ذكـــرى الميــــلاد 25/12/2008م

 

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكـــرى الميــــلاد 25/12/2008م

أخواني وأخواتي، أبنائي وبناتي

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد-

أشكر أفراد مكتبي وأسرتي الذين خلفوا والدتي في إحياء هذه الذكرى. بعض المنكفئين يمقتون المحدثات ويستشهدون بحديث مهما صح سنده فمعناه غير صحيح، فجمع القرآن بين دفتين، وتدوين الأحاديث، واتخاذ الدواوين، وضرب النقود، وغيرها كلها محدثات قام بها المسلمون بعد وفاة النبي (ص) وانقطاع الوحي.

إذا كانت الذكرى للمفاخرة والمباهاة فهي باطلة ولكن إذا كانت لوقفة متأملة مع الذات تنفع صاحبها ومن حوله في مشوار الحياة سواء كان فيها تحدث بنعمة الله أو توجع النفس اللوامة. فمرحب وأهلا.

اليوم أطرق معكم سبعة ملفات في أحداث ومعاني العام المنصرم.

أولها: إنه كان عاما حزينا ودعنا فيه إلى رحاب الله امرأة ورجلا هما من أحب وأنفع الناس لي وللناس.

ومع أنني أبّنت كل منهما ثلاث مرات لها ومرتين له واستنطقت معاني حياتهما بأغلى شهادة شاهد هل بقى ما يقال عنهما من جديد؟

أقول عن سارا نعم!

كانت تقول أن اسمها سارا بالآلف المطلقة لا بالتاء المربوطة وهو الاسم العبري وإن جدها الذي سماها كان يكتبه كذلك تيمنا بزوج إبراهيم عليه السلام.

كانت الحبيبة الراحلة تقرأ أفكاري إذ أهم بالشيء وتفعله دونما لغة الكلام.

وشطرت يوما أبيات العباسي:

وما الخال إلا ما خلا لك وده   وما العم إلا من بإحسانه عما

فقلت:

وما الزوج إلا نصفان بعد فراقهما لما!

وكنت أحرص على تدوين أحلامي وبعضها بشارات وكانت تفسر رموزها وعندي ديوان كامل بلغة الليل هذه بعض ما فيه أماني وبعضه مخاوف وبعضه بشارات تحققت.

وكانت الحبيبة الراحلة فنانة تشكيلية بكل معنى الكلمة وإن لم تسجل منها في لوحات بل القطية الشهيرة إحدى لوحاتها.

وكانت هاوية بستنة لا يشق لها غبار حولت مياديننا إلى لوحات من محاسن حسن الطبيعة.

وكانت مقدامة ففي صمودها لعذابات النظام المايوي متوسطة عددا من الرجال قال لها الحاج مضوي – وجسارته مشهودة: أدينا توبك هاك ملافحنا!

وكانت ممرضة ممتازة لو تمنى الإنسان المرض لتمناه لتمارضه لأنها تحفه باهتمام وحنان وتستخدم في التلطيف عليه والعلاج معارف الطب الحديث والرقى الدينية والتراث البلدي.

وكان حنانها مميزا للأطفال ذوي القربى وغير ذوي القربى تلاعبهم وتضاحكهم وتمثل لهم وتهاديهم في أمومة ظليلة.

حيثما تولت مسئولية أظهرت كفاءة إدارية نادرة.

كانت معطاءة متجددة تركت بصماتها في كثير من وجوه حياتنا وحياتي:

يذكرنيك الخير والشر والذي

          أخاف وأرجو والذي أتوقع

ولا أجد في دفاتر أدبنا ما أهديه لها مع الخالدين إلا قول الحكيم:

ألا يا موت ويحك لم تراع     

حقوقا للطروس ولليراع

نراك تجود بالأرزاء حتــى   

عددنا البخل من كرم الطباع

لقد فًقدت ولم تفقد علاها      

وهل شمسٌ تغيب بلا شعاع؟

وكانت للمكارم خير عون     

وللخيرات كانت خير داع

فيا شمس المحامد غبت عنا 

  وخلفت البكاء لكل ناع

وأعقبها في موكب الآخرة الحبيب عبد النبي الذي قلت له ذات يوم أتعلم أن الإمام المهدي غير اسم عبد النبي إلى عبد الباري؟ قال أنا مستعد لذلك سيما وأن الإمام كان يرى أن العبودية لا تكون لغير الله.

كان عبد النبي الأستاذ الجامعي يوفق توفيقا لطيفا بين أنصاريته المتجذرة ومسئولياته السياسية للأنصاري وغير الأنصاري وحتى غير المسلم التزاما بحقوق المواطنة المتساوية.

كان عبد النبي رضيا وعندما غيرنا الحكام وأعفى من منصبه تقبل الأمر بالرضا مع أن غيره ملأ الدنيا ضجيجا.

وكان أستاذا معلما ممتازا ثمن عطاءه زملاؤه وطلبته، ومع أدائه الأكاديمي التعليمي الممتاز مارس دوره كأمين عام لحزب الأمة بهمة عالية مضحيا بالخاص في سبيل العام.

ومع اختلاف جيلينا نمت بيننا صداقة حميمة وثقة متبادلة ففقدت بموته حبيبا ودودا ورفيقا بشوشا:

إن أخاك الصدق من كان معك

ومن يضر نفسه لينفعك

ومن إذا أبصر أمرا أفظعك

شتت شمله ليجمعك

بل كان حسُن الخُلق هو العملة التي يعامل بها الكافة. حُسن الخُلق الذي وصفه النبي (ص) أنه أفضل العبادة.

