خطبة عيد الفطر المبارك 12 أكتوبر 2007م

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة عيد الفطر المبارك

أول شوال 1428هـ الموافق 12/10/2007م

مسجد الهجرة بودنوباوي

الخطبة الأولى

الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر

 

اللهُمَّ إنِّي أحْمَدُكَ وأُثْنِي لَكَ الحَمْدَ يَا جَلِيلَ الذَاتِ ويَا عَظِيمَ الكَرَمِ، وأَشْكُرُكَ شُكْرَ عَبْدٍ مُعْتَرِفٍ بِتَقْصِيْرِهِ فِي طَاعَتِكَ يَا ذَا الإِحْسَانِ والنِعَمِ، وأَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ بِحَمْدِكَ القَدِيْمِ أَنْ تُصَلِّيَ وتُسَلِّمَ عَلَى نَبِيِّكَ الكَرِيْمِ وعَلَى آلِهِ ذَوِيْ القَلْبِ السَلِيْمِ، وأَنْ تُعْلِيَ لَنَا فِي رِضَائِكَ الهِمَمَ، وأَنْ تَغْفِرَ لَنَا جَمِيْعَ مَا اقْتَرَفْنَاهُ مِنَ الذَنْبِ والّلمَمِ، وبعد،

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز

ربُّنَا سُبْحانَهُ وتَعالَى ميَّزَ بَعضَ بِقاعِ المكانِ كالحرمينِ والمسْجدِ الأقْصَى بَلْ وسائِرِ المسَاجِدِ. وميَّزَ بَعضَ أوقَاتِ الزمانِ كشَهْرِ رَمَضَانَ وليلةِ القَدْرِ. وممّا امتازَ بِهِ رَمَضَانُ أنه شهر الصيام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[1]. و(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[2]).

رمضانُ شهرٌ محملٌ بفوائدٍ كثيرةٍ معنويةٍ وماديةٍ أذكرُ مِنْها سبعاً هِيَ:

أولاً: الصيامُ والقيامُ ممارساتٌ حسيةُ ذاتَ مقاصدَ روحيةٍ صارفةٌ صاحبَها عنْ شهوتَيْ البطنِ والفرجِ ومركزةٌ همَّه على محبةِ اللهِ والفوزِ برضاهُ مُجليةٌ للقبسِ الروحِّي في الإنسانِ الذي نفخَ اللهُ فيه روحَهُ وكرَّمَهُ. قَالَ تعالَى: (اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ)3.

ثانياً: والصيامُ تمرينٌ على الصبرِ. والصبرُ مقدمةٌ لازمةٌ لكثيرٍ مِنْ مكارِمِ الأخلاقِ مِثلَ العفَّةِ، والإيثارِ، والإقدامِ. وحسنُ الخُلُقِِ هو بنصِّ الحديثِ أكثرُ ما يُثقِلُ ميزانَ الإنسانِ يَومَ القِيَامةِ[3]. وجَاءَ عَنْ عائِشةَ وأَبِي هُريْرةَ قولُهُ (ص):أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا[4].

ثالثاً: والصومُ برنامجٌ تَربَوِّيٌ لأطفالِنَا يُروِّضُهُم علَىَ الطاعاتِ فيعتادونَ الانضباطَ وكَمَا قِيلَ: لكلِّ امرئٍ منْ دَهرِهِ مَا تَعوَّدَ.

رَابعاً: وللصومِ فوائدَ صحيةٍ اختبرَها وأكَّدَهَا كثيرٌ مِن الأطبَّاءِ قَائلينَ: “يَحتاجُ الإنسانُ لصومٍ دوريٍّ وإنْ لَمْ يَكنْ مَرِيضاً” كمَا أنَّ الصومَ وسيلةٌ ناجعةٌ لمحاربَةِ السِمْنةِ: الداءُ الذي يَحْسَبُهُ الغافِلُونَ صحَّةً ولكنَّهُ مُضرٌّ بالصحةِ.

