خطران يحدقان بالسودان وثلاثة أجندات تتنافس لبناء مستقبله

بسم الله الرحمن الرحيم

خطران يحدقان بالسودان وثلاثة أجندات تتنافس لبناء مستقبله

5 مارس 2005م

الخطر الأول: هو احتمال التمزق- الصوملة. السودانيون عامة ربحوا ببروتوكولات السلام الموقعة 9/1/ 2005م لسببين هامين هما: أوقفت الحرب في جبهات القتال الجنوبية، وبشرت بالتحول الديمقراطي.

الاتفاقيات إنجاز ضروري ولكنه وحده ليس كافيا. لأنها قامت على أربعة افتراضات خاطئة إن لم يمكن تداركها فإنها سوف تفتح أبواب التمزق واسعة:

الافتراض الأول: أن أزمة السودان شمالية جنوبية وحسب بينما هنالك نزاعات شمالية/ شمالية معروفة. وهناك نزاعات جنوبية/ جنوبية، والثاني: أن حكومة السودان تمثل كل الشمال، وأن الحركة الشعبية تمثل كل الجنوب. والثالث: أن القوى المسلحة الموجودة في السودان الآن تابعة للقوات المسلحة السودانية أو للجيش الشعبي. والرابع: أن القوى السياسية غير الممثلة في التفاوض سوف تقبل ما اتفق عليه الطرفان المتعاقدان بحكم الأمر الواقع وتلتزم به. وكل هذا ليس صحيحا.

الخطر الثاني: التدويل: فجوة الثقة الواسعة بين طرفي التفاوض أي الحكومة والحركة الشعبية أوجبت إسناد دور كبير للأمم المتحدة. البروتوكولات لم تترك أي شيء للثقة المتبادلة بل أقامت حماية دولية للبروتوكولات تحت الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، لتكون حكما بين طرفي الاتفاق.

خطاب الأمين العام لمجلس الأمن بتاريخ 31/1/ 2005م يدل على أن الأمم المتحدة سوف تكون أكثر جدية من طرفي الاتفاق في كفالة حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي. أي أنها سوف تكون حكما بين الائتلاف الحاكم والشعب السوداني، ولكن دورها في السودان لا يقف عند حد الفصل السادس.

سياسات النظام السوداني أدت إلى تدخل دولي بموجب الفصل السابع والقرارين 1556 و  1564القاضي بتكوين لجنة تقصي حقائق عن جريمة الإبادة الجماعية في السودان. هذه اللجنة نشرت تقريرها بعد تقصي الحقائق في 25/1/ 2005م. التقرير أدان حكومة السودان وحلفاءها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب كما أدان بعض الثوار بذلك.

الحكومة السودانية رفضت أي تجاوب جدي مع ما طلبنا منها قبل 18 شهرا من تطبيق سياسات جديدة لحل أزمة دارفور، وتصر على مواصلة مسرحية المفاوضات مراهنة على أن الأسرة الدولية سوف تضحي بحقوق المحاسبة في دارفور من أجل إنجاح تطبيق بروتوكولات السلام. وفي هذه الأثناء الحالة في دارفور مستمرة في التدهور الأمني والإنساني بصورة سوف تؤدي في مرحلة ما إلى فرض حل دولي في دارفور بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. المدهش حقا هو أن طرفي البروتوكولات غير مهتمين باحتواء الخطرين المذكورين. كما أنهما منذ التوقيع اشتبكا في حرب باردة تغذيها مرجعية الشريعة والثقافة العربية لدى النظام، ومرجعية الأفريقانية الإثنية والعلمانية لدى الحركة ورؤى مختلفة حول تفسير مفردات ما جرى التوقيع عليه في 9/1/ 2005م. كل يوم جديد يؤكد لطرفي التفاوض أن تجاوز الدعوة لمؤتمر قومي دستوري أو ملتقى جامع مستحيل.

كل اتفاقيات السلام في أفريقيا وفي أمريكا الجنوبية ومهما سبقها من اتفاقيات ثنائية أحيلت إلى منبر جامع واتخذت شرعيتها منه، كذلك وبعد تجربة جنوب أفريقيا أوجبت العدالة الانتقالية منبرا مثل لجنة الحقيقة والمصالحة في كل اتفاقيات السلام في سيراليون، وتوقو، وبنين، وحتى في البلدان التي قررت فتح صفحة جديدة بين الحكومة والشعب كما هو الحال في دولة المغرب. إن رفض عقد مؤتمر جامع واتخاذ آلية محاسبة معتدلة كهيئة الحقيقة والمصالحة يمثل تخريفا سياسيا وموقفا متعارضا مع منطق التاريخ. ويرجى أن يتمكن الشعب السوداني بحيويته المعهودة والأسرة الدولية بموضوعيتها المأمولة من وضع حد للتخريف السياسي، ووضع عملية السلام والتحول الديمقراطي في السودان في مسارها الصحيح لتتخذ شرعيتها من مؤتمر قومي دستوري أو ملتقى جامع.

