خطبة عيد الفطر المبارك 8 أغسطس 2013م

بسم الله الرحمن الرحيم
الله أكبر ولله الحمد
خطبة عيد الفطر المبارك
الخميس غرة شوال 1434هـ الموافق 8 أغسطس 2013م

الخطبة الأولى

اللهُ أكبر.. اللهُ أكبر.. اللهُ أكبر

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وآلِهِ وصحبهِ ومن والاه.
أحْبَابـِي فِي اللهِ وإخوانِي فِي الوَطَنِ العزيزِ
أَكْمَلنا رَمَضان، شهر التوبة والغفران، فعمت الفرحة بما حققنا من طاعات نضرع إلى الله أن يقبلها، وهَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ؟
إنَّ لرمضانَ أربعةَ مقاصدٍ:
• أنَّه برهانُ التقوى: أي رياضةٌ روحيةٌ.
• وهو تمرين على الصبر: أي رياضة أخلاقية.
• وهو موسم تواصل: أي رياضة اجتماعية.
• ويوجب زكاة الفطر أي رياضة تكافلية، زكاة الفطر عن كل فرد منا صاع من قوتنا والصاع حوالي كيلوغرامين، وبأسعار اليوم يساوي 9 جنيهات، وإخراجها قبل يوم العيد لتصرف لمستحقيها من فقراء ومساكين.
وللعيد أربعة مقاصد هي:
• البهجة بيوم العيد.
• المظاهرة الإيمانية التي يحتشد لها الناس.
• المعافاة والمصافاة وتجديد العلاقات الاجتماعية.
• تواصل الأجيال بمناسبة يشترك فيها الكافة من أطفال، وشباب، وكهول، وشيوخ؛ رجالاً ونساءاً.
أحبَابـِي
إن أمتنا في كل حلقات وجودها الإسلامي، والعربي، والأفريقي، تعاني اليوم من أزمات داخلية تكاد تدمرها، وفوق ما تعانيه الأمة من أزمات داخلية فإنها تتعرض لاستهداف خارجي يريد تركيعها لاستغلالها. لهذا الاستهداف أربعة أسباب هي:
1. أثبت الإٍسلام أنه طاقة روحية وثقافية تفوق البدائل الأخرى.
2. كثير من الثقافات الأخرى قابلة للذوبان.. الثقافة الإسلامية استعصت على ذلك فهي لا تبلى بل تتجدد مع الأزمان.
3. بلاد المسلمين تملك موارد لا غنى للعالم عنها، وموقعها من حيث مواصلات العالم ومصير إسرائيل ذو أهمية خاصة.
4. تركيع الأمة عن طريق غزوها يأتي بنتائج عكسية، لذلك صار الرهان على تدميرها من داخلها.
أحبَابـِي
إن عوامل التفرقة الداخلية تقوم على:
• التناقض بين الذين يحرصون على التأصيل الإسلامي، والذين يحرصون على التحديث العصري.
• والتناقض بين توجهات الإسلاميين ما بين الأكثر انفكاءاً على الماضي، والأكثر انفتاحاً على العصر.
إذا استثنينا الصوفية وهم قد قاموا بدور روحي واجتماعي وتربوي عظيم ولكنهم اختاروا التعايش مع الواقع السياسي لا تغييره، فإن الحركات التي تطرقت لذلك التغيير كثيرة، سوف أركز هنا على خمس منها: المهدية، السلفية، الأخوانية، الخمينية، والطالبانية.
أقول عن الحركة المهدية:
• جسدت تطلعات المسلمين في القرن التاسع عشر في الإحياء والتجديد والوحدة.
• حررت الدعوة المهدية من الشخصنة، ومن توقيت آخر الزمان لتربطها بوظيفة الإحياء.
• الغاء إلزامية المذاهب والغرف من الكتاب والسنة المقبورين حتى يستقيما.
• ربط الإحياء بالتحرر من الاحتلال.
ولكن المهدية تعارضت مع واقع داخلي وخارجي تحالف ضدها وأسقط دولتها. سقوط الدولة لم يسقط الدعوة، فأحياها الإمام عبد الرحمن بأسلوب الطور الجديد للمهدية، مستصحباً الواقع الداخلي والخارجي.
السلفية:
– أشارت للتركيز على الكتاب والسنة لا اتباع المذاهب.
