رسالة الجمعة البخيتة فى الذكرى الأولى لتوأمي الديانة والسياسة

بسم الله الرحمن الرحيم

الموافق 11/10/2004

رسالة الجمعة البخيتة فى الذكرى الأولى

لتوأمي الديانة والسياسة

الحمد لله رب العاملين، والصلاة والسلام على رسوله للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد،

غاب عنا الحبيبان الراحلان إلى حياة الآخرة ]ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون[ وهما كذلك يعيشان في ما قدما من أعمال خالدة في دنيا الناس.

السلام عليكما فى الخالدين وأعلما أن ما ساهمتما فيه من إخراج أكبر كيان ديني في السودان من ثياب الماضي العريقة إلى ثياب الحاضر الحديثة لقد اكتسب تجربة ونضجا فصار الكيان هو القديم المتجدد. صار المؤهل برصائد الماضي، وأنواط المعاصرة ..

صار كشجرة طيبة أصلها ثاب وفرعها فى السماء.. حقا:

إذا أنت لم تحم القديم بحادث

 من المجد لم ينفعك ما كان من قبل

لقد كنا نبشر بفكر صحوي متحرر من التعامل الانكفائي مع الماضي، ومن التعامل الاستلابي مع الوافد، وكان هذا الموقف يواجه المتاعب من شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.

ولكننا اليوم نشهد أن أكثرية القوى الواعية بين المسلمين قد أزعجها أن أهل الكهوف من غلاة المسلمين أعلنوا الحرب على غيرهم من المسلمين وأشعلوا الحرب مع القوى العظمى في العالم فزادوا استعداءهم لديار المسلمين وزادوا رغبتهم في السيطرة عليها واخذوا يعلنون مشروعات الإصلاح الإسلامي برؤية الغزاة.

توجهات الغلاة والغزاة هذه جعلت كثيرين من أهل البصر والبصيرة المسلمين يقدرون صحة اجتهاداتنا الهادفة لتأصيل بلا انكفاء وتحديث بلا تبعية.

صار كثير من هؤلاء يتسابقون نحو رؤانا رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق.

وأعلما: ولا شك إنكما في حياة الآخرة تعلمان، أن شرعية النظم الحاكمة في بلداننا العربية والأفريقية التي قامت على حكم الفرد الوارث أو الفرد المتسلط قد تآكلت وصارت الحكومات بضغط من الشعوب تتطلع إلى إصلاح يحقق الحكم الراشد ويقيمه على الشرعية الدستورية الديمقراطية.

لقد هرعوا من كل حدب وصوب نحو المحطة التي كنا نقف فيها وحيدين يرفع فيها كياننا السياسي راية الديمقراطية والشرعية منفرداً كأنه صالح في ثمود.

أيها الحبيبان اعلما، ولا شك إنكما في الحياة الآخرة تعلمان، أن بلادنا دخلت في متاهات فالحرب الأهلية التي وضعت أوزارها ربما أفضت إلى سلام ثنائي برعاية خارجية همها إنهاء الحرب لا بناء السلام .. إنهاء الحرب مهمة المقتتلين بالسلاح، ولكن بناء السلام مهمة الجسم السياسي السوداني كله وإلا كان السلام ثنائيا لا قوميا وأنتما تعلمان أننا وقفنا دائما ضد الاتفاقيات الثنائية في الأمور القومية لا نمانع أن تبرم اتفاقيات ثنائية على أن تكون المحطة النهائية قومية. إننا نرحب بكل جهد لاتفاقيات ثنائية على أن يتوجها لقاء قومي جامع .

واعلما ولاشك إنكما في الحياة الآخرة تعلمان أن دارفور الحبيبة قد شبت فيها النيران. وإن سياسات أهل النظام الرامية لاكتساب أرضية سياسية فيها قوضت جهاز المناعة الاجتماعي في الإقليم ، ولدى التصدي للاحتجاج المسلح ضد سياسات النظام ارتكبت فظاعات أيقظت ضمير العالم وحركت تدويلاً زاحفاً بدأ محدوداً ومن شأنه أن يتسع حتى تكون له ولاية الأمر في الإقليم لحماية المدنيين, ونزع أسلحة المليشيات, وتأمين الإغاثات, وظهرت في أزمة دارفور حلقة أخرى من حلقات تصفية الحسابات بين رفقاء الأمس الذين جاءوا لإنقاذنا فورطوا أنفسهم وورطوا البلاد معهم.

