ضوء على العملية الجراحية

بسم الله الرحمن الرحيم

ضوء على العملية الجراحية

بقلم الصادق المهدي

 8/7/2017م

سعدت بقراءة الأربعين حلقة بعنوان “عملية جراحية للعقل المسلم بلا تخدير”[1]. وما سببته التاءات الأربعة (التعصب، والتكفير، والتخوين، والتغلب) من مضرة لأمتنا في ماضيها وحاضرها وما تنذر به لمستقبلنا.

وفي البداية أحمد لمؤلفها أمرين هما: دخول باب الاجتهاد الذي يؤجر طارقه إن أصاب وإن اخطأ. والأمر الآخر هو سعة اطلاع المؤلف فـ”طَلَبُ العِلْمِ فَرِيْضَةٌ عَلَىْ كُلِّ مُسْلِمٍ”[2] ومسلمة من المهد إلى اللحد.

التاءات الأربعة تنطلق من علة واحدة هي نفي الآخر، ونفي الآخر فلسفياً نوع من الشرك لأنه يقوم على سنة فرعون (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ)[3].

ولا يجوز أن أطلع على مثل هذه الأطروحة دون أن ألقي عليها ضوءاً يمثل قيمة مضافة هي من باب الشهادة التي لا يكتمها إلا آثم.

أقول:

أولاً: نعم التعصب من المهالك لأن صاحب التعصب يرتكب أخطر الجرائم معتقداً أن ما يفعل هو عين الحق. الترياق المضاد للتعصب ليس التسليم للنصوص لأن النصوص كما قال الإمام علي رضي الله عنه حمالة أوجه، وتتطلب أن ينطق بمقاصدها الرجال عن طريق التدبر، والحكمة، ومراعاة الواقع. ههنا المطلوبة مقولة ابن القيم إن على الفقيه معرفة الواجب اجتهاداً والإحاطة بالواقع والتزاوج بينهما.

الواقع له حكمه ما جعل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يعلق حد السرقة عام الرمادة ويعوض غلامي حاطب بدل حدهما.

التدبر ومقولة إمام المجتهدين: “قولنا صواب يحتمل الخطأ وقولكم خطأ يحتمل الصواب”، وفي كل الأحوال تذكر مقولة ابن مسعود: كاد الشيطان الإنسان بمكيدتين عظيمتين لا يبالي بأيهما ظفر: الغلو والترك.

ثانياً: التكفير يلازم التعصب، فهو من أعراض التعصب. الترياق المضاد للتكفير هو الانتصار لشرعية الاجتهاد لا على أساس الفقه الصوري من قياس وإجماع، وهما هدفان يستحيل تحقيقهما فالقياس غير مطابق والإجماع غير ممكن. ولكن أبواب الاجتهاد التي تفيد علماً هي العقلانية، والمقاصد، والمصلحة، ونفي الحرج، والإلهام الذي ينكره بعض الناس تمسكاً بقدسية المنقول ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المحدثين، والرؤيا الصادقة، واعتمد رؤية الصحابي عبد الله بن زيد أساساً للآذان للصلاة.

الإلهام هو الوحي الأصغر المتاح للأنبياء ولغير الأنبياء على حد قوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ)[4].

نعم باب الإلهام هذا يفتح باباً للدجل ما يتطلب ضوابط على نحو مقولة الإمام مالك: “من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن جمع بينهما فقد تحقق”.

ثالثاً: نعم تاء التخوين من مفاسد الحياة العامة، ومن وسائل الطغاة للبطش بمعارضيهم، والترياق المضاد للتخوين هو كفالة حقوق الإنسان للكافة، وسيادة حكم القانون في ظل قضاء مستقل، وإقامة أجهزة الأمن على أساس تبينوا: (إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[5]. وهو مبدأ التثبت الذي يكمل تلك الوسائل في قفل باب التخوين.

رابعاً: أحسن المؤلف فيما أسهب فيه في أمر التغلب الذي صار وصفاً لمجتمعاتنا. قال اللورد كرومر: الغرب فُطر على النظام والحرية وتداول حكمه بين عقلائه ومؤهليه. أما الشرق فقد فُطر على الهمجية والقهر وعبادة السلطان الفرد. وعليه فهو غير مؤهل أن يحكم نفسه. وبعد زيارة قام بها مراسل للنيويورك تايمز قال: لا أجد مكاناً في العالم مصاباً بالركود كالعالم العربي وهو عالم غير قابل للتغيير الايجابي.

يحمد للمؤلف أنه أوضح أمرين في غاية الأهمية هما:

نفي مقولة ابن حجر العسقلاني بأن “الفقهاء اجمعوا على طاعة المتغلب والقتال معه”. أوضح المؤلف بطلان هذا الزعم مستشهداً بمقولات أئمة الاجتهاد الذين تصدوا بالمعارضة لحكم المتغلبين.

والمسألة الثانية إثبات مقولة الشهرستاني إن القول بطاعة المتغلب لحقن الدماء باطل، وقد فتح أوسع أبواب سفك الدماء كما قال الشهرستاني عن الدموية التي صحبت تاريخ الإمامة والخلافة. خمسة من “خلفاء” بني أمية اغتيلوا، و12 من “خلفاء” بني العباس اغتيلوا. وصدر قانون يسمح للسلطان العثماني أن يقتل أخوته عمداً منعاً للتآمر ضده.

ولاية المتغلب في العصور الغابرة الأموية، والعباسية، والعثمانية أباحت للطغاة استنساخ القيصرية والكسروية تحت راية إسلامية.