إذا استطاع السودان تحقيق ذلك فإن مستقبل السودان سوف تتنازعه ثلاثة أجندات:

  1. أجندة “الإنقاذ”: السودان وطن ثقافة مركزية إسلامية عربية تطورت ونضجت في الشمال. الثقافة الإسلامية واجهت في كثير من ثغور الإسلام تصادما مع عدوان الحضارة الغربية الحديثة، فأفرزت ضدها ردود فعل قوية في مراكز الحضارة الإسلامية لا سيما مصر، وواجهت صداما مع الثقافة الهندوسية الانطوائية فأفرز ذلك ضدها ردة فعل إسلامية أصولية في الهند.. التطلع التأصيلي الإسلامي الذي ظهر في مصر والهند وغيرها من البلدان الإسلامية خلق تيارا تأصيليا إسلاميا عاما. الإسلام في السودان والثقافة العربية واجه سياسة المناطق المقفولة التي طبقها الحكم البريطاني في السودان وقفل جنوب السودان ومناطق أخرى في وجه الإسلام والثقافة العربية، مما أفرز ثقافة أنجلوفونية مسيحية متنافرة معهما. هذا التنافر اتخذ طابعا معتدلا أثناء عهود الحكم الديمقراطي في السودان وطابعا حادا أثناء عهود الحكم الشمولي، وبلغ أقصاه في عهد النظام السوداني الحالي، الذي أعلن أجندة أيديولوجية إسلامية عربية سماها “التوجه الحضاري” وطبقها بصورة أحادية فوقية إلزامية  فتكونت ضده جبهة مقاومة ومعارضة عريضة داخلية وخارجية، خلقت استقطابا حادا اختلفت عصبة النظام في كيفية التصدي له فأجبر على تراجعات مستمرة منذ عام 1997م.. تراجعات وصلت قمتها في إبرام بروتوكولات السلام الأخيرة. واجه النظام جبهات قتال داخلية كثيرة، وجبهات معارضة مدنية واسعة، وجبهات عداء إقليمي وعداء دولي وصل قمته في إصدار الكونغرس الأمريكي قانون سلام السودان في نوفمبر 2002م، ثم قانون سلام السودان الشامل في 16 أكتوبر 2004م  وتأمل النظام السيناريو العراقي وقرر أن التوقيع على بروتوكولات السلام بالرعاية الدولية هو أفضل السبل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من “الإنقاذ”.

النظام يعتقد أنه نال نصيب الأسد في ظل بروتوكولات السلام مما سيمكنه من المحافظة على “التمكين” الذي حققه في عمره منذ عام 1989م. ويمكنه خوض الانتخابات القادمة فيجعل من نتائجها امتدادا لنظامه في ثوب جديد.

  1. الحركة الشعبية عبأت المقاومة والمعارضة “للاستعلاء” الإسلامي العربي وما صحبه من “دونية” ثقافية، واقتصادية، وعملت مع تحالفاتها الداخلية والخارجية على تحرير السودان من هيمنة “الأقلية العربية” أو “الجلابة” أو قوى “السودان القديم” وتكوين السودان الجديد البديل العلماني في مواجهة الإسلام والأفريقاني “بمعنى إثني”  في مواجهة الثقافة العربية. الحركة الشعبية تواجه مسألة هوية فكرية هل هي لتحرير السودان كله أم لتحرير جنوب السودان؟ فاسمها يشدها للخيار الأول. وحرصها على تقرير المصير يشدها للخيار الثاني. فإذا استطاعت الحركة أن تحتوي هذا الانفصام فإنها سوف تنطلق من “التمكين” الذي حققته لها البروتوكولات وأعطتها نصيب النمر وتتحالف مع التيارات العلمانية في الشمال والأفريقانية في السودان لكسب الانتخابات القادمة وإلى حين إجراء تلك الانتخابات سوف يقيم المؤتمر الوطني، والحركة الشعبية ائتلافا قلقا مشحونا بالتباغض، والتناقض، والتحالفات المضادة. ولكن يرجى أن يكون الانتداب الدولي القادم للسودان بموجب بروتوكولات السلام والفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة حكما بين الحزبين الحاكمين والأجندتين المتناقضتين.

ومهما اختلفت أجندة المؤتمر الوطني، والحركة الشعبية فإن لهما مصلحة في التمكين الحزبي الثنائي فإن خافا على هذا التمكين من التطلعات الشعبية الديمقراطية والضغط الدولي في نفس الاتجاه ربما اتفق الطرفان على أن مصلحة السلطة والثروة أهم من الأيديولوجية لذلك فالأفضل أن يقيما نظاما واحدا “شموليا” في دولتين.

  1. القوى الشعبية غير الممثلة في بروتوكولات السلام، والتي لا تمثل أحزاب توالي للمؤتمر الوطني، وللحركة الشعبية، تنطلق من أجندة ترفض “التوجه الحضاري” وترفض البديل “العلماني الأفريقاني”وتعترف بحقيقة المظالم الدينية، والثقافية، والاقتصادية، والخدمية التي لحقت بالتجربة السودانية قديما. وترى أن البلاد تفتقر لأجندة تقوم على التعددية الدينية، والثقافية، والتوازن التنموي والخدمي، والحكم اللا مركزي، والوحدة الطوعية. أجندة السودان العريض المقابل للسودان الإقصائي الذي يحافظ عليه “التوجه الحضاري” ويرفض الإقصاء المضاد الذي تحرص عليه أجندة السودان البديل. هذه الأجندة الثالثة تقدم الخيار الثالث وهي بطبيعة الحال تركز على الوحدة الطوعية وتؤكد علاقات جوار ودية إذا اختار الجنوبيون الانفصال لأن انفصالا بين دولتين إحداهما ملتزمة “بالتوجه الحضاري” والثانية “بالسودان الجديد” بأوصافهما المذكورة سوف يستنسخ العداء الأثيوبي الإريتري بل ربما صار امتدادا له.

هذه الأجندات الثلاثة سوف تقدم الخيار الثالث المتاح للناخب السوداني في الانتخابات العامة الحرة المراقبة دوليا القادمة. وسوف تمثل منبر المقاومة والمعارضة للشمولية الثنائية التي قد يلجأ إليها الائتلاف الثنائي.