دول القرن الأفريقي: سيناريوهات إعادة بناء الدولة المفككة

بسم الله الرحمن الرحيم

دول القرن الأفريقي: سيناريوهات إعادة بناء الدولة المفككة

23 أكتوبر 2005م

 

الدولة الوطنية التي ابتدعها النظام الأوروبي منذ عام 1648، صارت أساس الوحدات السياسية في العالم المعاصر ويقوم عليها نظام الأمم المتحدة.

منذ القرن التاسع عشر الميلادي، بسطت الإمبراطوريات الأوروبية سلطانها على المعمورة. ونتيجة لعوامل داخلية وخارجية، تحررت المستعمرات وآلت السلطة في أقطارها لنظم حكم مقيسة على نظام الوطن الأم. لأسباب كثيرة فصلناها في مجال آخر لم تقو كثير من الدول الوطنية الجديدة على مواصلة نظمها الديمقراطية وتعرضت لنظام الحزب الواحد أو لنظام الحكم العسكري.

النظم الاستبدادية هذه، لا سيما عندما صحب قهرها تحكماً آيديولوجياً ضيقاً، أوقفت التطور السياسي متجنبة المشاركة والتوازن مما أدى لاستقطابات حادة وتوترات وحروب أهلية وكانت النتيجة في كثيرٍ من الحالات تكوين دول مفككة.

ما هي الدولة المفككة؟

في زماننا هذا يرجى من الدولة تحقيق 4 مطالب:

> الأمن.

> كفالة معيشة السكان.

> قبول السكان لحق حكامهم في الحكم.

> قبول الأسرة الدولية.

ومع تطور فكرة حقوق الإنسان عالمياً، تطورت المطالب المنتظرة من الدولة الوطنية، فصارت مطالبة بالحكم الراشد القائم على المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وحكم القانون، ومطالبة بالتنمية المستدامة العادلة، أي مطالبة بتنمية بشرية.

إذا طبقنا هذه المقاييس على كثير من الدول اليوم، لاتضح قصورها لحد يصنفها دولاً عاجزة أو مفككة.

هذه الدول معرضة لتوتر واستقطاب داخلي حاد يودي باستقرارها ويفتح الباب واسعاً لتدخل أجنبي، إنها معرضة لخطر التمزق والتدويل. وفي الثمانينات اقترح الأستاذ علي مزروعي، بسط وصاية دولية على دول أفريقيا العاجزة، لكن المعطيات المعاصرة تجعل ذلك مستحيلاً، فمشروع الوصاية الأجنبية سوف يكون أقل حظاً في بناء الدول المفككة. السبيل الوحيد الذي يمكن أن ينقذ هذه البلدان، هو إدراك الحركة السياسية فيها أن الحروب الأهلية أعراض لأمراض حقيقية، لكنها وحدها دليل على المشاكل وليست أداة للحلول. الحل يكمن في السلام العادل والشامل، وأن النظم الاستبدادية كذلك أعراض لأمراض الجسم السياسي، وهي دليل على وجود تلك الأمراض وليست سبيلاً لعلاجها، والعلاج كامن في تحول نحو نظام سياسي يحقق المشاركة للكافة، ويعترف بالتعددية الجهوية وحاجتها للامركزية، ويعترف بالحاجة للتوازن التنموي، وبضرورة قبول الآخر ضمن تعايش ديني وثقافي.

التحدي الأساسي يواجه الحركات السياسية في هذه البلدان، لكن في الظروف الدولية المعاصرة لا يرجى أن تحقق الحركات السياسية تطلعاتها المشروعة، ما لم يكن المناخ الإقليمي المحيط بأوطانها والمحيط الدولي مواتياً.

دعيت إلى مدينة لند الجامعية السويدية لحضور سمنار نظمه المركز العالمي لإعادة تأهيل الصومال، عنوان السمنار هو: القرن الأفريقي: الحكم الراشد مفتاح التحول الديمقراطي والتنمية المستدامة. وذلك في الفترة من 14 ـ 16 أكتوبر (تشرين الاول) 2005.