– حرصت على إلغاء كثير من الممارسات التي شوهت الإسلام.
– حرصت على العبادات والتربية الأخلاقية.
ولكن الحركة السلفية ركزت على الفهم الظاهري للنصوص ما يلغي دور التأويل، ولم تلتفت لاستصحاب الجديد النافع.
الحركة الأخوانية:
حققت إنجازات مهمة هي:
• إحياء التطلع الإسلامي بأساليب حديثة.
• استخدام وسائل تنظيمية مجدية.
• بلورة الخط الإسلامي كقوة فاعلة في التنافس السياسي الحديث.
أولى نجاحات الحركة ذات المرجعية الإخوانية كانت في تركيا. كون نجم الدين أربكان حزباً إسلامياً في 1970م سماه النظام الوطني، ولكن في تركيا نظام علماني صارم يحرسه الجيش فصار نجم الدين أربكان يحقق نجاحاً انتخابياً وصارت القوات المسلحة تحل الحزب. أعيد تكوين الحزب بأسماء مختلفة: حزب السلامة الوطني، وحزب الرفاه، وحزب الفضيلة، وحزب السعادة. وفي عام 2001م قررت جماعة من أعضاء هذا الحزب تغيير نهجهم، فكونوا حزب العدالة والتنمية، وقرروا التعايش مع العلمانية. هذا نهج ما بعد الأخوانية الأربكانية، ومنذ2001م صار لهذا الحزب الغلبة في الحكم الديمقراطي في تركيا.
ظروف الربيع العربي الذي سميناه الفجر العربي الجديد أدت لصحوة ديمقراطية في ظلها استطاعت أحزاب سياسية ذات مرجعية أخوانية الوصول للحكم عبر صناديق الاقتراع.
سأكتفي بالحديث عن تونس ومصر. في البلدين واجهت الولاية الإسلامية الجديدة مشاكل التعامل مع الواقع الداخلي والخارجي المتجذر وتحدي إدارة التنوع الثقافي والسياسي.
في تونس اتخذ حزب النهضة موقفاً ما بعد أخواني، مقتدياً إلى حد ما بالتجربة التركية، ولكن التجربة مع نجاحها النسبي تواجه تحدياً من يمينٍ يريد ماضوية كاملة الدسم، وتحدياً من يسارٍ يريد علمانية كاملة الدسم.
الولاية الإسلامية في مصر لم تبلور موقفاً ما بعد أخواني كما فعلت التجربة التركية والتونسية، ودخلت التجربة المصرية في مواجهات مع مؤسسات الدولة المتجذرة، ومع العوامل المجتمعية والإقليمية والدولية المتجذرة. هكذا برز الاستقطاب الحاد الذي أدى إلى أحداث 30 يونيو، و3 يوليو، و26 يوليو في عام 2013م.
أمام الحركة الأخوانية في مصر خيار الاقتداء بالتجربة التركية ببعديها: الأربكاني أي الانحناء للعاصفة، والأردوقاني أي استصحاب الواقع المتجذر، الخيار الآخر هو التمترس في خانة المفاصلة ومع حقائق 26 يوليو هذا يعني الحرب الأهلية.
التجربة السودانية تجربة ذات مرجعية أخوانية ولكنها مختلفة في أنها تمت عبر الانقلاب العسكري، وحافظت على سلطتها عبر التمكين، هذا الانفراد حافظ على استمرار السلطة على حساب إهدار مباديء حقوق الإنسان الخمسة التي تتفق مع أصول الدين (الحرية، العدالة، الكرامة، المساواة، والسلام) وعلى حساب تمزيق الوطن ووضعه تحت الوصاية الدولية. ههنا الحاجة ملحة لمراجعة أساسية للحفاظ على ما تبقى من وحدة الوطن ومعافاته، ولكن الحكم التاريخي على التجربة أنها كانت أداة لتحقيق أجندة أعداء المصير الوطني.
التجربة الخمينية:
هذه حققت إنجازات أهمها:
• نقل الإثني عشرية الشيعية من الانتظار بلا نهاية، لتغيير الواقع عن طريق الثورة.
• تفجير طاقة المؤسسة الدينية كآلية لثورة ثقافية واجتماعية وتحررية.