خامسَاً: ورمضانُ يُحرِّكُ الوجدانَ الاجتماعيَّ فتَكْثُرُ المودَّةُ والألفةُ بينَ الناسِ فيتزاورونَ ويتبادلونَ الدعواتِ.

سَادساً: ورمضانُ مناسبةٌ لتَراويحَ تَرفيهيةٍ فِيهَا مَا فيهَا مِنْ أُنْسٍ وسمرٍ.

سَابعاً: وفِي رمضانَ تَستشعرُ الأمَّةُ الإسْلاميَّةُ تَفَرُّدَهَا بَينَ العَالمِينَ فتَزْدَادُ تَضامُنَاً.

وبَعدُ رَمَضانَ عِيدُ الفِطرِ الذِي نَحتفلُ بِهِ اليوْمَ والعيدُ أيامٌ مُميَّزةٌ تُجسِّدُ طائفةً مِن المَعَانِي:

أَوَّلُها: الشكْرُ علىَ قضاءِ الواجبِ. والفرحُ الذي يُصاحبُهُ على حدِّ تعبيرِ الحديثِ النبويِّ: (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا. إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ).

ثانِيهَا: الأعيادُ روابطُ ذكرَى تاريخيةٌ بينَ الجيلِ الحاضرِ والأجيالِ التي سبَقَتْهُ والأجيالِ القادمةِ.

ثالثُهَا: الأعيادُ تتيحُ الفرصَ الواسعةَ لتجديدِ العلاقاتِ الاجتماعيَّةِ بينَ الناسِ تعافياً، وتصافياً، وتزاوُرَاً، وتبادلاً للتهانِي.

رابِعُهَا: : والعيدُ جامعٌ للأسرةِ ومعضَّدٌ للقيمِ الأسريةِ، فهوَ مناسبةُ احتفالٍ مشتركٍ عمرياً ونوعياً يحتفِي بِها الرجلُ والمرأةُ والشيخُ والصبيُّ والشابُ والطفلُ ذكوراً وإناثاً، وهوَ مُناسبةٌ لإدخالِ البهجةِ علىَ نفوسِ الأطفالِ بنقدَهم وإلبَاسِهِم الجديدَ ونَفحِهِم بصَالحِ الدُعاءِ.

خامسُها: عيدُ الفطرِ مناسبةٌ لتكافلٍ اجتماعيٍّ تجعلُ زكاةَ الفطرِ، التِي أصلُها وسيلةٌ للتكفيرِ عمَّا يَعترِي الصيامَ من تجريحٍ، تجعلُها كذلكَ وسيلةَ تكافلٍ مَعَ الفقراءِ والمساكينَ. زكاةُ الفطرِ واجبةٌ على كلِّ فردٍ منَّا ومِقدارُها الآنَ جُنيهانَ وثمانُونَ قِرشاً عَن الفَردِ الواحِدِ.

سادسُها: العيد مناسبة احتفال مشترك بين شعوب الأمة الإسلامية مما يعزز شعورها الوجداني بوحدتها.

سابعها: العيد مناسبة لتظاهرة إيمانية كبرى يخرج الناس للصلاة في فلاة زرافات ووحدانا يهللون ويكبرون رجالا ونساء وأطفالا حتى الحيض من النساء يشاركن في المشهد كما أمر رسول الله (ص) عن أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: ” كُنَّا نُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ فِي الْعِيدَيْنِ ، وَالْمُخَبَّأَةُ ، وَالْبِكْرُ”، قَالَتْ : “الْحُيَّضُ يَخْرُجْنَ فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ، يُكَبِّرْنَ مَعَ النَّاسِ”. (رواه مسلم)

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز

أمتنا الإسلامية التي يربط بينها تقديسٌ للقرآن لا يماثله تقديس أية ملة أخرى لكتابها، وحميمية منقطعة النظير في حبها للنبي محمد (ص)، ويتخذون مرجعية أخلاقية موحدة، ويمارسون شعائر عبادية مماثلة، ويعظمون ماضيا ذهبيا مشتركا، ويتطلعون لمستقبل واعد.. هذه الأمة تواجه اليوم منعطفا خطيرا.