تدارس السمنار الأمر وأصدر توصياته وكان أهمها:

  • أن الذين يقومون على إعادة بناء الدولة، ينبغي أن تكون لديهم رؤية كلية لصورة البناء المنشود.
  • أن تلك الصورة، ينبغي أن تجسدها اتفاقية للسلام ولنظام الحكم شاملة وعادلة.
  • أن اتفاق الأطراف المعنية، ينبغي أن يحدد آثار الحرب ويبرمج لإزالتها، وأن يحدد أسباب النزاعات ويحدد كيفية القضاء عليها.
  • الدولة المركزية الصارمة أخفقت، وينبغي التطلع للبديل اللامركزي.
  • الدولة الاستبدادية الأحادية تعمق النزاعات، وينبغي العدول عنها لصالح المشاركة والتوازن.
  • أن الولاءات الموروثة الدينية والثقافية جزء لا يتجزأ من هوية المجتمعات، ينبغي الاعتراف بها والعدول عن محاولة إخضاعها لرؤية دينية أو ثقافية أحادية، بل تعايش وتسامح وقبول للآخر.
  • أن التنمية الاقتصادية هدف استراتيجي، وينبغي أن يراعى التوفيق بين حرية آلية السوق والعدالة الاجتماعية.
  • أن استقرار بلدان القرن الأفريقي يوجب الاتفاق على معاهدة تضامن أمني وتنموي إقليمية فاعلة.
  • أن للأسرة الدولية دوراً مهماً في تحقيق هذه التطلعات، لكن هذا الدور ينبغي أن يؤسس على المشروع الداخلي.

تعرض السمنار في ورشاته لتجارب الدول الحالية، وكان ما ورد منا حول التجربة السودانية ما يلي:

منذ استقلاله، جرب السودان كل نظم الحكم السياسي المعروفة في المعجم المعاصر، وكانت آخر الحلقات نظام حكم استبدادي أحادي التحكم والآيديولوجية، وحرب أهلية طاحنة فتحت المجال للتمزق والتدويل على نطاق واسع.

لكن النظام الذي انحط بالبلاد إلى هذا الدرك، أدرك المخاطر التي ساقتها أخطاؤه وفتح الطريق للسلام عبر التفاوض وللتحول الديمقراطي. وكانت نتيجة ذلك اتفاقية سلام وقعت في يناير (كانون الثاني) الماضي، وانبثق منها دستور اعتمد في أغسطس (آب) الماضي، وحكومة كونت في سبتمبر (أيلول) الماضي.. الخبر السار من السودان هو نهاية الحرب الأهلية في الجبهة الجنوبية، ووضع التخلص من الشمولية في الأجندة السياسية، وإحاطة السودان بدرجة عالية من النوايا الدولية الطيبة، لكن حرص الطرفين المتفاوضين عبر وساطة الإيقاد، على التمكين الحزبي الثنائي فوت عليهما فرصة الاستفادة من درس جنوب أفريقيا والدروس الأخرى المماثلة التي جعلت اتفاقية السلام والاتفاق السياسي أداة لمشروع قومي للتحول الديمقراطي الحقيقي.

إذا أصر التمكين الثنائي المتمترس في اتفاقية ثنائية ودستور وليدها وحكومة وليدتهما، على أن هذه التكوينات الناقصة نصوص منزلة على أهل السودان، فإنهما بذلك سوف يخلقان استقطاباً إقصائياً يهدم السلام والديمقراطية معاً.

لكن ما زالت هناك فرصة لحاقهما بخير ما في التجربة السياسية السودانية ومواكبة تيار السلام العادل الشامل، والتحول الديمقراطي الحقيقي الذي يكتسح المعمورة. وذلك بعقد الملتقى الجامع المؤسس لمرجعية وطنية لبناء السلام الشامل والديمقراطية في السودان. أو بطرح مشروع وفاق وطني يلتزم الجميع بموجبه بثوابت السلام العادل والتحول الديمقراطي، ويحكم الائتلاف الثنائي البلاد ملتزماً بكفالة حقوق الإنسان وقومية مؤسسات الدولة، وإجراء انتخابات حرة نزيهة مراقبة دولياً في موعدها، ليدلي الشعب برأيه الحر حول المسائل المختلف عليها بين الرأي والرأي الآخر. الخيار الأول هو الأفضل، والثاني يليه في الأفضلية، وهما العلاج الوطني لشهوة التمكين الثنائي. ربما حظي التمكين الثنائي في مرحلته الأولى ببعض القبول الداخلي والتأييد الدولي الغافل عن الواقع السياسي السوداني، لكن حتماً سوف تحاصره التطلعات الشعبية المشروعة داخلياً وسوف تدرك عيوبه الأسرة الدولية خارجيا.. ما ضاع حقٌّ قام عنه مطالب.