علاقات السودان الدولية تحت المجهر

الإمام الصادق المهدي
الحبيب الإمام الصادق المهدي حفظه الله ورعاه زعيم حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله وآخر رئيس وزراء شرعي ومنتخب للسودان ديمقراطياً

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

علاقات السودان الدولية تحت المجهر

 

 

في عام 1974 قال وزير الخارجية الأمريكي ما معناه ينبغي أن يحال دون استطاعة الدول العربية الاتفاق على موقف موحد كما حدث عام 1973 حمايةً لأمن إسرائيل. وبصرف النظر عن الأسباب العديدة فإن ست دول عربية (وهي العراق، وسوريا ،وليبيا، ولبنان، واليمن والصومال) مشتبكة داخلياً اشتباكات جرت إليها عوامل تدخل خارجية نزعت القرار من أهل البلد .

ومجلس التعاون الخليجي الذي كان أنجح محاولة وحدوية عربية صار منقسماً على نفسه، وأكبر دوله المملكة العربية السعودية مشغولة بحرب في اليمن بعد عامها الخامس وصلت إلى طريق مسدود.

خيارنا أن ننأى بأنفسنا عن هذه الحرائق، وأن نبذل كل جهد لإطفائها لمصلحة أهلها ولمصلحتنا كأشقاء وجيران. ولكننا دولة فقيرة، وشعبنا يعاني من انقسامات تعرضه للهيب تلك الحرائق، فماذا نفعل للإفلات من هذا المصير المظلم؟

رغم ضعف بلادنا والانقسامات فإن بلادنا تمتاز بالحقائق الآتية:

  1.  وجود عبوة ثورية ذات حماسة مثالية تشدها لمواقف مبدئية.
  2.  وجود قيادة مدنية وأخرى عسكرية مستشعرة دوراً تاريخياً .
  3.  مع فقر البلاد فإن فيها امكانات موارد طبيعية ضخمة جاذبة للاستثمار في عالم يفتقر للموارد الطبيعية وللأمن الغذائي.
  4.  التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية، والحروب والتوترات البينية وصلت إلى طريق مسدود، والدرس المستفاد منها هو تجنبها.
  5.  اتضح أن الكاسب الأكبر من هذه الظروف هو حركات الغلو والتطرف وكلها الآن منتعشة: بوكو حرام، والشباب الصومالي، والقاعدة، وداعش وأسماء أخرى مثل حروف أبجد.
  6.  خطر الفوضى في السودان والتآمر الإخواني يجعل للأشقاء مصلحة حقيقية في سودان مستقر سياسياً وتنموياً .
  7.  يمكن أن نلتمس من ضعفنا الحالي هندسة لقوة واعدة.

أولاً: بعد الحرب الأطلسية الثانية (1939-1945م) انقسم العالم إلى معسكرين واشتعلت بينهما الحرب الباردة.

في ظل الحرب الباردة قررت أمريكا أن تحمي غرب أوربا من تمدد النفوذ السوفيتي بدعمها تنموياً عن طريق مشروع مارشال، وعسكرياً أقامت الولايات المتحدة 750 معسكراً في 130 دولة ما مكنها من نفوذ هائل تصدى لكل متحد له بالانقلاب عليه – مثلاً – ضد سوكارنو في اندونيسيا، وضد محمد مصدق في إيران، وضد الليندي في تشيلي وهلم جرا.

وكذلك حرص المعسكر الشرقي على بسط نفوذه في بلاد شرق أوربا وفي خارجها عبر الأحزاب الشيوعية.

تجنباً لهذا الاستقطاب نشأ معسكر الحياد الإيجابي الذي جسده مؤتمر باندونق، ولكن بعد سقوط حائط برلين في 1989م تسارع انهيار المعسكر الشرقي، وكسبت الولايات المتحدة الحرب الباردة، واندفع اليمين الأمريكي لكي يملي سياساته على العالم. وكانت النتيجة أن انتعشت روسيا بقيادة قومية كما حققت الصين نمواً باهراً وصارت لاعباً دولياً مهماً .