لا أجد في دفاتر أدبنا ما أهديه له في عليين إلا قول الشاعر:

لله درك من حباك بفضله

خلقا تجاوز في الثناء نشيدي

أوتيت قلبا كالنسيم رقة

قبل القريب عطاؤه لبعيد

بيني وبينك إلفة

يسعى كلانا غرسها لمزيد

بين بينك وصلة لو

غاب صوتي فالدعاء بريدي.

ثانيها:- أي الملفات- متعلق بأولادي الذين لفت بعض الأنظار دورهم في الحياة العامة فصاح بعضهم الذئب الذئب!

صحيح أن هناك نزعة أن يحل الأولاد محل آبائهم وأمهاتهم ففي بلاد متقدمة كالولايات المتحدة يحاول كثير من أعضاء الكونغرس إحلال أولادهم محلهم وفي البلدان العربية تشاهد ظاهرة تحول النظم الجمهورية الثورية إلى نظم وراثية سماها بعضهم “جملكية”. وفي الهند توارث آل نهرو حزب المؤتمر وفي باكستان حدث توارث تراجيدي كوميدي.

المدهش أنني منذ البداية حرصت على تربية أولادي بقاعدتين ذهبيتين هما التحرر من امتيازات النسب والتحرر من امتيازات النوع وكان نهجي معهم يقوم على غرس التزام روحي، وأخلاقي، ووطني عام ثم الاعتماد على الذات في تلقي الحياة، واختيار مصيرهم في نوع التعليم وفي الزواج وفي الوظيفة العملية اختيارات حرة.

وقد اختاروا ما اختاروا فاختارت أقلية منهم عملا في الحياة العامة دون طلب مني لأحدهم إلا ما اختاره أو اختارته لنفسها ووجد قبولا من الجهات المعنية بالانتخاب. والأسئلة المشروعة المحترمة هي:

  • هل أداؤهم في المهام التي باشروها في الحياة العامة جيد أم لا؟ أي هل هم معتمدون على اسمهم أم على فعلهم؟
  • هل أخوانهم وأخواتهم الآخرون العاملون في مجالات أخرى غير العمل العام كمواطنين وكعاملين مجيدون أم لا؟
  • هل أقرانهم من أبناء وبنات الأسر المماثلة أفضل أم أسوأ من أدائهم سواء في المجال العام أم غيره؟

فإن كان الجواب في الحالات المختلفة لصالحهم فإن الموقف العاقل والوطني أن يُشجعوا لمزيد من العطاء لا أن تثبط همتهم بالقيل والقال، ونزعة الشباب الغالبة اليوم للأسف هي إما في إتباع الهوى أو في ترك الرهان على السودان والبحث عن مستقبل خارجه.

علينا أن نشجع الشباب على الجدية في الحياة والمشاركة فيها وعلى الرهان على السودان مكان عزتهم الحقيقي. لا سيما وقد أقدموا على العمل العام في زمان الغرم لا الغنم.

ثالث الملفات: كنت ولا زلت مهتما بالمسألة التربوية وضرورة نقل مبادئها جيلا بعد جيل. والسؤال كيف نجعل من الصبي والصبية إنسانا سويا ومواطنا صالحا وشخصا سعيدا.

وبعد تأمل في أساليب التنشئة من ترهيب وترغيب رأيت أن العنف ليس مجديا بل يأتي بنتائج عكسية والأجدى أن يشعر الطفل أنه محبوب ومهم فإذا أخطأ في أمر ما يعامل بصورة تدل على التوبيخ وأن يعطى باستمرار مثلا ليقتدي به. فالقدوة هي أنجح أسلوب تربوي لأن المقتدي يشعر بأنه مخير وليس مسيرا.

و لا بد للصبي والصبية من إيمان يشبع حاجتهما الروحية. فالإنسان في هذا الكون يواجه ظروفا قاسية. الإيمان يشعره أن وراء الظواهر الطبيعية رحمن رحيم.  الإيمان مبعث للطمأنينة كما هو وتد للأخلاق. ولا بد لهما من محبة تشبع حاجتهما العاطفية فالمحبة هي العملة الأصلح للتعامل مع الآخرين وهي السبيل لإشعار الفرد أنه ليس وحيدا بل جزء من عنقود محبة كما قال الشاعر الحكيم:

قال قوم أن المحبة إثم         

ويح بعض النفوس ما أغباها

إن نفسا لم يشرق الحب فيها

                             هي نفس لا تدري ما معناها

أنا بالمحبة قد عرفت صحبي

                             أنا بالمحبة قد عرفت الله

ومن الضروري للفرد أن يكون كثير الاستطلاع لتحصيل أكبر قدر من المعرفة فهي التي توسع عالمه.

ومن الضروري أن يجدد الشخص نفسه كأن عدة أرواح تقوم به فليس يهدى ولا تهدى رغائبه. لأن الرتابة والملل هما أكثر ما يشقي النفس الإنسانية.

ومن الضروري ألا يطير الإنسان فرحا بما يسره. نعم للسرور ولكن مهما كانت دواعيه فبالاعتدال. والاعتدال مطلوب في التعامل مع الأحزان والأخطاء فعلى الإنسان أن يدرك أن بعض الأحزان ابتلاءات وأن ارتكاب الأخطاء جزء لا يتجزأ من الحالة الإنسانية فابن آدم خطاءون ومن توهم أنه لا يخطئ فقد وقع في أسوأ الخطايا خطيئة الشرك فالكمال لله وحده.