منذ انطلاق الرسالة الإسلامية ولمدة ألف عام تقدمت الأمة الإسلامية ودولها على العالمين. ثم عرقل مسيرتها الركود، والفساد، والاستبداد فقعد بها بينما نهضت دول أوربا بعد أن استمدت كثيرا من أسباب النهضة من الحضارة الإسلامية. استطاعت الدول الأوربية بعد نهضتها أن تغزو العالم كله وأن تخضع بلاد المسلين لسلطانها. ثم تحررت البلدان فيما بعد من الاستعمار المباشر.

في العصر الحديث حاولت بعض النظم في البلدان الإسلامية استنساخ المثل والنظم الغربية في أوطانها بصورة أدت إلى ردة فعل مضادة. هذا ما كان من أمر الثورة الإسلامية في إيران التي استخدمت أسلوب الزحف  الشعبي وأسقطت النظام الشاهنشاهي وأقامت نظام ولاية الفقيه ذا السلطة الدينية. وفي أفغانستان أدى الغزو السوفيتي في عام 1979م إلى حركة جهادية مضادة طردته وعبر مراحل معينة قام في أفغانستان نظام طالبان ذو السلطة الدينية.

المقاومة للغزو السوفيتي أفرزت حركات قتالية مضادة أهمها تنظيم القاعدة المكون من جهاديين توافدوا من كثير من البلدان الإسلامية. القاعدة وأشياعها اكتسبوا مهارات قتالية وبعد جلاء السوفييت من أفغانستان تطلعوا لتطبيق نظام خلافة اقتداء بطالبان على نطاق العالم الإسلامي وجعلوا سبيلهم إلى ذلك إسقاط النظم الحاكمة فيه وطرد الأمريكان الذين يدعمونها من بلاد المسلمين.

دعوة هؤلاء تقوم على أساس أن القرآن هو دستور الأمة، وأن أحاديث النبي (ص) كلها وحي،  وان القرآن لم يفرط في شيء، وأن السلف الصالح قد استنبط عبر القياس والإجماع كل الأحكام المطلوبة فليس على الخلف إلا تطبيق ما فصله السلف، مع أن هذه الأمور ينزلها ويفسرها المؤمنون ولا تطبق حرفيا.. وقالوا إن الفهم  الصحيح للولاء والبراء فصلته سورة براءة في آية السيف وتفسيرها أننا ندعو الآخرين للإسلام فإن أبوا فعليهم الجزية فإن أبوا علينا قتالهم. المسلمون الذين لا يقبلون هذا الموقف منافقون يجب قتالهم. وأعلنوا قتالا هجوميا على الأمريكيين وحلفائهم في حملة ضد الصليبية والصهيونية. واستباحوا قتلهم فرض عين على المسلم. ولا يستثنى من ذلك المدنيون لأنهم إنما يمنحون الثقة لحكوماتهم المعتدية عن طريق الاقتراع في الانتخابات. ويدفعون الضرائب لدعمها وينخرطون في صفوف قواتها المسلحة!.

توجه القاعدة وطالبان هذا، مع ما يؤخذ عليه من ناحية إسلامية وسياسية، وجد رواجا واسعا لأن الأمة الإسلامية في حالة إحباط وترى نفسها عرضة للعدوان من جهات كثيرة لا سيما سياسات المحافظين الجدد في أمريكا وما اتخذوا من سياسة هيمنة دولية هجومية متحالفة مع صهيونية توسعية. لذلك قال سير أيفور روبرتز سفير بريطانيا لإيطاليا في عام 2004م: “ليسعد جماعة القاعدة بفوز بوش في الانتخابات لأنه أفضل ضابط تجنيد لصفوفهم”!.