• بناء دولة قوية في إيران فصارت رقماً إقليمياً ودولياً كبيراً، ما يتطلب اهتماماً أكبر بحسن العلاقات مع دول الجوار.
ولكن هذه التجربة حبست نفسها في القيد المذهبي وفي سياج ولاية الفقيه. الفكر الديني في إيران مع حرصه على إنجازات الثورة صار يردد أفكاراً إصلاحية يمكن أن تقود للمراجعة الما بعدية أي ما بعد الخمينية. القراءة الصحيحة لنتائج انتخابات الرئيس حسن روحاني تدل على هذه التطلعات، وهي تطلعات تنتظر مراجعة ولاية الفقيه لتكون محصورة في الثوابت، أي الشعائر، ويفتح الباب في المعاملات لولاية الأمة.
التجربة الطالبانية:
هذه تجربة نجحت في تبني برنامج ماضوي صارم، وجعلته أساساً لعمل وحد الإرادة الأفغانية، وأقام إدارة للبلاد بعد جلاء الاحتلال الأجنبي، وقاوم الاحتلال الغربي؛ ولكن تجربتها في الولاية حبست نفسها في أحكام وأساليب ماضوية تتطلب نهجاً جديداً ما بعد الطالبانية للتعامل الناجح مع الواقع الداخلي والإقليمي والدولي.
تشخيص الحالة:
الشعوب كسرت حاجز الخوف، والحرية تحقق تطلعات الشعوب وتناسب ثقافة العصر، ومشروعيتها الإسلامية ثابتة: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) ، ولكن مناخ الحرية بعد طول كبت أدى وسوف يؤدي للمغالاة في ممارستها.
ينبغي أن تدرك القوى الإسلامية الفرق الكبير بين التصرفات وهم في المعارضة واستحقاقات السلطة.
الإسلام في عالم اليوم أكبر قوة ثقافية، ودوره التعبوي وصفه محمد أسد بقوله: الإسلام هو أكبر قوة مستنهضة للهمم عرفها البشر.
وفي إطار التنافس الانتخابي سوف يكون للإسلام دور مهم في حماسة الناخبين وجلب أصواتهم.
“رحم الله أمرئً عرف قدر نفسه”، ينبغي أن يعرفوا أن الولاية الديمقراطية توجب أن يكون الحكم بوسائل الديمقراطية، وأن يدركوا أن أصحاب الرؤية غير الإسلامية حتى إذا قلت أصواتهم الانتخابية فإن قوى شبح كثيرة معهم وإقصاؤهم يجعل الحكم بأساليب ديمقراطية مستحيلاً.
كذلك القوى المدنية أو العلمانية ينبغي أن تدرك أنها تستطيع أن تحرم حكم الإسلاميين من الاستقرار، ولكن إذا حلوا محلهم فالإسلاميون قادرون على جعل حكم غيرهم مستحيلاً، أي هناك حالة توازن قوى على المساجلة، وتوازن قوى على التعويق، توجب الإقبال على مائدة مستديرة للاتفاق على قضايا مستقبل البلاد، وإلا فإن الاستقطاب والتنازع سوف يدمران الوطن، ويقضيان على الحرية.
وهنالك في الساحة الآن لاعب آخر هم المنكفئون التكفيريون، وهؤلاء يستمدون أجنداتهم من خارج التاريخ، ولكن عوامل داخلية وخارجية جعلت لهم صوتاً مؤثراً.
وعلى يمين هؤلاء الآن نهج القاعدة. القاعدة ليست نبتاً بلا جذور، إنها مرافعة بأسلوب خاطئ في قضية مشروعة. أخطاء السياسة الأمريكية حولت القاعدة من حركة محدودة إلى حركة واسعة الانتشار. والتكفير والاستقتتال والآن الاغتيال شوهت وسوف تزيد من تشويه المناخ السياسي في بلداننا.
وأسلوب الاغتيالات الفردية الأخيرة في تونس وليبيا ليس معزولاً بل جزء من مخطط جديد سوف يفتح باب الثأرات السياسية المدمر.