وكل أولياء الله يتخذون من الخطأ سلما روحانيا على حد تعبير الإمام المهدي:  “اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك على قبيح عملي، أطمعني أن سألك ما لا استوجبه مما قصرت فيه، أدعوك آمنا وأسألك مستأنسا فإنك المحسن إلي وأنا المسيء إلى نفسي فيما بيني وبينك تتودد إلي بنعمك وأتبغض إليك بالمعاصي ولكن الثقة بك حملتني على الجراءة عليك فعد بفضلك وإحسانك علي إنك أنت التواب الرحيم”.

وأختم هذا الفصل بأهمية ألا ننسى أن الإنسان خلطة عجيبة من روح الله والمادة وأنه بالتجربة يعطش لعشر ضروريات يتطلع لإشباعها إشباعا موزونا وإلا اختل مزاجه هي: ضرورات روحية- خلقية- مادية- عاطفية- عقلية- اجتماعية- رياضية- ترفيهية- جمالية- وبيئوية.

الروحانيون والغيبيون حاولوا إشباع جانب واحد وأنكروا الجوانب الأخرى وفعل الماديون والدهريون العكس، وكلاهما إذ ركز على مطلبه المحدد أخل بالتوازن بل أهدر الإنسانية نفسها وكل من اعتدى على الإنسانية بإنكار بعض مطالبها ضل السبيل وما اهتدى وأجبرته الإنسانية على ترك مناهجه العوراء.

الملف الرابع: أتحول الآن من الخاص إلى العام. لقد وقعت بلادنا في العقدين الماضيين في أسر نظام “الإنقاذ”.

“الإنقاذ” طموح استعجال للسلطة سهل مهمته الفجوات التي أفرزتها عيوب الممارسة الديمقراطية وأهمها:

  • محاولة تطبيق نظام حكم مبادؤه صحيحة ولكنه يحتاج لأقلمة ثقافية واجتماعية لم نحققها.
  • وقام النظام على افتراض قيم مركزية غاب عنها التقدير الكافي للتنوع الجهوي، والديني، والثقافي، كانت هذه القيم المركزية بحاجة إلى توازن يشبع ذلك التنوع.

ومع أن نظام “الإنقاذ” قدم نفسه على أنه مشروع تصحيح لعيوب النظام الديمقراطي الذي سبقه فإنه فيما يتعلق بعيوب المركزية زاد فيها بصورة فجرتها. وارتكب نظام الإنقاذ أخطاء جسيمة أخرى:

  • اندفع نحو الشعار الإسلامي بلا برنامج فشوه التجربة الإسلامية ودمر بها الوطن.
  • تذبذب في أمر التنمية بصورة مخلة وفي النهاية أهمل إنتاج الموارد المتجددة في الزراعة والصناعة واعتمد على البترول الذي نَجَده في مرحلة الغلاء، ويهدده الآن في مرحلة الهبوط.
  • وأعلى أولوية الولاء للحزب والنظام على حساب النسيج الاجتماعي فمزق النسيج الاجتماعي دون أن يحوز ولاء المواطنين بل ترك فراغا هبت لملئه قوى جديدة ذات ولاءات إثنية وروابط خارجية.
  • أبرم اتفاقيات سلام معيبة نجحت في إرضاء بعض القوى السياسية ولكنها لم تنجح في بناء السلام العادل الشامل. بل صارت مدخلا لتدويل الشأن السوداني بصورة غير مسبوقة.

وفي أخريات أيامه صار النظام يقف مقيدا في مذبح التشظي والتدويل والملاحقة الجنائية الدولية. وصار التحدي الأكبر هو إنقاذ “الإنقاذ” من جناياته وإنقاذ السودان من مصيره.

وللأسف كل قراءاتنا للموقف صحت.

ابتداء من النصيحة الأولى عندما استولوا على السلطة. ثم النقد الأساسي لاتفاقيات السلام نقدا صحت مآخذه وهي التي تحركت لتخنق الاتفاقيات. وأخيرا قلنا في يونيو 2004م أن جرائم دارفور توجب تحقيقا عادلا وعقابا للمجرمين وإنصافا للضحايا. وقلنا ما لم يحدث هذا فإن المجتمع الدولي سوف يتحرك حتما.

وبعد ثلاثة أشهر من حديثنا تحرك مجلس الأمن وفي مارس 2005م اتخذ القرار (1593). أيدنا القرار وطالبنا بالتعامل الجاد معه ومع المحكمة الجنائية الدولية ولكن كل النصائح أهملت.

وبعد فترة طويلة من القطيعة والمواجهة حاورنا المؤتمر الوطني فأثمر ذلك اتفاق التراضي الذي لم يرضى عنه بعض صقور المؤتمر الوطني فأبدلوه بمبادرة أهل السودان فتجاوبنا معها وألحقنا بها ما أسقطوا من برنامج التراضي، وعبر اجتماعات مبادرة أهل السودان حرصنا على توسيعها لتصير اسما على مسمى.  ولكن الصقور تتبعوا القرارات لإسقاط الإضافات المطلوبة وتحويلها لشيء أشبه بمبادرة المؤتمر الوطني بحضور أهل السودان. فلا التنبيه للمساءلة عن جرائم دارفور، ولا محاولات التراضي على الأجندة الوطنية أجدت، وضاع الزمن في المناورات إلى أن وجدنا أنفسنا أمام موقف اعتقال رأس الدولة.