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز

إن حشر الإسلام في هذا الركن الضيق يضر بالإسلام والمسلمين. فالإسلام لا يمكن حصره في النصوص النقلية. ولا يمكن حصر الاجتهاد في الوسائل الصورية كالقياس والإجماع. فالنصوص قال عنها منزلها (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[5]، والاجتهاد يوجب الاعتبار بالمقاصد والحكمة، والعقل، والمنفعة، والإلهام، وكلها مفردات السياسة الشرعية. لذلك قال ابن عقيل:  (السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي). وقال ابن القيم:  (الشريعة عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور ومن الرحمة إلى ضدها، ومن المصلحة إلى المفسدة، ومن الحكمة للعبث فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل).

تعليب الإسلام في نطاق ضيق يهزم مقاصده بل يضر به أيضا، فمعاملة الغرب كأنه كتلة واحدة معادية ضارة لأن في الغرب نظما توافرت فيها حريات وحقوق للإنسان جعلت الإسلام فيها اليوم أكثر الأديان تمددا. كما أتاحت مأوى آمنا لكثير من المسلمين الذين ضاقت بهم أوطانهم. ولا يخفى على الناس أن كثيرا من الشعوب الغربية رفضت سياسات حكوماتهم العدوانية وفي أحيان كثيرة غيرتها أو تعمل على تغييرها. وكذلك الالتزام باجتهادات مذهبية متشددة ينذر الآن بحرب بين المسلمين السنة والشيعة يكون الإسلام فيها هو الخاسر الوحيد.

يبدو الإسلام في عالم اليوم أكثر الأديان أهلية ليصبح دين الإنسانية لأن مبادئه تلبي حاجات الإنسان الضرورية بأفضل صورة:

  • فالإسلام يفتح الباب واسعا للتعايش والتسامح بين الأديان. قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[6]
  • لا سلطة دينية تحجر الاجتهاد والمسلمون ملزمون بقطعيات محددة ومحدودة وواجبهم الاتفاق على ما يجمعهم والتسامح مع بعض فيما يفرقهم.
  • التعايش السلمي بين الدول على أساس (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).[7]
  • إقامة الحكم الراشد على المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون.
  • تطبيق أحكام الشريعة واجب ديني مع مراعاة ثلاثة شروط: تطوير الأحكام وفق مقاصدها- استثناء غير المسلمين- أن يتم التشريع عبر آلية ديمقراطية.
  • كفالة حقوق الإنسان والحريات العامة.
  • إقامة الاقتصاد على ما يحقق الاستثمار والإنتاج وعدالة توزيع العائد الاقتصادي.

هذا هو نهج الوسطية الإسلامية.

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز

إن الدعوة التي غرس بذرتها الإمام المهدي وفجر طاقاتها التجديدية اجتهاد الإمام عبد الرحمن غالبت الظروف وهي اليوم تنادي بفكر وسطي إسلامي تدعمه قوى اجتماعية شعبية واسعة. دعوة تتسم بالحماسة المبصرة، والاجتهاد، والمرونة مراعاة لظروف الزمان والمكان.

هذا التوجه الاجتهادي المبرأ من التبعية العمياء للوافد من الماضي، وللوافد من الخارج تنادي به اليوم قوى فكرية وسياسية واجتماعية ومدنية واسعة الانتشار في العالم الإسلامي –بالإضافة للسودان- في تركيا، وفي إيران (الخاتمية)، وفي ماليزيا، وفي المغرب، وفي غيرها من البلدان العربية.

هذا التوجه الإسلامي الصحوي هو طوق النجاة للأمة الإسلامية من مناهج الغلاة المدمرة للذات، وطوق  النجاة من تدابير الغزاة الذين يعملون لتحقيق استقطاب حاد في جسم الأمة بين العلماني والديني، وبين السني والشيعي، لكي يحققوا أطماعهم بسياسة فرق تسد.

