فقه الجهاد بقلم الحبيب الإمام الصادق المهدي

الإمام الصادق المهدي
الحبيب الإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله

 

بسم الله الرحمن الرحيم

هيئة شئون الأنصار

الاحتفال بذكرى بدر الكبرى وأبا الأولى

16 رمضان 1437هـ الموافق 21 يونيو 2016م

مسجد الإمام عبد الرحمن بودنوباوي

الخطاب الذي خاطب به الإمام الصادق المهدي الأمة الإسلامية والشعب السوداني

بعنوان: فقه الجهاد

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد-
أخواني وأخواتي، أبنائي وبناتي، أحبابي

السلام عليكم من البعيد أرضاً القريب مودة. ويحمد لهيئة شئون الأنصار إحياء ذكرى بكر الجهاد الإسلامي في صدر الإسلام، وبكر جهاد الإحياء الإسلامي في السودان.

سوف أحدثكم في أربع نقاط: الأولى: بيان ماهية التأصيل التقدمي. والثانية: مرتكزات هذا التأصيل التقدمي الخمسة. الثالثة: تطبيق معاني هذا التأصيل على أهم تسع قضايا. والرابعة: بيان هذا النهج في أمر فقه الجهاد.

النقطة الأولى: ماهية التأصيل التقدمي:

أحبابي:

إن الرسالة المحمدية بعد أن أنارت المعمورة، وعمدت الأمة رائداً لتاريخ الصحوة الدينية والحضارية؛ فإن أمتنا استقالت من ريادة التاريخ، بل خرجت منه بموجب ثلاثة عوامل هي: تغييب العقل البرهاني وما صحب ذلك من خمول فكري، وإتباع الفقه الصوري وما صحب ذلك من ركون للتقليد، والخضوع للاستبداد على نحو ما قال ابن حجر العسقلاني: “لقد أجمع الفقهاء على طاعة المتغلب والقتال معه”، ما أدى لتحكم الاستبداد.

ولكن في غياهب هذا الليل البهيم تعالت أصوات نيرة. قال الجوزي: التقليد فيه إبطال لمنفعة العقل لأنه إنما خلق للتدبر والتعقل، وقبيح بمن أعطى شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلام.

التقليد في الثوابت معلوم ولكن التقليد في المعقولات والعادات والمعاملات معناه منع حركة المجتمع. وفي هذا الصدد قال الإمام المهدي: “ولا تعرضوا لي بنصوصكم وبعلومكم على المتقدمين فلكل وقت ومقام حال. ولكل زمان واوآن رجال”. وقال الشيخ محمد مصطفى المراغي: “قدموا لي أي شيء ينفع الناس وأنا أنبئكم من سنده في الشريعة”.

نهج التأصيل التقدمي يعمل على تحديد الواجب اجتهاداً مراعياً مقاصد الشريعة لحفظ: الإيمان، والعقل، والنفس، والنسل، والمال، والعدل، والحرية، والمصلحة، والتكافل والأمن. ويراعي الإحاطة بالواقع، فالواقع على حد تعبير الغزالي مرجع، ويزاوج بين الواجب والواقع. إنه نهج إحياء لا نهج تقليد.

النقطة الثانية: الركائز الخمسة:

وسائل المعرفة الإنسانية أربعة هي: الوحي، والإلهام، والعقل، التجربة. الوحي والإلهام يتعلقان بمعارف الغيب. كما قال تعالى عن الوحي: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ). وينقل هذه الحقائق الأنبياء. أما الإلهام فيكون لبشر عاديين على نحو ما كان للصحابي في أمر الأذان والإقامة.

إن عالم الشهادة يتعلق بالوجود الكوني، ويقوم على حقائق: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ). إنه كتاب الله المنشور ويكشف سننه العقل والتجربة. وفي هذا الصدد قال ابن خلدون: كل ما في الوجود الطبيعي والاجتماعي خاضع لقوانين. لا ينشأ تعارض إلا عندما يحاول علماء المعارف الغيبية تطويع الحقائق العقلية. أو يحاول علماء المعارف العقلية تطويع حقائق الوحي. إذا أدركنا هذه الحقيقة يزول النزاع الديني العلماني. الرسالة المحمدية أوضحت حقائق الغيب وأعطت شرعية عبر الحكمة والبرهان والتدبر لمشروعية الحجة العقلانية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ”.

الركيزة الثانية تشير إلى أن أديان الأسرة الإبراهيمية متعددة ولكن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ وَأُمَّهَاتُنَا شَتَّى”. وقال تعالى: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

ندعو أن يقوم بيننا وبين الأسرة الإبراهيمية ميثاق الإيمانيين. أما مع غير الأديان الإبراهيمية فنعترف بحقها على أساس (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). ونتعامل مع الاختلافات الملية بقاعدة: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ).
هنالك تنوع فكري خارج مطالب الملل. نحن نعترف لأصحابه بحقهم على أساس (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) وعلى أساس الحرية: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) على أن يعترفوا هم بحقوق المؤمنين وأن يلتزم الجميع بمنظومة حقوق الإنسان العالمية.