هكذا دارت الدوائر والموقف الآن تجاوز تدابيرنا السابقة. وحله في أمرين إجماع وطني، يجد تجاوبا دوليا؛ ولا سبيل لرأي آخر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

هذا العام 2008م هو عام وضوح الرؤية في القضية الوطنية.

الملف الخامس: وعام 2008م هو كذلك عام وضوح الرؤية في الملف الإسلامي.

لقد كتبت كثيرا حول هذا الملف وأهم ما كتبت فيه كتاب “العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي الإسلامي”، وكتاب “نحو مرجعية إسلامية متجددة”. كنت وكان آخرون كثيرون غير راضين عن حال الإسلام والمسلمين الحالي. وكنت وكان آخرون يرون أن الفكرويات الوضعية اشتملت على بعض الحقائق ولكن غابت عنها الإحاطة بحقائق أخرى فتعثرت.

وكنت وآخرون نرى أن الطرح الشعاراتي للإسلام أضر بالقضية الإسلامية لأنه سمح لأصحابه أن يطبقوا سياسيات وضعية خاطئة تحت الشعار الإسلامي، وهب المنكفئون يملأون الفراغ بالدعوة لنظم إسلامية في الحكم والأحكام ماضوية فكأنما رهنوا الحاضر والمستقبل للماضي، لذلك وبعد اجتهاد عميق رأيت كما رأى آخرون أن التوجه الإسلامي متعلق بالماضي فقط في حدود قطعيات الوحي وفيما عداها فإنه متعلق بالحاضر والمستقبل ويستوجب فكرا يخاطب جدلية الأصل والعصر، ونظاما سياسيا، واقتصاديا، ودوليا، نظما تستصحب منجزات الإنسانية في مجالاتها.

هكذا اهتدينا للدعوة للدولة المدنية، ولنظام حديث في الحكم، والاقتصاد، والعلاقات الدولية بمرجعية إسلامية.

لقد كنت في صباي ومطلع شبابي محتارا جدا حول الدعوة المهدية فتعمقت في دراسة الدفاتر الإسلامية ووجدت أن أغلبية المسلمين ينتظرون المهدي ليقوم ببعث استثنائي للدين. ووجدت أن المؤمنين بالدعوة المهدية ينقسمون إلى مدارس أهمها مدرستان. المدرسة الإثني عشرية. وهؤلاء ينتظرون شخصا بعينه هو الإمام الثاني عشر في سلسلة تبدأ بأمير المؤمنين على بن أبي طالب. والثانية هي المدرسة الغالبة بين أهل السنة وهؤلاء ينتظرون المهدي في آخر الزمان.

ما حيرني هو كيف الترجيح بين هذه المدارس؟ وهل ينتظر المسلمون بالبعث الإسلامي صاحب سامراء وآخر الزمان فلا يتطلعون للبعث الإسلامي الاستثنائي قبل ذلك؟

ثم ما هو موقع الإمام محمد المهدي في السودان من هذه المدارس؟ وكان واضحا لي أنه ليس الإمام محمد الحسن العسكري صاحب سامراء ولم يقل أن آخر الزمان قد حل وبالفعل انقضى على المهدية أكثر من قرن ولم ينته الزمان.

في القرن الثالث عشر الهجري- التاسع عشر الميلادي- أذلت المسلمين ثلاث مصائب هي:

  • لأول مرة اخضع العالم الإسلامي كله لقبضة استعمار أجنبي مخالف لدينه مستغل لمصالح أهله.
  • واستحكمت الفرقة السياسية بين المسلمين متبعين ملوكا وسلاطين أوجبوا الولاء لهم حتى وهم يمتثلون لسلطات الأجنبي.
  • واستحكمت الفرقة الدينية بين المسلمين مذاهب وطوائف صاروا يتبعونها ويضعون الولاء لها في مصاف الولاء لحقائق الوحي. بل أكثر!.

هل ينتظر المسلمون بالتصدي لهذه القضايا وبعث الإسلام صاحب سامراء؟  وإلا فلا. أم ينتظرون آخر الزمان وإلا فلا؟

أجاب الإمام المهدي في السودان على هذه الأسئلة بحجة غيبية أنه خوطب بالإمامة الكبرى. وحجة عقلية بأن الحاجة للبعث الإسلامي صارت ملحة. وحجة وظيفية حددت معالم ومفردات ذلك البعث.

الإمام المهدي أخرج الدعوة المهدية من قيود الشخصية والتوقيت وقال بدعوة مهدية تحقق بعثا استثنائيا وتعطي مشروعية لتجديد هديها مع الزمان.

لمن شاء أن ينتظر دعوة بمواصفاته فليفعل ولكننا نؤمن بالدعوة كما حددتها تعاليم صاحبها، ونقول للآخرين تعالوا إلى كلمة سواء بيننا نتفق على برنامج للبعث الإسلامي -وهو ما نتفق عليه- ويعذر بعضنا بعضاً فيما دون ذلك.