قال الإمام المهدي قبل وفاته: في مقبل الأيام تحدث لنا كرامة أكبر مما حدث الآن!.

قال ونجيت بعد واقعة أم دبيكرات في برقية لزوجته: “يا للسرور.. انتهت المهدية!”.  ولكن رحل الاستعمار بعد خمسين سنة من ذلك الإعلان فإذا بالكيان المستمد من تعاليم المهدية هو الكيان الديني والسياسي الأكبر في السودان!.

كذلك إزاء التحدي الذي يواجه الأمة الإسلامية اليوم فإن تلك التعاليم تمثل لنا مرجعية لنساهم في البعث الإسلامي الصحوي المعاصر.

إن أهل السنة والشيعة اليوم مشتبكون في أمر المهدية فمن قائل بمهدية مربوطة بتسلسل من ذرية الإمام الحسين بن علي وقائل بمهدية مربوطة بآخر الزمان. دعوة الإمام المهدي تقوم على معنى قائم هداه الله إليه وهدى به في وظيفة لإحياء الدين تخول لصاحبها إعلان التحرر من الاجتهادات البشرية والغرف من معين الوحي القطعي. ومهما اختلف المسلمون حول أشراط المهدي والمهدية فإنهم يتفقون على مقاصدها الإحيائية الدينية.

فليتفق المسلمون على هذا التطلع المشترك وليحتفظوا برؤاهم المذهبية: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)[8].

إن تعاليم الإمام المهدي صالحة للتوفيق بين أهل السنة، والشيعة، والصوفية، وصالحة لاستيعاب المستجدات على أساس مقولة: لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال. هذه هي حيثيات الكرامة، والله أعلم.

اللهم أهدنا وأهد أبناءنا وبناتنا وارحمنا وارحم آباءنا وأمهاتنا واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. آمين

 

الخطبة الثانية

الله أكبر     الله أكبر     الله أكبر

الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن ولاه، وبعد-

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز

منذ يونيو 1989م اتبع النظام الانقلابي سياسات إقصائية فرقت أهل الشمال، وعمقت الشرخ بين الشمال والجنوب، وأدت إلى انطلاق حركات مقاومة مسلحة غربا وشرقا.  سياسات النظام الإقصائية وفرت ظروفا موضوعية لتحالف وطني أوسع مضاد للنظام،  ولتضامن مضاد له إقليميا، ولمظلة دولية معادية له ومتحالفة مع معارضيه.

لمواجهة هذا الموقف أبرم النظام في الماضي اتفاقيات عديدة مع فصائل معارضة نقضها غالبا، وأبرم مؤخرا ثلاث اتفاقيات- تحت رقابة دولية- بهدف وقف العدائيات ومصالحة فصائل المقاومة المسلحة هي: اتفاقية نيفاشا في يناير 2005م، واتفاقية أبوجا في مايو 2006م، واتفاقية أسمرا في أكتوبر 2006م:

  1. اتفاقية نيفاشا استمدت من ثلاثة مصادر هي:
    • قرارات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية الذي نظمته فصائل المعارضة في يونيو 1995م
    • توصيات مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية الأمريكي الصادرة في عام 2001م.
    • إعلان مبادئ وسطاء الإيقاد 1994م.

وجدت اتفاقية نيفاشا الدعم والترحيب من كل القوى السياسية باعتبارها فرصة مجدية لإنهاء حرب الجنوب ومنع حروب إقليمية أخرى كانت تلوح نذرها، وذلك بالرغم من أن هذه القوى أقصيت من التفاوض ومن ملفات التنفيذ. ومع ترحيبنا بما حصل عليه الجنوب من استحقاقات إلا أن هذه الاتفاقية انطلقت من تصورين خاطئين:  الأول: أن مشكلة البلاد شمالية/ جنوبية وهي ليست كذلك بل قومية. والثاني: أن حكومة السودان تمثل كل الشمال وأن الحركة الشعبية تمثل كل الجنوب بحيث يجري التفاوض بينهما دون الحاجة لمشاركة آخرين، لذلك لم تتناول الاتفاقية مشاكل شمالية/ شمالية ولا مشاكل جنوبية/ جنوبية.