الإدارة الأمريكية الجديدة منذ 2016م فجرت عداء للأقليات الإثنية والمهاجرين ، ولحرصها على استمالة أصوات اليهود للحزب الجمهوري، وقد كانت غالباً تؤيد الحزب الديمقراطي ،كان الثمن تخلياً عن الحياد في سلام الشرق الأوسط لصالح تطابق مع مواقف اليمين الإسرائيلي، ونفس العامل جعل الإدارة الأمريكية تتخذ موقفاً عدائياً لإيران. هذان الموقفان عقيمان ولا يصبان في المصلحة القومية الأمريكية. وفي التعامل مع البلاد الخليجية أعطت الإدارة الأمريكية أولوية لبيع السلاح. تجارة السلاح ينبغي أن تخضع لمعادلات متعلقة بالسلم والأمن الدوليين فهي ليست كأي تجارة.

من مصلحة السودان النأي بنفسه تماماً من هذه السياسات الأمريكية، وتأكيد موقفنا المؤيد لشروط السلام في الشرق الأوسط وللاتفاقية النووية التي أبرمتها الدول الست مع إيران، والعمل على وقف الحروب كما في اليمن فهي صفرية، وتشقي أهل اليمن ، وترهق المملكة العربية السعودية، وتعمق عداء يستمر مع الأجيال. السودان الديمقراطي ينبغي أن يميز موقفه تماماً من هذه السياسات الخاطئة .

ومع ذلك نحرص على التواصل مع الولايات المتحدة لتبرئة السودان الديمقراطي من قائمة رعاية الإرهاب المتعلقة بالنظام المباد، وأن تشارك الولايات المتحدة مع دول نادي باريس لإعفاء الدين الخارجي فهو في الغالب تراكم فوائد، وأصوله اقتراض نظم غير شرعية، خاصة دين العهد المايوي الذي أقرضته الولايات المتحدة وساندت إقراضه من مؤسسات دولية بسبب حلفه لها وتحقيقه لمصالحها. إنها قروض استخدمتها تلك النظم في قهر الشعب السوداني وليس من العدل أن يطالب بسدادها.

وبنفس المنطق ديون سودان “الإنقاذ”.

لقد ساهمت أمريكا في مؤتمر شركاء السودان في 25 يونيو، ومع ما جرى من تعبيرات ودية نحو السودان فإن نتائج المؤتمر دون المستوى المنشود، ويرجى أن يلحق بمؤتمر ثان أفضل. أعددت مذكرة للمؤتمرين خاطبت أهمية دعم المشروع الديمقراطي في السودان، وحددت مطالب فورية: الرفع غير المشروط للعقوبات، إعفاء الدين الخارجي، الدعم والاستثمار، إقامة كونسرتيوم لعمل خطة استثنائية للمساعدة. تحققت بعض المطالب ولله الحمد ولكن المطلوب تحقيقها بصورة منهجية شاملة للملفات الاقتصادية والتنموية والبيئية كافة.

أمريكا بسبب جائحة كورونا سوف تواجه انكماشاً اقتصادياً وعطالة واسعة يمكن للقطاع الخاص الأمريكي أن يجد مجالاً كبيراً في الفرص الاستثمارية في السودان .

ثانياً: تخلي الولايات المتحدة عن دورها البناء في السياسة الدولية فتح مجالاً أوسع لقيام الاتحاد الأوربي بدور أكبر دولياً لا سيما بقيادة ألمانيا. ندعم مواقف الاتحاد الأوربي من مواصلة الاتفا ق مع إيران، لأن التخلي عن الاتفاق خاصة بالرؤية الإسرائيلية سوف يقود لمواقف كارثية. ونتيجة الحرب مع إيران لن تكون لأمريكا أفضل من الحرب على أفغانستان. والتخلي عن اتفاق سلامة البيئة إذا أخفق فسوف يجعل الأرض فرناً لسكانها .

ينبغي حث الاتحاد الأوربي على العمل من أجل إعفاء الدين الخارجي وقد دعوا لاجتماع في باريس. ويرجى أن يستجيب الاتحاد الأوربي لدعوة السودان إلى مشروع مارشال كرافع تنموي ليس من باب المنحة ولكن المصالح المشتركة بيننا وبين المشاركين فيه.