في الجسم الإسلامي اختلافات مذهبية أهمها ما بين أهل السنة والشيعة. أهل السنة والشيعة تجمعهم ثوابت دينية مستمدة من النصوص القطعية وروداً ودلالة هي: التوحيد، والنبوة، والقرآن، والمعاد، والأركان الخمسة. وما عداها توجد اختلافات مذهبية حول أحداث التاريخ، وحول الخلافة والإمامة. هذه الاختلافات لا سبيل لمحوها لا بالقوة ولا بالإقناع، والدين والحكمة يوجبان التعايش معها على أن نعترف لبعضنا بعضاً بالحقوق الإيمانية والإنسانية، والمواطنة، ونتحاور بالحسنى، ونرجئ أمر الخلافات لرب العالمين: (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

بالنسبة للعلاقات بين الدول، نقول بالتخلي نهائياً عن مفهوم دار إسلام ودار حرب، إلى دار إسلام تنظم العلاقات بينها رابطة الأمة، ودار عهد تنظم العلاقات بينها المواثيق والعهود الدولية: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ).

العولمة والعالمية: هنالك عالمية تجمع بين كافة الدول حول مصالح مشتركة في كل مجالات الحياة. هذه العالمية تحقق مصالح مشتركة في كوكب واحد لسكانه. وفي إطار العالمية نشأت عوامل اندماج رأس المال مع تقنية المعلومات لتكوين سوق عالمية تتعدى الحدود القطرية.. هذه التطورات في ظروف توازن القوى الإستراتيجية والاقتصادية المختل جعلت للعولمة هيمنة لصالح الدول الأقوى فالأقوى. هذا يلزمنا بالاعتراف بواقع العولمة وحماية شعوبنا من سلبياتها.

النقطة الثالثة:

فيما يلي تطبيق نهج التأصيل التقدمي على قضايا مهمة، ويمكن تطبيقه على غيرها. القضايا المعنية هي: السلفية، الصوفية، البدعة، الزهد، المهدية، الوسطية، الخلافة والجهاد.

السلفية: السلفية في الثوابت الشعائرية واجب ديني، أما في أمر المعاملات والعادات فالسلفية توجب إتباع منهاج السلف في مراعاة المقاصد لا استنباطاتهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعين خليفة، وأبو بكر (رضي الله عنه) عين خليفة. وعمر (رضي الله عنه) اختار مجلساً لاختيار الخليفة وهكذا.

ففي ولاية الأمر على أهميتها اختلفت المواقف مراعاة للظروف. السلفية الصحيحة هي إتباع الأحكام في الثوابت الشعائرية وفتح مجال الحركة في المعاملات والعادات.

الصوفية: النبوة من خصائل بشر مختارين، وإلى جانب الوحي هنالك الهام متاح لكافة البشر: ورد ذكر الرؤيا الصادقة، والمبشرات، والمحدثين. وفي علم النفس الحديث يدرس عالم ما فوق الحواس. وفي القرآن حث على تقوية الموهبة الروحية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ). والفقهاء الأكثر علماً يدركون أهمية البعد الروحي لمبادئ وأحكام الإسلام. قال الإمام مالك: “من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق. ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق. ومن جمع بينهما فقد تحقق”. وللإمام الشافعي أشعار بنفس هذا المعنى.

البدعة: البدعة عند بعض الناس وصف لكل جديد. البدعة مذمومة في أمر ثوابت الدين أما في المعاملات والعادات والعقلانيات فالحركة مستمرة. أفتى عمر (رضي الله عنه) في بعض الأمور بشيء ثم أفتى بعد حين بخلافه. فقيل له في ذلك فقال: “ذلك ما قضينا وهذا ما يقضي به”. من هذا الباب أحدث الخلفاء الراشدين أحكاماً كثيرة على حد تعبير أبو الوفا بن عقيل: “السياسة ما كان فعلاً يكون الناس فيه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يصفه الرسول ولا نزل به وحي”.

قال تعالى واصفاً النبي صلى الله عليه وسلم (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) أي القرآن. وقوله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي في أمور الدين أما في العادات فقد عوتب النبي صلى الله عليه وسلم مرات كما في (عَبَسَ وَتَوَلَّى)، و(لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ). الإمام القرافي فرق بوضوح بين ما هو تشريع من أقوال وأفعال النبي، وما ليس كذلك.