وفي العصر الحديث صار الانقلاب العسكري سلماً للتغلب بأسلوب غادر.

الشيخ الألباني أدان الانقلابات العسكرية وقال إنها بدعة باطلة. وهي كذلك والنظم التي أقامها الانقلابيون مهما رفعت من شعارات “ثورية” اشتراكية أو إسلامية أو قومية انتهت النظم التي أقاموها إلى استنساخ النظام الفاشستي حذوك النعل بالنعل.

نظم الحكم السائدة في بلدان المسلمين اليوم، باستثناءات محدودة، تقوم على السلطة الوراثية والسلطة الانقلابية، وتفرض على الشعوب احتلالاً داخلياً شبيهاً بالاحتلال الأجنبي.

نصوص الوحي الإسلامي تكفل للإنسان كافة مصادر حقوق الإنسان العائدة لخمسة أسس هي: الكرامة، والحرية، والعدالة، والمساواة، والسلام. كل إدارة للشأن العام تحرم الناس من هذه الحقوق باطلة.

وآليات إدارة الشأن العام المثلى هي التي قال بها أبو بكر رضي الله عنه عندما انتهت إليه ولاية الأمر قال: ” وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ: تأكيد أن الولاية شأن شعبي. فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي: مبدأ المساءلة. الصِّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ: مبدأ الشفافية. والضَّعيف فيكم (قَوِيٌّ) عندي حتى أرجِّع عَلَيْهِ حقَّه إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضعيف عندي حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ: مبدأ سيادة القانون”[6].

هذا هو أساس ولاية الأمر الشرعية، وهي في نفس الوقت تطابق العقلانية على نحو ما قال الشاطبي: ” كل ما أمر به الشرع اتفق معه العقل”.

هنالك تاءات أخرى لها أهميتها في بيان كبوة أمتنا أذكر منها:

تاء التقصير: الحركات الداعية لحل إسلامي أفلحت فلاحاً واضحاً في نقد الواقع، وهدم نظمه، ولكنها أخفقت إخفاقاً واضحاً في تقديم الأنموذج البديل الذي يتطلبه الواجب الإسلامي ويتقبله الواقع المعاصر.

كل التجارب المعاصرة التي نالت ولاية باسم الإسلام في أفغانستان، وفي باكستان، وفي السودان، وفي الموصل، وفي مصر، قدمت نماذج غير صالحة للبقاء وغير متاحة للاقتداء. قوة النقد في المعارضة أعقبها سوء الأداء في سدة السلطة بما صار حجة للذين يقولون بإبعاد الإسلام من الشأن العام.

هذه حصيلة التجارب في البلدان السنية.

في المجال الشيعي في إيران تحققت ولاية الأمر عن طريق ثورة شعبية حقيقية. ولكن نظام ولاية الفقيه لا يصلح للاقتداء به في البلدان السنية، وهو في إيران يعاني من ثيوقراطية غريبة على النهج الإسلامي.

التصحيح المطلوب ههنا هو ما قال به كثير من مجتهدي الشيعة أمثال آية الله حسين علي منتظري، وعلي شريعتي، أن ولاية الفقيه مشروعة في الثوابت الشعائرية، ولكن في الأمور المتحركة في المعاملات والعادات فإن الولاية المشروعة هي ولاية الأمة.

إن غياب النموذج المطلوب مع كثرة نداءات الشعار الإسلامي يدل على فجوة كبيرة، ويعبر عن تقصير يجعل الشعار الإسلامي معلقاً في الهواء.

وتاء أخرى ذات اثر مهم: تاء التخلف. في عالم اليوم استطاعت ثقافات أخرى غربية، وآسيوية “اليابان والصين” أن تكشف نواميس الطبيعة، وتطور العلوم والتكنولوجيا بصورة جعلتهم المنتجين في مجالات العلوم الطبيعية والتكنولوجيا. هذا بينما أمتنا باستثناءات محدودة متخلفة عن هذا الركب.

الآن شعوبنا في الغالب مستهلكة لثمار العلوم والتكنولوجيا.

صحيح كان لحضارتنا سبقٌ في هذا المجال كما وثق لذلك المستشرق البريطاني المنصف منتجمري واط في كتابه عن دين الحضارة الغربية للحضارة الإسلامية. ولكن تلك أمة قد خلت، والأمة اليوم متخلفة عن هذا الركب، وشعوبها اليوم عالة على غيرها في هذه المجالات. هذا التخلف عار، ويحول دون أن نكون مالكين لقرارنا، بل حتى السلاح الذي نقتل به بعضنا بعضاَ مملوك في الحقيقة لصناعه، ويستخدم بإذن منهم وإلا حولوه إلى حديد أبكم. تاء التخلف جعلت أمتنا في الغالب ضيفاً عاجزاً في عالم يتحكم فيه الآخرون على نحو ما قال الشاعر مصطفى الجزار:

كَفْكِف دموعَكَ وانسحِبْ يـا عنترَة

فعيـونُ عبلـةَ أصبحَتْ مُستـعمَرَة

لا ترجُ بسمـةَ ثغـرِها يوماً ، فقـدْ

سقطَت من العِقدِ الثمـينِ الجوهـرَة

قبِّلْ سيـوفَ الغاصبينَ . . ليصفَـحوا

واخفِضْ جَنَاحَ “الخِزْيِ”.. وارجُ المعذرَة

[1]  المؤلف د.محمد علي الجزولي

[2] رواه ابن ماجه

[3] سورة غافر الآية (29)

[4] سورة الحديد الآية (28)

[5] سورة الحجرات الآية (6)

[6] السيرة النبوية لابن هشام