لم تستطع الاتفاقية في أعوامها الثلاثة أن تحقق أهم مقاصدها: تحقيق السلام الشامل، والحكم الجامع، والوحدة الجاذبة، والتحول الديمقراطي، وغرس الثقة بين طرفيها. لذلك تواجه البلاد اليوم طريقا مسدوداً في القضايا الشمالية/ الشمالية/ والقضايا الجنوبية/ الجنوبية، وفي اتساع الخلاف بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية. خلاف جعل الأعوام الثلاثة مسرحا متصلا للحرب الباردة بين الطرفين وينذر بالنكوص للمربع الأول أو العودة لتحكيم الوسطاء لا سيما الولايات المتحدة.

  1. اتفاقية أبوجا على نهج اتفاقية نيفاشا عزلت القوى السياسية والمدنية والقبلية وحصرت الأمر بين النظام الحاكم الذي يمثل حزب المؤتمر الوطني وبين الحزبين المسلحين. وأريد للاتفاقية أن تبرم تحت سقف نيفاشا وليس وفقا لمثال نيفاشا، فلا تعدل النسب في السلطة والثروة المخصصة للمؤتمر الوطني وللحركة الشعبية، فجاءت خاوية من المحتوى وأشبه بالموضوع الإنشائي دون مقاييس ولا معايير ولا أزمان مضبوطة للتنفيذ، ومع أن الاتفاقية صممت ليوقع عليها الحزبان المسلحان إلى جانب النظام الحاكم فإن الذي وقع عليها ووعد بحيازة كافة الامتيازات الواردة فيها جماعة تمثل نصف أحد الفصيلين المشاركين في التفاوض. ومنذ ذلك التوقيع كون رافضو التوقيع نشاطا سياسيا وعسكريا ودبلوماسيا مضاداً. كما عارضتها القوى السياسية والمدنية والاجتماعية المغيبة.

وحتى الفصيل الذي وقع عليها ما زال يضع قدما في السلطة وقدما في المقاومة.  لا غرابة وهذه الحالة أن أحوال دارفور الأمنية والإنسانية، والحدودية، تدهورت بصورة كبيرة. وجرت ولا زالت تجري محاولات ترميم للاتفاقية بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1769، وبموجب اجتماع (عروشة) في أغسطس 2007م، واجتماع طرابلس المزمع في أكتوبر 2007م إلى جانب اتصالات جانبية لتوفيق الرؤى.

الموقف الآن هو أن الأحوال تندفع نحو الهاوية والفصائل المسلحة تتشظى وهي تأمل أن تضغط الأسرة الدولية على النظام لتنال مكاسب مثلما تحقق للحركة الشعبية في نيفاشا، كما يأمل النظام الحاكم أن تضغط الأسرة الدولية على الحركات المسلحة لقبول اتفاق تحت سقف نيفاشا. والحقيقة هي أن الحركات المسلحة لا تستطيع قبول اتفاقية تحت سقف نيفاشا، كما أن أي اتفاق بين النظام والأحزاب المسلحة إن تحقق في غيبة القوى السياسية والمدنية والاجتماعية الأخرى في دارفور لن يجدي. بل سيحول قبائل وقفت في الحياد من القتال، وجماعات وقفت إلى الجانب الحكومي، سيحولها جميعا إلى حوار البندقية لتأخذ قسمتها المرجوة في دارفور.

  1. أما اتفاقية أسمرا فقد ظهر جليا أنها انحصرت في جبهة الشرق المكونة من فصيلين لا يمثلان قاعدة واسعة في شرق السودان لذلك أدت لاستقطاب حاد في الشرق وتقود المعارضة لها قوى سياسية ومدنية وقبلية واسعة وهم يعتبرونها أشبه بتفاهم لأسباب جيوسياسية بين المؤتمر الوطني والجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة والتنمية الإرترية، تفاهم أفرز الاتفاقية وتوقيع جبهة الشرق عليها.