الزهد: الزهد لا يعني الفقر، فالفقير المعدم لا يسمى زاهداً لأنه لا يملك المال أصلاً. تصوير النبي صلى الله وسلم على أنه فقير غير صحيح. نعم مرت عليه ظروف الفقر ولكن بنص القرآن: (وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى) ومن نصيب النبي صلى الله عليه وسلم خمس الأنفال والفيء وحتى وفاته كان ينفق على تسعة بيوت لتسع نساء. الزهد الحقيقي أن تكون ذو مال ولكن تنفق على خاصة نفسك أقله وتصرف أكثره على صالح الأعمال. والمهم للزاهد أن يكون المال بيده يسخره لصالح الأعمال. لا أن يكون في قلبه فيصير عبداً للمال. وهذا هو معنى قول الإمام المهدي في الراتب: “ولا تجعل في قلوبنا ركوناً لشيء من الدنيا يا أرحم الراحمين”.

توهم شاعر يمدح الخليفة عمر بن عبد العزيز بالمفهوم الخاطئ للزهد قائلاً:
تشاغل الناس بالدنيا وزينتها وأنت بالدين عن دنياك مشغولا
أنكر عمر ما قاله وقال له بل قل:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله.

المهدية: الأحاديث المروية عن المهدية تبلغ 23 حديثاً رواها الترمذي، وابن ماجة، وأبو داود. وقال ابن خلدون، مع طعنه في أحاديث المهدي، قال: المشهور بين كافة أهل الإسلام اعتقاد في ظهور المهدي. الاثني عشرية من الشيعة وهم أكبر فرق الشيعة ينتظرون ظهور إمام غاب قبل 14 قرناً وسوف يظهر مهدياً. وكثير من أهل السنة يعتقدون في مهدي يظهر آخر الزمان. نحن لا نستنكر أن يكون لأية جماعة مسلمة اعتقادها المذهبي في المهدية ولكن نقول إن ظهور شخص بذاته بعد 14 قرناً من الزمان لا يتفق مع الطبيعة البشرية فالله يقول: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ* كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) . أما ظهور شخص في آخر الزمان مهدياً فلا يجدي لأنه تعالى يقول في أكثر من آية ما معناه: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ).

المهدية التي قال بها الإمام محمد أحمد المهدي ليست اثنى عشرية، ولا آخر زمانية، بل وظيفية أي وظيفة إحياء الدين. ومع ظروف الاحتلال الأجنبي وتفرق كلمة المسلمين فوظيفة إحياء الدين في القرن التاسع عشر كانت تطلعاً ملحاً، فكانت الدعوة تجسيداً لتطلعات الأمة الإسلامية على حد تعبير د. عبد الودود شلبي.

وقد شهد بوظيفتها الإحيائية الضرورية غيره من العلماء منهم: أحمد العوام، سعد محمد حسن، محمد أحمد إسماعيل، عبد العليم عبد الحليم البستي، ومحمد عمارة.

وهي وظيفة صحبها عاملان مهمان فريدان. الأول خطاب غيبي قال به صاحبه، وإجراء جذري هو إبطال إلزامية الاجتهادات البشرية والعودة لقطعيات الوحي في الكتاب والسنة. ومع ما جاء في أقواله وأفعاله فإنه لم يدع العصمة بل قال: “أقوالي وأفعالي أعرضوها على الكتاب والسنة فإن عارضتها فاضربوا بها عرض الحائط”.

الوسطية: إن للوسطية معنيان أحدهما قال به وهب بن منبه: التطرف هو الوقوف في الطرف بعيداً عن الوسط وأصله في الحسيات ثم نقل إلى المعنويات، وقيل:
حُبُّ التَّنَاهِي غَلَطْ خَيْرُ الأُمُورِ الْوَسَطْ.

هذا المعنى الوارد في قوله تعالى: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) والمعنى الآخر هو في قوله: (أَوْسَطُهُمْ) أي أفضلهم. وقوله: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ).وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) أي أمة فضلى.

عبارة الوسطية الآن يدعيها كثيرون، فهناك الوسطية المستأنسة التي تريد أن تسبغ طلاءً وردياً على الواقع البائس. أما الوسطية المشتقة من أوسط الأمور هي الوسطية الإحيائية التي تتطلع لإزالة هذا الواقع وإقامة نظام أفضل.
الخلافة والإمامة:

لا توجد نصوص قطعية الورد والدلالة على وجوب الخلافة، وتاريخ الخلافة التاريخية يدل على أن هذا النظام لم يكن ناجحاً، بل في أغلب تاريخها لم تحقق الأمن والعدالة والاستقرار وهي من مقاصد الشريعة، فمع فضائل الخلفاء الأربعة الأوائل فإن غياب المؤسسية جعلهم عرضة للاغتيالات وانتهى الأمر إلى فتنة ما زالت الأمة تعاني منها.

ونفس المأخذ ينطبق على الإمامة، فالإمامة عند الشيعة أمنية لم تكون لها ولاية حقيقية، وآخرهم اختفى.

