عزاء الكواكبى شهيد الديمقراطية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

عزاء الكواكبى شهيد الديمقراطية

25 يونيو 2006م

 

منذ أخذ البيعة ليزيد بن معاوية عنوة تأسس الاستبداد فى تاريخ الأمة و صار له قبول خشية الفتنة كما قال ابن حجر العسقلانى: ” وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب و الجهاد معه “. و منذ القرن الرابع الهجري استحكم التقليد مكرساً ركوداً فكرياً رغم تحذير أئمة الاجتهاد من مضاره وما قاله عنه الإمام ابن الجوزي: ” إن في التقليد إبطالاً لمنفعة العقل. لأنه إنما خلق للتدبر والتأمل. وقبيح ممن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي فى الظلام “.

الاستبداد والركود الفكري سببا التراكم الظلامي الذي قعد بالأمة و أورثها الحالة التي وصفها مالك بن نبي: حالة القابلية للاستعمار .

الاستعمار جاء بمفاسد استمر بعضها حتى بعد رحيله فى شكل تحالف منافع بين الهيمنة الدولية و الطغاة. ما اتسمت به الحضارة الأوروبية من توقد فكري وثقافي وحرية وتقدم تكنولوجي بهر الصفوة التي قارنت بين هذه الحيوية الأوروبية و الركود المخيم على مجتمعات الشرق فكرهت الذات و أعجبت بالوافد كما عبر عن ذلك سلامة موسى: ( أنا مؤمن بالغرب كافر بالشرق ). مقولة رددتها التلقائية الشعبية: ( الغرب الأفرنجي ).

رواد الاستنارة في الشرق جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي رفعوا رايات الإصلاح ولكن الكواكبي امتاز بكشف الحجب عن طبائع الاستبداد والتركيز على ضرورة الديقراطية مسجلاً رأيه في كتابيه المنشورين: (أم القرى) و (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) كلمات حق في وجه سلطان جائر دفع حياته ثمناً لها و مات مسموماً.

تجربة النظم اللبرالية التي شهدتها المنطقة واجهت مشاكل كثيرة ثم عصفت بها الحركات الانقلابية رافعة شعارات قومية، واشتراكية، وإسلاموية. حركات ادعت الثورية وتبنت برامج عدالية، وإسلامية وقومية. وطبقتها على حساب الحرية والديمقراطية فانتهى بها الأمر لنظم حكم مستمدة من الفاشستية الحديثة ومن التطبيق البيروقراطي للماركسية واحتلت مواقعها إلى جانب نظم الاستبداد التقليدية.

تقرير التنمية الإنسانية العربية الأول الصادر في عام 2002 م، قدم تشخيصاً للحالة العربية ناقداً الاستبداد وقرينه الفساد ومشترطاً الحكم الراشد القائم علي المشاركة، الشفافية، والمساءلة وسيادة حكم القانون أساساً للتنمية الإنسانية فى المنطقة. هذا التقرير جاء معززاً لمبادرات حقوق الإنسان والتطلع الديمقراطي التي عمت المنطقة العربية وصارت تشكل مطلباً عاماً أعطاه التقرير الأول والتقارير السنوية اللاحقة دعماً قوياً. وفي عام 2004م عقدت طائفة من المؤتمرات الهامة للإصلاح السياسي فى الإسكندرية، وفي صنعاء، وفي بيروت، كانت وثيقة بيروت بعنوان الاستقلال الثاني التعبير الأكثر وضوحاً وتفصيلاً لمطالب الإصلاح الديمقراطي العربي.

و منذ حوادث الحادي عشر من سبتمبر 2001م فى الولايات المتحدة الأمريكية اتخذت الولايات المتحدة خطين هما: شن حرب أممية على(الإرهاب)  وتبني الإصلاح الديمقراطي في البلدان العربية.

مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تبنته الدول الكبرى الثمان عاثر لا محالة لسببين:ـ

الأول: أنه يطبع العلاقة بين دول الشرق الأوسط دون أن تدفع إسرائيل استحقاقات السلام  العادل.

الثانى: أنه يقيد حركة الإصلاح بالسقوف التي تسمح بها الدول العربية كما أودى بمصداقية المبادرت الأمريكية والتضحية بثوابت حقوق الإنسان وضوابط القانون الدولي في مواجهة الحرب على (الإرهاب).

الناشطون الديمقراطيون في المنطقة انتقلوا من صياغة الأهداف الديمقراطية إلى تنسيق وتشبيك الأنشطة من أجل تحقيقها. وفى عام 2005م كونت في الدار البيضاء شبكة الديمقراطيين العرب. وفي عام 2006م كون في عمان المنتدى العالمي للوسطية الإسلامية متضمنا ًأهدافاً ديمقراطية. وفي عمان في منتصف يونيو الجاري اجتمعنا كخبراء من معظم الدول العربية واخترنا مجلس أمناء لمركز نسبناه لاسم الكواكبى باعتباره رائد الرفض للاستبداد والتطلع للديمقراطية: (مركز  الكواكبي للتحول الديمقراطي). كتبنا وثيقة للمركز واخترنا مجلس أمناء لتنفيذ ما نصت عليه.