لكي يستطيع الذين يلبون دعوة التوجه الإسلامي أن يكون لهم عطاء في حضارة سياسية جديدة ذات مرجعية إسلامية، ينبغي أن يخلعوا ثياباً ضاقت بالواقع ويلبسوا ثياباً جديدة وصفها ابن القيم بقوله إن على الفقيه أن يحدد الواجب اجتهاداً والواقع إحاطة ويزاوج بينهما. من هذا المنطلق نحن نوجه دعوة عامة لكل القوى السياسية التي تتطلع للعمل في المجال العام بمرجعية إسلامية أن يدرسوا وحبذا يستجيبوا لتذكرة الولاء والبراء الآتي بيانها:
1. ولاء للمسلم وهو المؤمن بالتوحيد، والنبوة، والمعاد، والأركان الخمسة.
2. ولاء للأسرة وللوطن وللقومية وللقارة كولاءات تحددها عهود تتداخل ولا تتناقض.
3. ولاء لولاية تدير الشأن العام على أساس المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون.
4. ولاء لنظام اقتصادي تنموي يحقق الكفاية والعدل.
5. ولاء لرعاية اجتماعية توفر الخدمات الصحية والتعليمية للكافة.
6. ولاء لنظام أمن ودفاع يقوم على القدرات الذاتية ولا يسمح بوصاية أجنبية.
7. ولاء لمنظومة حقوق الإنسان التي تتفرع من الخمسة أصول: الكرامة، الحرية، العدالة، المساواة، والسلام.
8. ولاء لالتزام إسلامي يطبق الشريعة مراعياً:
• أن دعاة التطلع الإسلامي يدعون لاجتهادهم ولا يدعون التحدث باسم الإسلام وما يقع من اختلاف في الاجتهادات فالترجيح فيه لرأي الجمهور.
• مراعاة حقوق المساواة في المواطنة من مسلمين وغير مسلمين.
• التطلع لاستكمال تطبيق الشريعة الإسلامية يتخذ وسائل ديمقراطية ويتجنب القهر.
• يراعي المشروع الإسلامي الأولويات والتدرج وفقه الممكن.
9. ولاء لنظم إقليمية تقوم على معاهدات متكافئة.
10. ولاء لنظام دولي يقوم على التعاهد من أجل السلام العادل والتعاون التنموي.
هذا هو الولاء، والبراء من:
1. براء من المعتدين على حرية العقيدة، وعلى كرامة الوطن، وعلى معاهدات المصالح المشتركة.
2. براء من العدوان على الآخر الملي، والآخر الدولي، بل (فلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ)
3. براء من تكفير أهل القبلة مهما اختلفت الاجتهادات والمذاهب، وضبط التكفير بضوابطه الشرعية.
4. براء من قتال علته الاختلاف في الملة أو المذهب، فعلة القتال هي العدوان.
5. براء من الاغتيالات الفردية التي تهتك حرمة النفس الإنسانية التي لا تقتل إلا بحقها.
6. براء من قتل المدنيين غير المحاربين باسم الإسلام.
7. براء من أية محاولات لاحتكار التحدث باسم الإسلام ومحاولات تطبيق أحكامه بالقوة.
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي) .
ونحن في هذا النداء للتذكرة إنما نمتثل لقوله تعالى: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ) وقوله صلى الله عليه وسلم: “يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ”
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين.

بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الثانية
اللهُ أكبر.. اللهُ أكبر.. اللهُ أكبر
الحمد لله الوالي الكريم والصلاة على الحبيب محمد وآله وصحبه مع التسليم، أما بعد-
أحْبَابـِي فِي اللهِ وإخوانِي فِي الوَطَنِ العزيزِ
النظام اللبرالي الذي حكم السودان في الماضي وفر الحريات وكرامة الإنسان، وعدل وساوى بين المواطنين وحافظ على قومية مؤسسات الدولة، وأعاد تأهيل الاقتصاد الوطني بعد التيه المايوي، وكان بصدد مشروع أسلمة بضوابط قومية ومراعاة للمساواة في المواطنة وكفالة حقوق غير المسلمين، كما كان بصدد مشروع سلام عادل شامل يبرم في مؤتمر قومي دستوري يوم 18 سبتمبر 1989م دون حاجة لوسيط أجنبي ودون تقرير مصير لأي جزء من الوطن.