إن ولاية الأمر الوارد قيامها هي ولاية أمر في الدولة بين السلطات التنفيذية، والتشريعية، والقضائية. هذه القطرية على أن تطبق نظاماً فيه المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون والفصل المبادئ تجد من الماضي مرابط كالآتي:

عندما استخلف أبو بكر في اجتماع سقيفة بني ساعدة قال: “وليت عليكم ولست بخيركم (مبدأ المشاركة)، فإن أحسنت فاعينونني وأن أسأت فقوموني (مبدأ المساءلة)، الصدق أمانة والكذب خيانة (مبدأ الشفافية)، الضعيف عندي قوي حتى أعطيه حقه، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه (مبدأ سيادة حكم القانون)”.

في نظام كهذا ينص الدستور على المرجعية الإسلامية والعلاقة المتفق عليها بين الدول لتأخذ شكلاً تعاقدياً مشتركاً.

الجهاد: تحت هذا العنوان أتناول خمس قضايا هي: تعريف الجهاد وضوابطه، الإرهاب وعلاقته بالجهاد، الانقلاب العسكري كوسيلة جهادية، الولاء والبراء في علاقة المسلمين بالدول غير المسلمة التي يقيمون فيها، والجهاد المدني.

أولاً: الجهاد هو بذل الوسع لإعلاء كلمة الله في نفس الإنسان، وفي كل دروب الحياة. فالإنسان يغالب الشر في نفسه مجاهداً، ويدعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة مجاهداً، ويغالب الجهل والفقر والمرض مجاهداً، ويقاتل دفاعاً عن النفس ودفاعاً عن حرية العقيدة مجاهداً، الجهاد بهذا المعنى ليس حصة في الحياة. بل هو تكليف يجري في كل الحياة. لذلك وصف بأنه رهبانية الإسلام.

بعض المسلمين شوهوا معنى الجهاد. قال علي العلواني: “إن من ينكر أن الإسلام انتشر بالسيف كفر لأنه إنما ينكر فضل الجهاد”. وقال الأستاذ سيد قطب: “إن في كتاب الله سورة هي سور براءة تضمنت أحكاماً نهائية بين الأمة الإسلامية وسائر الأمم في الأرض”.

وقال ابن القيم: إن آية السيف وهي الآية الخامسة في سورة التوبة آية محكمة وناسخة لكل ما عداها من آيات التسامح والنص على دفاعية القتال في الإسلام.

وصفوا إحدى آيات ثلاث بأنها آية السيف. هي:

الآية الخامسة في سورة التوبة وهي: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

الآية 29 من التوبة وهي: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).

الآية 36 من التوبة: (وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

الحقيقة أن الآية الخامسة من التوبة سبقتها الآية الرابعة ونصها: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) هذه الآية أعطت الأمان لأولئك الذين لم يكن اتصالهم بالمسلمين عدائياً. وأعقبت الآية الخامسة الآية السادسة ونصها: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ).

هاتان الآيتان السابقة للآية الخامسة واللاحقة لها تؤكدان أن الآية الخامسة إنما تقرر حكماً يسري في ظرف معين، أي أن الآية الخامسة معنية بفئة معينة بدأت المسلمين بالعدوان وأخرجتهم من ديارهم.

الآية 29 المقصود بها ليس كل أهل الكتاب بل فريق منهم له شروط ذكرتها الآية.

قال صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا تفسيراً للآية: “إنها تعني قاتلوا الفريق من أهل الكتاب عند وجود ما يقتضي وجوب القتال كالاعتداء عليكم أو على بلادكم أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم أو تهديد أمنكم وسلامتكم كما فعل الروم فكان سبباً لغزوة تبوك”.

أما الآية 36 فهي بنصها نفسه لا تأمر بهجوم بل تقول: (وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً).

الفيصل في تدبر القتال هو آية لاحقة لهذه الآيات في سورة التوبة، الآية 13 نصها: (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).

والدليل على ما ذهبنا إليه أن في القرآن مائة آية موزعة على 48 سورة تأمر بالتعامل مع الآخرين بالتي هي أحسن، وتحصر القتال في الدفاع عن النفس أو عن حرية الدعوة الدينية. مثلا الآية 8 من سورة الممتحنة (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ). والآية (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

الحقيقة المحكمة هي أن الدعوة للإسلام بالحسنى ولا إكراه في الدين. أما القتال فهو لرد العدوان: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ). وأول عهد بين الرسول عليه الصلاة والسلام مع أهل يثرب كان في بيعة العقبة عهداً دفاعياً. وما وقع من قتال كان سجالاُ ولكن أهم ثلاثة انجازات للدعوة تمت دون قتال وهي: تأسيس الدولة في المدينة بعد الهجرة دون قتال، واستمالة غالبية سكان الجزيرة العربية للدعوة في عامي صلح الحديبية، وفتح مكة دون قتال.

ولكن أكثرية كتاب السيرة وصفوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بالمغازي قياساً على أنبياء التوراة. إنها صفحة من الإسرائيليات كما جاء في سفر الخروج في عهد موسى عليه السلام، إذ جاء فيها أن الله سوف يرسل لهم ملكاً يتقدم صفوفهم لغزو أراضي العموريين، والحثيين، والكنعانيين، وسائر شعوب المنطقة المعنية وأمرهم أن يطرحوهم أرضاً ويحطموا أوثانهم.