هنالك جماعة تشدقت بقدسية حقوق الإنسان. ولكن حقداً دفيناً جعلها تصفق لطاغية مايو في بطشه بالناس باعتبارهم رموزاً “للطائفية” بلا أساس من حق أو قانون. وكنا نقول لهم في حوارنا معهم وهم يدعمون الطاغية في بطشه بالناس إن حقوق الإنسان لا تتجزأ ومن أعان ظالماً على ظلمه سلطه الله عليه دون جدوى حتى كان ما كان. ومن رواسب ذلك الحقد الدفين تصدى كاتب عندما سمع مقولتنا الإيجابية عن المهدية فدفعه حقده لكتابة مقالات معقربة مثعبنة “عقارب وثعابين” مستنكراً ما سماه عودة المهدية.

وآخرون على الطرف الآخر من المعادلة هم في خواء من وعي ديني وفكري ظنوا أن ما قيل سوف يبخس ثمن الأوهام التي يشدون بها ولاء بعض السذج للأسماء لا الأفعال، كما يبخس ثمن البضاعة التي يسومونها تأييداً للطغاة مقابل منافع شخصية، فاندفعوا يدافعون عن أوهامهم.

فما أفلح بائع الأحقاد ولا باعة الأوهام.

لم نبطلها ولكن باجتهادنا ومن دفاترها قدمناها لعالم إسلامي سوف يتقبلها بلا حرج ولم نقل بعودتها فهي فريدة ولكن قلنا إنها فتحت الطريق للبعث الإسلامي المتجدد. وذلك بعد اجتهاد تعددت حلقاته واكتملت حلقاته هذا العام بما يشكل توفيقاً لطيفاً بين التأصيل والتحديث.

الملف السادس: مسألة أهل الكتاب

بعض المسلمين لا يخالجهم شك في أن أهل الكتاب كفار وأن عقائدهم فاسدة ليس فيها قيمة روحية أو خلقية.

هذا الموضوع أقلقني لا سيما وفي نصوص الوحي الإسلامي ما يدل على أمرين هامين هما وجود قيمة روحية وخلقية عندهم، والأمر الثاني تأكيد أن في كتبهم رغم التحريف ما يبشر برسالة محمد “صلى الله عليه وسلم” الذي يجدونه مكتوبا عندهم وأن القرآن مصدق لما بين يديهم )الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ[[1]

وقادني الاجتهاد إلى الآتي:

  • نعم لدى أهل الكتاب قيم روحية وخلقية بنص القرآن: )لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون* يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ[ [2].
  • أن الدين الإبراهيمي واحد بدأ بإبراهيم عليه السلام وختم بمحمد “صلى الله عليه وسلم” وميزة الإسلام في أنه للناس كافة وما سبقه لأمم محددة، وأن تشريعاته محيطة، وأن نص كتابه محفوظ، وأنه خاتم الرسالات. ولكن في أمر التوحيد لله والعدل بين الناس والجزاء الأخروي والنهج الأخلاقي فإن الدين واحد: )شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[ [3]
  • نصوص التوراة والإنجيل لم تدون في حياة موسى وعيسى عليهما السلام بل بعد انتقالهما. وما فيهما من نصوص فيه ما هو وحي، وما هو قول نبي، وما هو اجتهاد بشري.
  • وفي التوراة نصوص واضحة جاء فيها خطاب للإسرائيليين: (سأرسل من إخوتكم نبياً مثل موسى وسأضع كلماتي في فمه)- (سفر التثنية 18/18). وجاء في التوراة في خطاب إبراهيم عليه السلام أن الله قال له: (وأما إسماعيل فقد سمعت قولك فيه وها أنذا أباركه وأنميه وأكثره ويلد اثنا عشر رئيساً وأجعله أمة عظيمة)- (سفر التكوين 17/20). هذه الأوصاف تنطبق تماماً على محمد “صلى الله عليه وسلم” حفيد إسماعيل عليه السلام.

بل في كتاب أطلعت عليه هذا العام بقلم العالم المسيحي الألماني رينهارد لاوت وعنوانه “إبراهيم وأبناء عهده مع الله” أورد المؤلف نصوص التوراة المتعلقة بإسماعيل عليه السلام ما يؤكد أنه لولا بعث محمد “صلى الله عليه وسلم” لكذبت التوراة.

  • وجاء في الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال إن نبياً سوف يأتي بعده-(إنجيل يوحنا 16/17)، وقال إن الذي سيأتي بعده هذا لن ينطق عن نفسه بل يردد ما يسمع. (إنجيل يوحنا 14/16).  هذه الأوصاف تنطبق على محمد “صلى الله عليه وسلم”.

وهناك نصوصا أخرى أحصاها المرحوم أحمد ديدات في كتابه بعنوان: الاختيار.

إذن تجمعنا مع أهل الكتاب وحدة الدين وديننا يقر بقيم روحية وأخلاقية عندهم. وفي نصوص كتابيهما رغم ما دخل فيها من اجتهادات بشرية ما يبشر ببعثة محمد (ص).

في هذا العام أحصينا أصدقاءنا من المسيحيين وأرسلنا لهم معايدة بمناسبة ميلاد السيد المسيح عليه السلام وطبعنا في كل كرت آية أو حديث يدل على خصوصية العلاقة بين المسلم والمسيحي مثلا:

  • ما جاء بالقرآن على لسان عيسى بن مريم عليهما السلام (وَالسَّلاَمُ عَليَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)[4].
  • (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ)[5].
  • قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “الْأَنْبِيَاءَ أُخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ ، دِينُهُمْ وَاحِدٌ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى ، أَوْلَاهُمْ بِي عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ “[6].