ثالثاً: ينبغي أن نرحب بالتعاون مع الاتحاد الروسي، وفتح المجال للقطاع العام والخاص الروسي للعمل في السودان مع تجنب أية فكرة لإقامة قواعد كما كان وارداً في العهد المباد.

رابعاً: لقد كان للصين علاقة خاصة مع النظام المباد ويرجى أن نحرص على إقامة علاقة خاصة مع الصين تبدأ بإعفاء الدين الذي تراكم على النظام المباد. لا شك أن نظرة الصين للعلاقات الدولية أكثر مرونة، يمكننا عن طريقها التطلع لمشروع تنموي يجني طرفاه مصالح اقتصادية.

خامساً: إن لدول مجلس التعاون الخليجي إمكانات مالية وإعلامية كبيرة. والمؤسف أنها تواجه بقيادة المملكة العربية السعودية حرباً في اليمن دامت خمس سنين ، وأزهقت ما أزهقت من الأرواح والأموال، ولا ينتظر أن يكون لها حسم فأطراف النزاع سوف تستمد بإمكانات خارجية. كما أنها تواجه انقساماً داخلياً لعزل قطر. ههنا أيضاً لا سبيل لحسم فعوامل خارجية تتدخل. واجب الحادبين السعي لوقف هذه الحروب بحلول سلمية عادلة. كذلك المطلوب رتق ثوب مجلس التعاون الخليجي. واجبنا أن نعمل من أجل هذه الأهداف، ولكن إن عجزنا عن تحقيقها فواجبنا النأي بموقف بلادنا عن المشاركة فيها لأربعة أسباب موضوعية:

  • الأول: وجود تعبئة ثورية مبدئية ضد المحورية.
  • الثاني: أنها فاشلة يرجى من المشاركين فيها التخلي عنها.
  • الثالث: أن الانحياز لأي طرف يعطي مشروعية لتدخل الطرف الآخر وللاستنصار بالخارج كما في ليبيا.
  • والرابع: أن في السودان فرص استثمارية لهم جميعاً لتحقيق الأمن الغذائي وللمشاركة في مشروع مارشال المنشود للسودان، وهم جميعاً الأجدر بالمشاركة فيه. الاستثمار التنموي في السودان فرصة كبيرة للدول النفطية لتنويع مصادر دخلها.

سادساً: العلاقة بالشقيقة مصر ذات أهمية قصوى والمصالح المشتركة توجب إبرام اتفاقية علاقة خاصة. والآن يجمع بيننا موقف مشترك ضد التسلط الإخواني. لقد اختارت مصر نظامها الحالي سياجاً مانعاً للإخوانية، أما في السودان فالديمقراطية هي الترياق المضاد للإخوانية.

ربما وجد تيار ذو مرجعية إخوانية على استعداد لمراجعة الموقف كما حدث في ظروف كثيرة. وربما وجد بين إخوان مصر توجه مماثل لمراجعات كما اقترح إبراهيم منير من قادتهم. المهم أن تقبل مصر الديمقراطية في السودان باعتبارها المطلب الشعبي الحتمي وباعتبارها الترياق المضاد لكل أصحاب الأجندات الخاصة في اليمين واليسار. ومع العلم بهذه المفاهيم تبرم علاقة خاصة لمصلحة شعبي وادي النيل.

ينبغي أن نعمل، بالتعاون مع جيران ليبيا الآخرين، للحيلولة دون حرب دولية في ليبيا، وإبرام مصالحة وطنية لأهلها.

سابعاً: نشيد بأن الإخوة في جنوب السودان اختاروا اسم السودان ضمن دولتهم ، والواجب الآن أن نقرر في الدولتين إقامة علاقة بعنوان شعب واحد في دولتين وأن نبرمج للمصالح المشتركة بيننا.