وجاء في سفر التثنية أنه بقيادة يوشع بن نون الذي خلف موسى عليه السلام فإن الأرض من خليج العقبة في البحر الأحمر إلى البحر الأبيض ومن سيناء إلى الفرات ستكون لبني إسرائيل وإن عليهم قهر شعوبها وطردهم وأن عليهم ألا يبرموا معهم معاهدة ولا يساكنوهم.

أسفار التوراة تدل على شعب هو مختار الله ويقوده أنبياء، يغزو شعوباً مشركة لمحو آثارها من الوجود في قتال طلب بالحق الإلهي. بعض كتاب السيرة المحمدية جاروا هذا الوصف في بيان سيرة محمد صلى الله عليه وسلم دون وجه حق.

إن الجهاد بكل معانيه تربية ضرورية للمسلم وهو بهذا الفهم ذروة سنام الإسلام وهو قائم حتى قيام الساعة.

أما نشر الإسلام بحد السيف فإنه فهم خاطئ لأن الآية المحكمة تقول: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) وفي أيام قوة المسلمين كان القتال نتيجة مواجهات مع الدول الكبرى في ذلك الزمان وقد شهد كثير من المستشرقين أن الإسلام لم ينتشر بالسيف. وأهم كتاب في هذا الصدد كتاب “الدعوة للإسلام” لمؤلفه السير توماس أرنولد. بل لمدة طويلة كانت غالبية سكان الدول المغلوبة على غير عقيدة الإسلام.

المسلمون الآن خمس سكان الكرة الأرضية، واعتماد جهاد الطلب: أن نقاتل أربعة أخماس سكان الأرض وهم يملكون أفتك الأسلحة، بل يملكون تكنولوجيا السلاح الحديث متفوقين علينا إستراتيجياً فما هي مصلحة الأمة في شن القتال في هذه الظروف؟

مع أن الحقيقة أن الإسلام ينتشر رغم ضعف المسلمين عسكرياً واقتصادياً. هكذا انتشر الإسلام في أفريقيا جنوب الصحراء، وفي جنوب شرق آسيا، واليوم في أمريكا وفي أوربا. وكما قال النمساوي اليهودي سابقاً الذي اعتنق الإسلام محمد أسد رحمه الله: “رغم العقبات التي خلقها تخلف المسلمين فالإسلام هو أعظم مستنهض للهمم عرفه البشر”. الإسلام اليوم هو أكبر قوة ثقافية في العالم وفتوحاته ثقافية ومعنوية والحديث على جهاد الطلب باطل شرعاً وهو في غير مصلحة الإسلام.

الإرهاب وعلاقته بالجهاد

الإرهاب، والأصح أن يسمى الإرعاب، هو الاستخدام المباغت للعنف ضد المدنيين وحراسهم وأملاكهم لتحقيق أهداف فاعله الخاصة والعامة. ممارس هذا الإرعاب يتحرك بلا عنوان وبصورة مباغتة.

وهنالك إرهاب (إرعاب) رسمي يمارسه الحكام الطغاة ضد ضحاياهم من بطش وتعذيب لتطويعهم.

هذا الإرهاب (الإرعاب) الأهلي والرسمي مخالف لنهج الإسلام ومخالف لأحكام القتال في الإسلام.

الإرهاب بالنص القرآني هو اكتساب القوة التي تردع الآخرين، فلا يطمعون في العدوان بنص الآية: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) .

ولكن كثيراً من المسلمين يفهمون هذه الآية فهماً خاطئاً يبررون به الإرعاب الذي يمارسونه.

الجهاد والقاعدة وداعش والدولة الإسلامية المزعومة:

بعد غزو السوفيت لأفغانستان تنادى كثيرون للقتال في أفغانستان لطرد الغزاة. وفي هذه المرحلة تكون تنظيم القاعدة ونال دعماً مالياً، وتسليحاً، وتدريباً أمريكياً وعربياً، وقاتل بكفاءة عالية حتى أجلى الغزاة السوفيت من أفغانستان.

وبعد ذلك قررت القاعدة أن واجبها طرد الوجود العسكري من أرض المسلمين، واستباحت لنفسها استخدام وسائل إرعابية كما قال عبد الله عزام مؤسس القاعدة الذي خلفه أسامة بن لادن إذ قال: “إن العديد من المسلمين يعرفون الحديث الذي أمر فيه النبي صحابته ألا يقتلوا أي امرأة أو طفل أو شيخ. ولكن القليلين يعرفون أن هناك استثناءات من هذه الحالة. وخلاصة القول إن على المسلمين ألا يوقفوا هجوماً على المشركين لوجود نساء أو أطفال غير مقاتلين”. وعلى نفس النمط أصدرت القاعدة فتوى في عام 1998م بأن قتل الأمريكان جنوداً ومدينين في كل أنحاء العالم فرض عين على المسلمين. وأفتوا أن قاعدة الجهاد هدفها قتال الصهيونية والصليبية.