التجربة الديمقراطية كانت وحيدة في واقع يموج بالدكتاتوريات، فتعرضت لاستهداف من بعض دول الإقليم ومن بعض أفراد المجتمع الدولي مستغلين بعض تناقض الواقع السياسي السوداني. وأيضا ينبغي أن نعترف أن من عيوب النظام الديمقراطي الماضي أن عدم حصول حزب على أغلبية تمكنه من تنفيذ برنامجه أدى للصيغة الائتلافية وما فيها من عيوب، وأننا وثقنا أكثر مما ينبغي في أن القوى السياسية كما احترمت حقوقها سوف تمارس الحرية بمسئولية ولكن لا في الصحافة ولا في النقابات ولا في القوى السياسية كانت تلك الثقة في محلها، وكان ما كان. وسنترك للتاريخ تقييم تلك المرحلة فلها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
ولكن مهما كانت عيوب المرحلة الديمقراطية ففي ربع القرن الماضي درب الفيل غطى درب الجمل:
عتبت على سلم فلما هجرته وجربت أقواما بكيت على سلم
سوف يكتب التاريخ على نظام “الإنقاذ” أنه مهما كانت النوايا فقد:
• انقسم التراب الوطني والباقي مهدد بالتشظي.
• سيادة البلاد تحت وصاية دولية بموجب (47) قرار لمجلس الأمن تحت الفصل السابع ووجود (30) ألف جندي أجنبي داخل البلاد.
• الجسم الإسلامي ممزق، وهبت مجالس القوم تكفر وتزندق وتخون بعضها الآخر.
• الجسم السياسي ممزق وعلى طرفيه جماعة في يمينه تدعو لما تراه تطبيقاً للشريعة الإسلامية وإلا تعلن الجهاد، وجماعة في يساره ترفع السلاح لإبعاد الإسلام من الشأن العام.
• الواقع الاجتماعي تخلف وعاد للقبلية والعنصرية، والنسيج الاجتماعي مهدد بالتهتك لحدة الاستقطاب والانقسام والاحتراب بين الإثنيات والقبائل السودانية.
• والبلاد فيها نحو خمسين فصيل مسلح. البندقية السودانية اليوم موزعة بين أجندات: حزبية، وجهوية، واثنية، وقبلية.
لم تعد القوات المسلحة المركزية تحتكر السلاح وهي نفسها تعرضت للتمكين لأدلجتها ولكن اتضح أنها رغم ذلك الأكثر شعوراً بالانتماء القومي. ولا بد من إزالة التشويه وتكملة قوميتها.
• الاقتصاد الوطني مهدد بالانهيار؛ فالحكومة ركزت على الإنتاج الريعي (البترول قبل الانفصال والذهب بعده) مهملة قطاع الإنتاج الحقيقي، وتوسعت في الصرف الأمني والعسكري (60% من الميزانية) وتوسعت في الصرف السيادي (10% من الميزانية) وتوسعت في الصرف السياسي وفي تضخيم الحكم الفدرالي بزيادة عدد الولايات خصوصاً بعد البترول، ولانعدام التخطيط لم تتحسب الحكومة لفقدان بترول الجنوب (مع أنه يمثل ثلثي عائد الصادر وخمسي الإيراد الكلي)، وللتمكين حلت مؤسسات الضبط والرقابة بالدولة فتفسح المفسدون في إمكانات الدولة ومواردها فأصبح السودان يعد من أفسد دول العالم. أوجه الخلل المذكورة في الأداء الاقتصادي أدت للآتي:
1. توقف أو تدني التنمية وإلغاء الرعاية الاجتماعية، فتردت الخدمات (بلغ نصيب الصحة والتعليم في ميزانية العهد الديمقراطي حوالي 40%، انكمش نصيبها الآن حوالي 5%) مما جعل البلاد تعاني من خلل في التوازن التعليمي، ومن أوبئة في المجال الصحي لم تعهدها في تاريخها. انتشر الفقر بمعدلات عالية؛ التقرير الرسمي حدده عام 2009 بـ 46.5% في شمال السودان، هذا مع معدل تضخم يتجاوز 40% يجعله الآن يتجاوز 75%.
2. صارت المعيشة نار الله الموقدة، والأسعار زادت في العشرين سنة الماضية أكثر من 5000%.
3. وكان الجنيه السوداني يساوي 8% من الدولار الأمريكي، أما اليوم فإذا أضفنا الأصفار التي أسقطوها فإنه يساوي جزء واحد من عشرة آلاف جزء للدولار أي 0.014% من الدولار.