الحاجة الآن ماسة ليدرك الجميع خطأ الاعتداء على الشرعية الديمقراطية الدستورية وأن يدركوا أن الانقلابات ومراشقات العنف وما يقابلها من إجراءات الأمن والعقوبات مهما كانت مبرراتها لن تحقق تسوية نهائية لحسابات الطرفين فهي جميعاً تداعيات ونتائج غير مباشرة من العدوان على الشرعية الدستورية الديمقراطية.

إن المصلحة الوطنية توجب الآن وليس غداً أن يلتئم الصف الوطنى في مؤتمر قومي دستوري مؤهل للتصديق على بروتوكولات السلام أو تعديلها إن لزم لتحقيق السلام العادل، ولوضع برنامج محكم للتحول الديمقراطي، ولتسوية قضية دارفور وقضاياً الأقاليم الأخرى، ولوضع أسس الدستور الديمقراطي الانتقالي للبلاد، ولتكوين حكومة قومية تحكم البلاد أثناء الفترة الانتقالية إلى أن تجرى انتخابات عامة حرة.

هذا المؤتمر القومي الدستوري يباركه ويراقبه كافة جيران السودان بحضور الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية.

هذا النهج الكلى الجذري وحده هو الذى يصلح لإصلاح حال البلاد وحمايتها من التمزق والتدويل.

واعلما ولا شك أنكما في الحياة الآخرة تعلمان، أن كافة التطورات في واقعنا الوطنى والعربي والإفريقي والإسلامي جاءت تؤكد صحة القراءة التي اشتركتما فيها للأحوال.. لا أحد يدعى قراءة الغيب إلا بالمشيئة وفراسة المؤمن.. ]ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء[ أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله.

إننا إذ نذكر هذه الحقائق لا ننسى أبداً حدودنا التي تضعنا بنص دعوة كما لطفت في خانة الاتضاع : “اللهم إن عفوك عن ذنوبنا، وتجاوزك عن خطايانا، وسترك على قبيح أعمالنا، أطمعنا أن نسألك ما لا نستوجبه مما قصرنا فيه، ندعوك آمنين ونسألك مستأنسين، فإنك أنت المحسن إلينا ونحن المسيئون إلى أنفسنا فيما بيننا وبينك، تتودد إلينا بنعمك ونتبغض إليك بالمعاصي ولكن الثقة بك حملتنا على الجراءة عليك فعد بفضلك وإحسانك علينا إنك أنت التواب الرحيم”.

ويبشرنا قوله تعالى: ] قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم أن الله يغفر الذنوب جميعاً[.. يا كبير الذنب ، عفو الله عن ذنبك أكبر .

أيها الحبيبان أبلغا عنا صاحب الرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحاب الدعوة محمد أحمد، وعبد الله، وعبد الرحمن، والصديق ، والهادي عليهم الرضوان أننا نرفع الراية بأصولية قطعيات الوحي، وبعقلانية حقائق العصر مدركين معنى قوله تعالى : ]أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها[،  وقوله صلى الله عليه وسلم من أراد الله به خيرا فقهه في الدين، وقوله عليه السلام “لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال”.

أيها الحبيبان

إننا في عالم الشهادة لا نرجو منكما جوابا حسيا ولكننا نستقبل جواباتكما حدسيا فالمبشرات لا تنقطع وإن أنكرها الصم والبكم الذين اكتفوا بالماديات وفاتهم أن :

قلوب العاشقين لها عيون   ترى ما لا يراه الناظرون

وأجنحة تطير بغير خفق              إلى ملكوت رب العالمين

الفاقد لجواركما في دنيا الناس

الصادق المهدى