دخله بينما يملك 20% من أغنياء العالم 80% من دخله. لقد أدرك العالم الغني أن شعوب العالم الفقير سوف تفرخ الإرهاب، والهجرة غير القانونية، وإنتاج المخدرات، وغيرها مما سميناه أسلحة الضرار الشامل ولكنهم لا يتعاملون مع تنمية العالم الفقير بجدية، ففي عام 2000م نشرت الأمم المتحدة أهداف الألفية الجديدة بهدف القضاء على نصف نسبة الفقراء بحلول عام 2015م وبتخصيص 0.7% من دخل الدول الغنية لتنمية الدول الفقيرة، ولكن بعد مضي ثلثي الزمن لم يتحقق ذلك ما يدل على عدم جدية العالم الغني إذ أنهم عندما واجهوا الأزمة المالية العالمية في عام 2008م ضخوا في الاقتصاد حوالي 8 ترليون دولارا.

صحيح العالم الفقير نفسه يساهم في تكريس البؤس بما فيه من حوكمة مستبدة وفاسدة تقهر الشعوب وتمتص دماءها.

وقعت 141 دولة على معاهدة الأمم المتحدة ضد الفساد. المعاهدة مضت على ميثاق ضد الفساد وآلية محايدة للتحري عن التزام الدول بمبادئ الميثاق. وفي مؤتمر الدوحة عارضت كثير من الدول الفقيرة الإجراءات التي تجعل التقرير الذي يكتبه المتحرون شفافا وعلنيا.

كارثة أخرى سببها سلوك الدول الغنية وستدفع الدول الفقيرة ثمنها هي الاحتباس الحراري والتغيير المناخي. واتفقت الدول في عام 1997م في كيوتو باليابان على اتخاذ إجراءات معينة لسلامة البيئة ولكن بعد أكثر من 12 عاما لم تنفذ ما التزمت به.

ولا بد أن يساهم العالم الغني بصورة واضحة في احتواء آثار الاحتباس الحراري في العالم الفقير وأهم ما ينبغي عمله هو تمويل المشروعات الآتية:

  • بسط الغطاء النباتي في كافة مناطق العالم الفقير القابلة لذلك مما سيكون له أثر كبير في محاربة التصحر وفي امتصاص ثاني أوكسيد الكربون أحد أهم الغازات الدفيئة.
  • تمكين هذه البلدان من استخدام الطاقة الشمسية في كافة الأغراض المنزلية، كالطبخ، والتسخين، والتبريد.
  • إقامة الدفاعات ضد الفيضانات المتوقعة.

لقد وجهت النرويج الدعوة لمؤتمر يعقد في ديسمبر القادم حول موضوع تغير المناخ وينبغي أن يسعى ممثلو الدول الفقيرة خاصة منظمات المجتمع المدني فيها لتبني المؤتمر مشروع نجدة للعالم الفقير من آثار الاحتباس الحراري.

هذه المهام النهضوية العربية، الإسلامية، والعالم جنوبية، لن تتحقق ما لم تتبناها كتلة تاريخية فاعلة تجند قوى اجتماعية حية وتعمل لتحقيق الأهداف النهضوية في المجالات المختلفة.

قال الشيخ الصالح عبد القادر الجيلاني: ليس الرجل من يستسلم للقدر، إنما الرجل من ينازع القدربالقدر. وقال فيلسوف الشعراء محمد إقبال: المؤمن الضعيف يحتج بقضاء الله وقدره، والمؤمن القوي يعتقد أنه هو قدر الله الذي لا يدفع.

لا شك أنهما استمدا هذه الحكمة من قول البارئ جل وعلا (إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)[3].

استغفروا الله.

 

[1]  سورة الحج الآية (37).

[2] سورة البقرة الآية (267).

[3] سورة الرعد الآية 11