رؤية الهلال.. وسيلة لا شعيرة

بسم الله الرحمن الرحيم

رؤية الهلال.. وسيلة لا شعيرة

2 أكتوبر 2006م

نحن موعودون كل عام بالاختلاف فيما بيننا في بدء الشهر وفي آخره.. في رمضان قبل الأخير مثلا كانت هنالك دول في العالم الإسلامي صامت بالأحد ـ يوم ثبوت الهلال فلكيا ـ وأخرى صامت بالاثنين وثالثة بالثلاثاء بناء على رؤية الهلال مشاهدة. تكرر المشهد كديدنه هذا العام، فقد صمناه متفرقين بين السبت والأحد والاثنين، باختلاف بين الدول الإسلامية، واختلاف داخل الدولة الواحدة: صامت مصر الرسمية بالأحد، بعض المصريين صاموا بالسبت مع السعودية، وأخرى صاموا بالاثنين. وفي العراق صام بعض السنة مع السعودية، وصام بعض الشيعة مع إيران بالاثنين. والعجيب أن بعض مناصري الرؤية صاموا بالسبت وقد ثبت علميا أنه برغم بدء الشهر فلكيا بالسبت، فإنه تستحيل رؤية الهلال مساء الجمعة في كافة شمال الكرة الأرضية التي تقع فيها البلدان الإسلامية، أعلن ذلك علماء الفلك في بلداننا وفي بلدان غربية. هذا يؤكد أن الذين رأوا الهلال في هذه البلدان توهموا رؤيته.

الدول والجماعات التي تصر على رؤية الهلال تستند على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم « صُومُوا لِرُؤْيَتِهِِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»، منكرين ثبوت الرؤية الفلكية للهلال واستخدام علم الفلك في تحديد بدء الشهر ونهايته. الحديث تحدث عن الرؤية، والرؤية لها معان كثيرة منها مثلا: النظر بالعين المجردة (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور)* ( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئأً وَهُوَ حَسِيرٌ )[1] ، أو العلم بالشيء (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ)[2] ، أو السماع (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[3] ، أو تقدير الأمر (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا)[4] ، معان عديدة تشمل ضمن ما تشمل ما في البصر بالأعين وما في البصيرة في الأفئدة، فهل الفعل يرى ومشتقاته دائما يأتي بمعنى أبصر بالعين؟.

إن المقصود بالرؤية في الحديث هو تأسيس استخدام المنهج الطبيعي لتحديد بدء العبادة، وليست مقصورة فقط على العين المجردة، بل أيضا بالعلم بالشيء، لذلك إن تم شهر شعبان ثلاثين يوما وجب الصيام، مما يعني أنه تم استخدام الحساب لإثبات دخول الشهر. قال تعالى (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)[5] وقال (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[6].

الصلوات وبدء الصيام في بداية اليوم ونهايته مع مغيب الشمس كلها مواقيت مربوطة بحركة الشمس. كذلك بداية الشهر ونهايته مربوطة بدوران القمر. والهلال يولد فلكيا وقد تتعذر الرؤية لقصر مكثه في الأفق أو لوجود السحب أو التلوث الجوي أو أضواء المدن، بينما يكون قد ولد. والسؤال الوارد هنا هو: هل رؤية الهلال وسيلة لمعرفة الشهر الجديد أم غاية في حد ذاتها؟ إن أجبنا على هذا السؤال بأنه وسيلة لمعرفة الشهر فسينفتح الباب واسعا لاستخدام الحساب (وهو مستخدم بتمام الشهر ثلاثين يوما) وغيره من علوم الفلك ووسائل الرؤية الحديثة، وإن أجبنا بأن رؤية الهلال هي غاية في حد ذاتها لدخلنا في وثنية تمجد القمر!.

إن للإنسان أربع وسائل معرفية تتكامل ولا تتناقض هي: الوحي وهو وسيلة معرفة الغيب. والإلهام هو وسيلة المعارف غير الحسية: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ)[7]. والعقل وهو وسيلة معرفة لما يطوله العقل: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[8]، والتجربة وهي وسيلة معرفة لما تدركه الحواس: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون)[9].

إن استخدام العلم في الحكم على الغيب باطل لأن في الكون غيب لا يدركه الإنسان بذاته: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) وهذا هو الذي ذهبت إليه العلمانية المتعدية كما أشرنا لها من قبل مؤكدين أن الاحتكام لعالم الشهادة فيما يليه من أمور دنيوية أمر مقبول بينما الاحتكام لعالم الشهادة في إثبات أو إنكار حقائق الغيب مرفوض واستخدام للعلم فيما هو خارج نطاقه. لكن وفي المقابل فإن استخدامه في الحكم على مسائل عالم الشهادة مطلوب.

وطالما أن رؤية الهلال لا تدخل في باب الاعتقاد الوثني بالقمر، أي أنها ليست غيبا، فإن استخدام العقل والتجربة في تحديدها يدخل من باب الحض المتكرر على التعقل في القرآن، وعلى اتخاذ التجربة وسيلة للمعرفة.

إن عدم قبول الرؤية الفلكية للهلال هو رفض لمنجزات العلم الحديث والاكتفاء بالوسائل العلمية القديمة كالحساب، وهذا يخالف مقصد المشرع في الأحكام الواردة في الكتاب والسنة. فالتعامل مع النصوص لا يجب أن يكون منكفئا أو منغلقا على تفسير جامد غاضا الطرف عن المقصد أو الهدف من التشريع. قال تعالى:(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[10] وقال: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا)[11]. وهكذا التعامل مع شرط رؤية الهلال ينبغي أن يدرك مغزى الرؤية.. أهي لمعرفة الشهر ومقدمه أم لتمجيد الهلال ورؤيته؟

كان المسلمون في فترة ماضية، ولأنهم أدركوا ألا تناقض بين المعرفة العقلية والتجريبية وحقائق الوحي، سيما ودينهم يركز على قيمة العلم المستنبط (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ)[12]. ويتحدث عن الظواهر الطبيعية بشكل مكثف، ويقول (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)[13]. كانوا قد طوروا العلوم الطبيعية وتقدموا العالم فيها، وكانوا رواد علم الفلك. والآن فإن الركود الفكري والجمود الاجتهادي جعل المسلمين يقدسون التفسيرات الوضعية للنصوص دون اعتبار للمعارف العقلية والتجريبية. فمسألة الهلال هذه ترمز لذهنية كاملة هي سبب التأخر والإعراض عن المعارف العقلية والتجريبية التي سخرها الغرب فتقدم بها على العالم.

.. إن العجيب بل المؤلم حقا في هذا الاختلاف البالغ بين أمة الإسلام حول رؤية الهلال، وتغليب الكثيرين من حاملي الشعار الإسلامي للتفسير القاصر للرؤية، هو أنها أمة كلفت ببناء إيمانها على دراسة الكون، ومع ذلك تحيا محجوبة عن الكون ونواميسه وأسراره!.

[1]  سورة النجم الآية(11)

[2]  سورة الحج (18)

[3] سورة إبراهيم الآية (24)

[4] سورة المعارج الآيتان (6و7)

[5]  الأنعام الآية (96)

[6]  سورة يونس الآية (5)

[7] سورة الحديد الآية (28)

[8] سورة الروم الآية (24) – سورة النحل الآية (12)- و سورة الرعد الآية (4)

[9] سورة الذاريات الآيتان (20-21)

[10] سورة محمد الآية (24)

[11] سورة الفرقان الآية (73)

[12] سورة آل عمران الآية (190)

[13] سورة فاطر الاية (28)