أعلنت الولايات المتحدة حرباً عالمية ضد القاعدة لا سيما بعد أحداث 11/9 في نيويورك وواشنطن، ولكن لأن الحرب ركزت على الجانب العسكري ولم تخاطب المسببات لهذا النهج القاعدي استطاعت القاعدة أن تتمدد، فكونت القاعدة في الجزيرة العربية، والقاعدة في المغرب العربي والقاعدة في أرض الرافدين. وتحالفت القاعدة مع تكوينات ذات أهداف مماثلة مثل بوكو حرام في غرب أفريقيا، والشباب الصومالي في القرن الأفريقي. هؤلاء جميعاً يستخدمون الإرعاب وسيلة قتالية دون أية مراعاة لضوابط القتال في الإسلام. فالنبي عليه الصلاة والسلام قال للمقاتلين: “انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، لا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلا طِفْلا، وَلا صَغِيرًا، وَلا امْرَأَةً، وَلا تَغُلُّوا، وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ، وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنُوا، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” وقال: ” اسْتَوْصُوا بِالأُسَارَى خَيْرًا” وهكذا.

لا شيء يبرر نهج القاعدة، ولكن هنالك أسباب تفسره، وأسلوب التصدي لها عسكرياً وبقوة ذات قيادة أجنبية أسلوب تصدٍ للعرض لا للمرض، لذلك ففي 15 عام من الحرب المعلنة على القاعدة فإنها في تمدد لا انكماش حتى الآن.
ونتيجة لأنه بعد ثورة الربيع العربي في سوريا تحولت المواجهة لمواجهة طائفية جعلت الدولة تبطش بمقاومة أغلبيتها من أهل السنة.

ونتيجة لأن الاحتلال الأمريكي للعراق أدى لقلب التوازن الطائفي في العراق لغير صالح أهل السنة فإن فرع القاعدة في أرض الرافدين قرر أنه ما دام للشيعة دولة ينبغي أن يكون لأهل السنة دولتهم لذلك كونوا داعش، ثم مع انتماء إمارات كثيرة لهذه الخلافة المسماة إسلامية تحولت لدولة الخلافة الإسلامية.

هاتان الحركتان: القاعدة ودولة الخلافة تمارسان الإرعاب بأقصى صوره، ولنشأتهما ظروف تفسرهما ولكنهما لا يمثلان نهجاً إسلامياً مشروعاً، وممارستهما القتالية لا يمكن وصفها بالجهاد الشرعي.

الانقلاب العسكري كوسيلة جهادية:

قال الشيخ الألباني عن الانقلابات العسكرية: “إنها أفعال لا أصل لها في الإسلام وهي خلاف المنهج الإسلامي في تأسيس الدعوة وإيجاد الأرض الصالحة لها، إنما هي بدعة مارقة”.

وفي عام 1989م اجتمعت الجماعات ذات المرجعية الأخوانية وأصدروا توصيات أهمها تجنب الوسائل الانقلابية العسكرية لتأسيس الدعوة للإسلام.

ولكن في باكستان على يد ضياء الحق، وفي السودان عل يد انقلاب “الإنقاذ” مورست تجربة لإقامة ما سموه نظاماً إسلامياً.

كانت النتيجة كارثية فالانقلابيون لافتقارهم الشرعية لجأوا لحماية نظامهم باقتباس كل وسائل الدولة الفاشستية من حيث الحزب الواحد، والأمن الباطش، والإعلام الكذوب، والاقتصاد المحابي.

هذه التجربة في السودان دمرت الوطن باسم تطبيق الشريعة، ومن نتائج ذلك فرار ربع سكان السودان هرباً من بلادهم، وتكثيف صفوف اللاجئين غير القانونيين إلى أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا وغيرها رغم المخاطر، فهؤلاء اللاجئون يخاطرون بحياتهم فيموت أكثر من عشرهم ولا يزالون يحاولون.

والحكومة اضطرت لتركيز الصرف على الحروب الأهلية التي أشعلتها سياساتها على حساب الصرف على البرامج الاجتماعية، لذلك قوضوا دولة الرعاية الاجتماعية مما زاد نسبة الفقر والعطالة أضعافاً مضاعفة.

ولأول مرة شهد السودان ظاهرة الردة عن الإسلام على مستوى النخبة وعلى مستوى القاعدة. أما النخبة فقد صدها عن الإسلام شيوع الكذب والاستغلال باسم الدين، والإخفاق في إدارة شؤون الحياة، وفي كل هذه الحالات تتم الممارسة باسم الدين وشواهد من القرآن وأحاديث السنة. وعلى مستوى القاعدة القصف الجوي، وإحراق القرى، والحرمان من الإغاثات الإنسانية، وارتكاب جرائم حرب وفي كل الحالات الاستشهاد بمبررات دينية بينما يجدون العطف والرحمة من جهات دولية بعضها مسيحية.