الملف السادس: جدلية الداخل والخارج

العالم اليوم بفعل ثورة المعلومات والاتصالات وسرعة المواصلات صار في نواح كثيرة مترابط كما لم يكن كذلك في أية مرحلة من التاريخ، وسياسات نظام الإنقاذ بطابعها القهري داخلياً والتوسعي خارجياً شدت إلى السودان اهتماماً إقليميا ودوليا غير مسبوق.

لذلك وفي مجالات عامة وأخرى متعلقة بالسودان وبالإسلام وبالعروبة وبأفريقيا وبقضايا دولية نشطت منظمات ومنابر شدت إليها اهتمامي واهتمام حزبنا وكيان الأنصار بصورة غير مسبوقة. وتبوأت وتبوأ أفراد من حزبنا وكياننا مواقع مرموقة في منظمات وأنشطة دولية كثيرة. وكما في العام الماضي بلغ عدد أسفاري في مجال تلك الأنشطة ما يساوي رحلتين كل شهر في المتوسط. (أرفق بياناً مفصلا لهذه الرحلات).

  • بدأ نظام “الإنقاذ” مصمماً على استقلال القرار الوطني والنهج الفكري والحرص على نقاء الإرادة بصورة مبالغ فيها. ولكن كما هو معروف الفات حده انقلب ضده، على نحو ما قال الحكيم:

مـــن لـم يقف عند انتهاء قدره

          تقاصرت عنه طويلات الخطى

اضطر النظام على إبرام اتفاقيات سلام كلها برعاية خارجية وفي أكثر مبادئها بتأليف أجنبي. وهاجر الشأن السوداني في أهم القضايا الوطنية إلى منابر ومواقع خارج السودان.  بل هاجرت نسبة معتبرة من أهل السودان إلى الخارج، وأحاط التدويل بالشؤون السودانية وصار الوجود الدولي السياسي، والأمني، والإغاثي، والعسكري، في داخل السودان بحجم ضخم لم يشهد السودان مثله بل ولا الدول الأخرى.

هذه الحقائق تفسر مدى التحام الداخل بالخارج وتفسر ترحل المعنيين بالشأن العام في أركان العالم الأربعة.

وفي نهاية هذا العام الحزين يجد السودان نفسه أمام عتبة غير مسبوقة.

وكما ذكرت آنفا، فقد كنا أشرنا بوضوح تام بعد زيارتنا لدارفور في يونيو 2004م إلى أن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية قد ارتكب في دارفور وطالبنا بالتحقيق في تلك الجرائم وعقاب مرتكبيها وتعويض ضحاياها. وقلنا إذا لم يحد ث ذلك فإن المجتمع الدولي سوف يتدخل.

الحقيقة التي يغفلها كثيرون هي أن القانون الجنائي الدولي قد تطور بموجب قيام المحكمة الجنائية الدولية في عام 1998م.

واستعدت الأذهان للتدخل من أجل وقف جرائم الحرب إن استحال على الدول المعنية وقفها. هذه التطورات تفسر القرار 1593 الخاص بجرائم دارفور ونظرها أمام المحكمة الجنائية الدولية. القرار والمحكمة جرى التعامل معهما باستخفاف شديد بحجتين هما:

  • أننا لم نصادق على نظام روما فالمحكمة لا تعنينا.
  • أن في العالم جرائم حرب كثيرة ترتكبها الدول الكبرى وإسرائيل ولم تقدم للمحكمة. وهذا الازدواج في المعايير ظالم.

نعم نظام الأمم المتحدة الحالي ظالم لأنه يتيح للدول دائمة العضوية أن تفعل ما تشاء و تحمي نفسها وحلفاءها من مجلس الأمن بحق النقض. ولكننا أعضاء في هذا النظام الظالم الذي تمثل قراراته القانون الدولي وقراراته تلزمنا. أما عدم مصادقة السودان على نظام روما فلا تحميه لأن الأمر أحيل للمحكمة بقرار من مجلس الأمن ولم يعترض عليه أحد بمن فيهم أصدقاء السودان في المجلس. قرار المحكمة المنتظر صدوره لاعتقال رأس الدولة السوداني إذا امتثل السودان له أو رفضه ففي الحالين سوف تقع تداعيات أمنية وسياسية وقانونية دولية كبيرة تقوض الأمن القومي السوداني، ولا سبيل لمواجهتها إلا بقرار وطني تقرره الإرادة القومية السودانية ويقبله مجلس الأمن لا سيما الأعضاء الخمسة أصحاب حق النقض.

هكذا في شأن المصير السوداني التحم الداخل بالخارج.

الملف السابع والأخير:

اختم حديثي بالإشارة لأمور أدهشتني في هذا العام ولطرافتها اخترت منها سبع مدهشات:

  1. في أحد المؤتمرات الإسلامية قابلني فقهاء هم خير أنموذج لأولئك الذين أقاموا حاجزا بين القرآن والطبيعة مع أن القرآن هو كتاب الله المقروء والطبيعة هي كتاب الله المنشور، وآيات القرآن تشير لهذه الحقيقة: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ٍ[ [7] وقوله تعالى: )رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى[ [8]. وهم أنفسهم الذين فهموا سيرة النبي (ص) خصما على إنسانيته فأقاموا حاجزا بين النبي والإنسانية مع أن سر نبوة محمد (ص) أنه نبي الإنسانية.