4. توسعت الدولة في الاقتراض لسداد العجز الكبير: الدين الخارجي حوالي 40 مليار$ في ظروف عجز سنوي يبلغ 5 مليار$ وشبه عزلة دولية، والدين الداخلي حوالي 28 مليار جنيه متجاوزاً الإيراد الكلي المقدر لعام 2013 والبالغ حوالي 25 مليار جنيه. من عناصر الدين الداخلي شهادات شهامة وهي اقتراض مكلف جداً للخزينة (قيمة الأسهم في 2012م كانت حوالي 13 مليار جنيه وأرباحها حوالي 2.5 مليار جنيه وهذا يمثل عشر الإيراد الكلي لعام 2013م). لأول مرة منذ طرحها في السوق الحكومة فشلت في سداد أرباح شهادات شهامة للبنوك وسلمتهم شهادات بدل النقد، فإذا شعر حملة الأسهم بالمشكلة وأعادوها للدولة ستفشل في سداد مبالغ الأسهم وسيكون ذلك كارثة إضافية للاقتصاد الوطني.
• الخريف هذا العام تأخر. خبراء الإرصاد يتوقعون استمراره حتى أكتوبر، ويتوقعون هطول أمطار كافية للزراعة، في مثل هذا الظرف أناشد الأحباب المزراعين بزراعة أصناف من الذرة قصيرة الدورة الإنتاجية كي لا يتضرروا ويتضرر الأمن الغذائي للبلاد.
والعلاقة مع دولة الجنوب تحولت من معادلة كسبية للبلدين إلى علاقة صفرية في شكل عنزين جائعين يتناطحان.
سياسات النظام أورثت دارفور مواجهة بين الحكومة المركزية وأحزاب سياسية مسلحة تحالفت مع الحركة الشعبية قطاع الشمال لتكوين الجبهة الثورية. في مواجهة هذا التحدي كونت الحكومة المركزية مليشيات قبلية ذات مكون إثني مضاد لمكونات الجبهة الثورية. وهذه المليشيات القبلية ذات التسليح والتدريب العالي اتخذت لنفسها أجندات قبلية مما أدى لانتشار الاقتتال القبلي.
هذه التطورات أدت لتدهور نوعي في الحالة الأمنية في دارفور ما جعل سلطة الدولة المركزية غائبة في كثير من مناطق دارفور الكبرى. ومع ترحيبنا بما يحدث من مصالحات قبلية، فإنها هشة ولا يرجى تحقيق السلام الشامل العادل إلا بموجب نظام جديد يتخلى عن السياسات التي دمرت النسيج الاجتماعي، ويطبق سياسات قومية على نحو ما اقترحنا في مشروع النظام الجديد.
هذه الحالة المتردية لم يعد أحد عاقل حتى من سدنة النظام يغالط في حيثياتها: لاح الصباح فأطفأ القنديلا.
هذه الحالة دفعت نحو الساحة بتحركات لبناء المستقبل:
• النظام نفسه يتحدث عن الإصلاح وكالعادة ينتظر أن يكون سطحياً لا يمس الجوهر.
• تيارات داخل النظام تتطلع للإصلاح وربما صمدت أو اكتفت بالاستوزار.
• حركة داخل القوات المسلحة حاولت التغيير وما زالت لها جذورها.
• الجبهة الثورية تعمل للإطاحة بالنظام بالقوة.
• حركات شبابية كثيرة تعمل من أجل اسقاط النظام.
• قوى سياسية تعلن عن تمسكها بإسقاط النظام.
في هذا المناخ نحن الذين عاصرنا ثورتي أكتوبر 1964م وأبريل 1985م وساهمنا فيهما وحررنا ميثاقيهما، وعبر ربع القرن الماضي استطعنا أن نحافظ على حزبنا قوياً متماسكاً سقطت منه عناصر أجاد الواصف في وصفها:
كم هزّ دوحَك من قزم يطاوله فلم ينلهُ ولم تقصر ولم يطلِ
إننا بتأهيل تاريخي، وشعبي، وحضور قومي، وفكري ودولي قدمنا مشروعنا لنظام جديد حددنا معالمه تفصيلاً ووسائل تحقيقه. ودشنا حملة للتوقيعات على تذكرة التحرير القاضية برحيل النظام.
