في وداع أمير الرواية العربية

بسم الله الرحمن الرحيم
في وداع أمير الرواية العربية
10 سبتمبر 2006م

الكاتب في عالمنا المقهور، يسير في حقل من الألغام تراقبه أجهزة استخبارات تحصي الأنفاس، وتتوعده شفرات غلاة لا ترحم الناس، وتتصيده أجندات أجنبية بوعدها ووعيدها.
فإذا استطاع رغم ذلك كله أن يصمد مستقل الرأي ولو نسبيا وافر الإبداع، فإنه يستحق غاية التقدير والإعجاب.
أثرى نجيب محفوظ أدب الرواية والقصة العربية المعاصر بعشرات الروايات ومئات القصص القصيرة، متفوقا على أقرانه ممتعا ومبدعا بحيث استحق أن ينادى أمير الرواية العربية، تدعم مكانته الحقائق الآتية:
أولاً: أدب القصص العربي قديم، ولكن الرواية الحديثة وافدة من الحضارة الغربية. فن استصحبه نجيب محفوظ وآخرون من الرواد وجعلوا الرواية العربية تحتل مكانا مرموقا في ديوان الفنون العربية.
ثانياً: خالط الكاتب الراحل الحياة الاجتماعية المصرية في حضرها وريفها واستوعب واقعها ثم أنتجه روائيا بصورة ماثلت ما فعل تولستوي بالمجتمع الروسي، ودكنز بالمجتمع البريطاني، وغيرهما من أساطين الرواية العالميين.
ثالثاً: التطلع الوجداني للوحدة العربية تطلع أكيد تحول دون تحقيقه مصالح قطرية سياسية واقتصادية. لكن الوحدة الثقافية العربية عبرت الحدود القطرية بجدارة. في هذا المجال كانت روايات الراحل مقروءة على نطاق واسع.
رابعاً: غذت رواياته السيناريو لعشرات الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، وكانت في الغالب رفيعة المستوى وافرة الإمتاع والمؤانسة.
خامساً: إحاطة الراحل ببعض الثقافات العالمية، وتشبعه بالواقع الاجتماعي المصري، وإجادته فن الرواية، وحبكه المبدع؛ كل ذلك جعل رواياته جاذبة لجمهور عالمي تنامى مع ترجمة أعماله لعشرات اللغات العالمية الحية. لقد حقق مع غيره مكانة للأدب العربي في الأدب العالمي.
سادساً: عد المؤرخ البريطاني العلامة آرنولد توينبي عشرين حضارة اندثرت إلا ثمان منها. الحضارة الفرعونية عدت من الحضارات البائدة. استطاع كاتبنا الراحل في بعض رواياته أن ينفخ الروح في بعض ملامح الحضارة المصرية القديمة، وأن يجعل بعض واقعها الاجتماعي ينهض ويمشي بين الناس.
سابعاً: أسلوبه في الكتابة كان رصينا من دون تزمت وسهلا من دون إسفاف، نثرا فنيا سهلا ممتنعا.
لو طلب من العقلاء المنصفين أن يزكوا نجيب محفوظ لأعلى جائزة أدبية لفعلوا، ولجعلوا هذه الحقائق السبع أساسا لحجتهم.
في عام 1988 منح القائمون على جائزة نوبل جائزة الأدب للفقيد الراحل، تقديرا منهم للكاتب خاصة لرواية «أولاد حارتنا».
بعض النقاد هاجموا الجائزة واعتبروها مكافأة له على موقفه من تأييد اتفاقية كامب ديفيد في وجه الإعراض الشعبي المصري والمقاطعة العربية. نعم يقع الكتاب في أخطاء سياسية أحيانا. ولكن الموضوع ليس بهذه البساطة.
إن جائزة نوبل أكثر موضوعية وعدالة في مجال العلوم الطبيعية. ولكن في المجالات الفكرية، والسياسية، والأدبية فإن عدالتها وموضوعيتها تتأثر إلى حد ما بعوامل ذاتية. إنها في هذه المجالات إدارة انتقائية.
في رواية «أولاد حارتنا» تخطى نجيب محفوظ مجالاته الاجتماعية المعهودة، واقتحم ميدان الفلسفة.. إنها رواية فلسفية.
قرأت رواية «أولاد حارتنا»، ولولا اسم مؤلفها لما صبرت على سذاجة خطتها الروائية، وتهافت مقولتها الفلسفية.. الرواية ببساطة تستصحب قصص الأنبياء، وتتبنى رؤية الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت، الذي قال إن الإنسان في طفولته الحضارية يؤمن بالسحر، ثم يتقدم فيؤمن بالدين، وأخيرا يتخلى عن الدين لصالح العلم Science.