وهم أنفسهم الذين ارتكبوا جريمة لا تغفر هي عزل الدين من الحياة.  فالتقي لا يليق أن يسعى لرزقه لأنه مقسوم منذ الأزل. والتقي لا يليق به أن يمرح، ولا أن يطرب، ولا أن يروض جسمه.. التقوى عندهم مشروع اغتراب من الإنسانية بل لقيت في بعض البلاد العربية من قالت لي أن زوجها يعتبر الملاطفة حتى لأطفاله ولزوجه لا تليق بالوقار! هؤلاء المغاليق الذين قطعوا شريان الحياة من الدين جففوا الدين ويبسوا نداه:

ظنوا التدين تكشيرا وعكننة

                                   وقطبة الوجه في صحب  وفي ولد

الدين مسحة بشر واغتنام مودة

          ما أبعد الفرق بين الدين والنكد!

  1. الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم هذه مقولة رائجة. وتباين الأجيال وجه من وجوهها، ولكن هذه الظاهرة بلغت درجة لا تطاق لدي السودانيين الذين استقروا في بلاد غربية نتيجة إعادة التوطين أو غيرها من وسائل الاستقرار في وطن بديل. فالأطفال ينشؤون في بيئة غريبة تماما لغة وثقافة وديانة من البيئة الوطنية وكالعادة يتأقلمون على البيئة الجديدة. هذا التأقلم قد يبلغ درجة تجعلهم غرباء على أسرتهم الأصلية ذات الطباع السودانية لغة وديانة وثقافة. وفي كثير من المجتمعات السودانية في المهجر نشأت هذه الظاهرة. لكنها بلغت درجة مدهشة لدي أسرة قالت لي ربتها يا فلان “أولاي ديل دا طرفي منهم” لا نتحدث لغة واحدة ولا تجمعنا ثقافة واحدة. لم يعد بيننا إلا الجينات الوراثية.
  2. دعاني صديق للغداء والتقيت الرجال في الصالون ثم دخلت للسلام على الأسرة والتقيت عددا من أفرادها النساء. الأسرة المذكورة ميسورة الحال وما أدهشني هو حالة السمنة المنتشرة في الرجال والنساء ولا يهتمون بها مع أنها انتحار بطئ لأن الأمراض المرتبطة بالسمنة كثيرة جداً. يا للحسرة على الشباب السوداني في الأسر الأيسر حالا. تجدهم بين العشرين والثلاثين يستمتعون بأجسام رشيقة ثم ينسجون بأضراسهم ثيابا من شحم ينقلهم رجالا ونساء مباشرة من رشاقة فرس البر إلى كثافة فرس البحر. وفي لقاء لي مع الأخ عمرو خالد اتفقنا أن نبدأ حملة ضد السمنة باعتبارها من نتائج الابتلاء بالنعمة وباعتبارها من أفتك أمراض العصر بالناس بالإضافة لأنها من أكثر وسائل تشويه المحاسن. ومن المدهشات أيضا في المحافل أن بناتنا كدن يقمن بالقضاء على الخضرة بالمساحيق والحقن، وهي كذلك آفة صحية فكل المبيضات هذه محملة بالسموم التي يمتصها الجلد ويدمر بها الأعضاء سيما الكلى. والخضرة من أجمل ألوان البشر بلا انتقاص من شأن البياض الطبيعي، أما هذا المجلوب بالكيمياء فمؤذ للصحة وللجمال.
  3. خطر ببالي في لندن ما أدهشني فالطرق عندهم مكتوبة بإشارات الهاي-وي كود High-way Code بصورة مكثفة تنبهك بالإحناءة وبالتقاطع وبالجسر وبعبور المارة وبالسرعة القانونية وغيرها.. عشرات التعليمات لتحقيق سلامة الحركة. وبدا لي أن السيارات والناقلات وكافة وسائل التنقل الحديثة هذه مصممة في هيكلها وسرعتها وكافة ما يتعلق بها لهذه الطرق المصقولة بثقافة المرور الحديثة. ولكننا ننقلها إلى بلداننا بنفس التصميم المذكور لتسير في طرق وشوارع “أمية” عارية من علامات “الهاي-وي- كود” فلا غرو أن صارت هذه السيارات نعوشا متحركة. ولذلك اعتقد أنه إلى أن ننشئ طرقا تليق بهذه الناقلات ينبغي أن نضبط السرعة بصورة تجعلها لا تتعدي الخمسين كيلو متر في الساعة.

أتردد على المقابر كثيرا وأتيح لي أن أزور مقابر مسلمين في غير السودان وذات يوم دهشت جدا لحالة المقابر عندنا فهي أشبه ما تكون بكوشة لرمي النفايات. صحيح أننا نعاني من حالة مماثلة في الأحياء العشوائية حيث يسكن أحياؤنا في قمامات. ولذلك لا بد لخطتنا السكنية من توفير أحياء تليق بالأحياء ومقابر تليق بالموتى فقوله تعالي: ()وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ[9][ ينطبق على كل الشأن الآدمي.

  1. مع أنني العب التنس منذ شباب فإنني لم أدخل قط في مباراة. وفي اتحاد التنس ألح علىّ الزملاء أن ندخل في مباراة الرواد. وفي النهاية قبلت باعتبار أن في ذلك ما يروج لهذه اللعبة اللطيفة. وكان المدهش أنني وزميلي حصلنا على الكأس بعد سن السبعين. وهذا يقودني للحديث عن ما يليق وما لا يليق بالسن. فقد عانيت من نقد لفترة طويلة لصغر سني وعظم مهماتي. ثم انتقل النقد لكبر السن. والمدهش أنني عندما كنت صغيرا كنت لا أطيق أندادي واجد ارتياحا أكبر مع من هم أقرب إلى من هم في سن والدي، وبعد أن كبرت صرت أجد ارتياحا أكبر مع من هم في سن أولادي.