قال قوم أعماهم الغرض التوقيعات لا تسقط نظاماً، أهملوا تماماً بقية المشروع على سنة أبي نواس:
ما قال ربك ويل للأولى سكروا بل قال ربك ويل للمصلينا!
آخرون قالوا لي في تعجب: لماذا يحتمل منكم النظام ما لا يحتمله من غيركم؟ قلت له هذا سؤال للنظام ولكن أجيبك بما اعتقد:
أولاً: اعتقد أن جماعة النظام يدركون في دخيلة أنفسهم أنهم ظلمونا، فقد كالوا لنا كل سب مع أننا كنا في السلطة بموجب انتخاب شرعي ومارسنا السلطة بأخلاق الأولياء.
ثانياً: النظام أدرك كيف أننا مع شدة معارضته إذا وقعت ملمة وطنية نتصرف كوطنيين لا كسياسيين.
ثالثاً: لأن النظام أدرك أن لنا حضوراً شعبياً ودولياً لا يستهان به.
رابعاً: لأننا نعبر عن مواقفنا المعارضة بلغة خالية من التجريح.
وبعض الغائبين عن المشهد السياسي قالوا هذه تذكرة لفرد لا مكان فيها للآخرين. هؤلاء وعيهم بالتذكرة هي لركوب البصات والقطارات، ولكن تذكرتنا من باب (كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ* فَمَن شَاء ذَكَرَهُ) . ولو أنهم استيقظوا من نومة القبور السياسية لسمعوا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) .
أحبابي
نحن ماضون في سبيل الخلاص الوطني، وشرعنا في الاتصال بالجميع لتحقيق اتفاق قومي حول البديل والطريق إليه، تماماً كما حدث في ميثاق أكتوبر 1964م، ورجب/ أبريل 1985م، ونناشد كافة الأطراف الوطنية الالتفاف حول أجندة الخلاص الوطني، ونعتقد حقاً وصدقاً أن الظروف مواتية لذلك، ونعتقد:
إذَا التَفَّ حَوْلَ الحقِّ قَوْمٌ فَإنّه يُصَرِّمُ أحْدَاثُ الزَّمانِ وَيُبْرِمُ
اللّهُمَّ يَا جَلِيْلَاً لَيْسَ فِي الكَوْنِ قَهْرٌ لِغَيرِهِ، ويَا كَرِيْمَاً لَيْسَ فِي الكَوْنِ يَدٌ لِسُواهُ، ولَا إِلَهَ إِلَا إِيَّاهُ. بِحًقَّ الطَوَاسِينِ، والحَوَامِيمِ، والقَافَاتِ، والسَّبْعِ المُنْجِياتِ، ويس، وخَواتِيمِ آلِ عُمران؛ نَوِّر قـُلوبَنا أفراداً وكياناً، رِجَالاً ونساءً، واغفِر ذُنُوبَنا أفراداً، وكياناً، ووفَّق جِهادَنا أفراداً وكياناً لبعثِ هدايةِ الإسلامِ في الأمةِ، وحماية الوطنِ من كلِّ فتنةٍ وغمةٍ، اللهمَّ أنتَ تعلمُ أنَّ كيانَنَا قد صمد فِي وجْهِ الابتلاءاتِ والتصدِّي للموبقاتِ، فوالِهِ بلُطفكَ يَا لطِيفٌ، لنصرةِ الدينِ ونجدةِ الوطن. (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) ، (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) يَا مُغِيثٌ أغِثنا ويا نورٌ بالتقوَى نوِّرنَا ولا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَا باللهِ العليِّ العظيم.
وأبارك لكم العيد وأطلب منكم العفو، أنا عافٍ عنكم فاعفوا عني. أعاد الله العيد علينا جميعا باليمن والبركات. وأتمنى لأهلنا في معسكرات النازحين واللاجئين أن يكون هذا آخر عيد لهم في معسكرات الفزع والحرمان، فلينعموا وتنعم بلادنا بالأمن والسلام والوئام والحرية والديمقراطية عاجلا بإذن الله، وتعود كل الطيور المهاجرة لعشها تبنيه بالعزيمة والتضحية والمثابرة إن شاء الله.
اللهم اهدنا واهد أبناءنا وبناتنا، وارحمنا وارحم آباءنا وأمهاتنا، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. آمين.

والسلام،،