الانقلاب العسكري وسيلة باطلة لتأسيس أي كيان رسالي، سواء كانت الرسالة دينية أو وضعية، بل تأتي التجربة دائماً بنتائج عكسية كما في التجربة البعثية بشهادة أحد قادة البعث في كتابه “التجربة المرة”. وكما في التجربة السودانية. والسبب واضح، فالانقلاب العسكري مهما رفع من شعارات معناه ولاية البندقية، وهي ولاية في النهاية أمنجية من الناب والظفر برهانها، وتبطش حتماً بالذين ناصروها لأهدافهم الإيديولوجية الدينية أو الوضعية كما قال أبو الطيب:

وَمَن يَجعَلِ الضِرغامَ بازاً لِصَيدِهِ تَصَيَّدَهُ الضِرغامُ فيما تَصَيَّدا

الولاء والبراء في علاقة المسلمين بالدول غير المسلمة التي يقيمون فيها:

هنالك فهم إقصائي للولاء والبراء، ونتيجة له لا مكان لعلاقة إيجابية مع أصحاب الأديان الأخرى. وبعض الغلاة يرون أن لا مكان لعلاقة ايجابية مع مخالفيهم في المذهب، فلدى بعض أهل السنة الشيعة روافض ولدى بعض الشيعة أهل السنة نواصب، وما بين الروافض والنواصب لا علاقة إلا العداء والتدمير المتبادل.

وعلى أساس الفهم التقليدي للولاء والبراء فدار المسلمين دار سلام ودار غير المسلمين دار حرب.

المطلوب الآن أن ندرك أن بين أهل القبلة جميعاً إخاء رغم الخلافات المذهبية، فالولاء في إخاء الإسلام ينبغي أن يشمل كل الذين يؤمنون بالتوحيد، والنبوة، والمعاد، والأركان الخمسة. إخاء لا يؤثر عليه سلباً الاختلافات المذهبية العائدة لاجتهادات مرجعيتها ليست قطعية وورداً ودلالة بل مختلف عليها.

أما أهل الكتاب فيجمعنا معهم الإخاء الإبراهيمي، نعم نواجه الصليبية والصهيونية باعتبارها حركات عدوانية ولكن مع اليهودية والمسيحية نتطلع لإخاء إبراهيمي.

أما الذين يتبعون أديان غير إبراهيمية أو أيديولوجيات علمانية فبيننا وبينهم إخاء إنساني تحدده منظومة حقوق الإنسان وما يرتبط بها من عهود.

والتعريف الصحيح هو أن هناك علاقة تقوم على الانتماء الإنساني وعلى منظومة حقوق الإنسان وعلى المعاهدات الجامعة، إنهم جميعاً أهل عهد.

إذن نحن في دار إسلام ودار عهد.

هذا الفهم فيه جوانب عملية فمع الأسرة الدولية غير المسلمة تربطنا علاقات دبلوماسية تتطلب الاستئمان المتبادل، والحصانات الدبلوماسية المتعاهد عليها، وعلاقات اقتصادية تجارية واسعة تتطلب الحماية لأفرادنا في ديارهم ولأفرادهم في ديارنا، وتتطلب كفالة حقوقهم الإنسانية والدينية لا سيما وقد صار للمسلمين وجوداً كبيراً في بلدان غير مسلمة ولا بد من رعاية حقوقهم الإنسانية والثقافية والدينية في إطار دساتير وقوانين الدول المضيفة. هذه العوامل تترتب عليها حقوق وواجبات لا بد من تعريفها ورعايتها، لذلك نستنكر ما يقوله بعضهم من تحميل المسلمين عامة المسؤولية عن الإرهاب أو الإرعاب، فكما رأينا أهم ممارسات الإرعاب ضدهم تقوم بها القاعدة وداعش وكلاهما ساهموا هم لمصالحهم أثناء الحرب الباردة في تفريخ القاعدة ثم بغزو العراق في تفريخ داعش.

القاعدة وداعش حركات مارقة وإن استخدموا بعض النصوص الإسلامية كالحديث الضعيف المتعارض مع مقاصد الشريعة ومع نصوص القرآن القائل: “بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مَعَ السَّيْفِ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي”. نعم وجدت القاعدة وداعش حواضن دينية من بعض النصوص ولكن هذه النصوص ما كانت لتحقق نشأتهما وقوتهما لولا ظروف صنعتها سياسيات دولية وتعديات إسرائيلية، فإسرائيل التي غرستها قوى دولية ما برحت تستفز الضحايا: أقامت إسرائيل الجدار العازل العنصري، وتواصل الاستيطان في أراضي أهل فلسطين، وتحاصر الضفة والقطاع، ومنذ عام 2005م تقتل 650 شخص سنوياً، وتعتقل 4 ألف شخص سنوياً، وتمارس عقوبات جماعية بهدم المنازل.. أعمال أغلبها ضد القانون الدولي ولكن تحظى بحماية من المساءلة الدولية بموجب الفيتو الأمريكي.