هذا تصوير غير علمي للحقيقة، فالعلم المقصود هنا إنجاز عظيم في مجاله: في مجال الطبيعة المشاهدة واكتشاف قوانينها وتسخيرها، ولكنه غير مؤهل لطروق عوالم الإيمان والحب والجمال.
رواية «أولاد حارتنا» تقتبس قصص الأنبياء ممثلة لمرحلة الاعتقاد الديني، وتنتهي إلى مرحلة النضج الإنساني في المرحلة العلمية، تماما وفق مقولة الفيلسوف الفرنسي. ونجيب محفوظ كما أسلفنا يستحق الجائزة، ولكن لماذا ركزوا على «أولاد حارتنا»؟
الجواب يكشف حلقة أخرى في العلاقات بين الإسلام والغرب.
الحضارة الغربية شهدت صراعا بين الدين والعلم، صراعا صار طرفاه الأصولية الدينية والعلمانية. هذا الصراع انتهى في الحضارة الغربية إلى نوع من التعايش بين الدين والعلمانية. تعايش تمارسه المجتمعات الغربية بموجب معادلات مختلفة بعضها أكثر تدينا وبعضها أكثر علمانية.
الفكر العلماني ينظر للإسلام بارتياب له أسباب تاريخية رفدتها مستجدات أهمها اليوم ظاهرتان هما: أنشطة غلاة المسلمين، وتنامي الوجود الإسلامي في الغرب بسبب اعتناق غربيين للإسلام، وبسبب ضخامة الهجرة للغرب. هذا الارتياب القديم والمتجدد، جعل أكثرية الغربيين المتدين منهم والعلماني، يحرصون على تمدد العلمانية في بلاد المسلمين. إنهم يعتبرونها حليفا حضاريا. لذلك تحرص كثير من الأنشطة الغربية العالقة على الانحياز لأية مقولات علمانية صادرة من المسلمين. الحضارة الغربية ككل الحضارات الإنسانية في مراحل صعودها تتطلع لعالم يصاغ على شاكلتها.
نعم هنالك غربيون مستنيرون أمثال جوناثان نيلسون، الذي قال: إن على الغرب أن يدرك أن للحضارات الأخرى سيما الإسلامية، دورا في بناء الحضارة الإنسانية، وسيكون لها دور في المستقبل. وإن ما تستصحبه الحضارات من بعضها بعضا يحددونه هم باختيارهم ومن دون إملاء. هذا الفهم هو الذي يرجى أن يجد قبولا غربيا واسعا، لأنه وحده يفتح باب تعايش سلمي خلاق.
في المقابل انقسم الرأي بين المسلمين حول الحضارة الغربية، فمن الناس من يرفضها جملة وتفصيلا وربما استثنى الجوانب التكنولوجية. هؤلاء بالقياس للإسلاموفوب في الغرب هم الغربوفوب في الشرق. وعلى النقيض من هؤلاء منا من عشقوا الغرب حتى النهاية: الغربوفيل. إن رواية «أولاد حارتنا» تقع في هذه الخانة.
إن مصلحة ديننا وحضارتنا ومصالحنا الأخرى، تقع وسطا بين موقفي الرفض والعشق.
إن لهذا الموقف الوسطي اليوم روادا وكتابا وحركات، وهم يعانون من صراع في أكثر من جبهة، وهم حلفاء موضوعيون لأمثال جوناثان نيلسون، وفي مستقبل هذا التحالف الطريق إلى عالم أعدل وأفضل.
إن غلاة الغرب الذين يقودهم اليوم الراديكاليون اليمينيون في أمريكا، يهزمون بأقوالهم وأفعالهم تحالف الاعتدال والاستنارة والتعايش، ويشكلون حليفا موضوعيا للغلاة على نحو ما قال السفير البريطاني السابق لإيطاليا في عام 2004: إن الرئيس بوش نفسه هو أكفأ صول تجنيد للقاعدة!!
ينبغي أن يشكل مجلس أمناء جائزة نوبل بالصورة التي تجسد التعددية الحضارية والدينية للعالم، حتى يكون من أدوات الوصال والإخاء الإنساني لا الفصال. ألا رحم الله نجيب محفوظ المميّز رغم «أولاد حارتنا» لا بسببها.