ثامناً: إن لدول حوض النيل الإحدى عشر جواراً خاصاً يضمها، والوضع فيها ينبغي أن ينطلق من تعريف النهر بأنه منابع ومجار ومصبات. هذا الفهم الكلي للنيل بفروعه من الهضبة الإثيوبية ومن الهضبة الاستوائية ومقرنه ومجراه ومصبه يوجب اعتراف دول الحوض بالسيادة المشتركة على النيل، ووضع بروتوكول ملزم للتعامل مع النيل، ومؤسس على ما تقدم من مبادرة حوض النيل. ولأسباب جيوسياسية فإن السودان هو المؤهل لجمع كلمة دول حوض النيل على كلمة سواء.

تاسعاً: بين السودان وجاراته في الغرب: ليبيا، تشاد وأفريقيا الوسطى، وجارتيه في الشرق إثيوبيا وإريتريا؛ تداخل سكاني ومصالح تنموية وأمنية بحيث لا يستقر الأمن القومي والسلام إلا إذا أبرم السودان معاهدة أمن وتعاون مع كافة دول الجوار، معاهدة تسجل لدى الاتحاد الافريقي والأمم المتحدة.

عاشراً: يقوم الاتحاد الأفريقي بمهام كبيرة في تنظيم الإدارة الأفريقية المشتركة، وكذلك اتخذ موقفاً حميداً منذ عام 2007 بعدم الاعتراف بأي تغيير انقلابي، كما اتخذ موقفاً منحازاً للسلام بضرورة وقف البنادق في أفريقيا بحلول عام 2020. ويرجى أن يدعم الاتحاد الأفريقي الفهم القاري غير الإثني للأفريقانية، وأن يسعى لتحقيق تعاون تنموي بين ضفتي البحر الأحمر، وأن يستخدم قدراته الدبلوماسية وفي الرأي العام العالمي لإزالة كل وجوه التمييز ضد الإنسان الأفريقي.

حادي عشر: صارت الجامعة العربية اسماً على غير مسمى، ويلزمنا نحن الذين عبرنا نحو مرحلة تاريخية جديدة أن نسعى لتفعيل دور الجامعة العربية في المجالات الآتية:

  •  العمل على وقف الحروب البينية.
  •  العمل على الاعتراف بالحقوق الثقافية والقومية للشعوب غير العربية في البلاد العربية.
  •  تبني مصالحة سنية شيعية بين الدول العربية.
  •  الاعتراف بأن الوجود العربي والتركي والإيراني في الشرق الأوسط واقع جيوسياسي يتطلب إبرام معاهدة ثلاثية تحقق التعايش والتعاون بين أطرافها الثلاثة، تحقق التعاون وتلزم الأطراف بعدم التدخل في الشؤون الداخلية.

ثاني عشر: الأمم المتحدة تكونت في غياب أغلبية أعضائها الحاليين، كانت العضوية عندما تكونت 51 دولة وهي الآن 193 دولة. نظام الأمم المتحدة قائم على أساس ديمقراطي إلا في تكوين وصلاحيات مجلس الأمن. ينبغي العمل على إصلاح نظام الأمم المتحدة عدالياً وديمقراطياً. إلى حين تحقيق ذلك نحن نتطلع للاستعانة بالأمم المتحدة بموجب الفصل السادس بما لا يتعارض مع السيادة الوطنية.

نحن في السودان نؤيد كل منظمات الأمم المتحدة المتخصصة، وهي تقوم بمهام حيوية، كما نؤيد نظام روما المكون للمحكمة الجنائية الدولية، ويرجى أن يسلم المطلوبون للعدالة الدولية. صحيح نظام المحكمة نفسه يسمح بمحاكمات داخلية ولكن المنظومة العدالية في السودان الآن غير مستعدة للقيام بهذه المهمة، والسلام العادل الشامل يتطلب الإسراع بالمساءلة الجنائية.

الأشخاص الذين قد ترد أسماؤهم في تلك المساءلات من الذين انحازوا لمطالب الشعب يرجى أن يفوض أمرهم للعدالة الانتقالية فهم أولى بالمصالحة.

العدالة الانتقالية تحت بند المصالحة توجب كذلك العدالة الترميمية.

المرجو أن يتفق السودانيون على أسس السياسة الدولية كجزء من العقد الاجتماعي الجديد الذي اقترحناه.

 

 

28 يونيو 2020م