إخفاق هذه الاتفاقيات في تحقيق مقاصدها بالإضافة لإخفاقات أخرى في إدارة الشأن الوطني في السودان، وقد انعكس ذلك في العجز عن إدارة الكوارث وآخرها مآسي الأمطار والسيول في النيل الأبيض وتندلتي وكردفان والخرطوم وسيدون وكسلا وأم ضوا بان، وانفلات الأمن في جميع مدن السودان، ومفاقمة حدة الفقر والمعاناة على المواطنين وزيادات الأسعار رغم زيادة الموارد، وبطش السلطة واعتداءاتها على الحريات العامة خاصة الحريات الصحافية وازدياد أعداد المعتقلين السياسيين (وبهذه المناسبة فإننا ندعو لإطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين فورا)، وكذلك انزلاق قضية دارفور في هاوية التدويل والفوضى، وتوسع رقعة الاقتتال نحو كردفان وفي الإقليم المجاور.. كل هذا وضع البلاد أمام خطر التشظي العرقي والجهوي وما يتبع ذلك من تجديد الاقتتال وفتح جبهات أخرى مما يزيد من الانتهاكات الإنسانية في السودان ويوسع مجالات التدويل الذي قطع شوطا كبيرا حتى الآن.

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز

لا يخفى عليكم أننا وغيرنا نبهنا لعيوب هذه الاتفاقيات و مع ترحيبنا بكل ما من شأنه وقف إطلاق النار واستبدال الحوار بالرصاصة بالحوار بالكلمة، فإننا نشهد ما تثبته الأيام في الواقع من صحة قراءتنا للأحداث. صحة قراءة المستقبل من معطيات الحاضر تقوم على دراسة وافية أو فراسة صائبة.

إننا الآن في موقف لا تجدي  معه المغالطة، ولا تجدي معه الشماتة، فإذا غرقت سفينة الوطن في التشظي والتدويل غرقنا جميعا. لذلك نقول للكافة إن الأزمات التي نواجهها لا تصلح معها الحلول المسكنة، ولا الحلول الجزئية، بل نحن بحاجة لحلول جذرية وقومية شاملة.

هنالك ثوابت ينبغي أن نعرفها وأن نعترف بها وأن نقر الالتزام بها مهما اختلفت رؤانا وهي:

الثوابت الدينية:

  1. حرية العقيدة والضمير.
  2. التزام قطعيات الشريعة للمسلمين.
  3. التسامح في الاختلافات الاجتهادية.
  4. التعايش السلمي بين الأديان.
  5. احترام التعددية الثقافية.

الثوابت الوطنية:

  1. الالتزام بسيادة الوطن ووحدته وسلامة أراضيه.
  2. كفالة حقوق الإنسان والحريات العامة.
  3. نبذ العنف في سبيل تحقيق المقاصد السياسية.
  4. نبذ التناصر بالأجنبي في سبيل التنافس السياسي.
  5. الالتزام بالسلام العادل.

مبادئ السلام العادل:

  1. الوحدة الطوعية (تقرير المصير).
  2. تأسيس التراضي الوطني على المشاركة العادلة في الثروة ـ والسلطة ـ ومؤسسات الدولة النظامية والمدنية.
  3. اللامركزية ـ الفدرالية.
  4. نبذ العنف ونبذ العصبيات الاقصائية.
  5. حسن الجوار مع كافة جيران السودان.

مبادئ الحكم الراشد:

  1. إقامة الحكم على المشاركة ـ والمساءلة ـ والشفافية ـ وسيادة القانون.
  2. حسم الخلافات السياسية عن طريق التنافس الانتخابي الحر.
  3. التناوب السلمي على السلطة عبر الانتخابات الحرة.
  4. تحقيق التوازن الجهوي، والديني، والثقافي والاجتماعي والتنموي.
  5. نبذ الخطط الانتقامية والتعامل مع حزازات الماضي على أساس التفاوض والمصارحة والمصالحة.