على أية حال ليس ابن آدم كالأنعام تقويمه بسنه بل سجل الأدباء ما يدل على الحلم في الصغر كقول الحكيم:

قل للذي أحصى السنين مفاخرا

يا صاح ليس السر في السنوات

لكنه في المرء كيف يعيشه

في يقظة أم في عميق سبات

وسجلوا ما يدل على الحيوية في الكبر:

يا عز هل لك في شيخ فتي أبدا

وقد يكون شبابا غير فتيان!

أو قوله:

عمري إلى السبعين يركض مسرعا

والروح باقية على العشرين

  1. أدهشتني إلى حد التعجب حادثة الحذاء. أنا اعتبر نفسي من الذين ناصبوا السيد صدام حسين العداء في حياته بل واجهته في لقاء مشهور ببغداد مواجهة حادة. ولكن عندما قتل بالطريقة التي كانت انتقدتها وقلت أنهم صيروا الجلاد بطلا. كذلك حملت على السيد جورج بوش حملة واسعة في كل المنابر وساهمت قدر استطاعتي في هزيمة الجمهوريين وليست لي نحو جورج دبليو بوش عاطفة إلا عاطفة الشجب والرفض. أدهشني منظر الزيدي عندما قذف بوش بحذائيه واعتبرتها تعبيرا تلقائيا من شخص أغضبه تدمير بلاده على يد بوش وقواته. وأفهم الشعبية الواسعة التي وجدتها حادثة الحذاء فالشعوب المعنية غاضبة والحذاء عبر لها عن مشاعرها نحوه. ولكن الذي لا أفهمه أن يشيد بالحادثة من هم في موقع المسئولية وأولي بهم السكوت حتى إذا أعجبهم الحادث ففي الأثر: إننا لنبش في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم. ولكن مهما كان من أمر فإن المشهد قد بهر العالم.

وانطلقت النكات والنوادر مثل قولهم:

  • كان خطاب بوش في بغداد خطابا حازما.
  • وقول شخص يحمل شمسية ويقول لصاحبه: هذه ليست لاتقاء الشمس أو المطر بل الجزم.

وقول ثالث مشيرا إلى جزمة على لسان أحد الأمريكان: وأخيرا اكتشفنا أسلحة الدمار الشامل في بغداد.

وقدم 270 ألف طلب لشركة الأحذية التي صنعت حذاء منتظر الزيدي في تركيا لاستيراد بضاعتها.

  1. استقبلت وفدا شعبيا أردنيا زار السودان وعندما هموا بالإقبال على الفطور قدمنا السيدات وقلت ما أكرمهن إلا كريم. وحضر معنا الأخ الحبيب عبد الباسط عبد الماجد وهو أديب فاستشهد بالقرآن (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ[[10] وببيت من شعر أمير الشعراء أحمد شوقي:

الشمس في عليائها أنثي      وكـل الطيــبات بــنات

كنت من الذين يعتقدون أن اللغة العربية ذكورية المزاج وعزز لي بعضهم هذا الفهم بقوله التعابير الحميدة في المذكر تصير ذممية في المؤنث مثلا: نقول مصيب ـ والمؤنث مصيبة. ونقول نائب ـ والمؤنث نائبة. ونقول حي ـ والمؤنث حية.

ولكن عندما عدت لبقية شعر أحمد شوقي دهشت لأجد اللغة العربية منحازة لتاء التأنيث. جاء فيها:

فالحرب بمحـــدوديته ذكـر              واللغة بشمولها أنثــي

والحب يضيف مساحته ذكر            والمحبة بسموها أنثي

والسجن بضيق مساحته ذكر           والحرية بفضائها أنثي

والبــرد بلــذعـتـــه ذكــــــر             والحرارة بدفئها أنثـي

الجهـل بكــل خيبــاتـه ذكــر             والمعرفة بعمقها أنثـي

الفقـر بكـل معـانـاتـه ذكـــر             والرفاهية بدلالها أنثـي

الجحيــــم بــناره ذكــــــر                والجنة بنعيمها أنثـي

الظلـم بــوحشــته ذكــر                  والعدالة ميزانها أنثي

التخلـــف بـرجعيتـه ذكـــر               والحضارة برقتها أنثـي

المـــرض بــذلـــه ذكــــــر               والصحة بعافيتها أنثي

المـــوت بحقيـقـتــه ذكـــر               والحياة بألوانها أنثـــــي

ومضت القصيدة تعدد هذا الانحياز اللغوي العربي لتاء التأنيث. حتى ختمت:

الشمس في عليائها أنثي                وكل الطيبات بنات

 

 

 

 

 

[1]  سورة الأعراف الآية- 157

[2]  سورة آل عمران الآيات 113- 115.

[3]  سورة الشورى الآية 13

[4] سورة مريم الآية (33)

[5] سورة المائدة الآية (82)

[6] رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داؤد

[7]  سورة الأحقاف الآية (3)

 ( سورة طه الآية (50[8]

[9] سورة الإسراء، الآية (77)

 

[10]  سورة الشورى الآية 49