نصت الوثيقة على أهداف ووسائل المركز وحددت أولويات العمل: تحديد حاجيات الدول العربية للتحول الديمقراطي وقياس حركتها في سلم الديمقراطية ودراسة مشاكل التحول، تحديد وسائل العدالة الانتقالية، دراسة العوائق السياسية والثقافية أمام التحول الديمقراطي، دراسة مشاكل الأقليات وعلاجها ديمقراطيا، دراسة مشاكل التنمية والعدالة الاجتماعية التي تدخل مع التحول الديمقراطي في منظومة التنمية، أهمية مراقبة الانتخابات وشروط نزاهتها، ربط عرب المهجر بالوطن الأم، تنظيم دورات تدريبية للقيام بالأنشطة المختلفة، دراسة فكر الكواكبي، الاستفادة من تجارب التحول الديمقراطي في البلدان الأخرى، دراسة وسائل فض المنازعات سلمياً، ترجمة الكتب المتعلقة بالتحول الديمقراطي، والتعاون مع الجهات ذات الأهداف المماثلة عربياً و دولياً.

بعد التجارب المرّة التي خاضتها الأمة اتضح للنخب الفكرية والسياسية محورية مطلبين هما الحرية واستقلال الإرادة الوطنية.

على الصعيد الفكري لم يعد نفي الإسلام من الحياة العامة ممكناً كما بدا لبعض العلمانيين في منتصف القرن العشرين. لقد ثبتت فاعلية الإسلام في التصدي للاحتلال الأجنبي، واتضح رسوخه في الإرادة الشعبية حتي لدى أكثر التجارب علمانيةً. التجربة التركية. ولكنه إسلام صحوي يستصحب الديمقراطية، وحرية البحث العلمي، والتعايش مع الأديان الأخرى، وبناء العلاقات الدولية على السلام العادل والتعاون.

لم يعد نفي التحديث وارداً فكل البلدان التي حجبت نفسها عن العالم اضطرت للانفتاح عليه. لقد تأكد للكافة أهمية التنمية لتحقيق الكفاية و توفير إمكانيات حفظ الأمن داخلياً والدفاع عن البيضة. تنمية تحقق الكفاية والعدالة وتوازن البيئة.

تحلقت النخب العربية في الغالب حول هذه الأهداف وبدا واضحاً أنها هي البديل الصحيح للآفات الثلاثة المحيطة بالمنطقة وهي:-

1/ الواقع الرسمي العاجز.

2/ أجندة الغلاة المنكفئة.

3/ أجندة الغزاة المذلة.

هذه الرؤى تشكل مشروعاً نهضوياً ومع قوة حجته فإنه مازال في فلك النخب ولا يقوى على مواجهة السلطان الرسمي وأجهزته الأمنية والإعلامية القوية، ولايقوى علي مواجهة هيمنة الغزاة وإمكاناتها الهائلة، ولا منازلة أجندة الغلاة وشبكاتها الفاعلة. لذلك سوف يبقى المشروع النهضوي نخبوياً مالم تصطف خلفه قوى اجتماعية قوية ذات مصلحة في إزالة الاستبداد والفساد، وفي تحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الأجنبية وفي إنقاذ مستقبل الأمة من طالبانية أممية. حجة الإصلاح الديمقراطي ضمن المشروع القومي النهضوي قوية، والحاجة إليه الآن حيوية، ومفرداته ومواثيقه بعد قرن ونيف من آذان الكواكبي له واضحة المعالم، والظروف الداخلية والخارجية لنجاحه مواتية فبصرف النظر عن عثرات مشروع الشرق الأوسط الكبير توجد منابر وهيئات إسكندنافية، وأمريكية، وبريطانية، وألمانية، وفرنسية، غير حكومية ذات صدقية عالية في دعم التحول الديمقراطي في كل مكان. ومع ذلك فإن القيادات والقوى الاجتماعية التي سوف تصطف وتعمل لنقل المشروع من القول  للفعل لم تبرز بعد وإن كانت بعض معالمها في بعض البلدان قد أطلت برأسها بدرجات متفاوتة.

ليهنأ الكواكبي في عليين إن قتله لم يقتل فكره معه. إن القتل الحسي لداعية الحق يكفل لصاحبه خلوداً معنوياً في دنيا الناس. أما الآخرة فأمرها عند ربي.

 

(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[1]

 

[1]سورة السجدة الآية(17)