بعد إقرار هذه الثوابت يرجى أن نبرم ملتقى وطنيا جامعا بصلاحيات مفتوحة وبهدف الانطلاق من نصوص الاتفاقيات الحالية لتثبيت الصالح منها ولإزالة العيوب ولتكملة الناقص.

هذا الجهد ينبغي أن يكون وطنيا جامعا على أن يكون لجيراننا وأصدقاء السودان على الصعيد الدولي دور المراقبين.

هذا الملتقى مؤهل لإبرام اتفاق سلام شامل وعادل ووضع برنامج تحول ديمقراطي حقيقي. وهو المسئول عن الاتفاق على برنامج محكم لإجراء انتخابات حرة نزيهة نحتكم عبرها للشعب ونحسم بموجبها الصراع على السلطة. وقد قدم ثلاثة عشر حزبا سياسيا مذكرة مشتركة حوت الإجراءات المطلوبة لضمان حرية ونزاهة الانتخابات المزمعة.

السودان الآن في طريق خطير نحو أن تصير تجربته أمثولة تحتل مكانها السيئ والمسيء إلى جانب البلقنة، واللبننة، والصوملة، والأفغنة، والعرقنة، وغيرها من أوصاف انهيار الأوطان.

السودان أمام خياري التردي في طريق الأمثولة، أو التعافي ليحقق لنفسه انتشالا ذاتيا ولغيره قدوة حسنة.

دوام حالة التوتر الحالية مستحيل وستؤدي حتما لتطورات غير محسوبة العواقب ولكن مشروع الثوابت والملتقى الجامع لحسم النقاط الخلافية يرسمان طريق تطورات محسوبة فيها نجدة الوطن. إن الواجب الديني والوطني يحتم على الجميع التداعي للسير في هذا الطريق.

نختم حديثنا هذا بأطيب التمنيات لكم أجمعين بعيد الفطر المبارك سائلين المولى عز وجل أن يعيده علينا جميعا وعلى الوطن الحبيب باليمن والبركات. إن يومنا هذا يوم التعافي والتصافي فأعفوا عني وأنا عاف عنكم، جمع الله شملنا كله في نصرة الدين وعزة الوطن وسعادة أهله.

اللهم يا جليلا ليس في الكون قهر لغيره، ويا كريما ليس في الكون يد لسواه، ولا إله إلا إياه. بحق الطواسين، والحواميمِِ، والقافات، والسبع المنجيات، وآل يس، وخواتيم آل عمران نور قلوبنا أفرادا وكيانا، رجالا ونساء، واغفر ذنوبنا أفرادا، وكيانا، ووفق جهادنا أفرادا وكيانا لبعث هداية الإسلام في الأمة، وحماية الوطن من كل فتنة وغمة، اللهم أنت تعلم أن كياننا قد انفرد بالصمود في وجه الابتلاءات والتصدي للموبقات فواله بلطفك يا لطيف لنصرة الدين ونجدة الوطن.( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)[9]. (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا )[10] يا مغيث أغثنا ويا نورٌ بالتقوى نورنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

 

الهوامش

[1]  سورة البقرة الآية  183

[2]  سورة البقرة الآية 185

(3 ) سورة الحديد الآية (28)

[3] قال (ص):” مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ ”

[4] عن أبر هريرة رواه أبو داؤد والترمذي وأحمد والدارمي، وعن عائشة رواه الترمذي واحمد والنسائي

[5]  سورة محمد الآية 24.

[6]  سورة المائدة الآية 48

[7]  سورة الممتحنة الآية 8

[8]  سورة السجدة الآية (25)

[9] سورة يوسف الآية (110)

[10] سورة الحج الآية (38)