غالبية المسلمين الساحقة لا تؤيد التطرف والإرعاب المصاحب له، ولكن الذين اندفعوا في هذا التطرف و الإرعاب يجدون عدداً كبيراً من المجندين بسبب مظالم داخلية ودولية ينبغي العمل الجاد على إزالتها لأنه إذا استمرت المظالم فإنها سوف تفرخ حركات تطرف وإرعاب حتى إذا هزمت الحركات عسكرياً. ينبغي أن يخاطب المرض ولا يكتفي بالتصدي للعرض وفي هذا الصدد فإن السياسات الدولية الجائرة والسياسات الإسرائيلية الغاصبة تتحمل مسؤولية كبيرة .

ومن السياسات الجائرة والمستفزة ما قاله وزير الخارجية الأمريكي هنري كسنجر بعد حرب 1973م إذ قال: “يجب العمل بقوة على عدم تكرار قيام الدول العربية بشن هجوم مرة أخرى على دولة إسرائيل وذلك من خلال انشغال العالم العربي بحروبه المحلية بهدف نهائي هو تقسيم العالم العربي رأسياً وأفقياً وإعادة خارطة دوله.

لذلك صار الواجب الوطني، والديني، والقومي، والإنساني لمصلحة شعوبنا أن نعمل بأقصى ما نستطيع لوقف المواجهات. لا سيما الطائفية التي أشعلت الحروب وهي أدوات لتحقيق إرادة كسنجر.

وتحقيقاً لهذا الهدف أرسلنا لصناع القرار في الدول المشتبكة في المواجهات القتالية المباشرة والتي بالوكالة للتحدث معهم فيما يضع حداً لهذه الحروب المدمرة، كما قد فعلنا في حالة الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي.

إن تحميل الأمة الإسلامية المسؤولية عن الإرهاب المشاهد حالياً ظلم جسيم عبر عنه عدد من القادة الدوليين على حد تعبير روبرت ميردوخ خاقان الإعلام الغربي إذ قال: “ربما أن أغلب المسلمين مسالمون ولكن إلى أن يعترفوا بسرطان الجهاديين الذي يتنامى ثم يقوموا بتدميره يجب أن نحملهم المسؤولية عنه”. مشاعر يعبر عن مثلها المرشح عن الحزب الجمهوري في أمريكا دونالد ترامب وآخرون يقودون أحزاباً يمينية متطرفة في كثير من الدول الغربية.

وللأسف هؤلاء يجدون ذخيرة لحماقاتهم من أقوال بعض المسلمين أمثال:

يونس الأسطل القائل: “يجب قتل المدنيين الغربيين لأنهم ظهير لحكوماتهم الجائرة”.

ومحمد الفاسي القائل مشيراً لوجودهم في البلدان الغربية: “نحن نعيش وسطهم ونعمل أعمال دونية ولكنها دار حرب الأموال والدماء فيه مستباحة”.

الجهاد المدني:

الجهاد المدني هو الذي يستخدم الوسائل الفكرية، والسياسية، والتعبوية، والاعتصامات، والإضرابات، والحشود، والمظاهرات، والحوارات الجادة، لتحقيق الأهداف المنشودة .

وفي القرن العشرين كان لهذه الوسائل في السودان مرتين في 1964م و 1985م مفعولاً ناجعاً في تحرير الوطن من قبضة الطغيان، ونفس الأساليب كانت ناجعة في تشيلي وفي بولندا وفي أسبانيا وفي مناطق كثيرة في العالم.

مقومات نجاح الجهاد المدني في السودان الآن كثيرة أهمها فشل سياسات النظام في كافة المجالات، وعلو صوت المطالبة بنظام جديد من داخل الحوار الداخلي الذي رعاه النظام، وجهر عدد كبير من أساطين الرأي العام السوداني بالمطالبة بنظام جديد، وستكون حوارات خريطة الطريق إذا التأمت باستحقاقاتها جبهة قوية في اتجاه السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الكامل.

الكتابة على حائط المستقبل واضحة وسوف تتحقق إن شاء الله سواء بالحوار الوطني باستحقاقاته المشروعة إذا قرأ النظام حقائق الواقع. أو بالانتفاضة السلمية إذا أعرض واستكبر وما ضاع حق قام عنه مطالب.

ومثلما قيل عن بدر وأبا:

ما بين أيامك الغر اللاتي نصرنا بها
وأيام بدر أقرب النسب

نقول في ظروف مختلفة وبوسائل مختلفة:

إذَا التَفَّ حَوْلَ الحقِّ قَوْمٌ فَإنّهُ يُصَرِّمُ أحْدَاثُ الزَّمانِ وَيُبْرِمُ